السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

ولما تحرّرت الأدلة وانتصبت الأعلام أقبل تعالى على خلاصة خلقه إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره بقوله سبحانه : { فأقم وجهك } أي : قصدك كله { للدين } أي : أخلص دينك لله قاله سعيد بن جبير ، وقال غيره : سدّد عملك ، والوجه ما يتوجه إليه ، وقيل : أقبل بكلك على الدين ، عبر بالوجه عن الذات كقوله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } ( القصص : 88 ) أي : ذاته بصفاته . وقوله تعالى { حنيفاً } حال من فاعل أقم أو مفعوله أو من الدين ، ومعنى حنيفاً أي : مائلاً إليه مستقيماً عليه ومل عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر ، وهذا قريب من معنى قوله تعالى { ولا تكوننّ من المشركين } ( الأنعام ، 14 ) وقوله تعالى { فطرت الله } أي : خلقته منصوب على الإغراء أو المصدر بما دلّ عليه ما بعدها وهي بتاء مجرورة ، وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء ، والباقون بالتاء ، ثم أكد ذلك بقوله تعالى : { التي فطر الناس } قال ابن عباس : خلق الناس { عليها } وهو دينه وهو التوحيد . قال صلى الله عليه وسلم : «ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه » فقوله على الفطرة على العهد الذي أخذه عليهم بقوله تعالى : { ألست بربكم قالوا بلى } ( الأعراف : 172 ) وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها ، وإن عبد غيره قال الله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله } ( لقمان : 25 ) وقال { ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى } ( الزمر : 3 ) ولكن لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعيّ المأمور به ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين ، وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله تعالى على الإسلام ، روي عن عبد الله بن المبارك قال : معنى الحديث : أن كل مولود يولد على فطرته أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله من السعادة والشقاء ، وكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها ، فمن علامات الشقاوة أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما ، وقيل : معنى الحديث : أنّ كل مولود يولد في مبدأ الفطرة على الخلقة أي : الجبلة السليمة والطبع المتهيء لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمرّ على لزومها ؛ لأنّ هذا الدين موجود حُسنه في العقول وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من النشوء والتقليد ، فمن يسلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره . ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخطابي في كتابه .

ولما كانت سلامة الفطرة أمراً مستمرّاً قال تعالى : { لا تبديل لخلق الله } أي : الملك الأعلى الذي لا كفء له فلا يقدر أحد أن يغيره ، فمن حمل الفطرة على الدين قال معناه : لا تبديل لدين الله ، فهو خبر بمعنى النهي أي : لا تبدّلوا دين الله . قاله مجاهد وإبراهيم . والمعنى : الزموا فطرة الله أي : دين الله واتبعوه ولا تبدّلوا التوحيد بالشرك ، ومن حملها على الخلقة قال : معناه لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة ، فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً ، وقال عكرمة : معناه تحريم إخصاء البهائم أي : في غير المأكول وفي المأكول الكبير ، أمّا المأكول الصغير فإنه يجوز ، ويلحق بالخصي المحرّم كل تغيير محرّم كالوشم { ذلك } أي : الشأن العظيم { الدين القيم } أي : المستقيم الذي لا عوج فيه توحيد الله تعالى { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن ذلك هو الدين المستقيم لعدم تدبرهم .