{ لا تتخذوا عدوى وعدوكم } : أي الكفار والمشركين .
{ أولياء تلقون إليهم بالمودة } : أي لا تتخذوهم أنصاراً توادونهم .
{ وقد كفروا بما جاءكم من الحق } : أي الإِسلام عقيدة وشريعة .
{ يخرجون الرسول وإياكم } : أي بالتضييق عليكم حتى خرجتم فارين بدينكم .
{ أن تؤمنوا بربكم } : أي لأجل أن آمنتم بربكم .
{ إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي ابتغاء مرضاتي } : فلا تتخذوهم أولياء ولا تبادلوهم المودة .
{ تسرون إليهم بالمودة } : أي توصلون إليهم خبر خروج الرسول لغزوهم بطريقة سرية .
{ ومن يفعله منكم } : أي ومن يوادهم فينقل إليهم أسرار النبي في حروبه وغيرها .
{ فقد ضل سواء السبيل } : أي أخطأ طريق الحق الجادة الموصلة إلى الإِسعاد .
فاتحة هذه السورة { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء . . . } الآيات . نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة وكان من المهاجرين الذين شهدوا بدراً روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال ائتوا روضة خاخ " موضع بينه وبين المدينة أثناء عشر ميلا " فإن بها ظعينة " امرأة مسافرة " معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا نهادي خيلنا أي نسرعها فإذا نحن بامرأة قلنا أخرجي الكتاب ، فقالت ما معي كتاب . فقلنا لتخرجن الكتاب ، أو لَتُلْقِنَّ الثياب " أي من عليك " فأخرجته من عقاصها أي من ظفائر شعر رأسها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب ما هذا ؟ فقال لا تعجل عليّ يا رسول الله إنى كنت امرءاً ملصقاً في قريش " أي كان حليفاً لقريش ولم يكن قرشياً " وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيه أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي ، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإِسلام وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وإن كتابي لا يغنى عنهم من الله شيئاً ، وأن الله ناصرك عليهم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق . فقال عمر رضي الله عنه دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا } أي يا من صدقتم الله ورسوله ، { لا تتخذوا عدوي وعدوكم } من الكفار والمشركين { أولياء } أي أنصاراً ، { تلقون إليهم بالمودة } أي أسرار النبي صلى الله عليه وسلم الحربية ذات الخطر والشأن . والحال أنهم قد كفروا بما جاءكم من الحق الذي هو دين الإِسلام بعقائده وشرائعه وكتابه ورسوله . يخرجون الرسول وإياكم من دياركم بالمضايقة لكم حتى هاجرتم فارين بدينكم ، أن تؤمنوا بربكم أي من أجل أن آمنتم بربكم . أمثل هؤلاء الكفرة الظلمة تتخذونهم أولياء تدلون إليهم بالمودة . إنه لخطأ جسيم ممن فعل هذا .
وقوله تعالى : { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي } أي إن كنتم خرجتم من دياركم مجاهدين في سبيلي أي لنصرة ديني ورسولي وأوليائي المؤمنين وطلبا لرضاي فلا تتخذوا الكافرين أولياء من دوني تلقون إليهم بالمودة .
وقوله تعالى تسرون إليهم بالمودة أي تخفون المودة إليهم بنقل أخبار الرسول السرية والحال أني { أعلم } منكم ومن غيركم { بما أخفيتم وما أعلنتم } . وها قد أطلعت رسولي على رسالتكم المرفوعة إلى مشركي مكة والتي تتضمن فضح سر رسولي في عزمه على غزوهم مفاجأة لهم حتى يتمكن من فتح مكة بدون كثير إراقة دم وإزهاق أنفس .
وقوله تعالى : { ومن يفعله منكم } أي الولاء والمودة للمشركين فقد ضل سواء السبيل أي اخطأ وسط الطريق المأمون من الانحراف يريد جانب الإِسلام الصحيح .
- حرمة موالاة الكافرين بالنصرة والتأييد والمودة دون المسلمين .
- الذي ينقل أسرار المسلمين الحربية إلى الكافرين على خطر عظيم وإن صام وصلى .
- فضل أهل بدر وكرامتهم على الله عز وجل .
