قوله تعالى : { وإذ قال ربك } . أي وقال ربك ، " وإذ " زائدة ، وقيل معناه واذكر إذ قال ربك وكذلك كل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله . " وإذ " حرفا توقيت إلا أن إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر قال المبرد : إذا جاء إذ مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله تعالى " وإذ يمكر " يريد وإذ مكر ، وإذا جاء " إذا " مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله : ( فإذا جاءت الطامة إذا جاء نصر الله ) أي يجيء .
قوله تعالى : { للملائكة } . جمع ملك وأصله مالك من المألكة والألوكة والألوك ، وهي : الرسالة فقلبت فقيل ملأك ثم حذفت الهمزة طلباً للخفة لكثرة استعماله ونقلت حركتها إلى اللام فقيل ملك . وأراد بهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض فعبدوا دهراً طويلاً في الأرض ، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة يقال لهم : الجن ، وهم خزان الجنان اشتق لهم من الجنة ، رأسهم إبليس وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض فطردوا الجن إلى شعوب الجبال وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة فأعطى الله إبليس ملك الأرض ، وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله له ولجنده .
قوله تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة } . أي بدلاً منكم ورافعكم أي ، فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة والمراد بالخليفة هاهنا آدم سماه خليفة لأنه خلف الجن أي جاء بعدهم . وقيل لأنه يخلفه غيره ، والصحيح أنه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه .
قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } . بالمعاصي .
قوله تعالى : { ويسفك الدماء } . بغير حق ، أي كما فعل بنو الجان فقاسوا الشاهد على الغائب وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب .
قوله تعالى : { ونحن نسبح بحمدك } . قال الحسن نقول : سبحان الله وبحمده وهو صلاة الخلق وصلاة البهائم وغيرهما سوى الآدميين ، وبها يرزقون .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا زهير بن حرب ، أنا جينان بن هلال ، أنا وهيب ، أنا سعيد الجريري ، عن أبي عبد الله الجسري ، عن ابن الصامت ، عن أبي ذر أن رسول صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ فقال : " ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده : سبحان الله وبحمده " وقيل : ونحن نصلي بأمرك ، قال ابن عباس : كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة .
قوله تعالى : { ونقدس لك } . أي نثني عليك بالقدس والطهارة عما لا يليق بعظمتك وجلالك . وقيل : نطهر أنفسنا لطاعتك وقيل : وننزهك . " واللام " صلة وقيل : لم يكن هذا في الملائكة على طريق الاعتراض والعجب بالعمل ، بل على سبيل التعجب وطلب وجه الحكمة فيه .
قوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } . من المصلحة فيه ، وقيل : إني أعلم أن في ذريته من يطيعني ويعبدني من الأنبياء والأولياء والصلحاء . وقيل : إني أعلم أن فيكم من يعصيني ، وهو إبليس ، وقيل إني أعلم أنهم يذنبون وأنا أغفر لهم . قرأ أهل الحجاز والبصرة إني أعلم بفتح الياء وكذلك كل ياء إضافة استقبلها ألف مفتوحة إلا في مواضع معدودة ويفتحون في بعض المواضع عند الألف المضمومة والمكسورة وعند غير الألف وبين القراء اختلاف .
وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعاً ، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم ، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته ، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ . . . }
في هذه الآيات الكريمة عطف - سبحانه - قصة خلق آدم أبي البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا في الاستدلال على أن الله واحد ، وجمعاً بين تعدد الأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها ، حتى يكون التدليل أجمع ، والإِيمان بالله أقوى وأثبت .
وإذ وإذا ظرفان للزمان ، الأول للماضي والثاني للمستقبل ، فإن جاء إذ مع المضارع أفاد الماضي كقوله : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ . . . } وإن جاء إذا مع الماضي أفاد الاستقبال كقوله : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } وإذ هنا واقعة موقع المفعول به لعامل مقدر دل عليه المقام . والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . وقد جاء هذا المقدر هنا مصرحاً به في آيات أخرى كما قال تعالى :
{ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } والملائكة جمع ملك . والتاء لتأنيث الجمع ، وأصله ملأك ، من ملك ، نحو شمال من شمل ، والهمزة زائدة وهو مقلوب مالك ، وقيل : إن ملاك من لأك إذا أرسل ، ومنه الألوكة ، أي : الرسالة .
والملائكة ، هم جند من خلق الله ، ركز الله فيهم العقل والفهم ، وفطرهم على الطاعة ، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة ، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة ، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره " ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه للنبوة والرسالة . قال تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } وقال تعالى : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس } وقال-تعالى - { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } و ( الخليفة ) من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، والتاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم - عليه السلام - لأنه كان خليفة من الله في الأرض ، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله - تعالى - في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وإجراء أحكامه عليهم ، وتنفيذ أوامره فيهم . وقيل : آدم وذريته ، لأنه يخلف بعضهم بعضاً في عمارة الأرض ، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل . وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة ، ليس المقصود منه المشورة ، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة ، وما أجيبوا به من بعد ، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو - سبحانه - بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة . أو الحكمة تعظيم شأن المجهول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة .
ثم حكى - سبحانه - إجابة الملائكة فقال : { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .
الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح . يقال فسد الشيء فساداً وفسوداً وأفسده غيره .
والسفك : الصب والإِهراق ، يقال : سفكت الدم والدمع سفكاً - من باب ضرب - صببته . والفاعل سافك وسفاك ، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإِنسان ظلماً وعدواناً .
والتسبيح : مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء .
والتقديس : التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال .
فيكون التسبيح نفى ما لا يليق ، والتقديس إثبات ما يليق ، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية . والمعنى : أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، تنزيهاً متلبساً بحمدك والثناء عليك ، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيماً لك وتمجيداً .
وقولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا . . . إلخ } إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإِفساد في الأرض وسفك الدماء . وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله ، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل ، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا . والملائكة لا يعلمون الغيب ، فلابد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه . قال الإِمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى : قوله - تعالى - { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون ، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم . ويردعهم عن المحارم والمآثم . . وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه البعض . . وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا ؟
وقد رد الله - تعالى - على الملائكة بقوله : { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له - تعالى - المتعبون رسله .
فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق - عز وجل - وتنبيه إلى أنه - تعالى - عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه ، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء ، وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء ، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً ، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله ، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم ، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم ، وإن وقفت عقولهم دونها ، ففي تسليمهم لقدر الله ، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا الله ، الذي هو الغاية من الإِيمان به والإِقبال على طاعته .
قال بعض العلماء : " وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب بعض الناس له ، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلو على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين - وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين .
فلننظر الآن في قصة آدم - كما جاءت هنا - في ضوء هذه الإيضاحات . .
إن السياق - فيما سبق - يستعرض موكب الحياة ، بل موكب الوجود كله . ثم يتحدث عن الأرض - في معرض آلاء الله على الناس - فيقرر أن الله خلق كل ما فيها لهم . . فهنا في هذا الجو تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض ، ومنحه مقاليدها ، على عهد من الله وشرط ، وإعطائه المعرفة التي يعالج بها هذه الخلافة . كما أنها تمهد للحديث عن استخلاف بني إسرائيل في الأرض بعهد من الله ؛ ثم عزلهم عن هذه الخلافة وتسليم مقاليدها للأمة المسلمة الوافية بعهد الله [ كما سيجيء ] فتتسق القصة مع الجو الذي تساق فيه كل الاتساق .
فلنعش لحظات مع قصة البشرية الأولى وما وراءها من إيحاءات أصيلة :
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - في ساحة الملأ الأعلى ؛ وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى :
( وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ) . .
وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود ، زمام هذه الأرض ، وتطلق فيها يده ، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين ، والتحليل والتركيب ، والتحوير والتبديل ؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ، وتسخير هذا كله - بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه .
وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة ، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ؛ ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية
وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته ، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك ؛ وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة !
وإذن فهي منزلة عظيمة ، منزلة هذا الإنسان ، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم .
هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) . . حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة ، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض !
( قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ ) . .
ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال ، أو من تجارب سابقة في الأرض ، أو من إلهام البصيرة ، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق ، أو من مقتضيات حياته على الأرض ؛ وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض ، وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق ، وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له ، هو وحده الغاية المطلقة للوجود ، وهو وحده العلة الأولى للخلق . . وهو متحقق بوجودهم هم ، يسبحون بحمد الله ويقدسون له ، ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته !
لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا ، في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنويعها ، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها ، على يد خليفة الله في أرضه . هذا الذي قد يفسد أحيانا ، وقد يسفك الدماء أحيانا ، ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل . خير النمو الدائم ، والرقي الدائم . خير الحركة الهادمة البانية . خير المحاولة التي لا تكف ، والتطلع الذي لا يقف ، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير .
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء ، والخبير بمصائر الأمور :
{ وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّيَ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قال أبو جعفر : زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة أن تأويل قوله : وَإذْ قَالَ رَبكَ وقال ربك ، وأن «إذ » من الحروف الزوائد ، وأن معناها الحذف . واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يعفر :
فإذَا وَذَلِكَ لامَهاهَ لِذِكْرِهِ وَالدّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحا بِفَسادِ
ثم قال : ومعناها : وذلك لامهاه لذكره . وببيت عبد مناف بن ربع الهذلي :
حَتّى إذَا أسْلَكُوهُمْ في قُتائِدَةٍ *** شَلاّ كمَا تَطْرُدُ الجَمّالَةُ الشّرُدَا
قال أبو جعفر : والأمر في ذلك بخلاف ما قال وذلك أن «إذ » حرف يأتي بمعنى الجزاء ، ويدل على مجهول من الوقت ، وغير جائز إبطال حرف كان دليلاً على معنى في الكلام . إذ سواء قيلُ قائلٍ هو بمعنى التطوّل ، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم . وقيلُ آخر في جميع الكلام الذي نطق به دليلاً على ما أريد به وهو بمعنى التطول . وليس لمدّعي الذي وصفنا قوله في بيت الأسود بن يعفر ، أن «إذا » بمعنى التطوّل وجه مفهوم بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله :
فإذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرِهِ
وذلك أنه أراد بقوله : فإذا الذي نحن فيه ، وما مضى من عيشنا . وأشار بقوله ذلك إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فيه لامهاه لذكره ، يعني لا طعم له ولا فضل ، لإعقاب الدهر صالح ذلك بفساد . وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربع :
حتّى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتائِدَةٍ شَلاّ
لو أسقط منه «إذا » بطل معنى الكلام لأن معناه : حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلاّ . فدل قوله : «أسلكوهم شلاّ » على معنى المحذوف ، فاستغنى عن ذكره بدلالة «إذا » عليه ، فحذف . كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل العرب في نظائر ذلك ، وكما قال النمر بن تولب :
فإنّ المَنِيّةَ مَنْ يَخْشَهَا *** فَسَوْفَ تُصَادِفُه أيْنما
وهو يريد : أينما ذهب . وكما تقول العرب : أتيتك من قبل ومن بعد تريد : من قبل ذلك ومن بعد ذلك . فكذلك ذلك في «إذا » كما يقول القائل : إذا أكرمك أخوك فأكرمه وإذا لا فلا يريد : وإذا لم يكرمك فلا تكرمه . ومن ذلك قول الاَخر :
فَإِذَا وَذَلِكَ لا يَضُرُّكَ ضُرُّهُ . . . فِي يَوْم أسألُ نَائِلا أو أنْكَدُ
نظير ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر . وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : وَإذْ قالَ رَبّكَ للْمَلاَئِكَة لو أبطلت «إذ » وحذفت من الكلام ، لاستحال عن معناه الذي هو به وفيه «إذ » .
فإن قال قائل : فما معنى ذلك ؟ وما الجالب ل«إذْ » ، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يعطف به عليه ؟ قيل له : قد ذكرنا فيما مضى أن الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ بهذه الاَيات والتي بعدها موبخهم مقبحا إليهم سوء فعالهم ومقامهم على ضلالهم مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم ، ومذكرهم بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم بأسه أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصية الله ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته ومعرّفهم ما كان منه من تعطفه على التائب منهم استعتابا منه لهم . فكان مما عدد من نعمه عليهم ، أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، وسخر لهم ما في السموات من شمسها وقمرها ونجومها وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع ، فكان في قوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللّهِ وكُنْتُمْ أمْواتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ معنى : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئا ، وخلقت لكم ما في الأرض جميعا ، وسوّيت لكم ما في السماء . ثم عطف بقوله : وَإذْ قالَ رَبكَ للمَلائِكَةِ على المعنى المقتضَى بقوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ إذ كان مقتضيا ما وصفت من قوله : اذكروا نعمتي إذْ فعلت بكم وفعلت ، واذكروا فعلى بأبيكم آدم ، إذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .
فإن قال قائل : فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت ؟ قيل : نعم ، أكثر من أن يحصى ، من ذلك قول الشاعر :
أجِدّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلَباتٍ وَلا بَيْدَانَ ناجيَةً ذَمُولاَ
وَلا مُتَدَارِكٍ وَالشّمْسُ طِفْلٌ ببَعْضِ نَوَاشغِ الوَادي حُمُولا
فقال : ولا متدارك ، ولم يتقدمه فعل بلفظه يعطف عليه ، ولا حرف معرّب إعرابه فيردّ «متدارك » عليه في إعرابه . ولكنه لما تقدمه فعل مجحود ب«لن » يدل على المعنى المطلوب في الكلام وعلى المحذوف ، استغنى بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حذف ، وعاملَ الكلامَ في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرا . لأن قوله :
أجِدّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلبَاتٍ
بمعنى : أجدك لست براءٍ ، فردّ «متداركا » على موضع «ترى » كأن «لست » والباء موجودتان في الكلام ، فكذلك قوله : وَإذْ قَالَ رَبكَ لما سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبائهم من أياديه وآلائه ، وكان قوله : وَإذْ قَالَ رَبّكَ للمَلائِكَةِ مع ما بعده من النعم التي عدّدها عليهم ونبههم على مواقعها ، ردّ إذ على موضع : وكُنتم أمواتا فأحياكم لأن معنى ذلك : اذكروا هذه من نعمي ، وهذه التي قلت فيها للملائكة . فلما كانت الأولى مقتضية «إذ » عطف ب«إذْ » على موضعها في الأولى كما وصفنا من قول الشاعر في «ولا متدارك » .
القول في تأويل قوله تعالى : للْمَلائِكَةِ .
قال أبو جعفر : والملائكة جمع ملك ، غير أن واحدهم بغير الهمز أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمز ، وذلك أنهم يقولون في واحدهم مَلَك من الملائكة ، فيحذفون الهمز منه ، ويحرّكون اللام التي كانت مسكنة لو همز الاسم . وإنما يحركونها بالفتح ، لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها ، فإذا جمعوا واحدهم ردّوا الجمع إلى الأصل وهمزوا ، فقالوا : ملائكة . وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها ، فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة فيجري كلامهم بترك همزها في حال ، وبهمزها في أخرى ، كقولهم : رأيت فلانا ، فجرى كلامهم بهمز رأيت ، ثم قالوا : نرى وترى ويرى ، فجرى كلامهم في يفعل ونظائرها بترك الهمز ، حتى صار الهمز معها شاذّا مع كون الهمز فيها أصلاً . فكذلك ذلك في مَلَك وملائكة ، جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم ، وبالهمز في جميعهم . وربما جاء الواحد مهموزا كما قال الشاعر :
فَلَسْتَ لانْسِيّ وَلَكِنْ لمألاكٍ تَحَدّرَ مِنْ جَوّ السمّاءِ يَصُوبُ
وقد يقال في واحدهم : مألك ، فيكون ذلك مثل قولهم : جبذ وجذب ، وشأمل وشمأل ، وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة . غير أن الذي يجب إذا سمي واحدهم مألك ، أن يجمع إذ جمع على ذلك : مآلك ، ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعا ، ولكنهم قد يجمعون ملائك وملائكة ، كما يجمع أشعث : أشاعث وأشاعثة ، ومسمع : مسامع ومسامعة . قال أمية بن أبي الصلت في جمعهم كذلك :
وَفِيها مِنْ عِبادِ اللّهِ قَوْمٌ مَلائِكُ ذلّلُوا وَهُمُ صِعابُ
وأصل الملأك : الرسالة ، كما قال عديّ بن زيد العبادي :
أبْلِغِ النّعْمَانَ عَنّي مَلأكا *** أنّهُ قَدْ طالَ حَبْسِي وَانْتِظارِي
وقد ينشد «مألكا » على اللغة الأخرى ، فمن قال : ملأكا ، فهو مفعل من لأك إليه يلأكُ : إذا أرسل إليه رسالة ملأكة . ومن قال : مألكا ، فهو مفعل من ألكت إليه آلكُ : إذا أرسلت إليه مألكة وأَلوكا ، كما قال لبيد بن ربيعة :
وَغُلامٍ أرْسَلَتْهُ أمّهُ *** بَألُوكٍ فَبَذَلْنا ما سألْ
فهذا من ألكت . ومنه قول نابغة بني ذبيان :
ألِكْنِي يا عُيَيْنَ إلَيْكَ قَوْلاً *** سَتُهْدِيهِ الرّوَاةُ إلَيْكَ عَنّي
ألِكْنِي إلَيْها عَمْرَكَ اللّهُ يا فَتَى *** بِآيَةِ ما جاءَتْ إلَيْنَا تَهادِيا
يعني بذلك : أبلغها رسالتي . فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة ، لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده .
القول في تأويل قوله تعالى : إِنّي جاعِلٌ في الأرْضِ .
اختلف أهل التأويل في قوله : إنّي جاعِلٌ ، فقال بعضهم : إني فاعل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك عن الحسن ، وأبي بكر ، يعني الهذلي عن الحسن وقتادة ، قالوا : قال الله للملائكة : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قال لهم : إني فاعل .
وقال آخرون : إني خالق . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن المنجاب بن الحارث قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، قال : كل شيء في القرآن «جعل » فهو خلق .
قال أبو جعفر : والصواب في تأويل قوله : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَة أي مستخلف في الأرض خليفة ومصير فيها خلفا ، وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة . وقيل إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي مكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ابن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «دُحِيَتْ الأرْضُ مِنْ مَكّةَ . وكانت الملائكة تطوف بالبيت ، فهي أول من طاف به ، وهي الأرض التي قال الله : إني جاعل في الأرْضِ خَلِيفَةً ، وكان النبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتى هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا ، فإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام » .
القول في تأويل قوله تعالى : خَلِيفَةً .
والخليفة الفعيلة ، من قولك : خلف فلان فلانا في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده ، كما قال جل ثناؤه : ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ في الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يعني بذلك : أنه أبدلكم في الأرض منهم فجعلكم خلفاء بعدهم ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة ، لأنه خلف الذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خلفا ، يقال منه : خلف الخليفة يخلُف خلافة وخليفا ، وكان ابن إسحاق يقول بما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلقا ليس منكم . وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها ، وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة يسكنها ، ولكن معناها ما وصفت قبل .
فإن قال لنا قائل : فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرا فكان بنو آدم بدلاً منه وفيها منه خلفا ؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك .
فحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : أوّل من سكن الأرض الجنّ ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة ، فقتلهم إبليس ومن معه ، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها ، فلذلك قال : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً .
فعلى هذا القول إني جاعل في الأرض خليفة من الجنّ يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها .
وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً الآية ، قال : إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ، فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء وكان الفساد في الأرض .
