أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

{ وقل الحق من ربكم } الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى ، ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف و{ من ربكم } حالا . { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر ، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله فإنه وان كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته . { إنا اعتدنا } هيأنا . { للظالمين نارا أحاط بهم سُرادقُها } فسطاطها ، شبه به ما يحيط بهم من النار . وقيل السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط . وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار { وإن يستغيثوا } من العطش . { يُغاثوا بما كالمهل } كالجسد المذاب . وقيل كدرديّ الزيت وهو على طريقة قوله : فاعتبوا بالصيلم . { يشوي الوجوه } إذا قدم ليشرب من فرط حرارته ، وهو صفة ثانية لماء أو حال من المهل أو الضمير في الكاف . { بئس الشراب } المهل . { وساءت } النار . { مرتفقاً } متكأ وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد ، وهو لمقابلة قوله وحسنت مرتفقا وألا فلا ارتفاق لأهل النار .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقل الحق من ربكم}، يعني: القرآن،

{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، هذا وعيد، نظيرها في حم السجدة: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} [فصلت:45]، يعني: من شاء فليصدق بالقرآن، ومن شاء فليكفر بما فيه، ثم ذكر مصير الكافر والمؤمن، فقال: {إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها}، وذلك أنه يخرج عنق من النار فيحيط بهم، فذلك السرادق،

ثم قال سبحانه: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل}، يقول: أسود غليظ كدردي الزيت،

{يشوي الوجوه}، وذلك أنه إذا دنا من فيه، اشتوى وجهه من شدة حر الشراب. ثم قال سبحانه: {بئس الشراب وساءت مرتفقا}، يقول: وبئس المنزل.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتبعوا أهواءهم: الحقّ أيها الناس من عند ربكم، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال؛ يهدي من يشاء منكم للرشاد فيؤمن، ويضلّ من يشاء عن الهدى فيكفر، ليس إليّ من ذلك شيء، ولست بطارد –لهواكم- من كان للحقّ متبعا، وبالله وبما أنزل عليّ مؤمنا، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، فإنكم إن كفرتم فقد أعدّ لكم ربكم على كفركم به نارا أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته...

وقد بين أن ذلك كذلك قوله:"إنّا اعْتَدْنا للظّالِمينَ نارا..." والآيات بعدها... عن مجاهد، في قوله: "فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ". قال: وعيد من الله، فليس بمعجزي...

قال ابن زيد في قوله: "فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ"، وقوله "اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ "قال: هذا كله وعيد، ليس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا.

وقوله: "إنّا أعْتَدْنا للظّالِمينَ نارا" يقول تعالى ذكره: إنا أعددنا، وهو من العُدّة. للظالمين: الذين كفروا بربهم...

وقوله: "أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها" يقول: أحاط سرادق النار التي أعدّها الله للكافرين بربهم، وذلك فيما قيل: حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط...

وقوله: "وَإن يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ" يقول تعالى ذكره: وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة في النار من شدّة ما بهم من العطش، فيطلبونَ الماء يُغاثوا بماء المُهْل. واختلف أهل التأويل في المهل؛

فقال بعضهم: هو كلّ شيء أذيب وانماع... وقال آخرون: هو القيح والدم الأسود... عن ابن عباس، قوله: "كالمُهْلِ" قال: يقول: أسود كهيئة الزيت...

وقال آخرون: هو الشيء الذي قد انتهى حرّه... وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها، فمتقاربات المعنى، وذلك أن كلّ ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حرّه، وأن ما أوقدت عليه من ذلك النار حتى صار كدردي الزيت، فقد انتهى أيضا حرّه...

وقوله: "يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ" يقول جلّ ثناؤه: يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم. كما:

حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا حيوة بن شريح، قال: حدثنا بقية، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن بُسْر هكذا قال ابن خلف عن أبي أمامة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله ويُسْقَى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرّعُهُ قال: «يقرب إليه فيتكرّهه، فإذا قرب منه، شوى وجهه، ووقعت فَرْوة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه»، يقول الله: وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ يَشوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ...