- قبول عذر الصادقين الصالحين ذو السبق في الإِسلام إذا عثر أحدهم اجتهاداً منه .
هذه السورة مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية . وسميت بالممتحنة بفتح الحاء - نسبة إلى النساء المؤمنات اللواتي يفارقن أزواجهن الكفرة فرارا بدينهم إلى دار الإسلام وقد أمر الله بامتحانهن للوقوف على حقيقة إيمانهم ، فإن علم أنهن مؤمنات فلا مساغ بعد ذلك لإرجاعهن إلى الكفار .
والسورة مبدوءة بسبب نزولها وهي قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي حاول مصانعة قريش وملاطفتهم ليحفظوا له ماله وولده في مكة . فما ينبغي لمؤمن أن يصانع الكافرين أو يمالئهم من وراء إخوانه المؤمنين خوفا على خاصة نفسه ، وحرصا على مصالحه . والله جل وعلا يحذر المؤمنين في كل زمان أن يلينوا للكافرين على حساب دينهم وعقيدتهم ، ولئن كان ثمة مهادنات أو مصالحات مع الكافرين فإنما يكون ذلك على سبيل الإيقاف للقتال لمصلحة يجدها المسلمون في ذلك شريطة ألا يكون في ذلك أيّما مساس بعقيدتهم ودينهم ، وفي السورة يوجب الله على المسلمين أن يبرّوا بالكافرين الموادعين الذين لا يؤذون المسلمين ، أولئك لهم من المسلمين البر والإحسان والتكريم .
{ ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل 1 إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون 2 لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير } .
وسبب نزول هذه الآيات هي قصة حاطب بن أبي بلتعة ، فقد كان حاطب رجلا من المهاجرين ، وكان من أهل بدر ، وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان . ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة بعد أن نقض أهلها العهد مع المسلمين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتجهزوا لغزوهم وقال : " اللهم عمّ عليهم خبرنا " فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم وليتخذ بذلك عندهم يدا فأطلع الله تعالى على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه فبعث في إثر المرأة فأخذ الكتاب منها .
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي رافع أنه سمع عليا ( رضي الله عنه ) يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها " فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة . قلنا : أخرجي الكتاب . قالت : ما معي كتاب ، قلنا : لتخرجن : الكتاب أو لتلقين الثياب . فأخرجت الكتاب من عقاصها فأخذنا الكتاب ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا حاطب ما هذا ؟ " قال : لا تعجل عليّ . إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة فأحببت ، إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه صدقكم " فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " {[4511]} .
قوله : { ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } ذلك نهي من الله للمؤمنين عن اتخاذهم أعداء الله من الكافرين { أولياء } يعني أصدقاء وأخلاء { تلقون إليهم بالمودة } الجملة الفعلية في موضع نصب على الحال والباء زائدة {[4512]} . أي توصلون إليهم المودة . أو سببية . فيكون المعنى : توصلون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرار المسلمين بسبب المودة التي بينكم وبينهم .
قوله : { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } الجملة في موضع نصب على الحال . أي تصانعونهم بالمودة وهم كافرون بدينكم ونبيكم وبما جاءكم من عند الله من الحق وفي ذلك من التوبيخ ما لا يخفى . وهم كذلك { يخرجون الرسول وإياكم } وذلك بيان لكفر قريش وعداوتهم لله ولرسوله وللمسلمين { أن تؤمنوا بالله ربكم } وذلك بيان لسبب إخراجهم ، وهو إيمانهم بالله وحده لا شريك له .
قوله : { إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل الله ، وتبتغون مرضاة ربكم فلا تصانعوا المشركين أو توالوهم أو تلقوا إليهم بالمودة .
قوله : { تسرّون إليهم بالمودة } جملة استئنافية . أي توادونهم وتصانعونهم وتخبرونهم بأسرار المسلمين { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } يعني أنا عالم بأسراركم وضمائركم ، مطلع على ما تكنّه صدوركم ، خبير بظواهركم وما تفعلون .
قوله : { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } يعني من يتخذ أعداء الله أولياء وأخلاء ثم يصانعهم ويسارّهم من وراء المسلمين وفي غيابهم فقد ضل سبيل الحق وأخطأ الطريق المستقيم .