معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية إلا آيتين من قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } إلى قوله : { فإن مصيركم إلى النار } . وهي اثنتان وخمسون آية

{ الر } أي : هذا كتاب { أنزلناه إليك } ، يا محمد يعني : القرآن ، { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } أي : لتدعوهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان ، { بإذن ربهم } ، بأمر ربهم . وقيل : بعلم ربهم . { إلى صراط العزيز الحميد } أي : إلى دينه ، و{ العزيز } ، هو الغالب ، و{ الحميد } : هو المستحق للحمد .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة إبراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه . وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة إبراهيم –عليه السلام- ، توخيت فيه أن يكون تفسيرا تحليليا ، خاليا من الآراء السقيمة ، والأقوال الضعيفة . والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه ، نافعا لعباده .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

المؤلف

د . محمد سيد طنطاوي

تعريف بسورة إبراهيم –عليه السلام-

1- سورة إبراهيم –عليه السلام- هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فقد كان بعد سورة نوح –عليه السلام- .

وقد ذكر السيوطي قبلها سبعين سورة من السور المكية( {[1]} ) .

2- وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية في المصحف الكوفي ، وإحدى وخمسون في البصري ، وأربع وخمسون في المدني ، وخمس وخمسون في الشامي .

3- وسميت بهذا الاسم ، لاشتمالها على الدعوات الطيبات التي تضرع بها إبراهيم –عليه السلام- إلى ربه ، ولا يعرف لها اسم آخر سوى هذا الاسم .

4- وجمهور العلماء على أنها مكية ، وليس فيها آية أو آيات غير مكية .

وقال الآلوسي : " أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة . والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك ، وهو الذي عليه الجمهور .

وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين فإنهما نزلتا بالمدينة وهما قوله –تعالى- : [ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار* جهنم يصلونها وبئس القرار ] فإنهما نزلتا في قتلى بدر من المشركين . . ( {[2]} ) .

وسنرى عند تفسيرنا لهاتين الآيتين ، أنه لم يقم دليل يعتمد عليه على أنهما مدنيتان . وأن السورة كلها مكية كما قال جمهور العلماء .

5- هذا ، وبمطالعتنا لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل نراها في مطلعها تحدثنا عن وظيفة القرآن الكريم ، وعن جانب من مظاهر قدرة الله –تعالى- ، وعن سوء عاقبة الكافرين ، وعن الحكمة في إرسال كل رسول بلسان قومه قال –تعالى- : [ الر . كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد* الله الذي لهما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ] . .

[ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فيضل الله من يشاء ، ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ] .

ثم نراها بعد ذلك تحدثنا عن طرف من رسالة موسى –عليه السلام- مع قومه ، وعن أخبار بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وعن نماذج من المحاورات التي دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم .

قال –تعالى- : [ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله ، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . . ] .

ثم تضرب السورة الكريمة بعد ذلك مثلا لأعمال الكافرين ، وتصور أحوالهم عندما يخرجون من قبورهم يوم القيامة ، وتحكي ما يقوله الشيطان لهم في ذلك اليوم . . فتقول :

[ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ] . .

[ وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا ] . .

[ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ] .

ثم تسوق السورة مثلا آخر لكلمتي الإيمان والكفر فتقول : [ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ] . .

ثم يحكي ألوانا متعددة من الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وعلمه وقدرته ونعمه على عباده فتقول : [ الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ، وسخر لكم الأنهار . . . ] .

ثم تسوق بعد ذلك تلك الدعوات الصالحات الجامعات لأنواع الخير ، التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فتقول :

[ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . . . ] .

[ رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء* ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ] .

ثم يختم –سبحانه- هذه السورة الكريمة بآيات فيها ما فيها من أنواع العذاب الذي أعده للظالمين ، وفيها ما فيها من ألوان التحذير من السير في طريق الكافرين والجاحدين فيقول :

[ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار . مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء . . . ] .

[ هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولوا الألباب ] .

6- ومن هذا العرض الإجمالي للسورة الكريمة ، نراها اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي :

( أ‌ ) تذكير الناس بنعم خالقهم عليهم ، وتحريضهم على شكر هذه النعم وتحذيرهم من جحودها وكفرها . .

ومن الآيات التي وردت في هذه السورة في هذا المعنى قوله –تعالى- : [ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ] .

وقوله –تعالى- : [ وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، إن الإنسان لظلوم كفار ] .

( ب‌ ) تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه من مشركي قريش ، تارة عن طريق ما لقيه الأنبياء السابقون من أقوامهم ، وتارة عن طريق بيان أن العاقبة للمتقين .

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله –تعالى- : [ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ، جاءتهم رسلهم بالبينات ، فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب . . . ] .

وقوله –تعالى- : [ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ، فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين . ولنسكننكم الأرض من بعدهم . . . ] .