وقوله: "بِئْسَ الشّرابُ" يقول تعالى ذكره: بئس الشراب، هذا الماء الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم الذي صفته ما وصف في هذه الآية. وقوله: "وَساءَتْ مُرْتَفَقا" يقول تعالى ذكره: وساءت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء الظالمين مرتفقا، والمرتفَق في كلام العرب: المتكأ...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وقل الحق من ربكم} كأنه على الإضمار، أي قل قد جئتكم بالحق من ربكم. أو يقول: قل لهم: قد تعلمون أني قد جئتكم من الآيات والحجج على ما أدعوكم إليه ما لا تحتمل بُنْيَتِي، ويخرج عن وسعي وطاقتي.

{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} يحتمل هذا وجوها:

أحدها: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} إنما يعمل لنفسه، ليس يعمل لأحد سواه، كقوله: {من عمل صالحا فلنفسه وما أساء فعليها} (فصلت: 46) وقوله: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} الآية (الإسراء: 7) فعلى ذلك يقول، والله أعلم.

والثاني: يقول إني بلغت الرسالة إليكم، فلا أكرهكم أنا على الإسلام، ولا أحد سواي {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}: فمن آمن فإنما يؤمن باختياره ومشيئته، ومن كفر فإنما يكفر باختياره ومشيئته لا يكره على ذلك.

والثالث: أن الإيمان والكفر قد بين الله لهما العواقب: عاقبة من اختار الإيمان وعاقبة من اختار الكفر، وهو ما قال: {إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها} إلى آخر ما ذكر. وقال للمؤمنين: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجرمن أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن} الآية (الكهف: 30و31) يقول: قد بين لكل واحد منهما عاقبته، فمن شاء اكتسب لنفسه في العاقبة الجنان وما فيها من النعيم، ومن شاء اكتسب ما ذكر في العاقبة من النار وأنواع العذاب. فذلك كله يُخَّرَجُ على الوعيد.

{إنا أعتدنا للظالمين} وقت دخولهم النار {نارا} وهو في الآخرة. وقوله تعالى: {أحاط بهم سرادقا} يحتمل هذا وجهين:

أحدهما: على إرادة حقيقة السرادق.

والثاني: على التمثيل، أي تحيط بهم النار فلا يقدرون على الخروج منها على ما يمنع السرادق من الخروج في الدنيا ودفع الحر والبرد. فإن كان على حقيقة السرادق فهو والله أعلم، على ما جعل الله لهم من أنواع ما كونوا يتفاخرون في الدنيا به من اللباس والطعام والشراب وغير ذلك يجعل لهم الطعام في الآخرة من ذلك النوع من النار، وهو ما ذكر {سرابيلهم من قطران} (إبراهيم: 50) وما قال: {ليس لهم طعاما إلا من ضريع} (الغاشية: 6) والشراب ما ذكر {من ماء صديد} جعل لهم في الآخرة من ذلك النوع من النار، وبه يعاقبهم. فعلى ذلك جائز أن يكونوا يتفاخرون به في الدنيا بالسرادق، إذا خرجوا في السفر، فيعاقبهم الله في النار بذلك، والله أعلم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ} الحق خبر مبتدأ محذوف. والمعنى: جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك. وجيء بلفظ الأمر والتخيير، لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء، فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين...

{وَسَاءتْ} النار {مُرْتَفَقًا} متكأ من المرفق، وهذا لمشاكلة قوله {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 31] وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في تقرير النظم وجوه:

الأول: أنه تعالى لما أمر رسوله بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت الفقراء آمنا بك، قال بعده: {وقل الحق من ربكم} أي قل لهؤلاء إن هذا الدين الحق إنما أتى من عند الله فإن قبلتموه عاد النفع إليكم وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح والحسن والخمول والشهرة. الوجه الثاني: في تقرير النظم يمكن أن يكون المراد أن الحق ما جاء من عند الله، والحق الذي جاءني من عنده أن أصبر نفسي مع هؤلاء الفقراء ولا أطردهم ولا ألتفت إلى الرؤساء وأهل الدنيا.

والوجه الثالث: في تقرير النظم أن يكون المراد هو أن الحق الذي جاء من عند الله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وأن الله تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحا لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار، فإن قيل: أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهم على المهم فطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلا سقوط حرمتهم وهذا ضرر، قليل: أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر، وهذا ضرر عظيم، قلنا: أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر فمسلم إلا أن من ترك الإيمان لأجل الحذر من مجالسة الفقراء فإيمانه ليس بإيمان بل هو نفاق قبيح، فوجب على العاقل أن لا يلتفت إلى إيمان من هذا حاله وصفته...

قوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} فيه فوائد:

الفائدة الأولى: الآية تدل على أن صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والداعي محال.

الفائدة الثانية: أن صيغة الأمر لا لمعنى الطلب في كتاب الله كثيرة ثم نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هذه الصيغة تهديد ووعيد وليست بتخيير. الفائدة الثالثة: أنها تدل على أنه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين، بل نفع الإيمان يعود عليهم، وضرر الكفر يعود عليهم، كما قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}، واعلم أنه تعالى لما وصف الكفر والإيمان والباطل والحق أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والأعمال الباطلة، وبذكر الوعد على الإيمان والعمل الصالح...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

... ولما تقدم الإيمان والكفر أعقب بما أعد لهما فذكر ما أعد للكافرين يلي قوله {فليكفر} وأتى بعد ذلك بما أعد للمؤمنين، ولما كان الكلام مع الكفار وفي سياق ما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم كانت البداءة بما أعد لهم أهم وآكد، وهما طريقان للعرب هذه الطريق والأخرى أنه يجعل الأول في التقسيم للأول في الذكر، والثاني للثاني...

{وإن يستغيثوا} يطلبوا الغوث مما حل بهم من النار وشدة إحراقها واشتداد عطشهم {يغاثوا} على سبيل المقابلة وإلاّ فليست إغاثة...

وإنما اختص {الوجوه} لكونها عند شربهم يقرب حرّها من وجوههم. وقيل: عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم، والمعنى أنه ينضج به جميع جلودهم كقوله {كلما نضجت جلودهم} والمخصوص بالذم محذوف تقديره {بئس الشراب} هو أي الماء الذي يغاثون به...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما رغبه في أوليائه، وزهده في أعدائه، ترضية بقدره بعد أن قص الحق من قصة أهل الكهف للمتعنتين، علمه ما يقول لهم على وجه يعمهم ويعم غيرهم ويعم القصة وغيرها فقال تعالى مهدداً ومتوعداً -كما نقل عن علي رضي الله عنه وكذا عن غيره: {وقل} أي لهم ولغيرهم: هذا الذي جئتكم به من هذا الوحي العربي العري عن العوج، الظاهر الإعجاز، الباهر الحجج {الحق} كائناً {من ربكم} المحسن إليكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين، والإعراض عمن سواهم وغير ذلك، لا ما قلتموه في أمرهم، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ {فمن شاء} أي منكم ومن غيركم {فليؤمن} بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم، فهو مقبول مرغوب فيه وإن كان فقيراً زريّ الهيئة ولم ينفع إلا نفسه {ومن شاء} منكم ومن غيركم {فليكفر} فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة، وإن تعاظمت هيبته لما اشتد من أذاه، وأفرط من ظلمه، وسنشفي قلوب المؤمنين في الدارين بالانتقام منه...

ولما هدد السامعين بما حاصله: ليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غداً عند الله تعالى، اتبع هذا التهديد تفصيلاً لما أعد للفريقين من الوعد والوعيد لفاً ونشراً مشوشاً- بما يليق بهذا الأسلوب المشير إلى أنه لا كفوء له من نون العظمة فقال تعالى: {إنا اعتدنا} أي هيأنا بما لنا من العظمة تهيئة قريبة جداً، وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير {للظالمين} أي لمن لم يؤمن، ولكنه وصف إشارة إلى تعليق الحكم به {ناراً} جعلناها معدة لهم {أحاط بهم} كلهم {سرادقها} أي حائطها الذي يدار حولها كما يدار الحظير حول الخيمة من جميع الجوانب.

ولما كان المحرور شديد الطلب للماء قال تعالى: {وإن يستغيثوا} من حر النار فيطلبوا الغيث -وهو ماء المطر- والغوث بإحضاره لهم؛ وشاكل استغاثتهم تهكماً بهم فقال تعالى: {يغاثوا بماء} ليس كالماء الذي قدمنا الإشارة إلى أنا نحيي به الأرض بعد صيرورتها صعيداً جرزاً، بل {كالمهل} وهو القطران الرقيق وما ذاب من صفر أو حديد والزيت أو درديّه -قاله في القاموس.

