تشتمل هذه السورة الكريمة على إحدى وعشرة آية ومائة ، وهي سورة مكية إلا الآيات 26 ، 32 ، 33 ، 57 ، ومن آية إلى 80 ، فمجوع الآيات المدنية اثنتا عشرة آية .
ابتدأت السورة بتسبيح الله تعالى ، ثم ذكرت الإسراء ، ثم رسالة موسى ، وما كان من بني إسرائيل . ثم أشارت إلى منزلة القرآن الكريم في الهداية ، وإلى الآيات الكونية في الليل والنهار ، وما يكون للناس يوم القيامة من جزاء على ما يقدمون من أعمال في الدنيا . وبين سبحانه أسباب فساد الأمم ، وحال الأفراد في مساعيهم ونتائج أعمالهم في الآخرة ، وجاءت الآيات من بعد ذلك بإكرام الوالدين ، وحال الناس بالنسبة لأموالهم ، وجاءت بأوامر عشرة . فيها بناء المجتمع الفاضل ، ثم رد سبحانه مفتريات المشركين بالنسبة للملائكة ، ثم بين القرآن تصريفه في الحجج .
ثم أشار سبحانه إلى ما يستحق من تحميد ، وإلى جحود المشركين ، وقدم سبحانه وصايا للمؤمنين ، وبين معاملته تعالى للكافرين في الدنيا وفي الآخرة . ثم بين سبحانه أصل الخليقة الإنسانية والشيطانية ، وهدد سبحانه المشركين بآياته ، وبين بعد هذا سبحانه الكرامة الإنسانية ، وذكر سبحانه بعذاب يوم القيامة ، ثم ذكر محاولة المشركين لصرف النبي عن دعوته ، وتثبيت الله تعالى له ، وقد أوصى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك النبي بعدة وصايا هادية ، وأدعية ضارعة ، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى منزلة القرآن الكريم ، وتكلم سبحانه عن الروح ، وأشار إلى أسرارها ، ثم ذكر سبحانه قدرته على أن يأتي بآيات أخرى ، ثم بين منزلة القرآن فيما اشتمل عليه من الحق ، وحال المؤمنين الصادقين في إيمانهم ، وما ينبغي من أن يحمدوا الله دائما ويكبروه .
1- تنزيهاً لله عما لا يليق به ، وهو الذي سار بعبده محمداً في جزء من الليل من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس ، الذي بارك الله حوله لسكانه في أقواتهم ، لِنُريَه من أدلتنا ما فيه البرهان الكافي على وحدانيتنا وعظم قدرتنا ، إن الله - وحده - هو السميع البصير .
قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } سبحان الله : تنزيه الله تعالى من كل سوء ، ووصفه بالبراءة من كل نقص على طريق المبالغة ، وتكون سبحان بمعنى التعجب ، { أسرى بعبده } أي : سيره ، وكذلك سرى به ، والعبد هو : محمد صلى الله عليه وسلم . { من المسجد الحرام } ، قيل : كان الإسراء من مسجد مكة . روى قتادة عن أنس عن مالك ابن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " ، فذكر حديث المعراج . وقال قوم : عرج به من دار أم هانئ بنت أبي طالب ، ومعنى قوله : { من المسجد الحرام } أي : من الحرم . قال مقاتل : كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة . ويقال : كان في رجب . وقيل : كان في شهر رمضان { إلى المسجد الأقصى } ، يعني : بيت المقدس ، وسمي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار . وقيل : لبعده من المسجد الحرام { الذي باركنا حوله } ، بالأنهار والأشجار والثمار . وقال مجاهد : سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي ، ومنه يحشر الناس يوم القيامة { لنريه من آياتنا } من عجائب قدرتنا ، وقد رأى هناك الأنبياء والآيات الكبرى { إنه هو السميع البصير } ذكر السميع ، لينبه على أنه المجيب لدعائه ، وذكر البصير ، لينبه على أنه الحافظ له في ظلمة الليل . وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول : ما فقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أسرى بروحه ، والأكثرون على أنه بجسده في اليقظة ، وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك .
أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو حامد أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا همام بن يحيى ، حدثنا قتادة قال البخاري : وقال لي خليفة العصفري : حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد بن هشام . قال : حدثنا قتادة ، حدثنا أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، حدثهم عن ليلة أسري به ، حدثنا قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : حدثنا .
