{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } أي فقل لهم إني قريب ، وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم ، روي : أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت { أجيب دعوة الداع إذا دعان } تقرير للقرب . ووعد للداعي بالإجابة . { فليستجيبوا لي } إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم { وليؤمنوا بي } أمر بالثبات والمداومة عليه { لعلهم يرشدون } راجين إصابة الرشد وهو إصابة الحق . وقرئ بفتح الشين وكسرها . واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة ، وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر ، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم ، مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ، ثم بين أحكام الصوم فقال :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }( 186 )
وقوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني } الآية ، قال الحسن بن أبي الحسن : سببها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه( {[1709]} ) ؟ فنزلت ، وقال عطاء : لما نزلت { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم }( {[1710]} ) [ غافر : 60 ] قال قوم في أي ساعة ندعو ؟ فنزلت { وإذا سألك عبادي عني } ، وقال مجاهد : بل قالوا إلى أين ندعو فنزلت هذه الآية ، وقال قتادة بل قالوا : كيف ندعو ؟ فنزلت { وإذا سألك عبادي } ، روي أن المشركين قالوا لما نزل { فإني قريب } : كيف يكون قريباً وبيننا وبينه على قولك سبع سماوات في غلظ سمك كل واحدة خمسمائة عام وفيما بين كل سماء مثل ذلك ؟ فنزلت : { أجيب دعوة الداعي إذا دعان } أي فإني قريب بالإجابة والقدرة ، وقال قوم : المعنى أجيب إن شئت( {[1711]} ) ، وقال قوم : إن الله تعالى يجيب كل الدعاء : فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا ، وإما أن يكفر عنه ، وإما أن يدخر له أجر في الآخرة ، وهذا بحسب حديث الموطأ : «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث » ، الحديث( {[1712]} ) ، وهذا إذا كان الدعاء على ما يجب دون اعتداء ، فإن الاعتداء في الدعاء ممنوع ، قال الله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين }( {[1713]} ) [ الأعراف : 55 ] قال المفسرون : أي في الدعاء .
والوصف بمجاب الدعوة : وصف بحسن النظر والبعد عن الاعتداء ، والتوفيق من الله تعالى إلى الدعاء في مقدور . وانظر أن أفضل البشر المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم قد دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم ، الحديث( {[1714]} ) ، فمنعها ، إذ كان القدر قد سبق بغير ذلك .
وقوله تعالى : { فليستجيبوا } قال ابو رجاء الخراساني : «معناه فليدعوا لي » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : المعنى فليطلبوا أن أجيبهم ، وهذا هو باب استفعل ، أي طلب الشيء ، إلا ما شذ ، مثل ، استغنى الله ، وقال مجاهد وغيره : المعنى فليجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان ، أي بالطاعة والعمل( {[1715]} ) ، ويقال : أجاب واستجاب بمعنى ، ومنه قول الشاعر( {[1716]} ) : [ الطويل ]
وداع يا من يجيب إلى النّدا . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه ، وقوله تعالى : { وليؤمنوا بي } ، قال أبو رجاء : في أني أجيب دعاءهم ، وقال غيره : بل ذلك دعاء إلى الإيمان بجملته( {[1717]} ) . وقرأ الجمهور { يَرشُدون } بفتح الياء وضم الشين . وقرأ قوم بضم الياء وفتح الشين . وروي عن ابن أبي عبلة وأبي حيوة فتح الياء وكسر الشين باختلاف عنهما قرآ هذه القرءة والتي قبلها( {[1718]} ) .
الجُملة معطوفة على الجمل السابقة المتعاطفة أي { لتكملوا العدة ولتكبروا . . . ولعلكم تشكرون } [ البقرة : 185 ] ، ثم التَفَت إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وحده لأنه في مقام تبليغ فقال : { وإذا سألك عبادي عني } ، أي العباد الذين كان الحديث معهم ، ومقتضى الظاهر أن يقال { ولعلكم تشكرون وتدعون فأستجيب لكم إلاّ أنه عدل عنه ليحصل في خلال ذلك تعظيمُ شأن النبي بأنه يسأله المسلمون عن أمر الله تعالى ، والإشارةُ إلى جواب من عسى أن يكونوا سألوا النبي عن كيفية الدعاء هل يكون جهراً أو سراً ، وليكون نظم الآية مؤذناً بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجب له عليهم أكرمهم فقال : وإذا سألوا عن حقهم عليَّ فإني قريب منهم أجيب دعوتهم ، وجُعل هذا الخير مرتباً على تقدير سؤالهم إشارة إلى أنهم يهجس هذا في نفوسهم بعد أن يسمعوا الأمر بالإكمال والتكبير والشكر أن يقولوا : هل لنا جزاء على ذلك ؟ وأنهم قد يحجمون عن سؤال النبي عن ذلك أدباً مع الله تعالى فلذلك قال تعالى : { وإذا سألك } الصريح بأن هذا سيقع في المستقبل . واستعمال مثل هذا الشرط مع مادة السؤال لقصد الاهتمام بما سيذكر بعده استعمال معروف عند البلغاء قال علقمة :
فَإنْ تسأَلوني بالنِّساءِ فإنّني *** خَبير بِأَدْواءِ النساءِ طَبِيبُ
والعلماء يفتتحون المسائل المهمة في كتبهم بكلمة ( فإن قلت ) وهو اصطلاح « الكشاف » . ويؤيد هذا تجريد الجواب من كلمة قل التي ذكرت في مواقع السؤال من القرآن نحو { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت } [ البقرة : 189 ] ، { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } [ البقرة : 220 ] ، مع ما في هذا النظم العجيب من زيادة إخراج الكلام في صورة الحكم الكلي إذ جاء بحكم عام في سياق الشرط فقال { سألك عبادي } وقال : { أجيب دعوة الداع } ولو قيل وليدعوني فأستجيب لهم لكان حكماً جزئياً خاصاً بهم ، فقد ظهر وجه اتصال الآية بالآيات قبلها ومناسبتها لهن وارتباطها بهن من غير أن يكون هنالك اعتراض جملة .
