معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفيل

مكية ، وآياتها خمس .

{ بسم الله الرحمن الرحيم } { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } وكانت قصة أصحاب الفيل -على ما ذكره محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن سعيد بن جبير وعكرمة ، عن ابن عباس ، وذكره الواقدي- : أن النجاشي ملك الحبشة كان قد بعث أرياطا إلى أرض اليمن فغلب عليها ، فقام رجل من الحبشة ، يقال له : أبرهة بن الصباح أبو مكتوم ، فساخط أرياط في أمر الحبشة ، حتى انصدعوا صدعين ، وكانت طائفة مع أرياط ، وطائفة مع أبرهة ، فتزاحفا فقتل أبرهة أرياط ، واجتمعت الحبشة لأبرهة ، وغلب على اليمن وأقره النجاشي على عمله . ثم إن أبرهة رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله ، فبنى كنيسة بصنعاء وكتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها ، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب ، فسمع به رجل من بني مالك بن كنانة فخرج إليها مستخفياً فدخلها ليلاً فقعد فيها وتغوط بها ، ولطخ بالعذرة قبلتها ، فبلغ ذلك أبرهة فقال : من اجترأ علي ولطخ كنيستي بالعذرة ؟ فقيل له : صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت ، فحلف أبرهة عند ذلك : ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها ، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك وسأله أن يبعث إليه بفيله ، وكان له فيل يقال له محمود ، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً وجسماً وقوة ، فبعث به إليه ، فخرج أبرهة من الحبشة سائراً إلى مكة ، وخرج معه بالفيل ، فسمعت العرب بذلك فاستعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم ، فخرج ملك من ملوك اليمن ، يقال له : ذو نفر ، بمن أطاعه من قومه ، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذا نفر ، فقال : أيها الملك لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي ، فاستحياه وأوثقه . وكان أبرهة رجلاً حليماً . ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم ، خرج نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن ، فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيل ، فقال نفيل : أيها الملك إني دليل بأرض العرب ، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة ، فاستبقاه ، وخرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال : أيها الملك نحن عبيدك ، ليس لك عندنا خلاف ، وقد علمنا أنك تريد البيت الذي بمكة ، نحن نبعث معك من يدلك عليه ، فبعثوا معه أبا رغال ، مولىً لهم ، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره ، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً من الحبشة ، يقال له : الأسود بن مسعود ، على مقدمة خيله ، وأمره بالغارة على نعم الناس ، فجمع الأسود إليه أموال الحرم ، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير . ثم إن أبرهة بعث حباطة الحميري إلى أهل مكة ، وقال : سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه ، أخبره أني لم آت لقتال ، إنما جئت لأهدم هذا البيت . فانطلق حتى دخل على مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم ، فقال : إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه ، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم . فقال عبد المطلب : ما له عندنا قتال ، ولا له عندنا إلا أن نخلي بينه وبين ما جاء له ، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا قوة إلا به . قال : فانطلق معي إلى الملك ، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم المعسكر ، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب فأتاه فقال : يا ذا نفير ، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيةً ، ولكن سأبعث إلى أنيس ، سائس الفيل ، فإنه لي صديق فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم خطرك ومنزلتك عنده ، قال : فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له : إن هذا سيد قريش صاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي ، أحب ما وصل إليه من الخير ، فدخل أنيس على أبرهة فقال : أيها الملك هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، يستأذن إليك ، وأحب أن تأذن له فيكلمك ، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك ، فأذن له ، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً ، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه ، وكره أن يجلس معه على السرير وأن يجلس تحته ، فهبط إلى البساط فجلس عليه ثم دعاه فأجلسه معه ، ثم قال لترجمانه قل له : ما حاجتك إلى الملك ؟ فقال له الترجمان ذلك ، فقال عبد المطلب : حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي ، فقال أبرهة لترجمانه قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، وقد زهدت فيك ، قال عبد المطلب : لم ؟ قال : جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها ؟ قال عبد المطلب : أنا رب هذه الإبل ، وإن لهذا البيت رباً سيمنع عنه من يقصده بسوء ، قال : ما كان ليمنعه مني ، قال : فأنت وذاك ، فأمر بإبله فردت عليه . فلما ردت الإبل إلى عبد المطلب خرج فأخبر قريشاً الخبر الذي وقع بينه وبين أبرهة ، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في رؤوس الجبال ، تخوفاً عليهم من معرة الجيش ، ففعلوا ، وأتى عبد المطلب الكعبة ، وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :

يا رب لا أرجو لهم سواكا*** يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا*** امنعهم أن يخربوا قراكا

وقال أيضاً :

لاهم إن العبد يم*** نع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصل***يب وعابديه اليوم آلك

لا يغلبن صليبهم*** ومحالهم غدواً محالك

جروا جموع بلادهم*** والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم*** جهلاً وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع*** بتنا فأمر ما بدا لك

ثم ترك عبد المطلب الحلقة ، وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه ، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وهيأ جيشه وهيأ فيله ، وكان فيلاً لم ير مثله في العظم والقوة ، ويقال : كان معه اثنا عشر فيلاً . فأقبل نفيل إلى الأعظم ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، فبرك الفيل ، فبعثوه فأبى ، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى ، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، فصرفوه إلى الحرام فبرك وأبى أن يقوم . وخرج نفيل يشتد حتى صعد في أعلى الجبل ، وأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، أمثال الحمص والعدس ، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك ، وليس كل القوم أصابت ، وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاؤوا منه ، يتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال ، فصرخ القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل مهلك . وبعث الله على أبرهة داءً في جسده فجعل يتساقط أنامله كلما سقطت أنملة اتبعتها مدة من قيح ودم ، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فيمن بقي من أصحابه ، وما مات حتى انصدع صدره من قلبه ثم هلك . قال الواقدي : وأما محمود ، فيل النجاشي ، فربض ولم يسر إلى الحرم فنجا ، والفيل الآخر شجعوا فحصب . وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جرأ أصحاب الفيل : أن فتية من قريش خرجوا تجاراً إلى أرض النجاشي فدنوا من ساحل البحر ، وثم بيعة للنصارى تسميها قريش الهيكل ، فنزلوا فأججوا ناراً فاصطلوا ، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف ، فهاجت الريح فاضطرم الهيكل ناراً ، فانطلق الصريخ إلى النجاشي ، فأسف واغتاظ غيظاً شديدا ، فبعث أبرهة لهدم الكعبة . وقال فيه : إنه كان في مكة يومئذ أبو مسعود الثقفي ، وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتوا بمكة ، وكان رجلاً نبيلاً تستقيم الأمور برأيه ، وكان خليلاً لعبد المطلب ، فقال له عبد المطلب : ماذا عندك ؟ هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك . فقال أبو مسعود : اصعد بنا إلى حراء فصعد الجبل ، فقال أبو مسعود لعبد المطلب : اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها لله ، وقلدها نعلاً ، ثم أرسلها في الحرم لعل بعض هذه السودان يعقر منها شيئاً ، فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم ، ففعل ذلك عبد المطلب ، فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها ، وجعل عبد المطلب يدعو ، فقال أبو مسعود : إن لهذا البيت رباً يمنعه ، فقد نزل تبع ملك اليمن صحن هذا البيت وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه ، وأظلم عليه ثلاثة أيام ، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض ، وعظمه ونحر له جزوراً . ثم قال أبو مسعود : فانظر نحو البحر ، فنظر عبد المطلب : فقال : أرى طيراً بيضاء نشأت من شاطئ البحر ، فقال : ارمقها ببصرك أين قرارها ؟ قال أراها قد دارت على رؤوسنا ، قال : فهل تعرفها ؟ قال : فوالله ما أعرفها ما هي بنجدية ، ولا تهامية ، ولا عربية ولا شامية ، قال : ما قدرها ؟ قال : أشباه اليعاسيب ، في منقارها حصىً كأنها حصى الحذف ، قد أقبلت كالليل يكسع بعضها بعضاً ، أمام كل فرقة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق ، فجاءت حتى إذا حازت بعسكر القوم وكدت فوق رؤوسهم ، فلما توافت الرجال كلها أهالت الطير ما في مناقرها على من تحتها ، مكتوب في كل حجر اسم صاحبه ، ثم إنها انصاعت راجعة من حيث جاءت ، فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل فمشيا ربوة فلم يؤنسا أحدا ، ثم دنوا ربوة فلم يسمعا حساً فقالا : بات القوم ساهرين ، فأصبحوا نياما ، فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هم خامدون ، وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع في دماغه ويخرق الدابة والفيل ، ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه ، فعمد عبد المطلب فأخذ فأساً من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأها من أموالهم من الذهب الأحمر والجوهر ، وحفر لصاحبه حفرة فملأها كذلك ، ثم قال لأبي مسعود : هات فاختر إن شئت حفرتي وإن شئت حفرتك ، وإن شئت فهما لك معاً ، قال أبو مسعود : اختر لي على نفسك ، فقال عبد المطلب : إني لم أر أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك ، وجلس كل واحد منهما على حفرته ، ونادى عبد المطلب في الناس ، فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعاً ، وساد عبد المطلب بذلك قريشاً وأعطته القيادة ، فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنىً من ذلك المال ، ودفع الله عن كعبته وبيته . واختلفوا في تاريخ عام الفيل ، فقال مقاتل : كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة . وقال الكلبي : بثلاث وعشرين سنة . والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قوله عز وجل : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } قال مقاتل : كان معهم فيل واحد . وقال الضحاك : كانت الفيلة ثمانية . وقيل : اثنا عشر ، سوى الفيل الأعظم ، وإنما وحد ؛ لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم . وقيل : لوفاق رؤوس الآي .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

