{ يأيها النبي } خص صلى الله عليه وسلم بالنداء ، وعم الخطاب بالحكم لكونه إمام أمته ؛ إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه فكان هو وحده في حكمهم كلهم ؛ كما يقال لرئيس القوم : يا فلان ، افعلوا كيت وكيت . أو المعنى : قل للمؤمنين{ إذا طلقتم النساء } أي أردتم تطليق نسائكم المدخول بهن من المعتدات بالحيض{ فطلقوهن لعدتهن } أي مستقبلات لعدتهن . والمراد : أن يطلقن في طهر لم يجامعهن فيه ، ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن ؛ وهذا أحسن الطلاق . وفي الآية نهى عن الطلاق في الحيض ، وهو طلاق بدعي محرم . وتفصيل أحكام الطلاق في الفقه . وقد اشتملت هذه السورة على الطلاق المسنون ، وعلى حرمة الإخراج والخروج من مسكن العدة ، وعلى الأدب الشرعي في الإمساك والفراق ، وعلة ندب الإشهاد على الرجعة والطلاق ، وعلى عدة الآيسة والصغيرة التي لم تحض وعدة الحامل ، وعلى وجوب إسكان المعتدة والإنفاق على المعتدة بالحمل ، وعلى حكم أجرة الرضاع . { وأحصوا العدة } اضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل . { لا تخرجوهن من بيوتهن } إلى أن تنقضي عدتهن{ ولا يخرجن } بأنفسهن . { إلا أن يأتين بفاحشة } أي بأمر ظاهر القبح ، وهو ما يوجب حدا ، كالزنا أو السرقة فتخرجوهن لإقامة الحد عليهم . وقيل : هو البذاء على الزوج أو على الأحماء . وقيل : هو النشوز فتخرجوهن من البيت لذلك ؛ فهو استثناء من قوله : " لا تخرجوهن " .
{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } نادى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم خاطب أمته ، لأنه السيد المقدم ، فخطاب الجميع معه . وقيل : مجازه : يا أيها الرسول قل لأمتك { إذا طلقتم النساء } أي : إذا أردتم تطليقهن ، كقوله عز وجل : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله }( النحل- 98 ) أي : إذا أردت القراءة . { فطلقوهن لعدتهن } أي لطهرهن بالذي يحصينه من عدتهن . وكان ابن عباس وابن عمر يقرآن : فطلقوهن في قبل عدتهن . نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر كان قد طلق امرأته في حال الحيض .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر " أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : يا عمر مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " . ورواه سالم عن ابن عمر قال : " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً " . ورواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر ، ولم يقولا : ثم تحيض ثم تطهر .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا مسلم وسعيد بن سالم ، عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه " سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل عبد الله بن عمر -وأبو الزبير يسمع- فقال : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً ؟ فقال ابن عمر : طلق عبد الله بن عمر امرأته حائضاً ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك " قال ابن عمر : وقال الله عز وجل : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن } في قبل لعدتهن ، أو لقبل عدتهن ، الشافعي يشك . ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج ، وقال : قال ابن عمر : وقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن . { فصل } اعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس ، وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه بدعة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " وإن شاء طلق قبل أن يمس " . والطلاق السني : أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه . وهذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء . فأما إذا طلق غير المدخول بها في حال الحيض ، أو طلق الصغيرة التي لم تحض قط ، والآيسة بعدما جامعها ، أو طلق الحامل بعد ما جامعها ، أو في حال رؤية الدم ، لا يكون بدعياً . ولا سنة ولا بدعة في طلاق هؤلاء ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً " . والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه لا يكون بدعياً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها ، ولولا جوازه في جميع الأحوال لأشبه أن يتعرف الحال . ولو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصداً يعصي الله تعالى ، ولكن يقع الطلاق لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بالمراجعة ولولا وقوع الطلاق لكان لا يأمره بالمراجعة ، وإذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس ، كما رواه يونس بن جبير وأنس عن سيرين عن ابن عمر . وما رواه نافع : " ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر " . فاستحباب ، استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا يكون مراجعته إياها للطلاق ، كما يكره النكاح للطلاق . ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث ، عند بعض أهل العلم ، حتى لو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثاً لا يكون بدعياً ، وهو قول الشافعي وأحمد . وذهب بعضهم إلى أنه بدعة ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي . قوله عز وجل : { وأحصوا العدة } أي عدد أقرائها ، احفظوها ، قيل : أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً . وقيل : للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى . { واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن } أراد به إذا كان المسكن الذي طلقها فيه للزوج لا يجوز له أن يخرجها منه ، { ولا يخرجن } ولا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض العدة فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت ، فإن وقعت ضرورة -وإن خافت هدماً أو غرقاً- لها أن تخرج إلى منزل آخر ، وكذلك إن كان لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن فيجوز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً فإن رجالاً استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم : نستوحش في بيوتنا ، فأذن لهن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن ، فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها ، وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لخالة جابر حين طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها . وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد في أهلها ذاهبة وجائية ، والبدوية تتبوأ حيث يتبوأ أهلها في العدة ، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم . قوله : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال ابن عباس : الفاحشة المبينة : أن تبذأ على أهل زوجها ، فيحل إخراجها . وقال جماعة : أراد بالفاحشة : أن تزني ، فتخرج لإقامة الحد عليها ، ثم ترد إلى منزلها ، يروى ذلك عن ابن مسعود . وقال قتادة : معناه إلا أن يطلقها على نشوزها ، فلها أن تتحول من بيت زوجها والفاحشة : النشوز . وقال ابن عمر ، والسدي : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة . { وتلك حدود الله } يعني : ما ذكر من سنة الطلاق وما بعدها ، { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة والطلقتين . وهذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات ، ولا يوقع الثلاث دفعة واحدة ، حتى إذا ندم أمكنته المراجعة .
{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } هذا خطاب للنبي ص والمؤمنون داخلون معه في الخطاب ومعنى قوله { إذا طلقتم } اذا أردتم طلاق النساء { فطلقوهن لعدتهن } أي لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن وهذا سنة الطلاق ولا تطلقوهن لحيضتهن التي لا يعتدون بها من زمان العدة { وأحصوا العدة } أي عدد أقرائها واحفظوها لتعلموا وقت الرجعة ان أردتم أن تراجعوهن وذلك أن الرجعة انما تجوز في زمان العدة { واتقوا الله ربكم } وأطيعوه فيما يأمركم وينهاكم { لا تخرجوهن من بيوتهن } حتى تنقضي عدتهن { ولا يخرجن } من البيوت في زمان العدة { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وهي الزنا فيخرجن حينئذ لاقامة الحد عليهن { وتلك حدود الله } يعني ما ذكر من طلاق السنة { ومن يتعد حدود الله }
ما حد الله له من الطلاق وغيره { فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } بعد الطلاق مراجعة وهذا يدل على كراهية التطليق ثلاثا بمرة واحدة لأن احداث الرجعة لا يكون بعد الثلاث
سورة الطلاق{[1]} وتسمى النساء القصرى
مقصودها تقدير حسن التدبير في المفارقة والمهاجرة بتهذيب الأخلاق ، بالتقوى لا سيما [ في الإنفاق ، لاسيما{[2]}- ] إن كان ذلك عند الشقاق ، لا سيما إن كان في أمر النساء لا سيما عند الطلاق ، ليكون الفراق على نحو التواصل والتلاق ، [ واسمها{[3]}- ] الطلاق أجمع ما يكون لذلك ، فلذا سميت به ، وكذا سورة النساء لأن العدل في الفراق بعض مطلق العدل الذي هو محط مقصود سورة النساء ( بسم الله ) الذي له جميع صفات الكمال ( الرحمان ) الذي عم برحمته النوال ( الرحيم ) الذي خص بالرحمة{[4]} ذوي الهمم العوال .
لما ختمت التغابن بأنه تعالى شكور حليم عزيز حكيم مع تمام العلم وشمول القدرة ، بعد التحذير من النساء بالعداوة ، وكانت العداوة تجر إلى الفراق ، افتتح هذه بزم الأنفس عند ثوران الحظوظ بزمام التقوى ، وأعلى الخطاب جداً بتوجيهه إلى أعلى الخلق تنبيهاً على{[65928]} عظمة الأحكام الواردة في هذه السورة{[65929]} فإنها مبنية على الأسماء الأربعة لتتلقى{[65930]} بغاية الرغبة فقال : { يا أيها النبي } مخصصاً له صلى الله عليه وسلم ، ذاكراً الوصف الذي هو سبب التلقي لغرائب العلوم ورغائب الحكم والفهوم .
