{ يأيها النبي } خص صلى الله عليه وسلم بالنداء ، وعم الخطاب بالحكم لكونه إمام أمته ؛ إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه فكان هو وحده في حكمهم كلهم ؛ كما يقال لرئيس القوم : يا فلان ، افعلوا كيت وكيت . أو المعنى : قل للمؤمنين{ إذا طلقتم النساء } أي أردتم تطليق نسائكم المدخول بهن من المعتدات بالحيض{ فطلقوهن لعدتهن } أي مستقبلات لعدتهن . والمراد : أن يطلقن في طهر لم يجامعهن فيه ، ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن ؛ وهذا أحسن الطلاق . وفي الآية نهى عن الطلاق في الحيض ، وهو طلاق بدعي محرم . وتفصيل أحكام الطلاق في الفقه . وقد اشتملت هذه السورة على الطلاق المسنون ، وعلى حرمة الإخراج والخروج من مسكن العدة ، وعلى الأدب الشرعي في الإمساك والفراق ، وعلة ندب الإشهاد على الرجعة والطلاق ، وعلى عدة الآيسة والصغيرة التي لم تحض وعدة الحامل ، وعلى وجوب إسكان المعتدة والإنفاق على المعتدة بالحمل ، وعلى حكم أجرة الرضاع . { وأحصوا العدة } اضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل . { لا تخرجوهن من بيوتهن } إلى أن تنقضي عدتهن{ ولا يخرجن } بأنفسهن . { إلا أن يأتين بفاحشة } أي بأمر ظاهر القبح ، وهو ما يوجب حدا ، كالزنا أو السرقة فتخرجوهن لإقامة الحد عليهم . وقيل : هو البذاء على الزوج أو على الأحماء . وقيل : هو النشوز فتخرجوهن من البيت لذلك ؛ فهو استثناء من قوله : " لا تخرجوهن " .
سورة الطلاق مدنية وآياتها اثنتا عشرة ، نزلت بعد سورة الإنسان . وفي هذه السورة الكريمة تفصيل عن الطلاق ووقته وأحكامه ، وشرح حالات لم تذكر في سورة البقرة التي تضمنت بعض أحكام الطلاق ، وبيّنت الوقت الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق الذي يقبله الله ويجري وفق سنته . ثم فصّلت حق المطلقة وواجبها في البقاء في بيتها مدة العدة ، لا تُخرج منه إلا إذا عملت عملا لا يليق بها وأتت ذنبا عظيما ، أو أطالت لسانها على أقارب زوجها ، أو أنها ذهبت إلى بيت من بيوت أقاربها تكمل العدة فيه .
وطلاق السنة أن تطلق المرأة وهي طاهرة من الحيض ، أو حاملا حملا بيّنا ، فإذا طلقها زوجها وهي حائض ، أو لامسها وهو لا يدري أنها حامل أم لا ،
وهناك طلاق ليس بسنة ولا بدعة ، وهو : طلاق الصغيرة ، والتي كبرت وأيست من الحيض ، والتي لم يدخل بها . ثم فصّل عدة المطلقات بحسب حالاتهن .
ومتى انقضت عدة المرأة بات لها الحق في الخروج من بيتها ، وأن تتزوج من تشاء{ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ، وأشهدوا ذوي عدل منكم } .
ثم حثت السورة على الاعتناء بالمعتدات بأن يسكنّ مع أزواجهن ، وأن يعاملن معاملة حسنة لا تضرهن . وإذا كانت المطلقة حاملا فيجب الإنفاق عليها حتى تضع حملها ، فإذا وضعت وأرضعت الصغير فيجب أن تُعطى أجورها . . والله تعالى يوصينا أن نتعامل بالمعروف ما استطعنا ، وأن ينفق الإنسان حسب قدرته{ لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا } .
ثم بعد ذلك يذكر شيئا من أخبار الأمم الماضية وكيف عذب المكذبين منهم ، ليحذرنا أن لا نكون مثلهم ، وأن الله أنزل إلينا كتابا عظيما ، مع رسول كريم يتلوه علينا ليخرجنا من الظلمات إلى النور ، فلمن يؤمن به جزاء عظيم ، جنات تجري من تحتها الأنهار ، وهذه نعمة كبرى . . فاعملوا أيها المؤمنون لتنالوا رضا ربكم الذي خلق هذا الكون العجيب وأحاط بكل شيء علما .
إذا طلقتم النساء : إذا أردتم أن تطلقوا النساء ، وهذا التعبير جاء في القرآن مثل قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] يعني إذا أردت أن تقرأ القرآن .
فطلقوهن لعدتهن : يعني طلقوهن بعد طُهرٍ من الحيض دون أن تمسّوهن حتى
لا تطول عليهن العدة ، والعدة هي الزمان الذي يجب على المرأة أن تبقى فيه دون أن تتزوج .
وأحصوا العدة : اضبطوها ، حتى يتبين أن المرأة ليست حاملا .