{ ألم تر } ألم تعلم ، وقيل : ألم تخبر { كيف فعل ربك بأصحاب الفيل }

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية بإجماع . وهي خمس آيات .

فيه خمس مسائل :

الأولى : قوله تعالى : { ألم تر } أي ألم تخبر . وقيل : ألم تخبر . وقيل ألم تعلم . وقال ابن عباس : ألم تسمع ؟ واللفظ استفهام ، والمعنى تقرير . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنه عام ، أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل ، أي قد رأيتم ذلك ، وعرفتم موضع مِنَّتِي عليكم ، فما لكم لا تؤمنون ؟ و " كيف " في موضع نصب ب { فعل ربك } لا { بألم تر كيف } في معنى الاستفهام .

الثانية- { بأصحاب الفيل } الفيل معروف ، والجمع أفيال : وفيول ، وفيلة . قال ابن السكيت : ولا تقل أفيلة . والأنثى فيلة{[16376]} وصاحبه{[16377]} فيال . قال سيبوبه : يجوز أن يكون أصل فيل فُعْلاً ، فكسر من أجل الياء ، كما قالوا : أبيض وبيض . وقال الأخفش : هذا لا يكون في الواحد ، إنما يكون في الجمع . ورجل فيل الرأي ، أي ضعيف الرأي . والجمع أفيال . ورجل فال ، أي ضعيف الرأي ، مخطئ الفراسة . وقد فال الرأي يفيل فيولة ، وفيل رأيه تفييلا : أي ضعفه ، فهو فيل الرأي .

الثالثة : في قصة أصحاب الفيل ؛ وذلك أن ( أبرهة ) بنى القليس بصنعاء ، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ، وكان نصرانيا ، ثم كتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب ، فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي ، غضب رجل من النسأة{[16378]} ، فخرج حتى أتى الكنيسة ، فقعد فيها - أي أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه ، فأخبر بذلك أبرهة ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل : صنعه رجل من أهل هذا البيت ، الذي تحج إليه العرب بمكة ، لما سمع قولك : ( أصرف إليها حج العرب ) غضب ، فجاء فقعد فيها . أي إنها ليست لذلك بأهل . فغضب عند ذلك أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ، وبعث رجلا كان عنده إلى بني كنانة{[16379]} يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة ، فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل ، فزاد أبرهة ذلك غضبا وحنقا ، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار وخرج معه بالفيل ، وسمعت بذلك العرب ، فأعظموه وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقا عليهم ، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام . فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله الحرام ، وما يريد من هدمه وإخرابه ، فأجابه من أجابه إلى ذلك ، ثم عرض له فقاتله ، فهزم ذو نفر وأصحابه ، وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا ، فلما أراد قتله قال له ذو نفر : أيها الملك لا تقتلني ، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي ، فتركه من القتل ، وحبسه عنده في وثاق ، وكان أبرهة رجلا حليما . ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك ، يريد ما خرج له ، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم : شهران وناهس ، ومن تبعه من قبائل العرب ، فقاتله فهزمه أبرهة ، وأخذ له نفيل أسيرا ، فأتي به ، فلما هم بقتله قال له نفيل : أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم : شهران وناهس ، بالسمع والطاعة ، فخلى سبيله . وخرج به معه يدله ، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف ، فقالوا له : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك ، سامعون لك مطيعون ، ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات{[16380]} - إنما تريد البيت الذي بمكة ، نحن نبعث معك من يدلك عليه ، فتجاوز عنهم . وبعثوا معه أبا رغال ، حتى أنزله المغمس{[16381]} فلما أنزله به مات أبو رغال هناك ، فرجمت قبره العرب ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس ، وفيه يقول الشاعر :

