تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{عَلَيۡهَا تِسۡعَةَ عَشَرَ} (30)

الآية 30 : وقوله تعالى : { عليها تسعة عشر } روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنهم خزنة جهنم ، مع كل واحد من الأعوان ما لا يحصى ، وذكر أن ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار ، وستة يسوقونهم ، وستة يضربونهم بمقامع الحديد والنيران ، والأخير{[22635]} ، هو الخازن/ 612 – أ/ الأكبر ، وهو مالك ، يأمرهم بما أمر هو به .

ويحتمل أن يكون في السقر تسعة عشر دركا ، وقد سلط على كل درك ملك ؛ وذلك أن جهنم ذات حد في نفسها لأن الله تعالى ، وعد أن يملأها من الجنة والناس ، ولو لم ترجع إلى حد لكان لا يتحقق امتلاؤها بالقدر الذي ذكره .

ويحتمل أن يعذب فيها بتسعة عشر لونا من العذاب ، وقد وكل كل واحد منهم أن يعذب بنوع من ذلك .

والأصل أن الله تعالى حكيم ، يعلم أن في كل فعل من أفعاله حكمة[ عجيبة ، ولكن لا كل حكمة ]{[22636]} يوصل إليها بالعقل ، وينتهى إلى معرفتها بالتدبير .

ألا ترى أن الله تعالى جعل في الماء معنى ، يحيي كل شيء ؟ ولو أراد أن يتكلف استخراج المعنى الذي به صلح أن يكون طبعه موافقا لإحياء كل شيء ، لا يمكنه ذلك ، وجعل في الطعام ما يغذي ، وينمي ؟ ولو أراد أحدا أن يتعرف المعنى الذي يقع به الاغتذاء والإنماء لم يتدارك ، وكذلك جعل في العدد الذين سماهم حكمة ؟ ولكنا لا نصل إلى تعرفها بعقولنا وتدبيرنا .

وزعمت الباطنية أن في ذكر الأعداد التي عليها تركيب العالم تعريف الأعداد المجعولة في الروحانيات .

فيقال لهم : من جعل الأعداد التي[ عليها ]{[22637]} تركيب العالم أولى بأن يعرف بها الأعداد المجعولة في الروحانيات من أن يجعل الأعداد التي في الروحانيات على الاستدراك المجعولة في الجسدانيات .

ثم يسألون عن الأعداد المجعولة في الروحانيات : لأي معنى جعلت ؟ وأي حكمة فيها ؟ فليس جوابهم بعد هذا إلا العجز والاعتراف بالجهل ، فليقروا بالجهل من الابتداء من[ غير ]{[22638]} أن يتكلفوا استخراج ما يوجب من حقيقة ، كان فيه ظهور عجزهم ، والله أعلم .

والأصل عندنا ما ذكرنا أن أهل التوحيد اعتقدوا أن الله تعالى حكيم وأنه لا يجوز أن يخرج فعله عن حد الحكمة ، لأن الذي يجعل الإنسان يخرج{[22639]} عن حد الحكمة في الشاهد أحد معان ثلاثة : إما الجهل وإما العجز وإما الحاجة ، والله تعالى عالم لا يجهل ، وقوي لا يلحقه عجز عن وفاء ما وعد ، وغني لا تمسه حاجة ، فانتفت عنه الأسباب التي لديها يقع الخروج عن حد الحكمة .

فثبت أنه لا يجوز أن يخرج فعله عن حد الحكمة . لكنهم إذ لم يعرفوا الحكمة بعقولهم ، ولم يتداركوها بتدبيرهم ظنوا أنه لا حكمة فيه ، وأنكروا أن يضاف ذلك إلى الله تعالى .

فأهل الدهر أنكروا البعث ، وأنكروا الصانع لما رأوا أشياء في الشاهد ، هي في الظاهر خارجة مخرج العبث ، وفعل الحكمة لا يخرج مخرج العبث ، فنفوا بهذا أن يكون للأشياء صانع ، ومن بنى بناء ، ثم نقضه ، ثم أعاده إلى الحالة التي كان عليها{[22640]} قيل النقض ، ولم يكن حكيما بل كان جاهلا سفيها . فقاسوا أمر البعث على ذلك ، وظنوا أنه خارج مخرج العبث ؛ إذ ليس فيه إلا الإعادة إلى الحالة التي كان عليها قبل الموت .

وما ذكرنا من الاعتبار هو الذي حمل الثنوية على القول بإلهين اثنين لأنهم رأوا في الشاهد خيرا وشرا وصلاحا وفسادا وظلمة ونورا ، ولا يجوز أن يكون جوهر الظلمة والنور واحدا ، ولا يجوز أيضا أن يكون فعل الحكيم يخرج على الاختلاف والتناقض ، فقد رأوا{[22641]} بهذا أن خالق الشر والخير مختلف .

وبهذا{[22642]} أنكرت المعتزلة خلق أفعال العباد لأن الفعل يكون مرة خيرا ومرة شرا ومرة صلاحا ومرة فسادا ، ولا يجوز أن يكون الشر مضافا إلى الله تعالى ولا أن يكون الفساد منسوبا إليه ، فأنكروا أن يكون لله تعالى في أفعال العباد صنعا .

وأهل التوحيد سلموا الأمر إلى الله تعالى ، وفوضوا العلم إليه في كل ما جاء عنه عز وجل وإن لم يتداركوا ما فيه من الحكمة بعقولهم لوجودهم أشياء ، هي خارجة أن يتداركوها بعقولهم ، ويقفوا عليها بعلومهم كما ذكرنا من أمر الماء أنه قد جعل فيه معنى . ذلك المعنى يحيي الأشياء ، ولو أرادوا أن يعرفوا ذلك المعنى بالعقول والآراء لم يمكنهم ذلك . وكذلك المعنى{[22643]} في الطعام وفي الأشياء المشروبة موجود ، ثم لم يجب بهذا إنكار المياه وسائر الأطعمة والأشربة ، وكذلك لا يجب إنكار عدد{[22644]} الذين سماهم من الملائكة ولا إنكار البعث ولا إنكار كل شيء لا يقفون على حكمته بعقولهم ، والله أعلم .


[22635]:في الأصل و م: والآخر.
[22636]:من م، ساقطة من الأصل.
[22637]:ساقطة من الأصل و م.
[22638]:من م، ساقطة من الأصل.
[22639]:في الأصل و م: على الخروج.
[22640]:في الأصل و م: عليه.
[22641]:في الأصل و م: بنوا.
[22642]:الواو ساقطة من الأصل و م.
[22643]:في الأصل و م: هذا.
[22644]:في الأصل و م: العدد.