روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

{ وَأَقِمِ } من أقام العدو ويقال قوم العود أيضاً إذا عدله ، والمراد الأمر بالإقبال على دين الإسلام والاستقامة والثبات عليه والاهتمام بترتيب أسبابه على أن الكلام تمثيل لذلك فإن من اهتم بشيء محسوس بالبصر عقد إليه طرفه وسدد إليه نظره وأقبل عليه بوجه غير ملتفت عنه فكأنه قيل : فعدل وجهك للدين وأقبل عليه إقبالاً كاملاً غير ملتفت يميناً وشمالاً ، وقال بعض الأجلة : إن إقامة الوجه للشيء كناية عن كمال الاهتمام به ولعله أراد بالكناية المجاز المتفرع على الكناية فإنه لا يشترط فيه إمكان إرادة المعنى الحقيقي ، ونصب { حَنِيفاً } على الحال من الضمير في { أَقِمِ } أو من الدين ، وجوز أبو حيان كونه حالاً من الوجه ، وأصل الحنف الميل من الضلال إلى الاستقامة وضده الجنف بالجيم { عَبْدُ الله } نصب على الإغراء أي الزموا فطرة الله تعالى ، ومن أجاز إضمار أسماء الأفعال جوز أن يقدر هنا عليكم اسم فعل ، وقال مكي : هو نصب بإضمار فعل أي اتبع فطرة الله ودل عليه قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ } لأن معناه اتبع الدين ، واختاره الطيبي وقال : إنه أقرب في تأليف النظم لأنه موافق لقوله تعالى : { بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ } ولترتب قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } عليك بالفاء .

وجوز أن يكون نصباً بإضمار أعني وأن يكون مفعولاً مطلقاً لفعل محذوف دل عليه ما بعد أي فطركم فطرة الله ، ولا يصح عمل فطر المذكر بعد فيه لأنه من صفته ، وأن يكون منصوباً بما دل عليه الجملة السابقة على أن مصدر مؤكد لنفسه . وأن يكون بدلاً من { حَنِيفاً } والمتبادر إلى الذهن النصب على الإغراء ، وإضمار الفعل على خطاب الجماعة مع أن المتقدم { فَأَقِمْ } هو ما اختاره الزمخشري ليطابق قوله تعالى : { مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } وجعله حالاً من ضمير الجماعة المسند إليه الفعل ، وجعل قوله تعالى : { واتقوه وَأَقِيمُواْ . . . . وَلاَ تَكُونُواْ } [ الروم : 1 3 ] معطوفاً على ذلك الفعل .

وقال الطيبي : بعدما اختار تقدير اتبع ورجحه بما سمعت : وأما قوله تعالى : { مُّنِيبِينَ } فهو حال من الضمير في { أَقِمِ } وإنما جمع لأنه مردد على المعنى لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو خطاب لأمته فكأنه قيل : أقيموا وجوهكم منيبين .

وقال الفراء : أي أقم وجهك ومن تبعك كقوله تعالى : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ } [ هود : 2 11 ] فلذلك قال سبحانه : { مُّنِيبِينَ } وفي المرشد أن { مُّنِيبِينَ } متعلق بمضمر أي كونوا منيبين لقوله تعالى بعد : { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين } [ الروم : 1 3 ] اه . ولا يخفى على المنصف حسن كلام الزمخشري ، وما ذكر من أن خطابه صلى الله عليه وسلم خطاب الأمة يؤكد الدلالة وعلى ذلك المضمر لا أنه يجوز أن يكون { مُّنِيبِينَ } حالاً من الضمير في { أَقِمِ } وظاهر كلام الفراء يقتضي كون الحال من مذكور ومحذوف وهو قليل في الكلام ، وإضمار كونوا مع إضمار فعل ناصب لفطرة الله موجب لكثرة الاضمار ، وإضماره دون إضمار فيما قبل موجب لارتكاب خلاف المتبادر هناك ، والفطر على ما قال ابن الأثير للحالة كالجلسة والركبة من الفطرة بمعنى الابتداء والاختراع ، وفسرها الكثير هنا بقابلية الحق والتهيء لادراكه ، وقالوا : معنى لزومها الجريان على موجبها وعدم الإخلال به باتباع الهوى وتسويل شياطين الإنس والجن ، ووصفها بقوله تعالى : { التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } لتأكيد وجوب امتثال الأمر ، وعن عكرمة تفسيرها بدين الإسلام .