وشبهه به من أجل تناهي الحر مع كونه ثخيناً، وبين وجه الشبه بقوله تعالى: {يشوي الوجوه} أي إذا قرب إلى الفم فكيف بالفم والجوف! ثم وصل بذلك ذمه فقال تعالى: {بئس الشراب} أي هو، فإنه أسود منتن غليظ حار، وعطف عليه ذم النار المعدة لهم فقال تعالى: {وساءت مرتفقاً} أي منزلاً يعد للارتفاق...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وقل: الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).. بهذه العزة، وبهذه الصراحة، وبهذه الصرامة، فالحق لا ينثني ولا ينحني، إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه، قويا لا ضعف فيه، صريحا لا مداورة فيه. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن لم يعجبه الحق فليذهب، ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة؛ ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه. إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها. إنما هي ملك لله، والله غني عن العالمين. والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة، ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير. والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين...

(إنا أعتدنا للظالمين نارا).. أعددناها وأحضرناها.. فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها، ولا تستغرق زمنا لإعدادها! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة: كن. فيكون. إلا أن التعبير هنا بلفظ (اعتدنا) يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد، والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال! وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين، فلا سبيل إلى الهرب، ولا أمل في النجاة والإفلات. ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة، أو يكون فيه استرواح! فإن استغاثوا من الحريق والظمأ أغيثوا.. أغيثوا بماء كدردي الزيت المغلي في قول، وكالصديد الساخن في قول! يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه (بئس الشراب) الذي يغاث به الملهوفون من الحريق! ويا لسوء النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء. وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير. فما هم هنالك للارتفاق، إنما هم للاشتواء!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

بعد أن أمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بما فيه نقض ما يفتلونه من مقترحاتهم وتعريضٌ بتأييسهم من ذلك أمره أن يصارحهم بأنه لا يعدل عن الحق الذي جاءه من الله، وأنه مبلغه بدون هوادة، وأنه لا يرغب في إيمانهم ببعضه دون بعض، ولا يتنازل إلى مشاطرتهم في رغباتهم بشطر الحق الذي جاء به، وأن إيمانهم وكفرهم موكول إلى أنفسهم، لا يحسبون أنهم بوعد الإيمان يستنزلون النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أوحى إليه.

و {الحق} خبر مبتدأ محذوف معلوم من المقام، أي هذا الحق. والتعبير ب {ربكم} للتذكير بوجوب توحيده.

والأمر في قوله: {فليؤمن} وقوله: {فليكفر} للتسوية المكنى بها عن الوعد والوعيد.

وقدم الإيمان على الكفر لأن إيمانهم مرغوب فيه.

وفاعل المشيئة في الموضعين ضمير عائد إلى (من) الموصولة في الموضعين.

وفعل « يؤمن، ويكفر» مستعملان للمستقبل، أي من شاء أن يوقع أحد الأمرين ولو بوجه الاستمرار على أحدهما المتلبس به الآن فإن العزم على الاستمرار عليه تجديد لإيقاعه.

وجملة {إنا أعتدنا للظالمين ناراً} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما دل عليه الكلام من إيكال الإيمان والكفر إلى أنفسهم وما يفيده من الوعيد كلاهما يثير في النفوس أن يقول قائل: فماذا يلاقي من شاء فاستمر على الكفر، فيجاب بأن الكفر وخيم العاقبة عليهم.

والمراد بالظالمين: المشركون قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].

وتنوين {ناراً} للتهويل والتعظيم.

والسرادق بضم السين قيل: هو الفسطاط، أي الخيمة. وقيل: السرادق: الحُجزة بضم الحاء وسكون الزاي، أي الحاجز الذي يكون محيطاً بالخَيمة يمنع الوصول إليها، فقد يكون من جنس الفسطاط أديماً أو ثوباً وقد يكون غير ذلك كالخندق. وهو كلمة معربة من الفارسية. أصلها (سراطاق) قالوا: ليس في كلام العرب اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان. والسرادق: هنا تخييل لاستعارة مكنية بتشبيه النار بالدار، وأثبت لها سُرادق مبالغة في إحاطة دار العذاب بهم، وشأن السرادق يكون في بيوت أهل الترف، فإثباته لدار العذاب استعارة تهكمية.