فاحشة مبينة : معصية ظاهرة ، مثل الزنا أو السرقة أو أن تطيل لسانها على أقارب زوجها وغير ذلك .
وجّه الله تعالى الخطاب إلى النبيّ الكريم ليُفهِم المؤمنين جميعا ، أن يتقيدوا بأحكام الشريعة ، فإذا أراد أحد أن يطلّق زوجته فإن عليه أن يراعي وقتَ طُهرها من الحيض فيطلّقها وهي طاهرة حتى لا تطول عليها مدة العدة . ثم أكد ذلك بقوله تعالى : { وَأَحْصُواْ العدة } اعرفوا ابتداءها وانتهاءها . { واتقوا الله رَبَّكُمْ } بمحافظتكم على أوامره ، لأنها لمصلحتكم .
ثم بين لنا أشياء يجب أن نتّبعها محافظةً على تماسك الأسرة ودوام حياتها فقال : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } يعني أن المطلقة تبقى في بيتها حتى تنقضيَ العدة . وهناك حكمة بالغة في إبقاء المطلقة في بيتها ، وهي : عسى أن يراجعَ الزوج رأيَه ، ويعاودَ أمره ، فيراجعَ زوجته وتعود الحياة إلى مجراها الطبيعي . وفي ذلك مصلحة كبرى للطرفين .
{ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ }
ولا يجوز أن تخرج المطلقة من بيتها إلا إذا انتهت العِدة ، فلا تأذنوا لهنّ بالخروج إذا طلبن ذلك ، ولا يخرجن بأنفسِهن إن أردْن ، ولكنه استثنى من لزوم البقاء في بيوت الزوجية إذا دعت الضرورة لذلك كأن فعلتْ ما يوجِب حدّاً كالزنا أو السرقة أو أطالت اللسان على الأحماء ومن في البيت من سوءِ خلقها ، فيحل عند ذلك إخراجها من البيت .
ثم بين الله تعالى عاقبة تجاوز حدود الله فقال :
هذه التي بينها لكم من الطلاق للعدة وإحصائها وما يترتب على ذلك .
{ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } بعدم تمسّكه بأوامر الله وشرعه .
ثم لمّح إلى حكمة بقائها في البيت فقال :
{ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } .
أنتَ لا تعلم أيها المرء ماذا يحصل ، ولا تعلم أن الله يقلّب القلوب ، فيجعل في قلبك محبةً لها ، فتندم على طلاقها وفراقها ، ولعلك تراجعها وتعود المياه إلى مجاريها .
روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله عَنْهُمْ « أنه طلق امرأته وهي حائض ، فذكر ذلك عمرُ لرسول الله ، فتغيّظ منه ثم قال : لِيراجعْها ثم يمسكْها حتى تطهُر ثم تحيض ثم تطهر ، فإن بدا له أن يطلّقها فليطلقها قبل أن يمسّها ، فتلك العِدةُ التي أمَرَ اللهُ أن تطلَّق لها النساء .
والشريعة الإسلامية ، وإن أباحت الطلاق ، قد بغّضت فيه وقبّحته وبينت أنه ضرورة لا يُلجا إليها إلا بعد استنفاد جميع الوسائل لبقاءِ رباط الزوجية الذي
هو أوثق رباط ، والذي حبّبتْ فيه وجعلته من أجلّ النعم ، وسماه الله تعالى : { مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 21 ] والأحاديثُ كثيرة على التحذير من الطلاق والبعد عنه
{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } هذا خطاب للنبي ص والمؤمنون داخلون معه في الخطاب ومعنى قوله { إذا طلقتم } اذا أردتم طلاق النساء { فطلقوهن لعدتهن } أي لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن وهذا سنة الطلاق ولا تطلقوهن لحيضتهن التي لا يعتدون بها من زمان العدة { وأحصوا العدة } أي عدد أقرائها واحفظوها لتعلموا وقت الرجعة ان أردتم أن تراجعوهن وذلك أن الرجعة انما تجوز في زمان العدة { واتقوا الله ربكم } وأطيعوه فيما يأمركم وينهاكم { لا تخرجوهن من بيوتهن } حتى تنقضي عدتهن { ولا يخرجن } من البيوت في زمان العدة { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وهي الزنا فيخرجن حينئذ لاقامة الحد عليهن { وتلك حدود الله } يعني ما ذكر من طلاق السنة { ومن يتعد حدود الله }
ما حد الله له من الطلاق وغيره { فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } بعد الطلاق مراجعة وهذا يدل على كراهية التطليق ثلاثا بمرة واحدة لأن احداث الرجعة لا يكون بعد الثلاث
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء{[15062]} " الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، خوطب بلفظ الجماعة تعظيما وتفخيما . وفي سنن ابن ماجه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها . وروى قتادة عن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها ، فأنزل الله تعالى عليه : " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " . وقيل له : راجعها فإنها قوامة صوامة ، وهي من أزواجك في الجنة . ذكره الماوردي والقشيري والثعلبي . زاد القشيري : ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى : " لا تخرجوهن من بيوتهن " . وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة ، لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة ، فنزلت الآية . وقال السدي : نزلت في عبدالله بن عمر ، طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر ، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها . فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء . وقد قيل : أن رجالا فعلوا مثل ما فعل عبدالله بن عمر ، منهم عبدالله بن عمرو بن العاص ، وعمرو بن سعد بن العاص ، وعتبة بن غزوان ، فنزلت الآية فيهم . قال ابن العربي : وهذا كله وإن لم يكن صحيحا فالقول الأول أمثل . والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ . وقد قيل : إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته . وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب وذلك لغة فصيحة ، كما قال : " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة{[15063]} " [ يونس : 22 ] . تقديره : يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن . وهذا هو قولهم : إن الخطاب له وحده والمعنى له وللمؤمنين . وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقول : " يا أيها النبي " . فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال : " يا أيها الرسول " .