وأَرْجُمُ قبرَهُ في كُلِّ عامٍ *** كرجمِ الناسِ قبرَ أبِي رِغالِ

فلما نزل أبرهة بالمغمس ، بعث رجلا من الحبشة يقال له : الأسود بن مقصود{[16382]} على خيل له ، حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها ، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك . وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد هذا البلد{[16383]} وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا لي بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن هو لم يرد حربي فأتني به . فلما دخل حناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك منه طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، أو كما قال ، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته ، وإن يحل بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دفع عنه . فقال له حناطة : فانطلق إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك ، فانطلق معه عبد المطلب ، ومعه بعض بنيه ، حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نفر ، وكان صديقا له ، حتى دخل عليه وهو في محبسه ، فقال له : يا ذا نفر ، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر : وما غناء رجل أسير بيدي ملك ، ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ، ما عندي غناء في شيء مما نزل بك ، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي ، فسأرسل إليه ، وأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه بما بدا لك ، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك ، فقال : حسبي . فبعث ذو نفر إلى أنيس ، فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش ، وصاحب عين مكة ، ويطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت ، فقال : أفعل . فكلم أنيس أبرهة ، فقال له : أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك ، يستأذن عليك ، وهو صاحب عين مكة ، يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، فأذن له عليك ، فيكلمك في حاجته . قال : فأذن له أبرهة .

وكان عبد المطلب أوسم الناس ، وأعظمهم وأجملهم ، فلما رآه أبرهة أجله ، وأعظمه عن أن يجلسه تحته ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه . ثم قال لترجمانه : قل له : حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان ، فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال له ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني . قال : أنت وذاك ، فرد عليه إبله ، وانصرف عبد المطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف{[16384]} الجبال والشعاب ، تخوفا عليهم معرة{[16385]} الجيش . ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش ، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :

لا هُمَّ إن العبدَ يم *** نعُ رَحْلَهُ فامنعْ حَلالَكْ{[16386]}

لا يَغْلِبَن صليبُهُمْ *** ومِحالُهُمْ عَدْواً{[16387]} مِحالَكْ

إن يدخلوا البلد الحرا *** مَ فأمرٌ ما بدا لَكْ

يقول : أي : شيء ما بدا لك ، لم تكن تفعله بنا . والحلال : جمع حل . والمحال : القوة ، وقيل : إن عبد المطلب لما أخذ بحلقة باب الكعبة قال :

يا ربِّ لا أرجُو لهم سِوَاكَا *** يا ربِّ فامنع منهم حِمَاكَا

إنَّ عدوَّ البيت من عَادَاكَا *** إنهم لن يقهروا قُوَاكَا

وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي :

لا هُمَّ أخْزِ الأسود بن مقصود *** الآخِذَ الهجمةَ فيها التقليدْ{[16388]}

بين حراء وثَبِيرٍ فالبيدْ *** يحبسها وهي أولات التَّطْرِيدْ{[16389]}

فضمها إلى طَمَاطِمٍ سُودْ *** [ قد أجمعُوا ألا يكون معبودْ{[16390]}

ويهدموا البيت الحرام المَعْمُودْ *** والمَرْوَتَيْنِ والمشاعرَ السُّودْ ]{[16391]}

أخْفِرْهُ{[16392]} يا رب وأنت محمود

قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال ، فتحرزوا فيها ، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها . فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله ، وعبأ جيشه ، وكان اسم الفيل محمودا ، وأبرهة مجمع لهدم البيت ، ثم الانصراف إلى اليمن ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة ، أقبل نفيل بن حبيب ، حتى قام إلى جنب الفيل ، ثم أخذ بأذنه فقال له : ابرك محمود ، وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام . ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل . وخرج نفيل بن حبيب يشتد ، حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، فضربوا في رأسه بالطبرزين{[16393]} ليقوم فأبى ، فأدخلوا محاجن{[16394]} لهم في مراقه ، فبزغوه{[16395]} بها ليقوم ، فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن ، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك . وأرسل الله عليهم طيرا من البحر ، أمثال الخطاطيف والبلسان{[16396]} ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت . وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاؤوا منها ، ويسألون عن نفيل بن حبيب ، ليدلهم على الطريق إلى اليمن . فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمه :

أين المفرُّ والإلهُ الطالبْ *** والأشرم{[16397]} المغلوبُ ليس الغالبْ

وقال أيضا :

حمدت الله إذ أبصرتُ طيرا *** وخِفْتُ حجارة تُلْقَى علينا

فكل القوم يسأل عن نُفَيْلٍ *** كأنَّ عليَّ للحُبْشَانِ دِينَا

فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك{[16398]} على كل سهل{[16399]} ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة{[16400]} ، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث{[16401]} قيحا ودما ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى أنصدع صدره عن قلبه ، فيما يزعمون .

وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان - يزيد أحدهما وينقص - : سبب الفيل ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي ، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى ، تسميها النصارى الهيكل ، فأوقدوا نارا لطعامهم وتركوها وارتحلوا ، فهبت ريح عاصف على النار فأضرمت البيعة نارا ، فاحترقت ، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره ، فاستشاط غضبا . فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديون ، وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة . وكان النجاشي هو الملك ، وأبرهة صاحب الجيش ، وأبو يكسوم نديم الملك ، وقيل : وزير ، وحجر بن شرحبيل من قواده ، وقال مجاهد : أبو يكسوم هو أبرهة بن الصباح . فساروا ومعهم الفيل . قال الأكثرون : هو فيل واحد . وقال الضحاك : هي ثمانية فيلة . ونزلوا بذي المجاز ، واستاقوا سرح مكة ، وفيها إبل عبد المطلب . وأتى الراعي نذيرا ، فصعد الصفا ، فصاح : واصباحاه ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل . فخرج عبدالمطلب ، وتوجه إلى أبرهة ، وسأله في إبله . واختلف في النجاشي ، هل كان معهم ، فقال : قوم كان معهم . وقال الأكثرون : لم يكن معهم . ونظر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر ؛ فقال عبد المطلب : ( إن هذه الطير غريبة بأرضنا ، وما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية ) وإنها أشباه اليعاسيب{[16402]} . وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة ، فلما أطلت{[16403]} على القوم ألقتها عليهم ، حتى هلكوا . قال عطاء بن أبي رباج : جاءت الطير عشية ، فباتت ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم . وقال الكلبي : في مناقيرها حصى كحصى الخذف{[16404]} ، أمام كل فرقة طائر يقودها ، أحمر المنقار ، أسود الرأس ، طويل العنق . فلما جاءت عسكر القوم وتوافت ، أهالت ما في مناقيرها على من تحتها ، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه المقتول به . وقيل : كان كل حجر مكتوب : من أطاع الله نجا ، ومن عصاه غوى . ثم انصاعت{[16405]} راجعة من حيث جاءت . وقال العوفي : سألت عنها أبا سعيد الخدري ، فقال : حمام مكة منها . وقيل : كان يقع الحجر على بيضة{[16406]} أحدهم فيخرقها ، ويقع في دماغه ، ويخرق الفيل والدابة . ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه . وكان أصحاب الفيل ستين ألفا ، لم يرجع منهم إلا أميرهم ، رجع ومعه شرذمة لطيفة . فلما أخبروا بما رأوا هلكوا . وقال الواقدي : أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبرهة هو الأشرم ، سمي بذلك ؛ لأنه تفاتن{[16407]} مع أرياط ، حتى تزاحفا ، ثم اتفقا على أن يلتقيا بشخصيهما ، فمن غلب فله الأمر . فتبارزا ، وكان أرياط جسيما عظيما ، في يده حربة ، وأبرهة قصيرا حادرا{[16408]} ذا دين في النصرانية ، ومع أبرهة وزير له يقال له : عتودة ، فلما دنوا ضرب أرياط بحربته رأس أبرهة ، فوقعت على جبينه ، فشرمت عينه وأنفه وجبينه وشفته ؛ فلذلك سمي الأشرم . وحمل عتودة على أرياط فقتله . فاجتمعت الحبشة لأبرهة ، فغضب النجاشي ، وحلف ليحزن ناصية أبرهة ، ويطأن بلاده . فجز أبرهة ناصيته وملأ مزودا من تراب أرضه ، وبعث بهما إلى النجاشي ، وقال : إنما كان عبدك ، وأنا عبدك ، وأنا أقوم بأمر الحبشة ، وقد جززت ناصيتي ، وبعثت إليك بتراب أرضي ، لتطأه وتبر في يمينك ، فرضي عنه النجاشي . ثم بنى أبرهة كنيسة بصنعاء ، ليصرف إليها حج العرب ، على ما تقدم .