والاستغاثة: طلب الغوث وهو الإنقاذ من شدة وبتخفيف الألم. وشمل {يستغيثوا} الاستغاثة من حر النار يطلبون شيئاً يُبرد عليهم، بأن يصبوا على وجوههم ماء مثلاً، كما في آية الأعراف {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء} [الأعراف: 50]. والاستغاثة من شدة العطش الناشئ عن الحر فيسألون الشراب. وقد أومأ إلى شمول الأمرين ذكر وصفين لهذا الماء بقوله: {يشوي الوجوه بئس الشراب}.

والإغاثة: مستعارة للزيادة مما استغيث مِن أجله على سبيل التهكم، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.

والمُهل بضم الميم له معان كثيرة أشبهها هنا أنه دُردي الزيت فإنه يزيدها التهاباً قال تعالى: {يوم تكون السماء كالمهل} [المعارج: 8].

والتشبيه في سواد اللوْن وشدة الحرارة فلا يزيدهم إلا حرارة، ولذلك عقب بقوله: {يشوي الوجوه} وهو استئناف ابتدائي.

والوجه أشد الأعضاء تألماً من حر النار قال تعالى: {تلفح وجوههم النار} [المؤمنون: 104].

وجملة {بئس الشراب} مستأنفة ابتدائية أيضاً لتشنيع ذلك المَاء مشروباً كما شُنع مغتسَلاً. وفي عكسه الماءُ الممدوح في قوله تعالى: {هذا مغتسل بارد وشراب} [ص: 42].

والمخصوص بذم {بئس} محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير: بئس الشراب ذلك الماء.

وجملة {وساءت مرتفقاً} معطوفة على جملة {يشوي الوجوه}، فهي مستأنفة أيضاً لإنشاء ذم تلك النار بما فيها.

والمرتفق: محل الارتفاق، وهو اسم مكان مشتق من اسم جامد إذ اشتق من المِرْفَقِ وهو مجمع العضد والذراع. سمي مرفقاً لأن الإنسان يحصل به الرفق إذا أصابه إعياء فيتكئ عليه. فلما سمي به العضو تنوسي اشتقاقه وصار كالجامد، ثم اشتق منه المُرتفق. فالمرتفق هو المُتكأ، وتقدم في سورة يوسف.

وشأن المرتفَق أن يكون مكان استراحة، فإطلاق ذلك على النار تهكم، كما أطلق على ما يزاد به عذابهم لفظ الإغاثة، وكما أطلق على مكانهم السرادق.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وقل الحق من ربكم... اختار كلمة الرب ولم يقل من الله، لأن الكل معتقد أن الرب هو الذي خلق... أي: بإقراركم أنتم، فالذي خلقكم ورباكم وتعهدكم هو الذي نزل لكم هذا الحق و:"ربكم" أي: ليس ربي وحدي، بل ربكم ورب الناس جميعاً. والحق: هو الشيء الثابت، ومادام من الله فلن يغيره أحد... فالربوبية عطاء، فربك الذي خلقك وأمدك بالنعم، وهو الذي يربيك كما يربي الوالد ولده؛ لذلك لم يعترض على الربوبية أحد، أما الألوهية فمطلوبها تكليف: افعل كذا، ولا تفعل كذا، فخاطبهم بالربوبية التي فيها مصلحتهم، ولم يخاطبهم بالألوهية التي تقيد اختياراتهم والإنسان بطبعه لا يميل إلى ما يقيد اختياراته... إذن: ما دمتم مؤمنين بربوبية خلق وربوبية إمداد وإنعام، فعليكم أن تؤمنوا بما جاء من ربكم،... ومع ذلك ورغم فضل الله ونعمه عليهم قل لهم: لا جبر في الإيمان: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}... ثم يقول الحق سبحانه: {إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها}: والعذاب هنا لمن اختار الكفر، لكن لماذا تهول الآية وتفخم أمر العذاب؟ لأن الإعلام بالعقاب وتهويله وتفظيعه الإنذار به لا ليقع الناس في موجبات العقاب، بل لينتهوا عن الجريمة، وينأوا عن أسبابها، إذن: فتفظيع العقاب وتهويله رحمة من الله بالعباد؛ لأن خوف العذاب سيمنعهم من الجريمة...