وقال آخرون في تأويل قوله : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَة أي خلفا يخلف بعضهم بعضا ، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم ، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله .
وهذا قول حكي عن الحسن البصري ، ونظير له ما :
حدثني به محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط في قوله : إني جاعلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أتجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ قال : يعنون به بني آدم .
وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال الله للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا ، وأجعل فيها خليفة ، وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة والأرض ليس فيها خلق .
وهذا القول يحتمل ما حُكي عن الحسن ، ويحتمل أن يكون أراد ابن زيد أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة له ، يحكم فيها بين خلقه بحكمه ، نظير ما :
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله جل ثناؤه قال للملائكة : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي ، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه .
وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه ، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله لأنهما أخبرا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته إذ سألوه : ما ذاك الخليفة : إنه خليفة يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذرية خليفته دونه وأخرج منه خليفته .
وهذا التأويل وإن كان مخالفا في معنى الخليفة ما حُكي عن الحسن من وجه ، فموافق له من وجه . فأما موافقته إياه فصرف متأوّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة . وأما مخالفته إياها فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها ، وإضافة الحسن الخلافة إلى ولده بمعنى خلافة بعضهم بعضا ، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم ، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة . والذي دعا المتأوّلين قوله : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً في التأويل الذي ذكر عن الحسن إلى ما قالوا في ذلك أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها إذ قال لهم ربهم : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفكُ الدّماءَ إخبارا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه جاعله في الأرض لا غيره لأن المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنه جرت . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله قد برأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء وطهره من ذلك ، علم أن الذي عنى به غيره من ذرّيته ، فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم ، وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك ، وأن معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لما وصفنا . وأغفل قائلو هذه المقالة ومتأوّلو الآية هذا التأويل سبيل التأويل ، وذلك أن الملائكة إذ قال لها ربها : إنّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً لم تضف الإفساد وسفك الدماء في جوابها ربها إلى خليفته في أرضه ، بل قالت : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ، وغير منكر أن يكون ربها أعلمها أنه يكون لخليفته ذلك ذرية يكون منهم الإفساد وسفك الدماء ، فقالت : يا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ كما قال ابن مسعود وابن عباس ، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل .
القول في تأويل قوله تعالى : قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ .
قال أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ ولم يكن آدم بعد مخلوقا ولا ذرّيته ، فيعلموا ما يفعلون عيانا ؟ أعلمت الغيب فقالت ذلك ، أم قالت ما قالت من ذلك ظنّا ، فذلك شهادة منها بالظن وقول بما لا تعلم ، وذلك ليس من صفتها ، فما وجه قيلها ذلك لربها ؟ قيل : قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالاً ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك ، ثم مخبرون بأصحها برهانا وأوضحها حجة .
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة ، يقال لهم «الجن » خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، قال : وكان اسمه الحرث . قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحيّ . قال : وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذ ألهبت . قال : وخلق الإنسان من طين ، فأوّل من سكن الأرض الجنّ ، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة ، وهم هذا الحيّ الذين يقال لهم «الجنّ » ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . فلما فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه ، وقال : قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد . قال : فاطلع الله على ذلك من قلبه ، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله للملائكة الذين معه : إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً فقالت الملائكة مجيبين له : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء ؟ وإنما بُعثنا عليهم لذلك . فقال : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يقول : إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره ، قال : ثم أمر بتربة آدم فرفعت ، فخلق الله آدم من طين لازب واللازب : اللزج الصلب من حمأ مسنون منتن . قال : وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب . قال : فخلق منه آدم بيده . قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى ، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل أي فيصوّت قال : فهو قول الله : مِنْ صلْصَالٍ كالفَخّارِ يقول : كالشيء المنفوخ الذي ليس بمُصْمِتٍ ، قال : ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ، ويدخل من دبره ويخرج من فيه ، ثم يقول : لست شيئا للصلصلة ، ولشيء ما خلقت لئن سلطت عليك لأهلكنك ، ولئن سلطت عليّ لأعصينك . قال : فلما نفخ الله فيه من روحه ، أتت النفخة من قِبَل رأسه ، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما .
فلما انتهت النفخة إلى سرّته نظر إلى جسده ، فأعجبه ما رأى من حسنه ، فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قول الله : وكانَ الإنْسانُ عَجُولاً قال : ضَجِرا لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء . قال : فلما تمت النفخة في جسده ، عطس فقال : الحمد لله ربّ العالمين ، بإلهام من الله تعالى . فقال الله له : يرحمك الله يا آدم . قال : ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات : اسجدوا لاَدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره ، فقال : لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنّا وأقوى خلقا ، خلقتني من نار وخلقته من طين . يقول : إن النار أقوى من الطين .
قال : فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله ، وآيسه من الخير كله ، وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته ، ثم علّم آدم الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها . ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة ، يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم ، وقال لهم : أنْبئُونِي بأسْماءِ هَولاءِ يقول : أخبروني بأسماء هؤلاء إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إن كنتم تعلمون أني لِمَ أجعل في الأرض خليفة . قال : فلما علمت الملائكة مؤاخذة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم ، قالوا : سبحانك تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره ، تبنا إليك لا علم لنا إلا ما علمتنا تبريا منهم من علم الغيب ، إلا ما علمتنا كما علمت آدم . فقال : يا آدَمُ أنْبئْهُمْ بأسْمَائِهمْ يقول : أخبرهم بأسمائهم فَلَمّا أنْبأهُمْ بأسْمائِهمْ قالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ أيها الملائكة خاصة إنّي أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ ولا يعلمه غيري وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ يقول : ما تظهرون وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يقول : أعلم السرّ كما أعلم العلانية ، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
وهذه الرواية عن ابن عباس تنبىء عن أن قول الله جل ثناؤه : وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْمَلاَئِكَةِ إنّي جَاعل فِي الأرْضِ خَلِيفَةً خطاب من الله جل ثناؤه لخاصّ من الملائكة دون الجميع ، وأن الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصة ، الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم . وأن الله إنما خصهم بقيل ذلك امتحانا منه لهم وابتلاءً ليعرفهم قصور علمهم وفضل كثير ممن هو أضعف خلقا منهم من خلقه عليهم ، وأن كرامته لا تنال بقوى الأبدان وشدة الأجسام كما ظنه إبليس عدوّ الله . ويصرّح بأن قيلهم لربهم : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدّماءَ كانت هفوة منهم ورجما بالغيب ، وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك ، ووقفهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رجم الغيب بالظنون ، وتبرّءوا إليه أن يعلم الغيب غيره ، وأظهر لهم من إبليس ما كان منطويا عليه من الكبر الذي قد كان عنهم مستخفيا .
وقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية ، وهو ما :
حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما فرغ الله من خلق ما أحبّ ، استوى على العرش ، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ وإنما سموا الجنّ لأنهم خزّان الجنة . وكان إبليس مع ملكه خازنا ، فوقع في صدره كبر وقال : ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي هكذا قال موسى بن هارون ، وقد حدثني به غيره ، وقال : لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك الكبر في نفسه ، اطلع الله على ذلك منه ، فقال الله للملائكة : إنّي جاعِل فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالُوا رَبّنا أتجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدّماءَ ونَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إنّي أعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يعني من شأن إبليس . فبعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ وقال : ربّ إنها عاذت بك فأعذتها . فبعث الله ميكائيل ، فعاذت منه فأعاذها ، فرجع فقال كما قال جبريل . فبعث ملك الموت ، فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره . فأخذ من وجه الأرض وخلط ، فلم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين ، فصعد به فبلّ التراب حتى عاد طينا لازبا واللازب : هو الذي يلتزق بعضه ببعض ثم ترك حتى أنتن وتغير ، وذلك حين يقول : مِنْ حَمأٍ مَسْنُونٍ قال : منتن ، ثم قال للملائكة إنّي خالِق بَشَرا مِن طِين فإذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ منْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ سَاجدِينَ فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عليه ليقول له : تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه ؟ فخلقه بشرا ، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة . فمرّت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه ، وكان أشدّهم منه فزعا إبليس ، فكان يمرّ فيضربه ، فيصوّت الجسد كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة ، فذلك حين يقول : مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارٍ ويقول لأمر مّا خُلقت ودخل من فيه فخرج من دبره ، فقال للملائكة : لا ترهبوا من هذا ، فإن ربكم صَمَد وهذا أجوف ، لئن سلطت عليه لأهلكنّه فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح ، قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه الروح ، فدخل الروح في رأسه عطس ، فقالت له الملائكة : قل الحمد لله فقال : الحمد لله ، فقال له الله : رحمك ربك ، فلما دخل الروح في عينيه ، نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهَى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك حين يقول : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلّهُمْ أجْمَعُونَ إلاّ إبْلِيسَ أبى أنْ يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ أي اسْتَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرينَ قال الله له : ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ إذ أمرتك لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين ، قال الله له : اخْرُجْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ يعني ما ينبغي لك أنْ تَتَكّبَر فِيها فاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ والصغار هو الذلّ . قال : وعلّم آدم الأسماء كلها ، ثم عرض الخلق على الملائكة فقال : أنْبِئُونِي بأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، فقالوا له : سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ مَا عَلّمْتَنا إنّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ قالَ الله : يا آدَمُ أنْبِئُهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إني أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وأعْلَمُ مَا تُبْدِونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قال : قولهم : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فهذا الذي أبدوا ، وأعلم ما كنتم تكتمون ، يعني ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر .
قال أبو جعفر : فهذا الخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل ، وموافق معنى آخره معناها وذلك أنه ذكر في أوله أن الملائكة سألت ربها : ما ذاك الخليفة ؟ حين قال لها : إني جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً فأجابها أنه تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فقالت الملائكة حينئذٍ : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ ؟ فكان قول الملائكة ما قالت من ذلك لربها بعد إعلام الله إياها أن ذلك كائن من ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض ، فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه .
وأما موافقته إياه في آخره ، فهو قولهم في تأويل قوله : أنْبِئُونِي بأسْمَاءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء . وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك ، تبرّيا من علم الغيب : سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلاّ ما عَلّمْتَنَا إنّكَ أنْتَ العلِيمُ الحَكِيمُ .
وهذا إذا تدبره ذو الفهم ، علم أن أوله يفسد آخره ، وأن آخره يبطل معنى أوله ، وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء ، فقالت الملائكة لربها : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفكُ الدّماءَ فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء بمثل الذي أخبرها عنهم ربها ، فيجوز أن يقال لها فيما طوي عنها من العلوم إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور ، فأخبرتم به ، فأخبرونا بالذي قد طَوَى الله عنكم علمه ، كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه . بل ذلك خلف من التأويل ، ودعوى على الله ما لا يجوز أن يكون له صفة . وأخشى أن يكون بعضُ نَقَلَةِ هذا الخبر هو الذي غلط على من رواه عنه من الصحابة ، وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العلم بخبري إياكم أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، حتى استجزتم أن تقولوا : أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسدُ فيها ويَسْفِكُ الدّماءَ فيكون التوبيخ حينئذٍ واقعا على ماظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم : إنه يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن . وذلك أن الله جل ثناؤه وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرية خليفته في الأرض ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء ، فقد كان طوى عنهم الخبر عما يكون من كثير منهم ، ما يكون من طاعتهم ربهم وإصلاحهم في أرضه وحقن الدماء ورفعه منزلتهم وكرامتهم عليه ، فلم يخبرهم بذلك ، فقالت الملائكة : أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ على ظنّ منها على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرت ، وظاهرهما أن جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء . فقال الله لهم إذ علّم آدم الأسماء كلها : أنْبئونِي بأسماءِ هَؤلاء إن كنتمْ صَادقِين أنكم تعلمون أن جميع بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء على ما ظننتم في أنفسكم ، إنكارا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم ، وهو من صفة خاص ذرية الخليفة منهم . وهذا الذي ذكرناه هو صفة منا لتأويل الخبر لا القول الذي نختاره في تأويل الآية .
ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم ، ما :
حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط ، قوله : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسدُ فيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ قال : يعنون الناس .
حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْمَلائِكَةِ إنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً فاستخار الملائكة في خلق آدم ، فقالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض وَنَحْنُ نَسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ، فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل ، وقوم صالحون ، وساكنوا الجنة .
قال : وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم ، وكل خلق مبتلًى ، كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة فقال الله : ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طَائِعِينَ .
وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها : أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدّماءَ على غير يقين علم تقدم منها بأن ذلك كائن ولكن على الرأي منها والظن ، وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من قيلها وردّ عليها ما رأت بقوله : إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من أنه يكون من ذرّية ذلك الخليفة الأنبياء والرسلُ والمجتهدُ في طاعة الله .
وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويل ، وهو ما :
حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها قال : كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك قوله : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها . وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل ، منهم الحسن البصري .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك عن الحسن ، وأبي بكر عن الحسن ، وقتادة قالا : قال الله لملائكته : إنّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قال لهم إني فاعل . فعرضوا برأيهم ، فعلمهم علما وطوى عنهم علما عَلِمَه لا يعلمونه . فقالوا بالعلم الذي علّمهم : أتَجْعَل فِيها مَنْ يُفْسِد فِيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وقد كانت الملائكة علمت من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء وَنَحْن نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّس لَكَ قالَ إنّي أعْلَم ما لا تَعْلَمُونَ . فلما أخذ في خلق آدم ، همست الملائكة فيما بينها ، فقالوا : ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقا إلا كنا أعلم منه ، وأكرم عليه منه . فلما خلقه ونفخ فيه من روحه ، أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا ، ففضله عليهم ، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه ، فقالوا : إن لم نكن خيرا منه فنحن أعلم منه ، لأنا كنا قبله ، وخلقت الأمم قبله ، فلما أعجبوا بعلمهم ابتلوا فعلم آدمَ الأسماءَ كلّها ثمّ عرَضهُمْ علَى الملائكةِ فقال أنْبِئُونِي بأسْماءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه ، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قال : ففزع القوم إلى التوبة وإليها يفزع كل مؤمن فقالوا : سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ العَلِيم الحَكِيم قالَ يا آدمَ أنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ فَلَمّا أنْبأهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ غَيْب السّمَوَاتِ وَالأرْض وأعْلَمُ ما تُبْدونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ لقولهم : ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منّا .
قال : علمه اسم كل شيء ، هذه الجبال ، وهذه البغال ، والإبل ، والجنّ ، والوحش ، وجعل يسمي كل شيء باسمه ، وعرضت عليه كل أمة فقالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ غَيْب السّمَوَاتِ مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ . وأما ما كتموا فقول بعضهم لبعض : نحن خير منه وأعلم .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع بن أنس في قوله : إنّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً الآية . قال : إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة . قال : فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء ، وكان الفساد في الأرض . فمن ثم قالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِد فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ . . . الآية .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : أخبرنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بمثله .
ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ فَقالَ أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَولاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إلى قوله : إنّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ قال : وذلك حين قالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَك قال : فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم : لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدم ، وعلّم آدم الأسماء كلها ، فقال للملائكة : أنْبِئونِي بِأسْمَاءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إلى قوله : وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وكان الذي أبدوا حين قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدّماءَ وكان الذي كتموا بينهم قولهم : لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم . فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم .
حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لما خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا ، وقالوا : ربنا لم خلقت هذه النار ، ولأيّ شيء خلقتها ؟ قال : لمن عصاني من خلقي . قال : ولم يكن لله خلق يومئذٍ إلا الملائكة والأرض ، ليس فيها خلق ، إنما خلق آدم بعد ذلك . وقرأ قول الله : هَلْ أتَى على الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا . قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ليت ذلك الحين . ثم قال : قالت الملائكة : يا رب أو يأتي علينا دهر نعصيك فيه ، لا يرون له خلقا غيرهم . قال : لا ، إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليقة يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض . فقالت الملائكة : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفكُ الدّماءَ وقد اخترتنا ؟ فاجعلنا نحن فيها فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك ، وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه . فقال : إني أعلم ما لا تعلمون ، يا آدم أنبئهم بأسمائهم فقال : فلان ، وفلان . قال : فلما رأوه ما أعطاه الله من العلم ، أقرّوا لاَدم بالفضل عليهم ، وأبى الخبيث إبليس أن يقرّ له ، قال : أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينِ قالَ فاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِيها .
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، قال : لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به ، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه وكان أول بلاء ابتليت به الملائكة مما لها فيه ما تحبّ وما تكره للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا وأحاط به علم الله منهم جمع الملائكة من سكان السموات والأرض ، ثم قال : إنّي جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلَيفَةً يقول : عامر أو ساكن يسكنها ويعمرها خلقا ليس منكم . ثم أخبرهم بعلمه فيهم ، فقال : يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي ، فقالوا جميعا : أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ لا نعصي ولا نأتي شيئا كرهته ؟ قال : إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قال : إني أعلم فيكم ومنكم ، ولم يبدها لهم من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم ، مما يكون في الأرض ، مما ذكرت في بني آدم .
قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : ما كانَ لِيَ منْ عِلْمٍ بالمَلأ الأعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ إنْ يُوحَى إليّ إلاّ أنّمَا أنا نَذِيرٌ مُبِينٌ إلى قوله : فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ . فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان من ذكره آدم حين أراد خلقه ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه . فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة : إنّي خالِقٌ بَشَرا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمِأٍ مَسْنُونٍ بيدّي تكرمةً له ، وتعظيما لأمره ، وتشريفا له حفظت الملائكة عهده ، ووعوا قوله ، وأجمعوا الطاعة ، إلا ما كان من عدوّ الله إبليس ، فإنه صمت على ما كان في نفسه من الحسد والبغي والتكبر والمعصية . وخلق الله آدم من أَدَمة الأرض ، من طين لازب من حمأ مسنون ، بيديه تكرمة له وتعظيما لأمره وتشريفا له على سائر خلقه .
قال ابن إسحاق : فيقال والله أعلم : خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالاً كالفخار ، ولم تمسه نار . قال : فيقال والله أعلم : إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عطس ، فقال : الحمد لله فقال له ربه : يرحمك ربك ووقع الملائكة حين استوى سجودا له حفظا لعهد الله الذي عهد إليهم ، وطاعة لأمره الذي أمرهم به . وقام عدوّ الله إبليس من بينهم ، فلم يسجد مكابرا متعظما بغيا وحسدا ، فقال له : يا إبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ إلى : لأَمْلأَنّ جَهَنّمَ مِنْكَ وَمِمّنْ تَبعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ . قال : فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته وأبى إلا المعصية ، أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة . ثم أقبل على آدم ، وقد علمه الأسماء كلها ، فقال : يا آدَمُ أنْبِئُهُمْ بأسْمَائِهِمْ فَلَمّا أنْبأهُمْ بأسْمَائِهِمْ قالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلا مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ أي إنما أجبناك فيما علمتنا ، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به . فكان ما سمى آدمُ من شيء كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة .
حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم ، فقالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدّماءَ .
وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت : أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم ، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها : وكيف يعصونك يا ربّ وأنت خالقهم فأجابهم ربهم : إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم ، ومن بعض من ترونه لي طائعا . يعرّفهم بذلك قصور علمهم عن علمه .
