ولما تحرّرت الأدلة وانتصبت الأعلام أقبل تعالى على خلاصة خلقه إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره بقوله سبحانه : { فأقم وجهك } أي : قصدك كله { للدين } أي : أخلص دينك لله قاله سعيد بن جبير ، وقال غيره : سدّد عملك ، والوجه ما يتوجه إليه ، وقيل : أقبل بكلك على الدين ، عبر بالوجه عن الذات كقوله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } ( القصص : 88 ) أي : ذاته بصفاته . وقوله تعالى { حنيفاً } حال من فاعل أقم أو مفعوله أو من الدين ، ومعنى حنيفاً أي : مائلاً إليه مستقيماً عليه ومل عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر ، وهذا قريب من معنى قوله تعالى { ولا تكوننّ من المشركين } ( الأنعام ، 14 ) وقوله تعالى { فطرت الله } أي : خلقته منصوب على الإغراء أو المصدر بما دلّ عليه ما بعدها وهي بتاء مجرورة ، وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء ، والباقون بالتاء ، ثم أكد ذلك بقوله تعالى : { التي فطر الناس } قال ابن عباس : خلق الناس { عليها } وهو دينه وهو التوحيد . قال صلى الله عليه وسلم : «ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه » فقوله على الفطرة على العهد الذي أخذه عليهم بقوله تعالى : { ألست بربكم قالوا بلى } ( الأعراف : 172 ) وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها ، وإن عبد غيره قال الله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله } ( لقمان : 25 ) وقال { ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى } ( الزمر : 3 ) ولكن لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعيّ المأمور به ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين ، وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله تعالى على الإسلام ، روي عن عبد الله بن المبارك قال : معنى الحديث : أن كل مولود يولد على فطرته أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله من السعادة والشقاء ، وكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها ، فمن علامات الشقاوة أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما ، وقيل : معنى الحديث : أنّ كل مولود يولد في مبدأ الفطرة على الخلقة أي : الجبلة السليمة والطبع المتهيء لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمرّ على لزومها ؛ لأنّ هذا الدين موجود حُسنه في العقول وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من النشوء والتقليد ، فمن يسلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره . ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخطابي في كتابه .
ولما كانت سلامة الفطرة أمراً مستمرّاً قال تعالى : { لا تبديل لخلق الله } أي : الملك الأعلى الذي لا كفء له فلا يقدر أحد أن يغيره ، فمن حمل الفطرة على الدين قال معناه : لا تبديل لدين الله ، فهو خبر بمعنى النهي أي : لا تبدّلوا دين الله . قاله مجاهد وإبراهيم . والمعنى : الزموا فطرة الله أي : دين الله واتبعوه ولا تبدّلوا التوحيد بالشرك ، ومن حملها على الخلقة قال : معناه لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة ، فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً ، وقال عكرمة : معناه تحريم إخصاء البهائم أي : في غير المأكول وفي المأكول الكبير ، أمّا المأكول الصغير فإنه يجوز ، ويلحق بالخصي المحرّم كل تغيير محرّم كالوشم { ذلك } أي : الشأن العظيم { الدين القيم } أي : المستقيم الذي لا عوج فيه توحيد الله تعالى { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن ذلك هو الدين المستقيم لعدم تدبرهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.