وقيل إنها جملة معترضة اقترنت بالواو بين أحكام الصيام للدلالة على أن الله تعالى مجازيهم على أعمالهم وأنه خبير بأحوالهم ، قيل إنه ذكر الدعاء هنا بعد ذكر الشكر للدلالة على أن الدعاء يجب أن يسبقه الثناء .
والعباد الذين أضيفوا إلى ضمير الجلالة هم المؤمنون لأن الآيات كلها في بيان أحكام الصوم ولوازمه وجزائه وهو من شعار المسلمين ، وكذلك اصطلاح القرآن غالباً في ذكر العباد مضافاً لضمير الجلالة ، وأما قوله تعالى : { ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } [ الفرقان : 17 ] بمعنى المشركين فاقتضاه أنه في مقام تنديمهم على استعبادهم للأصنام .
وإنما قال تعالى : { فإني قريب } ولم يقل : فقل لهم إني قريب إيجازاً لظهوره من قوله : { وإذا سألك عبادي عني } ، وتنبيهاً على أن السؤال مفروض غير واقع منهم بالفعل ، وفيه لطيفة قرآنية وهي إيهام أن الله تعالى تولَّى جوابهم عن سؤالهم بنفسه إذ حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء .
واحتيج للتأكيد بإنَّ ، لأن الخبر غريب وهو أن يكون تعالى قريباً مع كونهم لا يرونه . و { أجيبُ } خبر ثان لإنَّ وهو المقصود من الإخبار الذي قبله تمهيداً له لتسهيل قبوله .
وحذفت ياء المتكلم من قوله « دعان » في قراءة نافع وأبي عَمرو وحمزة والكسائي ؛ لأن حذفها في الوقف لغة جمهور العرب عدا أهل الحجاز ، ولا تحذف عندهم في الوصل لأن الأصل عدمه ولأن الرسم يبنى على حال الوقف ، وأثبت الياء ابن كثير وهشام ويعقوب في الوصل والوقف ، وقرأ ابن ذكوان وعاصم بحذف الياء في الوصل والوقف وهي لغة هذيل ، وقد تقدم أن الكلمة لو وقعت فاصلة لكان الحذف متفقاً عليه في قوله تعالى : { وإياي فارهبون } [ البقرة : 40 ] في هذه السورة .
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجوُّ الإجابة ، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته ، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان .
والآية دلت على أن إجابة دعاء الداعي تفضل من الله على عباده غير أن ذلك لا يقتضي التزام إجابة الدعوة من كل أحد وفي كل زمان ، لأن الخبر لا يقتضي العموم ، ولا يقال : إنه وقع في حيز الشرط فيفيد التلازم ، لأن الشرط هنا ربط الجواب بالسؤال وليس ربط للدعاء بالإجابة ، لأنه لم يقل : إن دعوني أجبتهم .
وقوله : { فليستجيبوا لي } تفريع على { أجيبُ } أي إذا كنت أجيب دعوة الداعي فليجيبوا أوامري ، واستجاب وأجاب بمعنى واحد . وأصل أجاب واستجاب أنه الإقبال على المنادي بالقدوم ، أو قولٌ يدل على الاستعداد للحضور نحو ( لَبيك ) ، ثم أطلق مجازاً مشهوراً على تحقيق ما يطلبه الطالب ، لأنه لما كان بتحقيقه يقطع مسألتَه فكأنَّه أجاب نداءه .
فيجوز أن يكون المراد بالاستجابة امتثال أمر الله فيكون { وليؤمنوا بي } عطفاً مغايراً والمقصود من الأمر الأول الفعل ومن الأمر الثاني الدوام ، ويجوز أن يراد بالاستجابة ما يشمل استجابة دعوة الإيمان ، فذِكْر { وليؤمنوا } عطف خاص على عام للاهتمام به .
وقوله : { لعلهم يرشدون } تقدم القول في مِثله . والرشد إصابة الحق وفعله كنصر وفَرِح وضَرب ، والأشهر الأول .