المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ} (186)

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }( 186 )

وقوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني } الآية ، قال الحسن بن أبي الحسن : سببها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه( {[1709]} ) ؟ فنزلت ، وقال عطاء : لما نزلت { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم }( {[1710]} ) [ غافر : 60 ] قال قوم في أي ساعة ندعو ؟ فنزلت { وإذا سألك عبادي عني } ، وقال مجاهد : بل قالوا إلى أين ندعو فنزلت هذه الآية ، وقال قتادة بل قالوا : كيف ندعو ؟ فنزلت { وإذا سألك عبادي } ، روي أن المشركين قالوا لما نزل { فإني قريب } : كيف يكون قريباً وبيننا وبينه على قولك سبع سماوات في غلظ سمك كل واحدة خمسمائة عام وفيما بين كل سماء مثل ذلك ؟ فنزلت : { أجيب دعوة الداعي إذا دعان } أي فإني قريب بالإجابة والقدرة ، وقال قوم : المعنى أجيب إن شئت( {[1711]} ) ، وقال قوم : إن الله تعالى يجيب كل الدعاء : فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا ، وإما أن يكفر عنه ، وإما أن يدخر له أجر في الآخرة ، وهذا بحسب حديث الموطأ : «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث » ، الحديث( {[1712]} ) ، وهذا إذا كان الدعاء على ما يجب دون اعتداء ، فإن الاعتداء في الدعاء ممنوع ، قال الله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين }( {[1713]} ) [ الأعراف : 55 ] قال المفسرون : أي في الدعاء .

والوصف بمجاب الدعوة : وصف بحسن النظر والبعد عن الاعتداء ، والتوفيق من الله تعالى إلى الدعاء في مقدور . وانظر أن أفضل البشر المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم قد دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم ، الحديث( {[1714]} ) ، فمنعها ، إذ كان القدر قد سبق بغير ذلك .

وقوله تعالى : { فليستجيبوا } قال ابو رجاء الخراساني : «معناه فليدعوا لي » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : المعنى فليطلبوا أن أجيبهم ، وهذا هو باب استفعل ، أي طلب الشيء ، إلا ما شذ ، مثل ، استغنى الله ، وقال مجاهد وغيره : المعنى فليجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان ، أي بالطاعة والعمل( {[1715]} ) ، ويقال : أجاب واستجاب بمعنى ، ومنه قول الشاعر( {[1716]} ) : [ الطويل ]

وداع يا من يجيب إلى النّدا . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي لم يجبه ، وقوله تعالى : { وليؤمنوا بي } ، قال أبو رجاء : في أني أجيب دعاءهم ، وقال غيره : بل ذلك دعاء إلى الإيمان بجملته( {[1717]} ) . وقرأ الجمهور { يَرشُدون } بفتح الياء وضم الشين . وقرأ قوم بضم الياء وفتح الشين . وروي عن ابن أبي عبلة وأبي حيوة فتح الياء وكسر الشين باختلاف عنهما قرآ هذه القرءة والتي قبلها( {[1718]} ) .


[1709]:- يحتمل أن يكون السؤال عن القرب والبعد، ويحتمل أن يكون عن إجابة الدعاء، ويحتمل أن يكون السؤال عما هو أعم وهو الظاهر.
[1710]:- من الآية (60) من سورة (غافر).
[1711]:- يعني أن إجابة الدعاء مقيدة بالمشيئة والإرادة لقوله تعالى: [فيكشف ما تدعون إليه إن شاء]. ولا تكون في كل دعاء، وقيل: إنها تكون في كل دعاء إلا أنها تارة تكون في الدنيا وتارة في الآخرة بادخار الأجر أو تكفير الذنب كما في حديث الموطأ – وللدعاء شروط وأحوال وأوقات ينبغي اعتبارها وتحقيقها.
[1712]:- نص ما في الموطأ سنداً ومتناً: (وحدثني عن مالك، عن زيد بن أسلم أنه كان يقول: ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يُستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه). انتهى. قال أبو عمر بن عبد البر: مثل هذا يستحيل أن يكون رأيا واجتهاداً وإنما هو توقيف وخبر محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعاء المسلم بين إحدى ثلاث) الخ.
[1713]:- من الآية (55). من سورة (الأعراف).
[1714]:- في الموطأ: (وحدثني عن مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك أنه قال: جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية وهي قرية من قرى الأنصار فقال: هل تدرون أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسجدكم هذا ؟ فقلت له: نعم، وأشرت له إلى ناحية منه، فقال: هل تدري ما الثلاث التي دعا بهن فيه ؟ فقلت: نعم، قال: فأخبرني بهن، فقلت: دعا بألا يظهر عليهم عدوا من غيرهم، ولا يهلكهم بالسنين فأعطيهما، ودعا بألا يجعل بأسهم بينهم فمُنعها، قال: صدقت، قال ابن عمر: فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة). انتهى. وفي صحيح البخاري أن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم] قال: أعوذ بوجهك، فلما نزلت: [أو من تحت أرجلهم[ قال: أعوذ بوجهك. فلما نزلت: [أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض[ قال: هاتان أهون أو أيسر، يعني أن عذاب الناس أهون من عذاب الله على الكفر – وروى الإمام مسلم حديث: (سألت ربي ألا يجعل بأس أمتي بينهم فمنعنيها).
[1715]:- ما قاله مجاهد وغيره ظاهر ومعقول، والمعنى أن استجابة الله للعبد مرتبطة باستجابة العبد لله فيما أمره به، وفيما نهاه عنه، وهذا أحسن وأفضل وإن كان الدعاء قد يكون من غير المستجيب لحكم الله..
[1716]:- هو كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار، وبعده: فقلت: ادْعُ أخْرى وارْفع الصَّوتَ جَهرَة لعلَّ أبا المِغْوار مِنْكَ قَرِيبُ
[1717]:- هذا أولى وأظهر.
[1718]:- يعني أن ابن أبي عبلة، وأبا حيوة قرآ بضم الياء وفتح الشين، وبفتح الياء وكسر الشين.