الرابعة : قال مقاتل : كان عام الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه بأربعين سنة . وقال الكلبي وعبيد بن عمير : كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة . والصحيح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ولدت عام الفيل " ، وروي عنه أنه قال : " يوم الفيل " . حكاه الماوردي في التفسير له . وقال في كتاب أعلام النبوة : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول ، وكان بعد الفيل بخمسين يوما . ووافق من شهور الروم العشرين من أسباط{[16409]} ، في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان . قال : وحكى أبو جعفر الطبري أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان . وقد قيل : إنه عليه السلام حملت به أمه آمنة في يوم عاشوراء من المحرم ، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، فكانت مدة حمله ثمانية أشهر كملا ، ويومين من التاسع . وقيل : إنه ولد يوم عاشوراء من شهر المحرم ، حكاه ابن شاهين{[16410]} أبو حفص ، في فضائل يوم عاشوراء له . ابن العربي : قال ابن وهب عن مالك : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وقال قيس بن مخرمة : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل . وقد روى الناس عن مالك أنه قال : من مروءة الرجل ألا يخبر بسنه ؛ لأنه إن كان صغيرا استحقروه ، وإن كان كبيرا استهرموه . وهذا قول ضعيف ؛ لأن مالكا لا يخبر بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتم سنه ، وهو من أعظم العلماء قدوة به . فلا بأس بأن يخبر الرجل بسنه كان كبيرا أو صغيرا . وقال عبد الملك بن مروان لعتاب بن أسيد : أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : النبي صلى الله عليه وسلم أكبر منه ، وأنا أسن منه ، ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل ، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس . وقيل لبعض القضاة : كم سنك ؟ قال : سن عتاب بن أسيد حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وكان سنه يومئذ دون العشرين .

الخامسة : قال علماؤنا : كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله وقبل التحدي ؛ لأنها كانت توكيدا لأمره ، وتمهيدا لشأنه . ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة ، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة ؛ ولهذا قال : { ألم تر } ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس . وقالت عائشة رضي الله عنها مع حداثة سنها : لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس . وقال أبو صالح : رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة ، سودا مخططة بحمرة .


[16376]:من تتمة قول ابن السكيت.
[16377]:في اللسان: "وصاحبها".
[16378]:في سيرة ابن هشام: "من النسأة أحد بني فقيم بن عدي . . . . . . . والنسأة: الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية، فيحلون الشهر من أشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل، ويؤخرون ذلك الشهر، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر". (راجع سيرة ابن هشام طبع أوربا ص 29).
[16379]:بنو كنانة: قبيلة ذلك الرجل الذي أحدث في الكنيسة.
[16380]:في سيرة ابن هشام: "واللات: بيت لهم بالطائف، كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة".
[16381]:المغمس: موضع قرب مكة في طريق الطائف.
[16382]:كذا في بعض نسخ الأصل وتفسير الثعلبي وتاريخ الطبري (قسم أول ص 937 طبع أوربا) وتاريخ ابن الأثير (جـ 1 ص 321 طبع أوربا). في بعض الأصول: تفسير الطبري وسيرة ابن هشام (ص 33 طبع أوربا): "مفصود" بالفاء، بدل القاف.
[16383]:في هامش نسخة: "عن سيد هذا البيت".
[16384]:شعف الجبال: رموسها.
[16385]:المعرة الأذى. ومعرة الجيش: أن ينزلوا بقوم فيأكلوا من زرعهم بغير علم. وقيل: وطأتهم من مروا به من مسلم أو معاهد، وإصابتهم إياهم في حريمهم وأموالهم وزروعهم بما لم يؤذن لهم فيه.
[16386]:الحلال (بالكسر): القوم المقيمون المتجاورون. يريد بهم سكان الحرم.
[16387]:"عدوا" بالعين المهملة، ومعناه الاعتداء وفي اللسان مادة " غدا": "غدوا" بالغين المعجمة. قال: "الغدو أصل الغد، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك، فحذفت لامه ولم يستعمل تاما إلا في الشعر. ولم يرد عبد المطلب الغد بعينه، وإنما أراد القريب من الزمان".
[16388]:الهجمة: القطعة الضخمة من الإبل. قيل هي ما بين الثلاثين والمائة. وقيل أولها الأربعون. وقيل ما بين السبعين إلى المائة. (انظر كتب اللغة). وتقليدها أنه يجعل في عنقها شعارا ليعلم أنه هدى.
[16389]:حراء وثبير: جبلان بمكة. والبيد: جمع البيداء، وهي الفلاة. وتطريد الإبل: تتابعها.
[16390]:السهيلي: "طماطم سود" يعني العلوج.
[16391]:ما بين المربعين لم يذكره ابن إسحاق في روايته.
[16392]:أخفره: أي انقض عهده وعزمه فلا تؤمنه.
[16393]:الطبر (محركة): الفأس من السلاح (معرية). والطبرزين آلة من السلاح تشبه الطبر. وقيل هو الطبر نفسه.
[16394]:المحجن: العصا المنعطفة الرأس كالصولجان.
[16395]:بزغوه: شرطوه.
[16396]:في اللسان والنهاية ما (بلس): "قال عباد بن موسى أظنها الزرازير".
[16397]:الأشرم: أبرهة؛ سمى بذلك لأنه جاءه حجر فشرم أنفه فسمى الأشم.
[16398]:زيادة عن سيرة ابن هشام.
[16399]:في سيرة ابن هشام: "منهل".
[16400]:أي ينتثر جسمه، والأنملة طرف الأصبع. ويعبر بها عن الصغير من الأشياء.
[16401]:مث السقاء: رشح.
[16402]:اليعسوب: أمير النحل.
[16403]:في نسخة: "أقبلت".
[16404]:الخذف: الرمي بالحصى الصغار بأطراف الأصابع.
[16405]:انصاع الرجل: انفتل راجعا ومر مسرعا.
[16406]:هي بيضة الحديد.
[16407]:المفاتنة: اختلاف الناس في الآراء و ما يقع بينهم من القتال.
[16408]:الحادر: المجتمع الخلق.
[16409]:في نسخة: "شباط" (بالشين المعجمة كغراب)، وورد بالسين المهملة.
[16410]:في بعض نسخ الأصل: "أبو شاهين حفص".
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