وفي الخبر ما يدل عليه ، أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمر الصفار قال : سألت قتادة عن قوله تعالى : { فِطْرَةَ الله التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } فقال : حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فطرة الله التي فطر الناس عليها دين الله تعالى " والمراد بفطرهم على دين الإسلام خلقهم قابلين له غير نابين عنه ولا منكرين له لكونه مجاوباً للعقل مساوقاً للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر ، ففي «الصحيحين » عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " والمراد بالناس على التفسرين جميعهم .

وزعم بعضهم أن المراد بهم على التفسير الثاني المؤمنون وليس بشيء . واستشكل الاستغراق بأنه ورد في الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع على الكفر . وأجيب بأن معنى ذلك أنه قدر أنه لو عاش يصير كافراً بإضلال غيره له أو بآفة من الآفات البشرية ، وهذا على ما قيل هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام : " الشقي شقي في بطن أمه " وذلك لا ينافي الفطر على دين الإسلام بمعنى خلقه متهيأ له مستعداً لقبوله فتأمل فالمقام محتاج بعد إلى تحقيق ، وقيل : فطرة الله العهد المأخوذ على بني آدم ، ومعنى فطرهم على ذلك على ما قيل خلقهم مركوزاً فيهم معرفته تعالى كما أشير إليه بقوله سبحانه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ * السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 5 2 ] وقوله سبحانه : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الامتثال به فالمراد بخلق الله فطرته المذكورة أولاً ففيه إقامة المظهر مقام المضمر من غير لفظه السابق ، والمعنى لا صحة ولا استقامة لتبديل فطرة الله تعالى بالإخلال بموجبها وعدم ترتيب مقتضاها عليها باتباع الهوى وقبول وسوسة الشياطين ، وقيل : المعنى لا يقدر أحد على أن يغير خلق الله سبحانه وفطرته عز وجل فلا بد من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأساً ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق والتمكن من إدراكه ضرورة ، فإن التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعاً فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة في كل أحد فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإحلال به بما ذكر من اتباع الهوى ووسوسة الشياطين ، وقال الإمام : يحتمل أن يقال : إن الله تعالى خلق خلقه للعبادة وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيداً مثل كون المملوك عبداً للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية ، وهذا لبيان فساد قول من يقول : العبادة لتحصيل الكمال وإذا كمل للعبد بها لا يبقى عليه تكليف .

وقول المشركين : إن الناقض لا يصلح لعبادة الله تعالى وإنما يعبد نحو الكواكب وهي عبيد الله تعالى ، وقول النصارى : إن عيسى عليه السلام كمل بحلول الله تعالى فيه وصار إلها اه وفيه ما فيه ، ومما يستغرب ما روي عن ابن عباس من أن معنى { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } النهي عن خصاء الفحول من الحيوان ، وقيل : إن الكلام متعلق بالكفرة كأنه قيل : فأقم وجهك للدين حنيفاً والزم فطرة الله التي فطر الناس عليها فإن هؤلاء الكفرة خلق الله تعالى لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي أنهم لا يفلحون . وأنت تعلم أنه لا ينبغي حمل كلام الله تعالى على نحو هذا { ذلك } إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو إلى لزوم فطرة الله تعالى المستفاد من الإغراء أو إلى الفطرة والتذكير باعتبار الخبر أو بتأويل المشار إليه بمذكر { الدين القيم } المستوى الذي لا عوج فيه ولا انحراف عن الحق بوجه من الوجوه كما ينبئ عنه صيغة المبالغة ، وأصله قيوم على وزن فيعل اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك فيصدون عنه صدوداً .

وقيل : أي لا علم لهم أصلاً ولو علموا لعلموا ذلك على أن الفعل منزل منزلة اللازم .