قلت : ويدل على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية . ففي كتاب أبي داود عنها أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله تعالى حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق ، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق . وقيل : المراد به نداء النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما ، ثم ابتدأ فقال : " إذا طلقتم النساء " ، كقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام " [ المائدة : 90 ] الآية{[15064]} . فذكر المؤمنين على معنى تقديمهم وتكريمهم ، ثم افتتح فقال : " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام " الآية .
الثانية- روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق ) . وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش ) . وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات ) . وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق ) . أسند جميعه الثعلبي رحمه الله في كتابه . وروى الدارقطني قال : حدثنا أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله شيئا على وجه الأرض{[15065]} أبغض من الطلاق . فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استثناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه ) . حدثنا محمد بن موسى بن علي قال : حدثنا حميد بن الربيع قال حدثنا يزيد بن هارون حدثنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه . قال حميد : قال لي يزيد بن هارون : وأي حديث لو كان حميد بن مالك معروفا ؟ قلت : هو جدي . قال يزيد : سررتني سررتني ! الآن صار حديثا . حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سنين حدثنا عمر بن إبراهيم بن خالد حدثنا حميد بن مالك اللخمي حدثنا مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق فمن طلق واستثنى فله ثُنْياه ) . قال ابن المنذر : اختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق ، فقالت طائفة : ذلك جائز . وروينا هذا القول عن طاوس . وبه قال حماد الكوفي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي . ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي . وهذا قول قتادة في الطلاق خاصة . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول .
الثالثة- روى الدارقطني من حديث عبدالرزاق أخبرني عمي وهب بن نافع قال سمعت عكرمة يحدث عن ابن عباس يقول : الطلاق على أربعة وجوه : وجهان حلالان ووجهان حرامان ، فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا عن غير جماع وأن أطلقها حاملا مستبينا حملها . وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض ، أو يطلقها حين يجامعها ، لا تدري اشتمل الرحم على ولد أم لا .
الرابعة- قوله تعالى : " فطلقوهن لعدتهن " في كتاب أبي داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله سبحانه حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق ، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق . وقد تقدم .
الخامسة- قوله تعالى : " لعدتهن " يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن من الأزواج ؛ لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها{[15066]} " [ الأحزاب : 49 ] .
السادسة- من طلق في طهر لم يجامع فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة . وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة . وقال سعيد بن المسيب في أخرى{[15067]} : لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة . وإليه ذهبت الشيعة . وفي الصحيحين - واللفظ للدارقطني - عن عبدالله بن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله ) . وكان عبدالله بن عمر طلقها تطليقة ، فحسبت من طلاقها وراجعها عبدالله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم . في رواية عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( هي واحدة ) . وهذا نص . وهو يرد على الشيعة قولهم .
السابعة- عن عبدالله بن مسعود قال : طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة ، فإذا كان آخر ذلك فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها . رواه الدارقطني عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله . قال علماؤنا : طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة : وهو أن يطلقها واحدة ، وهي ممن تحيض ، طاهرا ، لم يمسها في ذلك الطهر ، ولا تقدمه طلاق في حيض ، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه ، وخلا عن العوض . وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم . وقال الشافعي : طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة ، ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يكن بدعة . وقال أبو حنيفة : طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة . وقال الشعبي : يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه . فعلماؤنا قالوا : يطلقها واحدة في طهر لم يمس فيه ، ولا تبعه طلاق في عدة ، ولا يكون الظهر تاليا لحيض وقع فيه الطلاق ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق . فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ) . وتعلق الإمام الشافعي بظاهر قوله تعالى : " فطلقوهن لعدتهن " وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو اثنتين أو أكثر . وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد . وكذلك حديث ابن عمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الوقت لا العدد . قال ابن العربي : " وهذه غفلة عن الحديث الصحيح ، فإنه قال : ( مره فليراجعها ) وهذا يدفع الثلاث . وفي الحديث أنه قال : أرأيت لو طلقها ثلاثا ؟ قال حرمت عليك وبانت منك بمعصية . وقال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء . وهو مذهب الشافعي لولا قوله بعد ذلك : " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " . وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية . وكذلك قال أكثر العلماء ، وهو بديع لهم . وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا ، ولكن الحديث فسرها كما قلنا . وأما قول الشعبي : إنه يجوز طلاق في طهر جامعها فيه ، فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه . أما نصه فقد قدمناه ، وأما معناه فلأنه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به ، فالطهر المجامع فيه أولى بالمنع ؛ لأنه يسقط الاعتداد به مخافة شغل الرحم وبالحيض التالي له .
