أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (27)

{ واتل عليهم نبأ ابني آدم } قابيل وهابيل ، أوحى الله سبحانه وتعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر ، فسخط منه قابيل لأن توأمته كانت أجمل ، فقال لهما آدم : قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها ، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته ، فازداد قابيل سخطا وفعل ما فعل . وقيل لم يرد لهما ابني آدم لصلبه وأنهما رجلان من بني إسرائيل ولذلك قال : { كتبنا على بني إسرائيل } . { بالحق } صفة مصدر محذوف أي تلاوة ملتبسة بالحق ، أو حال من الضمير في اتل ، أو من نبأ أي ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين { إذ قربا قربانا } ظرف لنبأ ، أو حال منه ، أو بدل على حذف مضاف أي واتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت ، والقربان اسم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من ذبيحة أو غيرها ، كما أن الحلوان اسم ما يحلى به أي يعطى ، وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذ قرب كل واحد منهما قربانا . قيل كان قابيل صاحب زرع وقرب أردأ قمح عنه ، وهابيل صاحب ضرع وقرب جملا سمينا . { فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر } لأنه سخط حكم الله سبحانه وتعالى ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده . { قال لأقتلنك } نوعده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه ولذلك . { قال إنما يتقبل الله من المتقين } في جوابه أي إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني ، وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا ، لا في إزالة حظه فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه ، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (27)

عَطَفَ نبأ على نبإ ليكون مقدّمة للتحذير من قَتْل النفس والحِرابة والسرقة ، ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها ، وليحسن التخلّص ممّا استطرد من الأنباء والقصَص التي هي مواقع عبرة وتُنْظم كلّها في جرائر الغرور . والمناسبةُ بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ . فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى : فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة ، وأحدَ ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين . وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصيّة ؛ فبنو إسرائيل قالوا : { اذهب أنت وربّك } [ المائدة : 24 ] ، وابن آدم قال : لأقتلنّ الّذي تقبّل الله منه . وأمّا التّضادّ فإنّ في إحداهما إقداماً مذموماً من ابن آدم ، وإحجاماً مذموماً من بني إسرائيل ، وإنّ في إحداهما اتّفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى ، وفي الأخرى اختلافَ أخوين بالصّلاح والفساد .

ومعنى { ابني آدم } هنا ولداه . وأمّا ابن آدم مفرداً فقد يراد به واحد من البشر نحو : « يَا بْن آدم إنّك ما دعوتني ورجوتَني غَفَرْتُ لك » ، أو مجموعاً نحو { يا بني آدم خذوا زينتكم } [ الأعراف : 31 ] .

والباء في قوله : { بالحقّ } للملابسة متعلِّقاً ب { اتْلُ } . والمراد من الحقّ هنا الصدق من حقّ الشّيء إذا ثبت ، والصدق هو الثّابت ، والكذب لا ثبوت له في الواقع ، كما قال : { نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ } [ الكهف : 13 ] . ويصحّ أن يكون الحقّ ضدّ الباطل وهو الجدّ غير الهزل ، أي اتْلُ هذا النبأ متلبّساً بالحقّ ، أي بالغرض الصّحيح لا لمجرد التفكّه واللّهو . ويحتمل أن يكون قوله { بالحق } مشيراً إلى ما خفّ بالقصة من زيادات زادها أهل القصص من بني إسرائيل في أسباب قتل أحد الأخوين أخاه .

{ وإذ } ظرف زمان ل { نبأ } ، أي خبرهما الحاصل وقت تقريبهما قُرباناً ، فينتصب ( إذ ) على المفعول فيه .

وفِعْلُ { قرّبا } هنا مشتقّ من القُرْبان الذي صار بمنزلة الاسم الجامد ، وأصله مصدر كالشُّكران والغفران والكُفران ، يسمّى به ما يتقرّب به المرء إلى ربّه من صدقة أو نُسك أو صلاة ، فاشتقّ من القرآن قرّب ، كما اشتقّ من النُّسك نَسَكَ ، ومن الأضحيّة ضَحَّى ، ومن العقيقة عَقّ . وليس { قرّبا } هنا بمعنى أدْنَيَا إذ لا معنى لذلك هنا .

وفي التّوراة هما ( قايين ) والعرب يسمّونه قَابِيل وأخوه ( هَابِيل ) . وكان قابيل فلاّحاً في الأرض ، وكان هابيل راعياً للغنم ، فقرّب قابيل من ثمار حرْثه قُرباناً وقرّب هابيل من أبكار غنمه قرباناً . ولا ندري هل كان القربان عندهم يعطى للفقراء ونحوهم أو كان يترك للنّاس عامّة . فتقبّل الله قربان هَابيل ولم يتقبّل قربان قابيل . والظاهر أنّ قبول قربان أحدهما دون الآخر حصل بوحي من الله لآدم .

وإنّما لم يتقبّل الله قربان قابيل لأنّه لم يكن رجلاً صالحاً بل كانت له خطايا . وقيل : كان كافراً ، وهذا ينافي كونهُ يُقرّب قرباناً .

وأفرد القربان في الآية لإرادة الجنس ، وإنّما قرّب كلّ واحد منهما قرباناً وليس هو قرباناً مشتركاً . ولم يسمّ الله تعالى المتقبَّل منه والّذي لم يتقبّل منه إذ لا جدوى لذلك في موقع العبرة . وإنّما حَمَله على قتل أخيه حسَده على مزيّة القبول . والحسد أوّل جريمة ظهرت في الأرض .

وقوله في الجواب { إنّما يتقبّل الله من المتّقين } موعظة وتعريض وتنصّل ممّا يوجب قتله . يقول : القبول فعل الله لا فعل غيره ، وهو يتقبّل من المتّقي لا من غيره . يعرّض به أنّه ليس بتَقِي ، ولذلك لم يتقبّل الله منه . وآية ذلك أنّه يضمر قتل النفس . ولذا فلا ذَنب ، لمن تقبّل الله قربانه ، يستوجبُ القتلَ . وقد أفاد قول ابن آدم حصرَ القبول في أعمال المتّقين . فإذا كان المراد من المتّقين معناه المعروف شرعاً المحكي بلفظه الدالّ عليه مراد ابن آدم كان مفاد الحصر أنّ عمل غير المتّقي لا يقبل ؛ فيحتمل أنّ هذا كان شريعتهم ، ثمّ نسخ في الإسلام بقبول الحسنَات من المؤمن وإن لم يكن متّقياً في سائر أحواله ؛ ويحتمل أنْ يراد بالمتّقين المخلصون في العمل ، فيكون عدم القبول أمارة على عدم الإخلاص ، وفيه إخْراج لفظ التّقوى عن المتعارف ؛ ويحتمل أن يريد بالتقبّل تقبّلاً خاصّاً ، وهو التّقبل التّامّ الدالّ عليه احتراق القربان ، فيكون على حدّ قوله تعالى : { هُدى للمتّقين } [ البقرة : 2 ] ، أي هدى كاملاً لهم ، وقوله : { والآخرة عند ربّك للمتّقين } [ الزخرف : 35 ] ، أي الآخرة الكاملة ؛ ويحتمل أن يريد تقبّل القرابين خاصّة ؛ ويحتمل أن يراد المتّقّين بالقربان ، أي المريدين به تقوى الله ، وأنّ أخاه أراد بقربانه بأنّه المباهاة . ومعنى هذا الحصر أنّ الله لا يتقبّل من غير المتّقين وكان ذلك شرعَ زمانهم .