وقوله تعالى: {للظالمين}. والظلم أن تأخذ حقاً وتعطيه للغير، وللظلم أشكال كثيرة، أفظعها وأعظمها الإشراك بالله، لأنك تأخذ حق الله في العبادة وتعطيه لغيره، وهذا قمة الظلم... فهذا عذابه دائم ومستمر لا ينقطع ولا يفتر عنه... أحاط بهم سرادقها... فكأن الله تعالى ضرب سرادقاً على النار يحيط بهم ويحجزهم، بحيث لا تمتد أعينهم إلى مكان خال من النار؛ لأن رؤيته لمكان خال من النار قد توحي إليه بالأمل في الخروج، فالحق سبحانه يريد أن يؤيسهم من الخروج...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهذا خطابٌ للنبي في الإعلان عن المضمون الفكري للإسلام، في مواجهة المضامين الفكرية الأخرى التي يتبناها دعاة الكفر والضلال، وتأكيدٌ على حركة الدعوة الحاسمة في ساحة الصراع، من أجل أن تضع الناس أمام مسؤولياتهم في إثارة التفكير لديهم في مسألة الكفر والإيمان، من خلال البراهين العلمية والعقلية التي تؤكد الخط الإسلامي وتثبت واقعيته، لأن دور الدعاة إلى الله يكمن في إثارة التفكير الجادّ أمام علامات الاستفهام التي تطرحها الدعوة في الساحة، ليؤمن من يؤمن عن بيِّنة، ويكفر من يكفر عن بيّنة، فلا يكون للناس حجةٌ على الله، بل تكون الحجة له عليهم...

إن الإسلام يطرح الحرية، كموقف إنساني طبيعيّ، في مواجهته لمسائل الفكر ومواقع العقيدة، لأن عملية فرض القناعات ليست واردةً في الطبيعة التكوينية للإنسان، فإن الفكر لا يمكنه الاستسلام لضغط القوّة، لتفرض عليه قناعاته، بل هو خاضعٌ لضغط الحجة والدليل والبرهان، باعتبار أنها التي تحتوي حركته. ولكن الحرية لا بد من أن تتحرك من مواقع المسؤولية، التي تثير لدى الإنسان مسألة المصير كعنصرٍ ضاغطٍ على أجواء اللامبالاة التي يعيشها من خلال الروحية اللاهية العابثة الخاضعة لحالة الاسترخاء، لتضغط عليه كي يواجه المسألة بجدّية، فيتأمل ويفكّر ويبحث ويحاور ويحدّد قناعته في نهاية المطاف على أساس ذلك كله، فإنّ هناك فرقاً بين الموقف الذي لا تشعر بالمسؤولية في تقريره، وبين الموقف الذي تشعر فيه بأنّ النتائج قد تسيء إلى مصيرك. {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن} إذا انطلق تفكيره في الخط المستقيم الذي لا بد من أن يقوده إلى الحق الذي لا ريب فيه، لأنه ينسجم مع الفطرة الإنسانية السليمة. {وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} إذا استسلم لهواه، وخضع لضغط تقاليده وعاداته المتخلِّفة، وشهواته المنحرفة، ومزاجه المريض، وتفكيره المعقَّد. إنّ للإنسان الحرية في الاختيار بعد وضوح الحق أمامه، وعليه أن يتحمل مسؤولية اختياره في جميع النتائج السلبية والإيجابية التي تنتظره. وإذا كان الإسلام يقرر سلبية اختيار الكفر على المصير، فلأنه لا يراه منطلقاً من حالة فكرية ليبرر للإنسان موقفه فيها، بل يراه منطلقاً من حالة مزاجية، لا ترتاح للفكر، ولا تتحمل متاعبه، وبذلك تتنكر لكل نتائجه. ولهذا كانت النار مأوى الكافرين، لأن موقفهم ينطلق من حالة جحود وتمرُّد لا حالة اقتناع وإذعان، فوسائل الإيمان متوفرة للذين يأخذون بها من أقرب طريق...