لما قدم في الهمزة أن كثرة الأموال المسببة بالقوة بالرجال ربما أعقبت الوبال ، دل عليه في هذه بدليل شهودي وصل في تحريقه وتغلغله في الأجسام وتجريفه إلى القلوب في العذاب الأدنى كما ذكر فيما قبلها للعذاب الأكبر الأخفى ، محذراً من الوجاهة في الدنيا وعلو الرتبة ، مشيراً إلى أنها كلما عظمت زاد ضررها بما يكسبه من الطغيان حتى ينازع صاحبها الملك الأعلى ، ومع كونه شهودياً فللعرب -ولا سيما قريش- به الخبرة التامة ، فقال مقرراً منكراً على من يخطر له خلاف ذلك : { ألم تر } أي تعلم علماً هو في تحققه كالحاضر المحسوس بالبصر ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم وإن لم يشهد تلك الوقعة فإنه شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر مع إعلام الله له أخبارها ، وخصه صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأن ذلك لا يعلمه ويعمل به إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن وفقه الله لحسن اتباعه ، لما للإنسان من علائق النقصان ، وعلائق الحظوظ والنسيان ، وقرىء " تر " باسكان الراء ، قالوا : جداً في إظهار أثر الجازم ، وكأن السر في هذه القراءة الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية ، إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر ، من لم يعتن به ويسارع إلى تعمده لا يدركه حق إدراكه .

