فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

{ فأقم } فتوجه ، وأقبل ، وسدد ، وعدل دون ميل أو التفات .

{ وجهك } قصدك ووجهتك ، وعزمك وقوتك- وخص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء .

{ حنيفا } مخلصا ، مقبلا على المنهاج ، - وأصل الحنف : إقبال إحدى إبهامي الرجل على الأخرى- وكل من أسلم لأمر الله تعالى ولم يلتو فهو حنيف ، أو الحنف : الاستقامة ، وإنما قيل للمائل الرجل أحنف تفاؤلا بالاستقامة ، ويقال للحنيف حنيف لعدوله عن الشرك .

{ فطرة } ابتداء ، وإنشاء ، وخلقة ، وإعدادا ، وتهيئة .

{ فطر الناس عليها } خلقهم قابلين لها .

{ لا تبديل لخلق الله } سنة الله تعالى في خلقه الناس قابلين لمعرفة الحق لا تتبدل .

{ القيم } الذي لا عوج فيه : وأمته قيمة بالحق ، والذي يقومهم ويسوس أمرهم .

{ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون30 * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين31 من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون32 }

وبعد أن قامت حجة الله تعالى على المشركين ، وأنهم يرفضون ويأبون أن يكون عبيدهم شركاء لهم- فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة ، والخلق كلهم عبيد الله تعالى ، فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله ، فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك{[3334]}وشهد الحق سبحانه أنهم إنما يتبعون في شركهم أهواءهم ، ويقلدون آباءهم ، وأن ما عبدوه مما لا يعقل سيكون وإياهم من حصب جهنم ، وإن كان ممن يعقل يكفر بشركهم ، ويتبرأ من زيفهم وغيهم ، بعد هذا نادى نبيه والمؤمنين الإقبال على الدين ، والتوجه إليه ، وعدم التلفت إلى سبيل غير سبيله ، وقووا مقصدكم وقوتكم على الجد في العمل له ، مخلصين في تسديدكم نحوه ، راغبين عن الشرك وأهله ، { فطرة الله التي فطر الناس عليها } والزموا فطرة الله التي أنشأ عليها خلقه ممن هم من أجناس المكلفين ، فقد أنشأهم سبحانه قابلين لمعرفة الله الحق ، وهيأهم وأعدهم بما ركب فيهم من قوى مدركة توصلهم إلى العلم بجلال الصانع حين يعاينون إبداع الصنع ، وإتقان الخلق- وفسرها الكثير هنا بقابلية الحق والتهييء لإدراكه ، وقالوا : معنى لزومها : الجريان على موجبها ، وعدم الإخلال به باتباع الهوى ، وتسويل شياطين الإنس والجن{[3335]}-{ لا تبديل لخلق الله } تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى- قال الإمام : ويحتمل أن يقال : إن الله تعالى خلق خلقه للعبادة وهم كلهم عبيده{ لا تبديل لخلق الله } أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ، ويخرج عن ملكه بالعتق ، بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية{[3336]}- مما في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء{[3337]} هل تحسون فيها من جدعاء{[3338]} " ثم يقول أبو هريرة : واقرؤوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } ، وفي رواية : " حتى تكونوا أنتم تجدعونها " قالوا : يا رسول الله ! أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " لفظ مسلم ، نقل عن طائفة من أهل الفقه والنظر : أن الفطرة الخلقة ، وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار ، قالوا : وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقة وطبعا وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ، ولا إنكار ولا معرفة ، ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا ، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم ، وعصم الله أقلهم ، قالوا : ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمورهم ما انتقلوا عنه أبدا ، وقد تجدهم يؤمنون ثم يكفرون ، قالوا : ويستحيل- في المعقول- أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا ، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا ، قال الله تعالى : )والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا . . ( {[3339]} .

قال ابن عطية : والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة : أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة ومهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ، ويستدل بها على ربه ، ويعرف شرائعه ، ويؤمن به ، ومن مات صغيرا من أولاد المسلمين فهم مع آبائهم في الجنة ، وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا طويلا ، وفيه قوله عليه السلام : " وأما الرجل الطويل فإبراهيم عليه السلام ، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة " قال : فقيل : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأولاد المشركين " ، وروى مسلم في صحيحه- بسنده- عن عياض المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته " إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا كل ما نحلته عبادي حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت ربي إذا يثلغ رأسي فيدعه خبزة قال استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك- قال- وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عفيف متعفف ذو عيال- قال- وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا ، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك " وذكر البخيل والكذاب والشنظير الفحاش .

{ ذلك الدين القيم } ذلك الذي وصيتكم بلزومه ، والثبات عليه ، والتوجه بكليتكم إليه هو الدين الذي لا عوج فيه ، وأمته قيمة بالحق- كما يشهد لذلك قول الله سبحانه : ) . . وذلك دين القيمة( {[3340]} ، وهو الذي يقوم نهج العباد ، ويسوس أمرهم إلى ما يسعد عاجلهم ومصيرهم ، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } إذ لا يتفكرون ، ولو تفكروا لعلموا{[3341]} أن هذا هو النور ، وليس بعده إلا الظلمات


[3334]:ما بين العارضتين نقله صاحب الجامع لأحكام القرآن عن بعض العلماء..
[3335]:مما أورد الألوسي عن طائفة.
[3336]:مما أورد الألوسي عن طائفة.
[3337]:جمعاء: سليمة مجتمعة الأعضاء.
[3338]:مقطوعة عضو. وقد كان أهل الجاهلية يشقون آذان بعض الأنعام أو يسمون عضوا منها، ويقولون: هذه بحيرة، وهذه سائبة، وهذه وصيلة، وهذه حام، يتركونها ترعى ولا يأكلونها، ولا يركبونها.
[3339]:سورة النحل. من الآية 78.
[3340]:سورة البينة. من الآية 5.
[3341]:يمكن أن يكون الفعل{يعلمون} منزل منزلة اللازم، وجائز أن يكون المفعول مقدرا، أي لا يعلمونه.