( ج ) اشتمال السورة الكريمة على أساليب متعددة للترغيب في الإيمان ، وللتحذير من الكفر ، تارة عن طريق ضرب الأمثال ، وتارة عن طريق بيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ، وتارة عن طريق حكاية ما يقوله الشيطان لأتباعه يوم القيامة ، وما يقوله الضعفاء للذين استكبروا وما يقوله الظالمون يوم يرون العذاب . .

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله –تعالى- : [ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء . تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ] .

وقوله –تعالى- : [ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ] .

وقوله –تعالى- : [ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل . . . ] .

هذه بعض الموضوعات التي اهتمت السورة بإبرازها وبتركيز الحديث عنها ، وهناك موضوعات أخرى عنيت السورة بتفصيل الحديث عنها ، ويراها المتدبر لآياتها . .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

سورة إبراهيم - عليه السلام - من السور القرآنية التى افتتحت بحرف من الحروف المقطعة وهو قوله - تعالى - : { الار } .

وقد سبق أن ذكرنا آراء العلماء فى هذه الحروف عند تفسيرنا لسور : آل عمران ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد .

وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن ، على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .

فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعاندين والمعارضين فى أن القرآن من عند الله . هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك ، فإن لم تستطيعوا فهاتوا عشر سور من مثله ، فإن عجزتم فهاتوا سورة واحدة من مثله .

قال - تعالى - : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادعوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وقوله { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } تنويه بشأن القرآن الكريم ، وبيان للغرض السامى الذى أنزله الله - تعالى - من أجله .

والظلمات : جمع ظلمة ، والمراد بها : الكفر والضلال ، والمراد بالنور : الإِيمان والهداية .

والباء فى { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } للسببية ، والجار والمجرور متعلق بقوله { لِتُخْرِجَ } .

والصراط : الجادة والطريق ، من سرط الشئ إذا ابتلعه ، وسمى الطريق بذلك ، لأنه يبتلع المارين فيه ، وأبدلت سينه صادا على لغة قريش .

والمعنى : هذا كتاب جليل الشأن ، عظيم القدر ، أنزلناه إليك يا محمد ، لكى تخرج الناس من ظلمات الكفر والجهالة والضلال ، إلى نور الإِيمان والعلم والهداية وهذا الإِخراج إنما هو بإذن ربهم ومشيئته وإرادته وأمره .

وقوله { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } بدل من قوله { إِلَى النور } .

أى لتخرج الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى طريق الله { العزيز } أى : الذى يَغلب ولا يُغلب { الحميد } أى : المحمود بكل لسان .

وأسند - سبحانه - الإِخراج إلى النبى صلى الله عليه وسلم باعتباره المبلغ لهذا الكتاب المشتمل على الهداية التى تنقل الناس من الكفر إلى الإِيمان ، ومن الجهالة إلى الهداية وشبه الكفر بالظلمات - كما يقول الإِمام الرازى - ، لأنه ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية ، وشبه الإِيمان بالنور ، لأنه ناية ما ينجلى به طريق هدايته " .

وفى جمع " الظلمات " وإفراد " النور " إشارة إلى أن للكفر طرقا كثيرة ، وأما الإِيمان فطريق واحد .

وقوله - سبحانه - : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } احتراس لبيان أن نقل الناس من حال إلى حال إنما هو بإرادة الله - تعالى - ومشيئته ، وأن الرسول ما هو إلا مبلغ فقط ، أما الهداية فمن الله وحده .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى : { الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .

قال أبو جعفر الطبري : قد تقدم منا البيان عن معنى قوله : الر فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وأما قوله : كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ فإن معناه : هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد يعني القرآن ، لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ يقول : لتهديهم به من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه ، وتبصّر به أهل الجهل والعمّى سبل الرشاد والهُدى .

وقوله : بإذْنِ رَبّهِمْ يعني : بتوفيق ربهم لهم بذلك ولطفه بهم . إلى صراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ يعني : إلى طريق الله المستقيم ، وهو دينه الذي ارتضاه وشرعه لخلقه . والحميد : فعيل ، صُرف من مفعول إلى فعيل ، ومعناه : المحمود بآلائه ، وأضاف تعالى ذكره إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم لهم بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو الهادي خلقه والموفّق من أحبّ منهم للإيمان ، إذ كان منه دعاؤهم إليه ، وتعريفهم ما لهم فيه وعليهم ، فبين بذلك صحة قول أهل الإثبات الذين أضافوا أفعال العباد إليهم كسبا ، وإلى الله جلّ ثناؤه إنشاءً وتدبيرا ، وفساد قول أهل القدر الذين أنكروا أن يكون لله في ذلك صنع .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ : أي من الضلالة إلى الهُدى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة إبراهيم

هذه السورة مكية إلا آيتين{[1]} ، وهي{[2]} قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا } إلى آخر الآيتين ، ذكره مكي ، والنقاش .

تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور والاختلاف في ذلك .

و { كتاب } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب ، وهذا على أكثر الأقوال في الحروف المقطعة ، وأما من قال فيها ، إنها كناية عن حروف المعجم ، ف { كتاب } مرتفع بقوله : { الر } أي هذه الحروف كتاب أنزلناه إليك{[6994]} وقوله : { أنزلناه } في موضع الصفة للكتاب .

قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما : إن الإنزال لم يتعلق بالكلام القديم الذي هو صفة الذات ، لكن بالمعاني التي أفهمها الله تعالى جبريل عليه السلام من الكلام .

وقوله : { لتخرج } أسند الإخراج إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث له فيه المشاركة بالدعاء والإنذار ، وحقيقته إنما هي لله تعالى بالاختراع والهداية . وفي هذه اللفظة تشريف للنبي عليه السلام .

وعم { الناس } إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق ، ثبت ذلك بآيات القرآن التي اقترن بها ما نقل تواتراً من دعوته العالم كله ، ومن بعثته إلى الأحمر والأسود علم الصحابة ذلك مشاهدة ، ونقل عنهم تواتراً ، فعلم قطعاً والحمد لله .

واستعير { الظلمات } للكفر ، و { النور } للإيمان ، تشبيهاً .

وقوله : { بإذن ربهم } ، أي بعلمه وقضائه به وتمكينه لهم . .

و { إلى } في قوله : { إلى صراط } بدل من الأولى في قوله : { إلى النور }{[6995]} أي إلى المحجة المؤدية إلى طاعة الله وللإيمان به ورحمته ، فأضافها إلى الله بهذه التعلقات .

و { العزيز الحميد } صفتان لائقتان بهذا الموضع ، فالعزة من حيث الإنزال للكتاب ، وما في ضمن ذلك من القدرة ، واستيجاب الحمد من جهة بث هذه النعم على العالم في نصب هدايتهم .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[6994]:جوز العلماء في إعراب [الرا] أن تكون في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره: "هذه الرا"، وأن تكون في موضع نصب على تقدير: "الزم أو اقرأ الرا"، وتكون جملة {كتاب أنزلناه إليك} مفسرة.و يجوز في هذه الحالة أن يكون [كتاب] مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه موصوفا في التقدير، أي: كتاب عظيم أنزلناه إليك.
[6995]:لا يضر الفصل بين البدل و المبدل منه بقوله تعالى: {بإذن ربهم} لأنه معمول للعامل في المبدل منه و هو { لتخرج}.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

أضيفت هذه السورة إلى اسم إبراهيم عليه السلام فكان ذلك اسما لها لا يعرف لها غيره . ولم أقف على إطلاق هذا الاسم عليها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا في كلام أصحابه في خبر مقبول .

ووجه تسميتها بهذا وإن كان ذكر إبراهيم عليه السلام جرى في كثير من السور أنها من السور ذوات { ألر } . وقد ميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى أسماء الأنبياء عليهم السلام التي جاءت قصصهم فيها ، أو إلى مكان بعثة بعضهم وهي سورة الحجر ، ولذلك لم تضف سورة الرعد إلى مثل ذلك لأنها متميزة بفاتحتها بزيادة حرف ميم على ألف ولام وراء .

وهي مكية كلها عند الجمهور . وعن قتادة إلا آيتي { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } إلى قوله { وبئس القرار } ، وقيل : إلى قوله : { فإن مصيركم إلى النار } . نزل ذلك في المشركين في قضية بدر ، وليس ذلك إلا توهما كما ستعرفه .

نزلت هذه السور بعد سورة الشورى وقبل سورة الأنبياء . وقد عدت السبعين في ترتيب السور في النزول .

وعدت آياتها أربعا وخمسين عند المدنين وخمسين عند أهل الشام ، وإحدى وخمسين عند أهل البصرة . واثنتين وخمسين عند أهل الكوفة .

واشتملت من الأغراض على أنها ابتدأت بالتنبيه إلى إعجاز القرآن ، وبالتنويه بشأنه ، وأنه أنزل لإخراج الناس من الضلالة . والامتنان بأن جعله بلسان العرب . وتمجيد الله تعالى الذي أنزله .

ووعيد الذين كفروا به بمن أنزل عليه .

وإيقاظ المعاندين بأن محمد صلى الله عليه وسلم ما كان بدعا من الرسل . وأن كونه بشرا أمر غير مناف لرسالته من عند الله كغيره من الرسل . وضرب له مثلا برسالة موسى عليه السلام إلى فرعون لإصلاح حال بني إسرائيل .

وتذكيره قومه بنعم الله ووجوب شكرها .

وموعظته إياهم بما حل بقوم نوح وعاد ومن بعدهم وما لاقته رسلهم من التكذيب .

