فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

{ فأقم وجهك للدين حنيفا } شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه ، وإقباله عليه ؛ أي مائلا إليه مستقيما عليه غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه وسدد إليه نظره ، وقوم وجهه مقبلا عليه .

{ فطرة الله التي فطر الناس عليها } الفطرة في الأصل الخلقة ، والمراد هنا بها الملة وهي الإسلام والتوحيد . قال الواحدي : هذا قول المفسرين في الفطرة وقيل : المراد بها قابلية الدين والتهيؤ له ، وترسم الفطرت بالتاء المجرورة وليس في القرآن غيرها ، والمراد بالناس هنا الذين فطرهم الله على الإسلام ، لأن المشرك لام يفطر على الإسلام ، وهذا الخطاب وإن كان خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمته داخلة معه فيه . قال القرطبي : باتفاق من أهل التأويل ، والأولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم ، وأنهم جميعا مفطورون على ذلك لولا عوارض تعرض لهم ، فيبقون بسببها على الكفر ، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة " وفي رواية : على هذه الملة ، ولكن أبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه : كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء . هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : واقرأوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } وفي رواية حتى تكونوا أنتم تجدعونها .

أخرج أحمد والنسائي ، والحاكم ، وصححه ، وغيرهم ، وعن أسود بن سريع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خيبر فقاتلوا المشركين فانتهى القتل إلى الذرية . فلما جاءوا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما حملكم على قتل الذرية ؟ قالوا : يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين ؟ والذي نفسي بيده ، ما من نسمة تولد إلا على الفطرة ، حتى يعرب عنها لسانها " .

وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ، فإذا عبر عنه لسانه ، إما شاكرا وإما كفورا "

وروى الإمام أحمد في المسند عن عياش بن حماد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما فقال في خطبته عن الله سبحانه وإني خلقت عبادي كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم . وحرمت عليهم ما أحللت لهم الحديث . وهذا معاضد لحديث أبي هريرة المتقدم ، فكل فرد من أفراد الناس مفطور ، أي مخلوق على ملة الإسلام ، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين ، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان . وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم وقول جماعة من المفسرين ، وهو الحق .

والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف ، قال آخر : هي البداءة التي ابتدأهم عليها فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة ، والفاطر في كلام العرب : هو المبتدئ ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة . وإهمال معناها شرعا ، والمعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع ، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مرادا بها اللغوي . كقوله تعالى : ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) أي خالقهما ومبتديهما ، كقوله : { وما لي لا أعبد الذي فطرني } إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا ، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة ، وهو ما ذكره الأولون كما بيناه . وانتصاب فطرة على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها . قال الزجاج : منصوب بمعنى اتبع فطرة الله ، قال : لأن معنى فأقم وجهك للدين : اتبع الدين واتبع فطرة الله : وقال ابن جرير : هي مصدر من معنى فأقم وجهك ، لأن معنى ذلك فطرة الله الناس على الدين . وقيل : هي منصوبة على الإغراء ، أي الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة و الله ، ورد هذا الوجه أبو حيان ، وقال : إن كلمة الإغراء لا تضمر ، إذ هي عوض عن الفعل ، فلو حذفها لزم حذف العوض والمعوض عنه ، وهو إجحاف ، وأجيب بأن هذا رأي البصريين ، وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك .

{ لا تبديل لخلق الله } أي لما جبلكم وطبعكم عليه من قبول الحق وهذا تعليل لما قبله من الأمر بلزوم الفطرة . أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها . لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه ، أو تعليل لوجوب الامتثال له ، أي لا صحة ولا استقامة لتبديله بالإخلال بموجبه ، وعدم ترتيب مقتضاه عليه بإتباع الهوى ، وقبول وسوسة الشياطين .

وقيل : لا يقدر أحد أن يغيره ، فلا بد حينئذ من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسا ، ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق ، والتمكن من إدراكه ضرورة أن التبديل بالمعنى الأول مقدور ، بل واقع قطعا ، فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة في كل أحد ، فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإخلال به بما ذكر من إتباع الهوى ، وخطوات الشيطان ، ذكره أبو السعود .

وقيل : هو نفي ؛ معناه : النهي . أي : لا تبدلوا خلق الله ، قال مجاهد وإبراهيم النخعي ، معناه لا تبديل لدين الله ، قال قتادة ، وابن جبير ، والضحاك ، وابن زيد : هذا في المعتقدات ، وقال عكرمة : إن المعنى لا تغيير لخلق الله في البهائم ، بأن تخصى فحولها . وقيل : لا تبدلوا التوحيد بالشرك ، والسنة بالبدعة ، وقيل : لا تبديل لما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة ، فلا يصير السعيد شقيا ، ولا الشقي سعيدا .

{ ذلك } الدين المأمور بإقامة الوجه له هو { الدين القيم } أو لزوم الفطرة هو الدين القيم ، أي : المستقيم . وقال ابن عباس : الدين : القضاء { ولكن أكثر الناس } أي : كفار مكة { لا يعلمون } ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به .