ولما علم من الإقبال عليه صلى الله عليه وسلم عظمة الحكمة ، ومن التعبير {[65931]}في النداء{[65932]} بأداة التوسط التي لا تذكر في أمر مهم جداً أن الذي هو أقرب أهل الحضرة غير مقصود بها من كل وجه ، وأن القصد التنبيه لجلالة هذه الأحكام ، وبذل الجهد{[65933]} في تفهيمها والعمل بها ، فلذا أقبل{[65934]} على الأمة حين انتبهوا وألقوا أسماعهم ، فقال معبراً بأداة التحقق لأنه من أعظم مواضعها{[65935]} : { إذا طلقتم } وعلم من ذلك عموم الحكم له صلى الله عليه وسلم لكن لما كان للإنسان مع نسائه حالان أحدهما المشاححة ، كان غيره أولى بالخطاب فيه ، وثانيهما الجود والمصالحة بالحلم والعفو ، فكان هو صلى الله عليه وسلم أولى بذلك فجاءت له سورة التحريم { النساء } أي أردتم طلاق هذا النوع واحدة منه فأكثر { فطلقوهن } أي إن شئم مطلق طلاق ثلاثاً{[65936]} أو دونها ، وكلما قل{[65937]} كان أحب بدليل ما يأتي من لواحق الكلام من الإشارة إلى الرجعة { لعدتهن } أي في وقت أو عند استقبال العدة أي استقبال طهر يحسب منها ، وهو الطهر الذي لم يجامع فيه إن كانت مدخولاً بها ، ذلك معنى قراءة ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم " في قبل عدتهن " {[65938]} فهذا طلاق السنة وغيره طلاق البدعة ، فإن الطلاق في الحيض تطويل للعدة لأنه غير محسوب ، ولا بد أن يكون الطهر لم يجامع فيه{[65939]} لأنها إذا جومعت ربما حملت فطالت العدة ، وهذه اللام للوقت مثلها{[65940]} في " كتب هذا لخمس بقين من شهر كذا " واختير التعبير بها لأنها تفهم مع ذلك أن ما دخلت عليه كالعلة الحاملة على متعلقها ، فصار كأنه قيل{[65941]} : طلقوا لأجل العدة وإذا{[65942]} كان لأجلها علم أن المراد تخفيفها على المرأة بحسب الطاقة لأن مبنى الدين على اليسر ، وذلك دال على أن العدة بالأسهار ، وأن الطلاق في الحيض حرام لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، ولا يدل على عدم الوقوع لأن النهي غير مستلزم للفساد ، وقد بين ذلك كله " حديث ابن عمر رضي الله عنهما في طلاقه زوجته في الحيض الذي كان سبب النزول ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأمره {[65943]}أن يراجعها{[65944]} ثم يمسكها حتى تطهر {[65945]}ثم إن{[65946]} شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس "
وعلم أن{[65947]} من عدتها بغير الأقراء التي يمكن{[65948]} طولها وقصرها وهي غير المدخول بها والتي لم تحض والآئسة والحامل لا سنة في طلاقها ولا بدعة ، وكذا للخالعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس رضي الله عنه في الخلع من غير استفصال عن حال امرأته لأنه إنما يكون في الغالب عن تشاجر وتساؤل من المرأة ، ويقع الطلاق البدعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر رضي الله عنهما بالمراجعة منه ، ويأثم به بعد العلم ، ولو طلق في الحيض وراجع جاز له أن يطلق حال انقضاء الحيض قبل المجامعة ، والأمر بالإمساك إلى كمال الطهر والحيض الذي بعده للندب حتى لا يكون في صورة من راجع للطلاق ، ولا بدعة في جمع الثلاثة لأنه لا إشارة إليه في الآية ولا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي هو سببها ، نعم قد يدعي ذلك في آية البقرة في قوله تعالى :
{ الطلاق مرتان }{[65949]}[ البقرة : 229 ] و " الطلاق أبغض الحلال إلى الله " كما رواه أبو داود{[65950]} وابن ماجه{[65951]} عن ابن عمر رضي الله عنهما فأبغضه إليه أنهاه " وما حلف به ولا استحلف إلا{[65952]} منافق " كما في الفردوس عن أنس رضي الله عنه .
ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديداً لما فيها من الحكم بالتأني لاحتمال الندم وبالظن لبراءة الرحم احتياطاً للأنساب وبقطع المنازعات والمشاجرات المفضية إلى ذهاب الأموال والارواح ، وقد أفهمه التعبير باللام ، صرح به بصيغة الأمر فقال : { وأحصوا } أي اضبطوا ضبطاً كأنه في إتقانه محسوس بعد الحصي { العدة } لتكملوها ثلاثة أقراء كما تقدم الأمر به ليعرف{[65953]} زمان النفقة والرجعة والسكنى وحل النكاح لأخت المطلقة مثلاً ونحو ذلك من الفوائد الجليلة . ولما كان الطلاق على غير هذا الوجه حراماً للضرار ومخالفة الأمر وكذا التهاون في الضبط حتى يحتمل أن تنكح المرأة قبل الانقضاء ، أمر بمجانبة ذلك كله بقوله : { واتقوا } أي في ذلك { الله } أي الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر لذاته في الزمن والإحصاء لأن في ذلك ما هو حقه { ربكم } أي لإحسانه في تربيتكم في حملكم على الحنيفية السمحة ودفع جميع الآصار عنكم .
ولما أمر بالتقوى وناط بعضها بصفة الإحسان فسره بقوله : { لا تخرجوهن } أي أيها الرجال في حال العدة { من بيوتهن } أي المساكن التي وقع وهي سكنهن ، وكأنه{[65954]} عبر بذلك إشارة {[65955]}إلى أن{[65956]} استحقاقها لإيفاء العدة به في العظمة كاستحقاق المالك ، ولأنها كانت في حال العصمة كأنها مالكة له ، فليس من المروءة إظهار الجفاء بمنعها منه ، ولأنها إن روجعت كانت حاصلة في الحوزة ولم يفحش الزوج في المقاطعة ، وإن لم يحصل ذلك فظهر أنها حامل لم تحصل شبهة في الحمل .
ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لحقهن فقط نفاه بقوله : { ولا يخرجن } أي بأنفسهن إن أردن ذلك من غير مخرج من جهة الزوج أو غيره ، فعلم من ذلك تحتم استكمال العدة في موضع السكنى وأن الإسكان على الزوج ، وتخرج لضرورة بيع الغزل وجذاذ النخل ونحوه . ولما كان منطوق{[65957]} ذلك أنه لا يجوز له{[65958]} إخراجها كارهة ، ولا يجوز لها أن تخرج بنفسها فقط وهو كاره فأفهم ذلك{[65959]} أنهما{[65960]} لو اتفقا جاز لأن ذلك خارج عن المنهي ، استثنى من كلا شقي المنهي عنه بقوله{[65961]} . { إلآ أن يأتين } أي جنس المطلقات الصادق بواحدة و{[65962]}أكثر { بفاحشة } أي خصلة محرمة شديدة القباحة { مبينة } أي ظاهرة{[65963]} في نفسها ظهوراً بيناً{[65964]} عند كل من أريد بيانها له ، وذلك كالبذاءة منها على الزوج أو{[65965]} أقاربه فإنه كالنشوز يسقط حقها من السكنى ، فيجوز له إخراجها لقطع الشر ، وهو معنى قراءة أبي رضي الله عنه{[65966]} : إلا أن يفحشن عليكم ، وكالزنا فتخرج بنفسها ويخرجها غيرها من الزوج وغيره لإقامة الحد عليها وغير ذلك من الفواحش {[65967]}كما أنه{[65968]} يطلقها للنشوز فإنه لا سكنى لها حينئذ .
ولما كان التقدير : هذه{[65969]} أحكام هذا الفرع ، عطف عليه تعظيماً لها {[65970]}قوله تعالى{[65971]} : { وتلك } أي الأحكام العالية جداً بما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيره { حدود الله } أي الملك الأعظم الذي هو{[65972]} نور السماوات والأرض . ولما كان التقدير : فمن تحاماها فقد أنصف نفسه بأخذه النور المبين ، عطف عليه قوله : { ومن يتعد } أي يقع منه في وقت من الأوقات أنه يتعمد{[65973]} أن يعدو { حدود الله } أي الملك الأعظم { فقد ظلم نفسه } بأن مشاها في الظلام فصارت تضع الأشياء في غير مواضعها ، فصار بمعرض الهلاك بالعقاب كما أن الماشي في الظلام معرض للوقوع في حفرة والدوس{[65974]} على شوكة أو حية أو عقرب أو سبع ، أو لأن ينفرد بقاطع ، أو أن يضل عن الطريق إلى مهالك لا يمكن النجاة منها ، ومثال ذلك الحكيم إذا وصف دواء بقانون معلوم في وقت محدود ومكان مخصوص فخولف لم يضر المخالف ذلك الحكيم وإنما ضر نفسه .
