الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

وقوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } [ الروم : 30 ] .

إقامة الوجه : هي تقويم المقصد والقوةِ على الجِدِّ في أعمال الدين . وخص الوجه لأنه جامع حواس الإنسان ولشرفه . و{ فِطْرَة الله } نَصْبٌ على المصدر ، وقيل : بفعل مضمر تقديره اتبع أو التزم فطرة اللّه ، واختُلِفَ في الفطرة ها هنا ، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظةِ أَنها الخِلْقَةُ والهَيْئَةُ التي في نفسِ الطفلِ التي هي مُعَدَّةٌ مُهَيَّئَةٌ لأَنْ يَمِيزَ بها مصنوعات اللّه ، ويستدلَّ بها على ربِّهِ ، ويعرف شرائعه ويؤمن به ، فكأنه تعالى قال : أقم وَجْهَك للدِّينِ الذي هو الحنيفُ ، وهو فطرة اللّه الذي على الإعداد له . فُطِرَ البشرِ لكن تعرضهم العوارضُ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ) الحديث ، ثم يقول : { فِطْرَتَ الله } الآية ، إلى { القيم } فذكرُ الأبوين إنما هما مثالٌ للعَوارِض التي هي كثيرةُ . وقال البخاريُّ : فِطْرَةُ اللّهِ : هِيَ الإسْلاَمُ ، انتهى .

وقوله تعالى : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } يحتمل أنْ يريدَ بها هذه الفطرةَ ويحتمل أن يريدَ بها الإنحاء على الكفرة اعترض به أثناء الكلام كأنه يقول : أقم وجهَك للدين الذي من صفته كذا وكذا ، فإنَّ هؤلاءِ الكفرةَ قد خَلَقَ اللّه لهم الكُفْرَ ، و{ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } ، أي : أنهم لا يفلحون ، وقيل غيرُ هذا ، وقال البخاري : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } أي : لدين اللّه ، وخُلُق الأولين دينُهم . انتهى .

و{ القَيِّم } بناءُ مبَالَغَةٍ مِنَ القيام الذي هو بمعنى الاستقامة .