قلت : وقد احتج الشافعي في طلاق الثلاث بكلمة واحدة بما رواه الدارقطني عن سلمة بن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه أن عبدالرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ، فلم يبلغنا أن أحدا من أصحابه عاب ذلك . قال : وحدثنا سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول اله صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات في كلمة ، فأبانها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاب ذلك عليه . واحتج أيضا بحديث عويمر العجلاني لما لاعن قال : يا رسول الله ، هي طالق ثلاث . فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم . وقد انفصل علماؤنا عن هذا أحسن انفصال . بيانه في غير هذا الموضع . وقد ذكرناه في كتاب ( المقتبس من شرح موطأ مالك بن أنس ) . وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع ، فشبهوه بمن وكل بطلاق السنة فخالف{[15068]} .
الثامنة- قال الجرجاني : اللام في قوله تعالى : " لعدتهن " بمعنى في ، كقوله تعالى : " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر{[15069]} " [ الحشر : 2 ] . أي في أول الحشر . فقوله : " لعدتهن " أي في عدتهن ، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن . وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع وفي الطهر مأذون فيه . ففيه دليل على أن القرء هو الطهر . وقد مضى القول فيه في " البقرة{[15070]} " فإن قيل : معنى " فطلقوهن لعدتهن " أي في قبل{[15071]} عدتهن ، أو لقبل عدتهن . وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال ابن عمر في صحيح مسلم وغيره . فقيل العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحيض{[15072]} ، قيل له : هذا هو الدليل الواضح لمالك ومن قال بقوله ، على أن الأقراء هي الأطهار . ولو كان كما قال الحنفي ومن تبعه لوجب أن يقال : إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقا لقبل الحيض ؛ لأن الحيض لم يقبل بعد . وأيضا إقبال الحيض يكون بدخول الحيض ، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض . ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطرا قبل مغيب الشمس ؛ إذ الليل يكون مقبلا في إدبار النهار قبل انقضاء النهار . ثم إذا طلق في آخر الطهر فبقية الطهر قرء ، ولأن بعض القرء يسمى قرءا لقوله تعالى : " الحج أشهر معلومات " [ البقرة : 197 ] يعني شوالا وذا القعدة وبعض ذي الحجة ؛ لقوله تعالى : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " [ البقرة : 203 ] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني . وقد مضى هذا كله في " البقرة " مستوفى{[15073]} .
التاسعة- قوله تعالى : " وأحصوا العدة " يعني في المدخول بها ؛ لأن غير المدخول بها لا عدة عليها ، وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة ، ويكون بعدها كأحد الخطاب . ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج .
العاشرة- قوله تعالى : " وأحصوا العدة " معناه احفظوها ، أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق ، حتى إذا انفصل المشروط منه وهو الثلاثة قروء في قوله تعالى : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " [ البقرة : 228 ] حلت للأزواج . وهذا يدل على أن العدة هي الأطهار وليست بالحيض . ويؤكده ويفسره قراءة النبي صلى الله عليه وسلم " لقبل عدتهن " وقبل الشيء بعضه لغة وحقيقة ، بخلاف استقباله فإنه يكون غيره .
الحادية عشرة- من المخاطب بأمر الإحصاء ؟ وفيه ثلاث أقوال : أحدها : أنهم الأزواج . الثاني : أنهم الزوجات . الثالث : أنهم المسلمون . ابن العربي : " والصحيح أن المخاطب بهذا اللفظ الأزواج ؛ لأن الضمائر كلها من " طلقتم " و " أحصوا " و " لا تخرجوا " على نظام واحد يرجع إلى الأزواج ، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق بالزوج ؛ لأن الزوج يحصي ليراجع ، وينفق أو يقطع ، وليسكن أو يخرج وليلحق نسبه أو يقطع . وهذه كلها أمور مشتركة بينه وبين المرأة ، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك . وكذلك الحاكم يفتقر إلى الإحصاء للعدة للفتوى عليها ، وفصل الخصومة عند المنازعة فيها . وهذه فوائد الإحصاء المأمور به " .