ولما كان له {[65975]}الخلق جميعاً{[65976]} تحت أوامره سبحانه مع أنها كلها خير لا شر فيه{[65977]} بوجه إسرار وإغوار ، لا تدرك ولا تحصى ، وقد يظهر{[65978]} بعضها لسان الحدثان بيد القدرة ، وكان متعديها ظالماً{[65979]} وكان من أقرب ظلمه وأبينه الإيقاع في مهاوي العشق ، فسره سبحانه بقوله مبيناً عظمته بخطاب الإعلاء : { لا تدري } أي يا أيها النبي الكريم ما يكون عن ذلك من الأمور التي يحدثها الله لتشير على المطلق بشيء مما يصلحه فغيرك من باب الأولى .
ولما نفى عنه {[65980]}العلم المغيب{[65981]} لاختصاصه سبحانه به وحذف المتعلق إعراقاً في التعميم ، وكان كل أحد فيما يحدث له من الأمور ما بين رجاء وإشفاق ، عبر عن ذلك بأداة صالحة لها{[65982]} فقال : { لعل الله } أي الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور { يحدث } أي يوجد شيئاً حادثاً لم يكن إيجاداً ثابتاً لا يقدر الخلق على التسبب{[65983]} في زواله فيكون مستغرقاً لزمان العمر كما أشار إليه نزع الخافض{[65984]} في قوله تعالى : { بعد ذلك } أي الحادث من الإشارة بالضرار بالإخراج أو تطويل العدة أو غير ذلك { أمراً * } أي من الأمور المهمة{[65985]} كالرغبة المفرطة في الزوجة فلا يتأتى ذلك إما بأن كان الضرار بالطلاق الثلاث أو بأن{[65986]} كانت من ذوي الأنفة فأثرت فيها الإساءة وفيمن ينتصر لها فمنعت نفسها منه .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تقدم قوله{ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله }[ المنافقين : 9 ] وقوله في التغابن :{ إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم }[ التغابن : 14 ] وقوله تعالى{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة }[ التغابن : 15 ] والمؤمن قد يعرض له ما يضطره إلى فراق من نبه{[65987]} على فتنته وعظيم محنته ، وردت هذه السورة منبهة على كيفية الحكم في هذا الافتراق ، وموضحة أحكام الطلاق ، وأن هذه العداوة{[65988]} وإن استحكمت ونار هذه الفتنة ، إن اضطرمت{[65989]} لا توجب التبرؤ بالجملة{[65990]} وقطع المعروف { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] ووصى سبحانه بالإحسان المجمل في قوله :{ أو تسريح بإحسان }[ البقرة : 229 ] وبين تفصيل ذلك وما يتعلق به ، فهذا الرفق المطلوب بإيقاع الطلاق في أول ما تستعده{[65991]} المطلقة في عدتها وتحسبه من مدتها تحذيراً من إيقاع{[65992]} الطلاق في الحيض الموجب تطويل{[65993]} العدة وتكثير المدة ، وأكد هذا سبحانه بقوله { واتقوا الله ربكم } [ الطلاق : 1 ] ثم نبه سبحانه على حقهن أيام العدة من الإبقاء في مستقرهن حين إيقاع الطلاق إلى انقضاء العدة فقال : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] إلى ما استمرت عليه السورة من بيان الأحكام المتعلقة بالطلاق وتفصيل ذلك كله . ولما كان الأولاد إذا ظهر منهم ما يوجب فراقهم وإبعادهم غير مفترقين{[65994]} إلى ما سوى الرفض والترك بخلاف المرأة ، لم يحتج إلى ما احتيج إليه{[65995]} في حقهن فقد وضح وجه ورود سورة الطلاق في هذا الموضع - والله سبحانه وتعالى{[65996]} أعلم انتهى{[65997]} .