وكيف كانت عاقبة المكذبين .

وإقامة الحجة على تفرد الله تعالى بالإلهية بدلائل مصنوعاته .

وذكر البعث .

وتحذير الكفار من تغرير قادتهم وكبرائهم بهم من كيد الشيطان .

وكيف يتبرأون منهم يوم الحشر .

ووصف حالهم وحال المؤمنين يومئذ .

وفضل كلمة الإسلام وخبث كلمة الكفر .

ثم التعجيب من حال قوم كفروا نعمة الله وأوقعوا من تبعهم في دار البوار بالإشراك .

والإيماء إلى مقابلته بحال المؤمنين .

وعد بعض نعمة على الناس تفضيلا ثم جمعها إجمالا .

ثم ذكر الفريقين بحال إبراهيم عليه السلام ليعلم الفريقان من هو سالك سبيل إبراهيم عليه السلام ومن هو ناكب عنه من ساكني البلد الحرام .

وتحذيرهم من كفران النعمة .

وإنذارهم أن يحل بالذين ظلموا من قبل .

وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بوعد النصر .

وما تخلل ذلك من الأمثال .

وختمت بكلمات جامعة من قوله { هذا بلاغ للناس } إلى آخرها .

{ ألر } تقدم الكلام على الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس .

{ الر } .

تقدم الكلام عى الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس .

{ كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد }

الكلام على تركيب { الر كتاب أنزلته إليك } كالكلام على قوله تعالى : { ألمص كتاب أنزل إليك } [ سورة الأعراف : 1 2 ] عدا أن هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي ، فللعلم بمنزله حذف الفاعل في آية سورة الأعراف ، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز ؛ ولكنه ذكر هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله : لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } ، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله : { بإذن ربهم } ، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبيء عليه الصلاة والسلام المنزل إليه الكتاب ، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز .

أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه ، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة ، كما دل عليه قوله : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } ، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبيء صلى الله عليه وسلم .

ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله : { بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } بعد أن كان المقام للإضمار تبعاً لقوله : { أنزلناه } .

وإسناد الإخراج إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يبلغ هذا الكتاب المشتمل على تبيين طرق الهداية إلى الإيمان وإظهار فساد الشرك والكفر ، وهو مع التبليغ يبين للناس ويقرب إليهم معاني الكتاب بتفسيره وتبيينه ، ثم بما يبنيه عليه من المواعظ والنذر والبشارة . وإذ قد أسند الإخراج إليه في سياق تعليل إنزال الكتاب إليه عُلِم أن إخراجه إياهم من الظلمات بسبب هذا الكتاب المنزل ، أي بما يشتمل عليه من معاني الهداية .

وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس ، وأنه لم يتركهم في ضلالهم ، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضلّ فبإيثار الضال هوى نفسه على دلائل الإرشاد ، وأمرُ الله لا يكون إلا لحِكم ومصالح بعضها أكبر من بعض .

والإخراج : مستعار للنقل من حال إلى حال . شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج .

و { الظلماتُ والنور } استعارة للكفر والإيمان ، لأن الكفر يجعل صاحبه في حيرة فهو كالظلمة في ذلك ، والإيمان يرشد إلى الحق فهو كالنور في إيضاح السبيل . وقد يستخلص السامع من ذلك تمثيل حال المنغمس في الكفر بالمتحير في ظلمة ، وحال انتقاله إلى الإيمان بحال الخارج من ظلمة إلى مكانٍ نيّر .

وجمع { الظلمات } وإفراد { النور } تقدم في أول سورة الأنعام ( 1 ) .

والباء في { بإذن ربهم } للسببية ، والإذنُ : الأمر بفعل يتوقف على رضَى الآمر به ، وهو أمر الله إياه بإرساله إليهم لأنه هو الإذن الذي يتعلق بجميع الناس ، كقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } . ولما كان الإرسال لمصلحتهم أضيف الإذن إلى وصف الربّ المضاف إلى ضمير الناس ، أي بإذن الذي يدبر مصالحهم .

وقوله : { إلى صراط العزيز الحميد } [ سورة إبراهيم : 1 ] بدل من { النور } بإعادة الجار للمبدل منه لزيادة بيان المبدل منه اهتماماً به ، وتأكيد للعامل كقوله تعالى : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم } في سورة الأعراف ( 88 ) .

ومناسبة الصراط المستعار للدين الحق ، لاستعارة الإخراج والظلمات والنور ولما يتضمنه من التمثيل ، ظاهرة .

واختيار وصف { العزيز الحميد } من بين الصفات العُلى لمزيد مناسبتها للمقام ، لأن العزيز الذي لا يُغلب . وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيمٌ الحجة عليهم .

والحميد : بمعنى المحمود ، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه ، وبذلك استوعبَ الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاد الحيلة .