الثانية عشرة- قوله تعالى : " واتقوا الله ربكم " أي لا تعصوه . " لا تخرجوهن من بيوتهن " أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة ، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة . والرجعية والمبتوتة في هذا سواء . وهذا لصيانة ماء الرجل . وهذا معنى إضافة البيوت إليهن ، كقوله تعالى : " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة{[15074]} " [ الأحزاب : 34 ] ، وقوله تعالى : " وقرن في بيوتكن{[15075]} " [ الأحزاب : 33 ] فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك . وقوله : " لا تخرجوهن " يقتضي أن يكون حقا في الأزواج . ويقتضي قوله : " ولا يخرجن " أنه حق على الزوجات . وفي صحيح الحديث عن جابر بن عبدالله قال : طلقت خالتي فأرادت أن تجد{[15076]} نخلها فزجرها رجل أن تخرج ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( بلى فجُدّي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا ) . خرجه مسلم . ففي هدا الحديث دليل لمالك والشافعي وابن حنبل والليث على قولهم : أن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها ، وإنما تلزم منزلها بالليل . وسواء عند مالك كانت رجعية أو بائنة . وقال الشافعي في الرجعية : لا تخرج ليلا ولا نهارا ، وإنما تخرج نهارا المبتوتة . وقال أبو حنيفة : ذلك في المتوفي عنها زوجها ، وأما المطلقة فلا تخرج لا ليلا ولا نهارا . والحديث يرد عليه .
وفي الصحيحين أن أبا حفص{[15077]} بن عمرو خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن ، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطلقة كانت بقيت من طلاقها ، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة ، فقالا لها : والله مالك من نفقة إلا أن تكوني حاملا . فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له قولهما . فقال : ( لا نفقة لك ) ، فاستأذنته في الانتقال فأذن لها ، فقالت : أين يا رسول الله ؟ فقال : ( إلى ابن أم مكتوم ) ، وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها . فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد . فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث ، فحدثته . فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة ، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها . فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : فبيني وبينكم القرآن ، قال الله عز وجل : " لا تخرجوهن من بيوتهن " الآية ، قالت : هذا لمن كانت له رجعة ، فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ فكيف تقولون : لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا ، فعلام تحبسونها ؟ لفظ مسلم . فبين أن الآية في تحريم الإخراج والخروج إنما هو في الرجعية . وكذلك استدلت فاطمة بأن الآية التي تليها إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية ؛ لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدتها ، فكأنها تحت تصرف الزوج في كل وقت . وأما البائن فليس له شيء من ذلك ، فيجوز لها أن تخرج إذا دعتها إلى ذلك حاجة ، أو خافت عورة منزلها ، كما أباح لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك . وفي مسلم - قالت فاطمة يا رسول الله ، زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم علي . قال : فأمرها فتحولت .
وفي البخاري عن عائشة أنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها ؛ فلذلك أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها . وهذا كله يرد على الكوفي قول . وفي حديث فاطمة : أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت من طلاقها ، فهو حجة لمالك وحجة على الشافعي . وهو أصح من حديث سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاث تطليقات في كلمة ، على ما تقدم .
الثالثة عشرة- قوله تعالى : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " قال ابن عباس وابن عمر والحسن والشعبي ومجاهد : هو الزنى ، فتخرج ويقام عليها الحد . وعن ابن عباس أيضا والشافعي : أنه البذاء على أحمائها ، فيحل لهم إخراجها . وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة : تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها عليه السلام أن تنتقل . وفي كتاب أبي داود قال سعيد : تلك امرأة فتنت{[15078]} الناس ، إنها كانت لَسِنَة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى . قال عكرمة : في مصحف أبي " إلا أن يفحشن عليكم " . ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : اتقي الله فإنك تعلمين لم أخرجت ؟ وعن ابن عباس أيضا : الفاحشة كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل . وهو اختيار الطبري . وعن ابن عمر أيضا والسدي : الفاحشة خروجها من بيتها في العدة . وتقدير الآية : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق ، أي لو خرجت كانت عاصية . وقال قتادة : الفاحشة النشوز ، وذلك أن يطلقها على النشوز فتتحول عن بيته . قال ابن العربي : أما من قال إنه الخروج للزنى ، فلا وجه له ؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام ، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام . وأما من قال : إنه البذاء ، فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس . وأما من قال : إنه كل معصية فوهم ؛ لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج . وأما من قال : إنه الخروج بغير حق ، فهو صحيح . وتقدير الكلام : لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا .
الرابعة عشرة- قوله تعالى : " وتلك حدود الله " أي هذه الأحكام التي بينها أحكام الله على العباد ، وقد منع التجاوز عنها فمن تجاوز فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك . " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " الأمر الذي يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه ، فيراجعها . وقال جميع المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة . ومعنى القول : التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث ، فإنه إذا طلق أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع ، فلا يجد عند الرجعة سبيلا . وقال مقاتل : " بعد ذلك " أي بعد طلقة أو طلقتين " أمرا " أي المراجعة من غير خلاف .
