36- وقد جعلنا ذبح الإبل والبقر في الحج من أعلام الدين ومظاهره ، وإنكم تتقربون بها إلى الناس ، ولكم فيها خير كثير في الدنيا بركوبها وشُرْب لبنها ، وفي الآخرة بالأجر والثواب على ذبحها وإطعام الفقراء منها ، فاذكروا اسم الله عليها حال كونها مصطفة مُعَدَّة للذبح خالية من العيب . فإذا تم لكم ذبحها فكلوا بعضها إن أردتم ، وأطعموا الفقير القانع المتعفف عن السؤال ، والذي دفعته حاجته إلى ذل السؤال ، وكما سخَّرنا كل شيء لما نريده منه سخرناها لنفعكم ، وذللناها لإرادتكم لتشكرونا على نعمنا الكثيرة عليكم .
قوله تعالى : { والبدن } جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها ، يريد : الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال بدن الرجل بدناً وبدانةً إذا ضخم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال بدن تبديناً . قال عطاء و السدي : البدن : الإبل والبقر أما الغنم فلا تسمى بدنة . { جعلناها لكم من شعائر الله } من أعلام دينه ، سميت شعائر لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي ، { لكم فيها خير } النفع في الدنيا والأجر في العقبى ، { فاذكروا اسم الله عليها } أي : عند نحرها ، { صواف } أي : قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ، ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن مسلمة ، أنبأنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن زياد بن جبير قال : " رأيت بن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنةً ينحرها ، قال : ابعثها قياماً مقيدةً سنة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث قوائم . وقرأ ابن مسعود : صوافن وهى أن تعقل منها يد وتنحر على ثلاث ، وهو مثل صواف . وقرأ أبي والحسن ومجاهد : صوافي بالياء أي : صافية خالصة لله لا شريك له فيها . { فإذا وجبت جنوبها } يعني : سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض . وأصل الوجوب : الوقوع . يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ، { فكلوا منها } أمر إباحة ، { وأطعموا القانع والمعتر } اختلفوا في معناها : فقال عكرمة و إبراهيم و قتادة : القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل ، والمعتر : الذي يسأل . وروى العوفي عن ابن عباس : القانع الذي لا يعترض ولا يسأل ، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل ، فعلى هذين التأويلين يكون القانع : من القناعة ، يقال : قنع قناعة إذا رضي بما قسم له . وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : القانع : الذي يسأل ، والمعتر : الذي يتعرض ولا يسأل ، فيكون القانع من قنع يقنع قنوعاً إذا سأل . وقرأ الحسن : والمعتري وهو مثل المعتر ، يقال : عره واعتره وعراه واعتراه إذا أتاه بطلب معروفه ، إما سؤالاً وإما تعرضاً . وقال ابن زيد : القانع : المسكين ، والمعتر : الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم . { كذلك } يعني : مثل ما وصفنا من نحرها قياماً ، { سخرناها لكم } نعمة منا لتتمكنوا من نحرها ، { لعلكم تشكرون } لكي تشكروا إنعام الله عليكم .
البدن جمع بدنة وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة ، قاله عطاء وغيره وسميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن ، وقيل بل هذا الاسم خاص بالإبل ، وقالت فرقة { البدن } جمع بَدَن بفتح الدال والباء ثم اختلفت ، فقال بعضها { البدن } مفرد اسم جنس يراد به العظيم السمين من الإبل والبقر ، ويقال للسمين من الرجال بدن{[8377]} ، وقال بعضها { البدن } جمع بدنة كمثرة وثمر ، وقرأ الجمهور «والبدْن » ساكنة الدال ، وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وابن أبي إسحاق «البدُن » بضم الدال ، فيحتمل أن يكون جمع بدنة كثمر ، وعدد الله تعالى في هذه الآية نعمته على الناس في هذه { البدن } ، وقد تقدم القول في «الشعائر » ، و «الخير » قيل فيه ما قيل في المنافع التي تقدم ذكرها والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة ، وقوله ، { عليها } يريد عند نحرها ، وقرأ جمهور الناس «صوافَّ » بفتح الفاء وشدها جمع صافَّة أي مصطفة في قيامها ، وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري وشقيق وسليمان التيمي والأعرج «صوافي » جمع صافية أي خالصة لوجه الله تعالى لا شركة فيها لشيء كما كانت الجاهلية تشرك ، وقرأ الحسن أيضاً «صوافٍ » بكسر الفاء وتنوينها مخففة وهي بمعنى التي قبلها لكن حذفت الياء تخفيفاً على غير قياس وفي هذا نظر ، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر محمد بن علي «صوافن » بالنون جمع صافنة وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب ، والصافن من الخيل الرافع لفراهيته إحدى يديه وقيل إحدى رجليه ومنه قوله تعالى : { الصافنات الجياد }{[8378]} [ ص : 31 ] .
تركنا الخيل عاكفة عليه . . . مقلدة أعنتها صفونا{[8379]}
و { وجبت } ، معناه سقطت بعد نحرها ، ومنه وجبت الشمس ، ومنه قول أوس بن جحر : ألم تكسف الشمس والبدر والكواكب للجبل الواجب{[8380]} ، وقوله { كلوا } ندب ، وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هديه وفيه أجر وامتثال إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم ، وقال مجاهد وإبراهيم والطبري : هي إباحة ، و { القانع } ، السائل يقال قنَع الرجل يقنع قنوعاً إذا سأل ، بفتح النون في الماضي ، وقنِع بكسر النون يقنع قناعة فهو قنع إذا تعفف واستغنى ، قاله الخليل ومن الأول قول الشماخ :
لَمَالُ المرء يصلحه فيغني . . . مفاقره أعف من القنوع{[8381]}
فمحرور القول من أهل العلم قالوا { القانع } السائل { والمعتر } المتعرض من غير سؤال ، قال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن ، وعكست فرقة هذا القول ، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال { القانع } المستغني بما أعطيه { والمعتر } المتعرض ، وحكي عنه أنه قال { القانع } المتعفف { والمعتر } السائل ، وحكي عن مجاهد أنه قال { القانع } الجار وإن كان غنياً ، وقرأ أبو رجاء «القنع » فعلى هذا التأويل معنى الآية أطعموا المتعفف الذي لا يأتي متعرضاً والمتعرض ، وذهب أبو الفتح بن جني إلى أنه أراد القانع فحذف الألف تخفيفاً{[8382]} وهذا بعيد لأن توجيهه على ما ذكرته آنفاً أحسن وإنما يلجأ إلى هذا إذا لم توجد مندوحة ، وقرأ أبو رجاء وعمرو بن عبيد «المعتري » والمعنى واحد{[8383]} ، وروي عن أبي رجاء «والمعتر » بتخفيف الراء وقال الشاعر : [ الطويل ]
لعمرك ما المعتر يغشى بلادنا . . . لنمنعه بالضائع المتهضم{[8384]}
وذهب ابن مسعود إلى أن الهدي أثلاث ، وقال جعفر بن محمد عن أبيه : أطعم { القانع والمعتر } ثلثاً ، والبائس الفقير ثلثاً ، وأهلي ثلثاً ، وقال ابن المسيب : ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وهذا كله على جهة الاستحسان لا على الفرض ، ثم قال { كذلك } أي وكما أمرناكم فيها بهذا كله { سخرناها لكم } ، { ولعلكم } ، ترجّ في حقنا وبالإضافة إلى نظرنا .