وقال بعض أهل العربية : قول الملائكة : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها على غير وجه الإنكار منهم على ربهم ، وإنما سألوه ليعلموا ، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون . وقال : قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يعصى الله ، لأن الجنّ قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت .
وقال بعضهم : ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك ، فكأنهم قالوا : يا ربّ خبرنا مسألة استخبار منهم لله لا على وجه مسألة التوبيخ .
قال أبو جعفر : وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه مخبرا عن ملائكته قيلها له : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ تأويل من قال : إن ذلك منها استخبار لربها بمعنى : أعلمنا يا ربنا ، أجاعل أنت في الأرض من هذه صفته وتارك أن تجعل خلفاءك منا ، ونحن نسبح بحمدك ، ونقدّس لك ؟ لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل ، وإن كانت قد استعظمت لما أخبرت بذلك أن يكون لله خلق يعصيه .
وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلك فسألته على وجه التعجب ، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ولا خبر بها من الحجة يقطع العذر ، وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة .
وأما وصف الملائكة من وصفت في استخبارها ربها عنه بالفساد في الأرض وسفك الدماء ، فغير مستحيل فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السدّي ووافقهما عليه قتادة من التأويل . وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا ، فقالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها على ما وصفت من الاستخبار .
فإن قال لنا قائل : وما وجه استخبارها والأمر على ما وصفت من أنها قد أخبرت أن ذلك كائن ؟ قيل : وجه استخبارها حينئذٍ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك ، وهل ذلك منهم ؟ ومسألتهم ربهم أن يجعلهم الخلفاء في الأرض حتى لا يعصوه .
وغير فاسد أيضا ما رواه الضحاك عن ابن عباس وتابعه عليه الربيع بن أنس من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض قبل آدم من الجن ، فقالت لربها : أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون ؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم ، لا على وجه الإيجاب أن ذلك كائن كذلك ، فيكون ذلك منها إخبارا عما لم تطلع عليه من علم الغيب .
وغير خطأ أيضا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيل الملائكة ما قالت من ذلك على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلق يعصي خالقه .
وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع بن أنس وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطع مجيئه العذر ويلزم سامعه به الحجة . والخبر عما مضى وما قد سلف ، لا يدرك علم صحته إلا بمجيئه مجيئا يمتنع منه التشاغب والتواطؤ ، ويستحيل منه الكذب والخطأ والسهو . وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع ، ولا فيما قاله ابن زيد . فأولى التأويلات إذ كان الأمر كذلك بالآية ، ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالةٌ مما يصحّ مخرجه في المفهوم .
فإن قال قائل : فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء ، فمن أجل ذلك قالت الملائكة : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا فأين ذكر إخبار الله إياهم في كتابه بذلك ؟ قيل له : اكتفي بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه ، كما قال الشاعر :
فَلاَ تَدْفِنُونِي إنّ دَفْنِي مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خامِرِي أُمّ عامِرِ
فحذف قوله دعوني للتي يقال لها عند صيدها خامري أم عامر ، إذ كان فيما أظهر من كلامه دلالة على معنى مراده . فكذلك ذلك في قوله : قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله : إنّي جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض اكتفى بدلالته وحذف ، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر . ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى . فلما ذكرنا من ذلك اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله : قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ .
قال أبو جعفر : أما قوله : وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ فإنه يعني : إنا نعظمك بالحمد لك والشكر ، كما قال جل ثناؤه : فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وكما قال : وَالمَلائِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وكل ذكر لله عند العرب فتسبيح وصلاة ، يقول الرجل منهم : قضيت سبحتي من الذكر والصلاة . وقد قيل إن التسبيح صلاة الملائكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين ، فقال له : النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس فقال له : امض إلى عملك إن كان لك عمل ، فقال : ما أظنّ إلا سيمرّ عليك من ينكر عليك . فمرّ عليه عمر بن الخطاب ، فقال له : يا فلان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس فقال له مثلها . فقال : هذا من عملي . فوثب عليه فضربه حتى انتهى . ثم دخل المسجد فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه عمر ، فقال : يا نبيّ الله مررت آنفا على فلان وأنت تصلي ، فقلت له : النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس فقال : سر إلى عملك إن كان لك عمل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «فهلاّ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ » فقام عمر مسرعا . فقال : «يا عُمَرُ ارْجِعْ فإنّ غَضَبَكَ عز وَرِضَاكَ حُكْمٌ ، إنّ لِلّهِ فِي السّمَوَاتِ السّبْعِ مَلائِكَةً يُصَلُونَ ، لَهُ غِنًى عَنْ صَلاةِ فُلانٍ » . فقال عمر : يا نبيّ الله وما صلاتهم ؟ فلم يردّ عليه شيئا . فأتاه جبريل ، فقال : يا نبي الله سألك عمر عن صلاة أهل السماء ؟ قال : «نَعَمْ » ، فقال : اقرأ على عمر السلام ، وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي العزّة والجبروت ، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون : سبحان الحيّ الذي لا يموت .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، وسهل بن موسى الرازي ، قالا : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا الجريري ، عن أبي عبد الله الجسري ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذرّ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده أو أن أبا ذرّ عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله بأبي أنت ، أيّ الكلام أحبّ إلى الله ؟ فقال : «ما اصْطَفَى اللّهُ لِمَلائِكَتِهِ : سُبْحَانَ رَبي وَبِحَمْدِهِ ، سُبْحانَ رَبي وَبَحمْدِهِ » . في كل أشكال لما ذكرنا من الأخبار كرهنا إطالة الكتاب باستقصائها . وأصل التسبيح لله عند العرب التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه والتبرئة له من ذلك ، كما قال أعشى بني ثعلبة :
أقُولُ لَمّا جاءَنِي فَخْرُهُ *** سُبْحانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفاخِرِ
يريد : سبحان الله من فخر علقمة أي تنزيها لله مما أتى علقمة من الافتخار على وجه النكير منه لذلك .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع .
فقال بعضهم : قولهم : نسبح بحمدك : نصلي لك . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ونَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال : يقولون : نصلي لك .
وقال آخرون : نسبح بحمدك التسبيح المعلوم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ونَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ قال التسبيحَ التسبيحَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَنُقَدّسُ لَكَ .
قال أبو جعفر : والتقديس هو التطهير والتعظيم ومنه قولهم : سبّوح قدّوس ، يعني بقولهم سبوح : تنزيه لله وبقولهم قدوس : طهارة له وتعظيم ولذلك قيل للأرض : أرض مقدسة ، يعني بذلك المطهرة . فمعنى قول الملائكة إذا : وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ ننزّهك ونبرّئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك ، ونصلي لك . ونقدس لك : ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك .
وقد قيل : إن تقديس الملائكة لربها صلاتها له كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَنُقَدّسُ لَكَ قال : التقديس : الصلاة .
وقال بعضهم : نقدّس لك : نعظمك ونمجدك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، قال : حدثنا أبو سعيد المؤدّب ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال : نعظمك ونمجدك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى . وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَنُقَدّسُ لَكَ قال : نعظمك ونكبرك .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق : وَنَحنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه .
وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله : وَنُقَدّسُ لَكَ قال : التقديس : التطهير .
وأما قول من قال : إن التقديس الصلاة أو التعظيم ، فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير من أجل أن صلاتها لربها تعظيم منها له وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به .
ولو قال مكان : «ونقدس لك » : «ونقدسك » ، كان فصيحا من الكلام ، وذلك أن العرب تقول : فلان يسبح الله ويقدسه ، ويسبح لله ويقدس له بمعنى واحد ، وقد جاء بذلك القرآن ، قال الله جل ثناؤه : كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيرا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرا وقال في موضع آخر : يُسَبّحُ لِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَمَا فِي أَلارْضِ .
القول في تأويل قوله تعالى : قالَ إنّي أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم : يعني بقوله : أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ مما اطلع عليه من إبليس ، وإضماره المعصية لله وإخفائه الكبر ، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يقول : إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره .
وحدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : إني أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يعني من شأن إبليس .
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد . وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قالا جميعا : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إني أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن مجاهد بمثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن مجاهد ، مثله .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة عن مجاهد في قوله : إني أعلم ما لا تعلمون قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وحدثني جعفر بن محمد البُزُوري ، قال : حدثنا حسن بن بشر عن حمزة الزيات ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : إني أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبْلِيسَ كتمانه الكبر أن لا يسجد لاَدم .
وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : إنّي أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبليس المعصية .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : قال مجاهد في قوله : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها . وقال مرة آدم .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدّث عن أبيه في قوله : إنّي أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها ، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه والثوري عن عليّ بن بذيمة ، عن مجاهد في قوله : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أي فيكم ومنكم ولم يبدها لهم من المعصية والفساد وسفك الدماء .
وقال آخرون : معنى ذلك أني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهل الطاعة والولاية لله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قال : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة .
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه ، ينبىء عن أن الملائكة التي قالت : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ استفظعت أن يكون لله خلق يعصيه ، وعجبت منه إذ أخبرت أن ذلك كائن فلذلك قال لهم ربهم : إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعني بذلك : والله أعلم أنك لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه وأنا أعلم أنه في بعضكم ، وتصفون أنفسكم بصفة أعلم خلافها من بعضكم وتعرّضون بأمر قد جعلته لغيركم . وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته من الفساد وسفك الدماء قالت لربها : يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفة من غيرنا يكون من ذريته من يعصيك أم منا ؟ فإنا نعظمك ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كشحا إبليسُ من استكباره على ربه . فقال لهم ربهم : إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم . وذلك هو ما كان مستورا عنهم من أمر إبليس وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر . وعلى قيلهم ذلك ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عوتبوا .
{ وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم ، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له ، إنعام يعم ذريته . وإذا ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى ، كما وضع إذ الزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى ، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان ، وبنيتا تشبيها لهما بالموصولات ، واستعملتا للتعليل والمجازاة ، ومحلهما النصب أبدا بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه ، وأما قوله تعالى : { واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف } ونحوه ، فعلى تأويل : اذكر الحادث إذا كان كذا فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه ، وعامله في الآية قالوا ، أو اذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولا له صريحا في القرآن كثيرا ، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة ، مثل وبدأ خلقكم إذ قال ، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة . وعن معمر أنه مزيد . والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل ، والتاء لتأنيث الجمع ، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي : الرسالة ، لأنهم وسائط بين الله تعالى ، وبين الناس ، فهم رسل الله . أو كالرسل إليهم . واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها . فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك . وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان . وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، منقسمة إلى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره ، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وهم العليون والملائكة المقربون . وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وهم المدبرات أمرا ، فمنهم سماوية ، ومنهم أرضية ، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع .
والمقول لهم : الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ، وقيل ملائكة الأرض ، وقيل إبليس ومن كان معه في محاربة الجن ، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولا فأفسدوا فيها ، فبعث إليهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال . وجاعل : من جعل الذي له مفعولان وهما في { الأرض خليفة } أعمل فيهما ، لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه . ويجوز أن يكون بمعنى خالق . والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه ، والهاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم ، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه ، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه ، وتلقي أمره بغير وسط ، ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال الله تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم ، واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمه بلا واسطة ، كما كلم موسى عليه السلام في الميقات ، ومحمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد ، جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك . أو خليفة من سكن الأرض قبله ، أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم ، أو يخلف بعضهم بعضا . وإفراد اللفظ : إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم : مضر وهاشم . أو على تأويل من يخلفكم ، أو خلفا يخلفكم . وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة ، تعليم المشاورة ، وتعظيم شأن المجعول ، بأن بشر عز وجل بوجود سكان ملكوته ، ولقبه بالخليفة قبل خلقه ، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم ، وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك .
{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية ، واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها ، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره ، وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ، أو تلق من اللوح ، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم ، أو قياس لأحد الثقلين على الآخر . والسفك والسبك والسفح والشن أنواع من الصب ، فالسفك يقال في الدم والدمع ، والسبك في الجواهر المذابة ، والسفح في الصب من أعلى ، والشن في الصب من فم القربة ونحوها ، وكذلك السن ، وقرئ { يسفك } على البناء للمفعول ، فيكون الراجع إلى { من } ، سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوفا ، أي : يسفك الدماء فيهم .
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } حال مقررة لجهة الإشكال كقولك أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج القديم . والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ، والمقصود منه ، الاستفسار عما رجحهم ومع ما هو متوقع منهم ، على الملائكة المعصومين في الاستخلاف ، لا العجب والتفاخر . وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء ، وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة . ونظروا إليها مفردة وقالوا ما الحكمة في استخلافه ، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه ، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليما عن معارضة تلك المفاسد . وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل ، متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف . ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد ، كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف ، وإليه أشار تعالى إجمالا بقوله :
{ قال إني أعلم ما لا تعلمون } والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس ، من سبح في الأرض والماء ، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ، ويقال قدس إذا طهر لأن مطهر الشيء مبعد له عن الأقذار . و{ بحمدك } في موضع الحال ، أي متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك ، تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح ، وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل : نقدسك واللام مزيدة .