سورة الطلاق{[1]} وتسمى النساء القصرى
مقصودها تقدير حسن التدبير في المفارقة والمهاجرة بتهذيب الأخلاق ، بالتقوى لا سيما [ في الإنفاق ، لاسيما{[2]}- ] إن كان ذلك عند الشقاق ، لا سيما إن كان في أمر النساء لا سيما عند الطلاق ، ليكون الفراق على نحو التواصل والتلاق ، [ واسمها{[3]}- ] الطلاق أجمع ما يكون لذلك ، فلذا سميت به ، وكذا سورة النساء لأن العدل في الفراق بعض مطلق العدل الذي هو محط مقصود سورة النساء ( بسم الله ) الذي له جميع صفات الكمال ( الرحمان ) الذي عم برحمته النوال ( الرحيم ) الذي خص بالرحمة{[4]} ذوي الهمم العوال .
لما ختمت التغابن بأنه تعالى شكور حليم عزيز حكيم مع تمام العلم وشمول القدرة ، بعد التحذير من النساء بالعداوة ، وكانت العداوة تجر إلى الفراق ، افتتح هذه بزم الأنفس عند ثوران الحظوظ بزمام التقوى ، وأعلى الخطاب جداً بتوجيهه إلى أعلى الخلق تنبيهاً على{[65928]} عظمة الأحكام الواردة في هذه السورة{[65929]} فإنها مبنية على الأسماء الأربعة لتتلقى{[65930]} بغاية الرغبة فقال : { يا أيها النبي } مخصصاً له صلى الله عليه وسلم ، ذاكراً الوصف الذي هو سبب التلقي لغرائب العلوم ورغائب الحكم والفهوم .
ولما علم من الإقبال عليه صلى الله عليه وسلم عظمة الحكمة ، ومن التعبير {[65931]}في النداء{[65932]} بأداة التوسط التي لا تذكر في أمر مهم جداً أن الذي هو أقرب أهل الحضرة غير مقصود بها من كل وجه ، وأن القصد التنبيه لجلالة هذه الأحكام ، وبذل الجهد{[65933]} في تفهيمها والعمل بها ، فلذا أقبل{[65934]} على الأمة حين انتبهوا وألقوا أسماعهم ، فقال معبراً بأداة التحقق لأنه من أعظم مواضعها{[65935]} : { إذا طلقتم } وعلم من ذلك عموم الحكم له صلى الله عليه وسلم لكن لما كان للإنسان مع نسائه حالان أحدهما المشاححة ، كان غيره أولى بالخطاب فيه ، وثانيهما الجود والمصالحة بالحلم والعفو ، فكان هو صلى الله عليه وسلم أولى بذلك فجاءت له سورة التحريم { النساء } أي أردتم طلاق هذا النوع واحدة منه فأكثر { فطلقوهن } أي إن شئم مطلق طلاق ثلاثاً{[65936]} أو دونها ، وكلما قل{[65937]} كان أحب بدليل ما يأتي من لواحق الكلام من الإشارة إلى الرجعة { لعدتهن } أي في وقت أو عند استقبال العدة أي استقبال طهر يحسب منها ، وهو الطهر الذي لم يجامع فيه إن كانت مدخولاً بها ، ذلك معنى قراءة ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم " في قبل عدتهن " {[65938]} فهذا طلاق السنة وغيره طلاق البدعة ، فإن الطلاق في الحيض تطويل للعدة لأنه غير محسوب ، ولا بد أن يكون الطهر لم يجامع فيه{[65939]} لأنها إذا جومعت ربما حملت فطالت العدة ، وهذه اللام للوقت مثلها{[65940]} في " كتب هذا لخمس بقين من شهر كذا " واختير التعبير بها لأنها تفهم مع ذلك أن ما دخلت عليه كالعلة الحاملة على متعلقها ، فصار كأنه قيل{[65941]} : طلقوا لأجل العدة وإذا{[65942]} كان لأجلها علم أن المراد تخفيفها على المرأة بحسب الطاقة لأن مبنى الدين على اليسر ، وذلك دال على أن العدة بالأسهار ، وأن الطلاق في الحيض حرام لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، ولا يدل على عدم الوقوع لأن النهي غير مستلزم للفساد ، وقد بين ذلك كله " حديث ابن عمر رضي الله عنهما في طلاقه زوجته في الحيض الذي كان سبب النزول ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأمره {[65943]}أن يراجعها{[65944]} ثم يمسكها حتى تطهر {[65945]}ثم إن{[65946]} شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس "
وعلم أن{[65947]} من عدتها بغير الأقراء التي يمكن{[65948]} طولها وقصرها وهي غير المدخول بها والتي لم تحض والآئسة والحامل لا سنة في طلاقها ولا بدعة ، وكذا للخالعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس رضي الله عنه في الخلع من غير استفصال عن حال امرأته لأنه إنما يكون في الغالب عن تشاجر وتساؤل من المرأة ، ويقع الطلاق البدعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر رضي الله عنهما بالمراجعة منه ، ويأثم به بعد العلم ، ولو طلق في الحيض وراجع جاز له أن يطلق حال انقضاء الحيض قبل المجامعة ، والأمر بالإمساك إلى كمال الطهر والحيض الذي بعده للندب حتى لا يكون في صورة من راجع للطلاق ، ولا بدعة في جمع الثلاثة لأنه لا إشارة إليه في الآية ولا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي هو سببها ، نعم قد يدعي ذلك في آية البقرة في قوله تعالى :
{ الطلاق مرتان }{[65949]}[ البقرة : 229 ] و " الطلاق أبغض الحلال إلى الله " كما رواه أبو داود{[65950]} وابن ماجه{[65951]} عن ابن عمر رضي الله عنهما فأبغضه إليه أنهاه " وما حلف به ولا استحلف إلا{[65952]} منافق " كما في الفردوس عن أنس رضي الله عنه .
ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديداً لما فيها من الحكم بالتأني لاحتمال الندم وبالظن لبراءة الرحم احتياطاً للأنساب وبقطع المنازعات والمشاجرات المفضية إلى ذهاب الأموال والارواح ، وقد أفهمه التعبير باللام ، صرح به بصيغة الأمر فقال : { وأحصوا } أي اضبطوا ضبطاً كأنه في إتقانه محسوس بعد الحصي { العدة } لتكملوها ثلاثة أقراء كما تقدم الأمر به ليعرف{[65953]} زمان النفقة والرجعة والسكنى وحل النكاح لأخت المطلقة مثلاً ونحو ذلك من الفوائد الجليلة . ولما كان الطلاق على غير هذا الوجه حراماً للضرار ومخالفة الأمر وكذا التهاون في الضبط حتى يحتمل أن تنكح المرأة قبل الانقضاء ، أمر بمجانبة ذلك كله بقوله : { واتقوا } أي في ذلك { الله } أي الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر لذاته في الزمن والإحصاء لأن في ذلك ما هو حقه { ربكم } أي لإحسانه في تربيتكم في حملكم على الحنيفية السمحة ودفع جميع الآصار عنكم .
ولما أمر بالتقوى وناط بعضها بصفة الإحسان فسره بقوله : { لا تخرجوهن } أي أيها الرجال في حال العدة { من بيوتهن } أي المساكن التي وقع وهي سكنهن ، وكأنه{[65954]} عبر بذلك إشارة {[65955]}إلى أن{[65956]} استحقاقها لإيفاء العدة به في العظمة كاستحقاق المالك ، ولأنها كانت في حال العصمة كأنها مالكة له ، فليس من المروءة إظهار الجفاء بمنعها منه ، ولأنها إن روجعت كانت حاصلة في الحوزة ولم يفحش الزوج في المقاطعة ، وإن لم يحصل ذلك فظهر أنها حامل لم تحصل شبهة في الحمل .
ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لحقهن فقط نفاه بقوله : { ولا يخرجن } أي بأنفسهن إن أردن ذلك من غير مخرج من جهة الزوج أو غيره ، فعلم من ذلك تحتم استكمال العدة في موضع السكنى وأن الإسكان على الزوج ، وتخرج لضرورة بيع الغزل وجذاذ النخل ونحوه . ولما كان منطوق{[65957]} ذلك أنه لا يجوز له{[65958]} إخراجها كارهة ، ولا يجوز لها أن تخرج بنفسها فقط وهو كاره فأفهم ذلك{[65959]} أنهما{[65960]} لو اتفقا جاز لأن ذلك خارج عن المنهي ، استثنى من كلا شقي المنهي عنه بقوله{[65961]} . { إلآ أن يأتين } أي جنس المطلقات الصادق بواحدة و{[65962]}أكثر { بفاحشة } أي خصلة محرمة شديدة القباحة { مبينة } أي ظاهرة{[65963]} في نفسها ظهوراً بيناً{[65964]} عند كل من أريد بيانها له ، وذلك كالبذاءة منها على الزوج أو{[65965]} أقاربه فإنه كالنشوز يسقط حقها من السكنى ، فيجوز له إخراجها لقطع الشر ، وهو معنى قراءة أبي رضي الله عنه{[65966]} : إلا أن يفحشن عليكم ، وكالزنا فتخرج بنفسها ويخرجها غيرها من الزوج وغيره لإقامة الحد عليها وغير ذلك من الفواحش {[65967]}كما أنه{[65968]} يطلقها للنشوز فإنه لا سكنى لها حينئذ .