ولما كان للناظر في الكيفية من التدقيق والوقوف على التحقيق في وجوه الدلالات على كمال علم الله وقدرته وإعزاز نبيه بالإرهاص لنبوته والتمكين لرسالته لتعظيم بلده وتشريف قومه ما ليس للناظر إلى مطلق الفعل قال : { كيف } ، دون أن يقول : ما { فعل } أي فعل من له أتم داعية إلى ذلك الفعل ، وفعل الرؤية معلق عن " كيف " لما فيه من معنى الاستفهام فلا يتقدم عامله عليه ؛ بل ناصبه فعل ، وجملة الاستفهام في موضع نصب بالفعل المعلق { ربك * } أي المحسن إليك ، ومن إحسانه إحسانه إلى قومك بك وبهذه الواقعة الخارقة للعادة إرهاصاً لنبوتك كما هو معلوم من أخبار الأنبياء المتقدمين فيما يقع بين أيدي نبواتهم من مثل ذلك ، ليكون مؤيداً لادعائهم النبوة بعد ذلك ، وفي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالخطاب والتعبير بالرب مع التشريف له ، والإشارة بذكره التعريض بحقارة الأصنام التي سموها أرباباً لهم ، يعلم ذلك منهم علم اليقين من آمن ، ومن استمر على كفره فسيعلم ذلك حق اليقين عندما يسلط الله عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالبلد الحرام ، ويحلها له على أعلى حال ومرام { بأصحاب الفيل * } أي الذين قصدوا انتهاك حرمات الله سبحانه وتعالى فيخربوا بيته ويمزقوا جيرانه بما أوصلهم إلى البطر من الأموال والقوة التي منّ عليهم سبحانه وتعالى بها ، فحسبوا أنها تخلدهم ، فبان أنها توردهم المهالك ضد ما حسبوه ، وهم الحبشة الذين كانوا غلبوا على بلاد اليمن ، بنى أميرهم وهو أبو يكسوم أبرهة بن الصباح الأشرم بيعة بصنعاء وسماها القليس وزن قبيط ، وأراد أن يصرف إليها - فيما زعم - حج العرب ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً ، يعني تغوط ولطخها به ، فأغضب ذلك الأشرم ، فسأل فقيل له : نرى الفاعل من أهل البيت الذي بمكة ، فحلف ليهدمنَّ الكعبة . ومن عجائب صنع الله أنه ألهمه سبحانه وتعالى تسميتها هذا الاسم الذي هو مشتق من القلس الذي أحد معانيه أنه ماء خرج من الحلق ملء الفم ، فهو مبدأ القيء الذي هو أخو الغائط الذي آل أمرها إليه ، فكان سبب هلاكها بهلاك بانيها ، وذلك أنه غضب من ذلك فخرج بجيشه لهدم بيت الله الكعبة ومعه أفيال كثيرة منها فيل عظيم اسمه محمود ، فقاتله بعض العرب فهزمهم وقتل منهم ، فلما دوّخهم دانوا له ، فلما وصل إلى المغمس خرج إليه عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، فعرض عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ، وقيل : بل كانت طلائعه أخذت له مائتي بعير فطلبها منه فقال : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، فزهدت فيك حين تكلمني في مائتي بعير ، وتترك كلامي في بيت هو دينكم وفيه عزكم ؟ فقال : أنا رب الإبل ، وأما البيت فله رب يمنعه ، فقال : ما كان يمنعه مني ، فقال :أنت وذاك ، فرد عليه إبله فساقها ومضى ، وأمر قريشاً أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في الجبال ، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :

يا رب لا أرجو لهم سواكا *** فامنعهم أن يقربوا قراكا

وقال :

لا هم إن المرء يم *** نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدواً محالك

جروا جميع تلادهم *** في الفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم *** جهلاً وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع *** بتنا فأمر ما بدا لك

ثم ترك الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه ، فلما أصبح أبرهة تهيأ للدخول إلى الحرم وعبأ جيشه وقدم الفيل فبرك ، فعالجوه فلم تفد فيه حيلة ، فوجهوه إلى غير الحرم فقام يهرول ، فوجهوه إلى الحرم فبرك ، وكان هذا دأبه في ذلك اليوم ، فبينما هم كذلك إذا أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل ، كل طائر منها في منقاره حجر ، وفي رجليه حجران ، الحجر منها أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة ، فرمتهم بها ، فكان الحجر منها يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره ، فهلكوا جميعاً ، وأهل مكة ومن حضر من العرب في رؤوس الجبال ينظرون إلى صنع الله تعالى بهم وإحسانه إليهم - أي أهل مكة - وكان ذلك إرهاصاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك كان عام مولده ، وقال حمزة الكرماني : وفي رواية : يوم مولده ، وكأنه كان سبباً لضعفهم حتى ذهب سيف بن ذي يزن إلى كسرى وأتى منه بجيش فاستأصل بقيتهم - كما هو مشهور في السير ، ومأثور في الخبر ، ووفدت قريش لتهنئته بالنصرة عليهم ، وكان رئيسهم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبشره سيف بأنه يولد له ولد اسمه محمد فأعلمه بأن ولد وأن أباه توفي ، فأخبره سيف بأنه النبي المبعوث في آخر الزمان ، وأن يثرب مهاجره ، وأنه لو علم أنه يعيش إلى زمن بعثته لأتى يثرب وجعلها قراره حتى ينصر النبي صلى الله عليه وسلم بها ويظهر نبوته .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه يخلده وما أعقبه ذلك ، أتبع هذا أصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم ، وخدعهم امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم ، حتى هموا بهدم البيت المكرم ، فتعجلوا النقمة ، وجعل الله كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، أي جماعات متفرقة ، ترميهم بحجارة من سجيل ، حتى استأصلتهم وقطعت دابرهم ، فجعلهم كعصف مأكول ، وأثمر لهم ذلك اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر المتقدم . انتهى .