قوله تعالى :{ فأقم وجهك للدين } أي : أخلص دينك لله ، قاله سعيد بن جبير ، وإقامة الوجه : إقامة الدين ، وقال غيره : سدد عملك . والوجه ما يتوجه إليه الإنسان ، ودينه وعمله مما يتوجه إليه لتسديده ، { حنيفاً } مائلاً مستقيماً عليه ، { فطرة الله } دين الله ، وهو نصب على الإغراء ، أي : الزم فطرة الله ، { التي فطر الناس عليها } أي : خلق الناس عليها ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة : الدين ، وهو الإسلام . وذهب قوم إلى أن الآية خاصة في المؤمنين ، وهم الذين فطرهم الله على الإسلام .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يولد يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة ، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها . قالوا : يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين " ورواه الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة من غير ذكر من يموت وهو صغير ، وزاد : ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } . قوله : " من يولد يولد على الفطرة " يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله { ألست بربكم قالوا بلى } وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار ، وهو الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها وإن عبد غيره ، قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } وقالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا ، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ، ألا ترى أنه يقول : فأبواه يهودانه فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " . ويحكى هذا عن الأوزاعي ، وحماد بن سلمة . وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : معنى الحديث إن كل مولود يولد على فطرته ، أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة ، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها ، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها ، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين ، فيحملانه لشقائه على اعتقاد دينهما . وقيل : معناه أن كل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول ، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من آفات النشوء والتقليد ، فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره ثم يتمثل بأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك عن الفطرة السليمة والحجة المستقيمة . ذكر أبو سليمان الخطابي هذه المعاني في كتابه . قوله : { لا تبديل لخلق الله } فمن حمل الفطرة على الدين قال : معناه لا تبديل لدين الله ، وهو خبر بمعنى النهي ، أي : لا تبدلوا دين الله . قال مجاهد ، وإبراهيم : معنى الآية الزموا فطرة الله ، أي دين الله ، واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك { ذلك الدين القيم } المستقيم ، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . وقيل : لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة لا يبدل ، فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً . وقال عكرمة ومجاهد : معناه تحريم إخصاء البهائم .
ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه للدين المستقيم وهو دين الإسلام ، وإقامة الوجه هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين ، وذكر الوجه لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه{[9310]} ، و { حنيفاً } ، معناه معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة ، وقوله { فطرةَ الله } نصب على المصدر ، كقوله { صبغة الله }{[9311]} [ البقرة : 138 ] وقيل هو نصب بفعل مضمر تقديره اتبع والتزم { فطرة الله } ، واختلف الناس في «الفطرة » ها هنا ، فذكر مكي وغيره في ذلك جميع ما يمكن أن تصرف هذه اللفظة عليه وفي بعض ذلك قلق ، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة في نفس الطفل التي هي معدة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به ، فكأنه قال { فأقم وجهك للدين } الذي هو الحنيف وهو { فطرة الله } الذي على الإعداد له فطر البشر لكن تعرضهم العوارض ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه » الحديث{[9312]} ، فذكر الأبوين : إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة وقوله تعالى : { لا تبديل لخلق الله } يحتمل تأويلين : أحدهما أن يريد بها هذه الفطرة المذكورة أي اعلم أن هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخلق ، ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه ، والآخران أن يكون قوله { لا تبديل لخلق الله } إنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنه يقول أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا فإن هؤلاء الكفار قد خلق الله لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي إنهم لا يفلحون ، وقال مجاهد : المعنى لا تبديل لدين الله ، وهو قول ابن جبير والضحاك وابن زيد والنخعي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا معناه لا تبديل للمعتقدات التي هي في الدين الحنيف فإن كل شريعة هي عقائدها ، وذهب بعض المفسرين في هذه الآية إلى تأويلات منها عكرمة ، وقد روي عن ابن عباس { لا تبديل لخلق الله } معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان ، ومنها قول بعضهم في الفطرة الملة على أنه قد قيل في الفطرة الدين وتأول قوله { فطر الناس } على الخصوص أي المؤمنين ، وقيل «الفطرة » هو العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين أخرجهم نسماً من ظهره ، ونحوه حديث معاذ بن جبل حين مر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال يا معاذ ما قوام هذه الأمة ؟ قال : الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والصلاة وهي الدين والطاعة وهي العصمة فقال عمر : صدقت{[9313]} ، و { القيم } بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.