ولما كان التقدير : هذه{[65969]} أحكام هذا الفرع ، عطف عليه تعظيماً لها {[65970]}قوله تعالى{[65971]} : { وتلك } أي الأحكام العالية جداً بما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيره { حدود الله } أي الملك الأعظم الذي هو{[65972]} نور السماوات والأرض . ولما كان التقدير : فمن تحاماها فقد أنصف نفسه بأخذه النور المبين ، عطف عليه قوله : { ومن يتعد } أي يقع منه في وقت من الأوقات أنه يتعمد{[65973]} أن يعدو { حدود الله } أي الملك الأعظم { فقد ظلم نفسه } بأن مشاها في الظلام فصارت تضع الأشياء في غير مواضعها ، فصار بمعرض الهلاك بالعقاب كما أن الماشي في الظلام معرض للوقوع في حفرة والدوس{[65974]} على شوكة أو حية أو عقرب أو سبع ، أو لأن ينفرد بقاطع ، أو أن يضل عن الطريق إلى مهالك لا يمكن النجاة منها ، ومثال ذلك الحكيم إذا وصف دواء بقانون معلوم في وقت محدود ومكان مخصوص فخولف لم يضر المخالف ذلك الحكيم وإنما ضر نفسه .
ولما كان له {[65975]}الخلق جميعاً{[65976]} تحت أوامره سبحانه مع أنها كلها خير لا شر فيه{[65977]} بوجه إسرار وإغوار ، لا تدرك ولا تحصى ، وقد يظهر{[65978]} بعضها لسان الحدثان بيد القدرة ، وكان متعديها ظالماً{[65979]} وكان من أقرب ظلمه وأبينه الإيقاع في مهاوي العشق ، فسره سبحانه بقوله مبيناً عظمته بخطاب الإعلاء : { لا تدري } أي يا أيها النبي الكريم ما يكون عن ذلك من الأمور التي يحدثها الله لتشير على المطلق بشيء مما يصلحه فغيرك من باب الأولى .
ولما نفى عنه {[65980]}العلم المغيب{[65981]} لاختصاصه سبحانه به وحذف المتعلق إعراقاً في التعميم ، وكان كل أحد فيما يحدث له من الأمور ما بين رجاء وإشفاق ، عبر عن ذلك بأداة صالحة لها{[65982]} فقال : { لعل الله } أي الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور { يحدث } أي يوجد شيئاً حادثاً لم يكن إيجاداً ثابتاً لا يقدر الخلق على التسبب{[65983]} في زواله فيكون مستغرقاً لزمان العمر كما أشار إليه نزع الخافض{[65984]} في قوله تعالى : { بعد ذلك } أي الحادث من الإشارة بالضرار بالإخراج أو تطويل العدة أو غير ذلك { أمراً * } أي من الأمور المهمة{[65985]} كالرغبة المفرطة في الزوجة فلا يتأتى ذلك إما بأن كان الضرار بالطلاق الثلاث أو بأن{[65986]} كانت من ذوي الأنفة فأثرت فيها الإساءة وفيمن ينتصر لها فمنعت نفسها منه .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تقدم قوله{ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله }[ المنافقين : 9 ] وقوله في التغابن :{ إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم }[ التغابن : 14 ] وقوله تعالى{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة }[ التغابن : 15 ] والمؤمن قد يعرض له ما يضطره إلى فراق من نبه{[65987]} على فتنته وعظيم محنته ، وردت هذه السورة منبهة على كيفية الحكم في هذا الافتراق ، وموضحة أحكام الطلاق ، وأن هذه العداوة{[65988]} وإن استحكمت ونار هذه الفتنة ، إن اضطرمت{[65989]} لا توجب التبرؤ بالجملة{[65990]} وقطع المعروف { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] ووصى سبحانه بالإحسان المجمل في قوله :{ أو تسريح بإحسان }[ البقرة : 229 ] وبين تفصيل ذلك وما يتعلق به ، فهذا الرفق المطلوب بإيقاع الطلاق في أول ما تستعده{[65991]} المطلقة في عدتها وتحسبه من مدتها تحذيراً من إيقاع{[65992]} الطلاق في الحيض الموجب تطويل{[65993]} العدة وتكثير المدة ، وأكد هذا سبحانه بقوله { واتقوا الله ربكم } [ الطلاق : 1 ] ثم نبه سبحانه على حقهن أيام العدة من الإبقاء في مستقرهن حين إيقاع الطلاق إلى انقضاء العدة فقال : { لا تخرجوهن من بيوتهن } [ الطلاق : 1 ] إلى ما استمرت عليه السورة من بيان الأحكام المتعلقة بالطلاق وتفصيل ذلك كله . ولما كان الأولاد إذا ظهر منهم ما يوجب فراقهم وإبعادهم غير مفترقين{[65994]} إلى ما سوى الرفض والترك بخلاف المرأة ، لم يحتج إلى ما احتيج إليه{[65995]} في حقهن فقد وضح وجه ورود سورة الطلاق في هذا الموضع - والله سبحانه وتعالى{[65996]} أعلم انتهى{[65997]} .