وأخبرنا أبو سعيد إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد الفارسي ، أنبأنا أبو الحسين محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : -دخل حديث بعضهم في بعض- قال أبو ذر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فرج عني سقف بيتي ، وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري ، ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً ، فأفرغه في صدري ، ثم أطبقه " . وقال مالك بن صعصعة : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : " بينما أنا في الحطيم ، وربما قال في الحجر ، بين النائم واليقظان ، وذكر بين رجلين ، فأتيت بطست من ذهب مملوء حكمة وإيماناً فشق من النحر إلى مراق البطن ، واستخرج قلبي فغسل ثم حشي ، ثم أعيد " . وقال سعيد وهشام : ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمةً ، ثم أوتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل ، فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ، فركبته فانطلقت مع جبريل حتى أتيت بيت المقدس ، قال : فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ، قال : ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل : اخترت الفطرة ، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح ، قيل من هذا ؟ قال : جبريل : قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح الباب ، فلما خلصت ، فإذا فيها آدم ، فقال لي : هذا أبوك آدم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح . وفي حديث أبي ذر : علونا السماء الدنيا ، فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة ، إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال : مرحباً بالنبي الصالح ، والابن الصالح . قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة التي عن يمينه وشماله نسم بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى . ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت ، إذا بيحيى وعيسى ، عليهما السلام ، وهما ابنا خالة ، قال : هذا يحيى وعيسى ، فسلم عليهما ، فسلمت فردا ، ثم قالا : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قال : ومن معك ؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت ، فإذا يوسف ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، قال : هذا يوسف فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد علي ، ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح ، والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت فإذا إدريس ، قال هذا إدريس فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي والصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا هارون ، قال : هذا هارون فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح ، والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا موسى ، قال : هذا موسى فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ، فلما جاوزت بكى قيل له : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي . ثم صعد بي إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، قيل : من هذا ؟ قال جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا إبراهيم ، قال : هذا أبوك إبراهيم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح ، والابن الصالح ، فرفع لي البيت المعمور ، فسألت جبريل ؟ فقال : هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم . وقال ثابت عن أنس : فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور ، إذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، قال : فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، في أصلها أربعة أنهار : نهران باطنان ، ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذان يا جبريل ؟ فقال : أما الباطنان ، فنهران في الجنة ، وأما الظاهرات فالنيل والفرات . وأوحى إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاةً في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم ، قال : فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف على أمتي ، فحط عني خمساً ، فرجعت إلى موسى فقلت : حط عني خمسة ، قال : إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال : يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر ، هي خمس وهي خمسون ، لا يبدل القول لدي ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة . قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . فقلت : سألت ربي حتى استحييت ولكني أرضى وأسلم ، قال : فلما جاوزت نادى مناد : أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك . قال ابن شهاب : فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري ، كانا يقولان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوىً فيه صريف الأقلام " . قال ابن حزم وأنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ففرض الله على أمتي خمسين صلاة " . وروى معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم : " أتي بالبراق ليلة أسري به ملجماً مسرجاً ، فاستصعب عليه ، فقال جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، فارفض عرقاً " . وقال ابن بريده عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه ، فخرق بها الحجر وشد بها البراق " .
أنبأنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني محمود ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليلة أسري بي لقيت موسى ، قال : فنعته ، فإذا هو رجل- حسبته قال : مضطرب - رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة . قال : ولقيت عيسى ، فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ربعة ، أحمر ، كأنما خرج من ديماس ، يعني : الحمام ، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به ، قال : وأتيت بإناءين : أحدهما لبن ، والآخر فيه خمر ، فقيل له : خذ أيهما شئت ، فأخذت اللبن فشربته ، فقيل لي : هديت الفطرة و أصبت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر لغوت أمتك " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ، قال : هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس . قال : والشجرة الملعونة في القرآن قال : هي شجرة الزقوم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني سليمان ، عن شريك بن عبد الله قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر ، قبل أن يوحى إليه ، وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال : أوسطهم هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه ، أوتنام عينه ، ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ، ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلموه حتى احتملوه ووضعوه عند بئر زمزم ، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده . وساق حديث المعراج بقصته . فقال : وإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان ، قال : هذا النيل والفرات ، عنصرهما واحد ، ثم مضى به في السماء الثانية ، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر ، قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك . وساق الحديث ، وقال : ثم عرج بي إلى السماء السابعة ، وقال : قال موسى : رب لم أظن أن ترفع علي أحداً ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعمله إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه فيما يوحى إليه الله خمسين صلاة كل يوم وليلة ، وقال : فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ، ثم احتبسه موسى عند الخمس ، فقال : يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا عنه وتركوه ، فأمتك أضعف قلوباً وأجساداً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً ، فارجع فليخفف عنك ربك ، كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ، ولا يكره ذلك جبريل ، فرفعه عند الخامسة ، فقال : يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفف عنا ، فقال الجبار : يا محمد ، قال : لبيك وسعديك ، قال : إنه لا يبدل القول لدي ، كما فرضت عليك في أم الكتاب ، فكل حسنة بعشر أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب ، وهي خمس عليك ، فقال موسى : ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه ، قال : فاهبط بسم الله . فاستيقظ وهو في المسجد الحرام . وروى مسلم هذا الحديث مختصراً عن هارون بن سعيد الإيلي ، عن ابن وهب ، عن سليمان ابن بلال . قال شيخنا الإمام رضي الله عنه : قد قال بعض أهل الحديث ما وجدنا لمحمد بن إسماعيل و لمسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا هذا ، وأحال الأمر فيه إلى شريك بن عبد الله ، وذلك أنه ذكر فيه أن ذلك قبل أن يوحى إليه ، واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة قبل الهجرة بسنة . وفيه أيضاً : أن الجبار دنا فتدلى . وذكرت عائشة أن الذي دنا فتدلى جبريل عليه السلام . قال شيخنا الإمام رضي الله عنه : وهذا الاعتراض عندي لا يصح ، لأن هذا كان رؤيا في النوم ، أراه الله عز وجل قبل الوحي ، بدليل آخر الحديث : قال فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ، ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي قبل الهجرة بسنة تحقيقاً لرؤياه من قبل ، كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ، ثم كان تحقيقه سنة ثمان ونزل قوله عز وجل : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح – 27 ] وروي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وكان بذي طوى قال : يا جبريل إن قومي لا يصدقوني ، قال : يصدقك أبو بكر وهو الصديق . قال ابن عباس ، وعائشة ، رضي الله عنهم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما كانت ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي ، فروي أنه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً ، فمر به أبو جهل فجلس إليه فقال له كالمستهزئ : هل استفدت من شيء ؟ قال : نعم إني أسري بي الليلة قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس ، قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ، قال : نعم ، فلم ير أبو جهل أنه ينكر ، مخافة أن يجحده الحديث ، قال : أتحدث قومك ما حدثتني ؟ قال : نعم ، قال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا ، قال : فانفضت إليه المجالس فجاؤوا حتى جلسوا إليهما ، قال : فحدث قومك ما حدثتني قال : نعم إني أسري بي الليلة ، قالوا إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس ، قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم ، قال : فمن بين مصفق ، ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً ، وارتد ناس ممن كان آمن به وصدقه ، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال : هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس ، قال : أو قد قال ذلك ؟ قال : نعم ، قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : وتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم ، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة ، فلذلك سمي أبو بكر الصديق . قال : وفي القوم من قد أتى المسجد الأقصى ، فقالوا : هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ قال : نعم ، قال : ذهبت أنعت وأنعت ، فمازلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت ، قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد ، وأنا أنظر إليه ، فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب ، ثم قالوا : يا محمد أخبرنا عن عيرنا هي أهم إلينا ، فهل لقيت منها شيئاً ؟ قال : نعم مررت على عير بني فلان ، وهي بالروحاء ، وقد أضلوا بعيرا لهم ، وهم في طلبه ، وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته فشربته ، ثم وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه ؟ قالوا : هذه آية ، قال : ومررت بعير بني فلان ، وفلان وفلان راكبان قعوداً لهما بذي طوى ، فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان ، فانكسرت يده ، فسلوهما عن ذلك ، قالوا : وهذه آية . قالوا : فأخبرنا عن عيرنا نحن متى تجيء ؟ قال : مررت بها بالتنعيم ، قالوا : فما عدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها ؟ فقال : نعم ، هيئتها كذا وكذا ، وفيها فلان وفلان ، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان ، تطلع عليكم عند طلوع الشمس ، قالوا وهذه آية . ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون : والله لقد قص محمد شيئا وبينه حتى أتوا كدىً ، فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه ، إذ قال قائل منهم : والله هذه الشمس قد طلعت ، وقال آخر : وهذه والله الإبل قد طلعت ، يقدمها بعير أورق ، فيها فلان وفلان ، كما قال لهم ، فلم يؤمنوا ، { وقالوا إن هذا إلا سحر مبين } .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا حجر بن المثنى ، أنبأنا عبد العزيز وهو ابن أبي سلمة - عن عبد الله بن الفضل ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيتني في الحجر ، وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربت كرباً ما كربت مثله قط ، قال : فرفعه الله لي أنظر إليه ، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، ولقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلي ، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى قائم يصلي ، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي ، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فجاءت الصلاة فأممتهم ، فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل : يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه . فالتفت إليه فبدأني بالسلام " .
سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة
هذه السورة - سورة الإسراء - مكية ، وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده ؛ وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة ؛ وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ؛ إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء . وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان .
ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه في مكة . وهو القرآن الذي جاء به ، وطبيعة هذا القرآن ، وما يهدي إليه ، واستقبال القوم له . واستطرادا بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل ، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها . وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي ، والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع . . كل ذلك بعد أن يعذر الله - سبحانه - إلى الناس ، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل ) وكل شيء فصلناه تفصيلا ) .
ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه . ففي مطلعها : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . . )وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح )إنه كان عبدا شكورا ) . . وعند ذكر دعاوي المشركين عن الآلهة يعقب بقوله : )سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن : )ويقولون : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) . . وتختم السورة بالآية )وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ، ولم يكن لهشريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا ) .
في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا ، يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة .
يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء : )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله )مع الكشف عن حكمة الإسراء )لنريه من آياتنا ) . . وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل ، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين ، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة )وإن عدتم عدنا ) . . ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم ، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته . ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال ، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك .
ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد ، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه ، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه .
ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله ، وعن البعث واستبعادهم لوقوعه ، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول [ ص ] ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر ، ويتكلموا بالتي هي أحسن .
وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا [ ص ] بالخوارق فقد كذب بها الأولون ، فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله ؛ كما يتناول موقف المشركين من إنذارهم لله في رؤيا الرسول [ ص ] وتكذيبهم وطغيانهم . ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس ، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين . ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله ، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان ، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم : فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول [ ص ] ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم . ويأمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته ، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل ، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين ، بينما الإنسان قليل العلم )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) .
ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه . بينما هم يطلبون خوارق مادية ، ويطلبون نزول الملائكة ، ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب ، يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه . . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة ، لا طلب الهدى والاقتناع . ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة ، ويكل الأمر إلى الله . ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوها خوفا من الإنفاق ! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله ، وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلىإيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض ، فأخذهم الله بالعذاب والنكال .
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه . القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته ، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية . والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود . ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل . كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه .
وقصة الإسراء - ومعها قصة المعراج - إذ كانتا في ليلة واحدة - الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس . والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى ، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا . . هذه القصة جاءت فيها روايات شتى ؛ وثار حولها جدل كثير . ولا يزال إلى اليوم يثور .
وقد اختلف في المكان الذي أسرى منه ، فقيل هو المسجد الحرام بعينه - وهو الظاهر - وروى عن النبي [ ص ] " بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " . وقيل : أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد .
وروى أنه كان نائما في بيت أم هانيء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانى ء وقال : " مثل لي النبيون فصليت بهم " ثم قام ليخرج إلى المسجد ، فتشبثت أم هانى ء بثوبه ، فقال : " مالك ? " قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم . قال : " وإن كذبوني " . فخرج فجلس إليه أبو جهل ، فأخبره رسول الله [ ص ] بحديث الإسراء فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم . فحدثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ؛ وارتد ناس ممن كان آمن به ؛ وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال : أوقال ذلك ? قالوا نعم . قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ? قال : نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء ! فسمي الصديق . وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد ، فجلى له ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب . فقالوا : أخبرنا عن عيرنا . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ؛ وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت . فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق ، كما قال محمد . . ثم لم يؤمنوا ! . . وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس .
واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : والله ما فقد جسد رسول الله [ ص ] ولكن عرج بروحه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها . وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه ، وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه .
والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله [ ص ] ترك فراشه في بيت أم هانى ء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد .
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول [ ص ] والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم ، وبين أن تكونرؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة . . المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ؛ ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول [ ص ] عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة . . والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعية شيئا . فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة ، حسب ما اعتاده وما رآه . والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله . أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد ، أو عالم بعيد ؛ والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه . وقد صدق أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول : إني لأصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخير السماء !
ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول [ ص ] لم يسمع لتخوف أم هانى ء - رضي الله عنها - من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة . فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به ، والحق الذي وقع له جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه . وقد ارتد بعضهم فعلا ، واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك . ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول [ ص ] عن الجهر بالحق الذي آمن به . . وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس ، ولا يتملقون به القوم ، ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان ، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال .
كذلك يلاحظ أن الرسول [ ص ] لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته ، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق - وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل - ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق ، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة ، المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها . فلم يكن جهر الرسول [ ص ] بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته . إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة :
والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) . .
تبدأ السورة بتسبيح الله ، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف ، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء .
وتذكر صفة العبودية : ( أسرى بعبده ) لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر ؛ وذلك كي لا تنسى هذه الصفة ، ولا يلتبس مقام العبودية ، بمقام الألوهية ، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام ، بسبب ما لابس مولده ووفاته ، وبسبب الآيات التي أعطيت له ، فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة ، من قريب أو من بعيد .
والإسراء من السرى : السير ليلا . فكلم ( أسرى ) تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكنالسياق ينص على الليل ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) للتظليل والتصوير - على طريقة القرآن الكريم - فيلقي ظل الليل الساكن ، ويخيم جوه الساجي على النفس ، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، إلى محمد خاتم النبيين [ ص ] وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعا . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ؛ وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .
ووصف المسجد الأقصى بأنه ( الذي باركنا حوله ) وصف يرسم البركة حافة بالمسجد ، فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل : باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .
والإسراء آية صاحبتها آيات : ( لنريه من آياتنا ) والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التى لم يبرد فيها فراش الرسول [ ص ] أيا كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله ، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود ؛ وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري ، والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس ، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه ، وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . ( إنه هو السميع البصير ) . . يسمع ويرى كل ما لطف ودق ، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .
والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا إلى صيغة التقرير من الله : ( لنريه من آياتنا ) إلى صيغة الوصف لله : ( إنه هو السميع البصير ) وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس . فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه . وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصا . والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية . وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة .
[ بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ] . {[1]}
تفسير سورة الإسراء . {[2]}
قال الإمام [ الحافظ المتقن أبو عبد الله محمد بن إسماعيل ]{[3]} البخاري : حدّثنا آدم بن أبي إياس ، حدّثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت عبد الرحمن بن يزيد ، سمعت ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال في بني إسرائيل والكهف ومريم : إنهن من العِتاق الأُول ، وهن من تِلادي{[4]} .
وقال الإمام أحمد : حدّثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد ، عن مروان ، عن أبي لبابة ، سمعت عائشة تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم ، وكان يقرأ كل ليلة " بني إسرائيل " ، و " الزمر " {[5]} .
يمجد تعالى نفسه ، ويعظم شأنه ، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه ، فلا إله غيره { الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } يعني محمدًا ، صلوات الله وسلامه عليه{[16775]} { لَيْلا } أي في جنح الليل { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وهو مسجد مكة { إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى } وهو بيت المقدس الذي هو إيلياء{[16776]} ، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل ؛ ولهذا جمعوا له هنالك كلهم ، فَأمّهم في مَحِلّتهم{[16777]} ، ودارهم ، فدل على أنه هو الإمام الأعظم ، والرئيس المقدم ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
وقوله : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } أي : في الزروع والثمار { لِنُرِيَهُ } أي : محمدًا { مِنْ آيَاتِنَا } أي : العظام كما قال تعالى : { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [ النجم : 18 ] .
وسنذكر من ذلك ما وردت به السنة من الأحاديث عنه ، صلوات الله عليه وسلامه .
وقوله : { إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أي : السميع لأقوال عباده ، مؤمنهم وكافرهم ، مصدقهم ومكذبهم ، البصير بهم فيعطي كلا ما يستحقه في الدنيا والآخرة .
ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء
قال الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثني عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا سليمان - هو ابن بلال - عن شريك بن عبد الله{[16778]} قال : سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة : إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم . فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه ، وتنام عيناه ولا ينام قلبه - وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبريل ، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم ، بيده حتى أنقي جوفه ، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوًا إيمانًا وحكمة ، فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه . ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب بابًا من أبوابها ، فناداه أهل السماء : من هذا ؟ فقال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : معي محمد . قالوا : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم . قالوا : مرحبًا به وأهلا به ، يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يُعْلِمهم .
ووجد في السماء الدنيا آدم ، فقال له جبريل : هذا أبوك آدم فسلِّم عليه ، فسلَّم عليه ، وردّ عليه آدم فقال : مرحبًا وأهلا بابني ، نعم{[16779]} الابن أنت ، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال : " ما هذان النهران يا جبريل ؟ " قال : هذا النيل والفرات عنصرهما ، ثم مضى به في{[16780]} السماء ، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فضرب يده فإذا هو مسك أذْفر فقال : " ما هذا يا جبريل ؟ " قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك .
ثم عرج إلى السماء الثانية ، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى : مَنْ هذا ؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم . قالوا : مرحبًا{[16781]} وأهلا وسهلا .
ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية . ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فقالوا له مثل ذلك . ثم عرج به إلى السماء الخامسة ، فقالوا له مثل ذلك . ثم عرج به إلى السماء السادسة ، فقالوا له مثل ذلك . ثم عرج به إلى السماء السابعة ، فقالوا له مثل ذلك . كل سماء فيها أنبياء قد سماهم ، قد وعيت{[16782]} منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة ، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه ، وإبراهيم في السادسة ، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله . فقال موسى : " رب لم أظن أن يرفع عليّ أحد " {[16783]} ثم علا به فوق ذلك ، بما لا يعلمه إلا الله ، عز وجل ، حتى جاء سِدْرَة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى ، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الله إليه فيما يوحى : خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة . ثم هبط به حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال : " يا محمد ، ماذا عهد إليك ربك ؟ " قال : " عهد إليّ خمسين صلاة كل يوم وليلة " قال : " إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم " . فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار إليه جبريل : أن نعم ، إن شئت . فعلا{[16784]} به إلى الجبار تعالى ، فقال وهو في مكانه : " يا رب ، خفف عنا ، فإن أمتي لا تستطيع هذا " فوضع عنه عشر صلوات ، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه ، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات . ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال : " يا محمد ، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا ، فضعفوا فتركوه ، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا ، فارجع فليخفف عنك ربك " كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ، ولا يكره ذلك جبريل ، فرفعه عند الخامسة فقال : " يا رب ، إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم{[16785]} وأبدانهم فخفف عنا " فقال : الجبار : " يا محمد ، قال : " لبيك وسعديك " قال : إنه لا يبدل القول لديّ ، كما فرضت عليك في أم الكتاب : " كل حسنة بعشر أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك " ، فرجع إلى موسى فقال : " كيف فعلت ؟ " فقال : " خفف عنا ، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها " قال : موسى : " قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضًا " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا موسى قد - والله - استحييت من ربي مما أختلف إليه " {[16786]} قال : " فاهبط باسم الله " ، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام .
هكذا ساقه البخاري في " كتاب التوحيد " {[16787]} ، ورواه في " صفة النبي صلى الله عليه وسلم " ، عن إسماعيل بن أبي أُوَيْس عن أخيه أبي بكر عبد الحميد ، عن سليمان بن بلال{[16788]} .
ورواه مسلم ، عن هارون بن سعيد ، عن ابن وَهْب ، عن سليمان{[16789]} قال : " فزاد ونقص ، وقدم وأخر " {[16790]} .
وهو كما قاله{[16791]} مسلم ، رحمه الله ، فإن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر اضطرب في هذا الحديث ، وساء حفظه ولم يضبطه ، كما سيأتي بيانه في الأحاديث الأخر .
ومنهم من يجعل هذا منامًا توطئة لما وقع بعد ذلك ، والله أعلم .
[ وقال ]{[16792]} البيهقي : في{[16793]} حديث " شريك " زيادة تفرد بها ، على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ، يعني قوله : " ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى " قال : وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤيته جبريل - أصح{[16794]} .
وهذا الذي قاله البيهقي هو الحق في هذه المسألة ، فإن أبا ذر قال : يا رسول الله ، هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنى أراه " . وفي رواية " رأيت نورا " . أخرجه مسلم ، رحمه الله{[16795]} .
وقوله : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } [ النجم : 8 ] ، إنما هو جبريل ، عليه السلام ، كما ثبت ذلك في الصحيحين ، عن عائشة أمّ المؤمنين ، وعن ابن مسعود ، وكذلك هو في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنهم ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الآية بهذا{[16796]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا ثابت البُناني ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ، فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس ، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط{[16797]} فيها الأنبياء ، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت . فأتاني{[16798]} جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن . قال جبريل : أصبت الفطرة " قال : " ثم عرج بي إلى السماء الدنيا ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . فقيل :{[16799]} ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ [ قال : قد أرسل إليه ]{[16800]} . ففتح لنا ، فإذا أنا بآدم ، فرحب ودعا لي بخير .
ثم عَرَج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد . فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ، فرحبا بي ودعوا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل . فقيل : ومن معك ؟ فقال : محمد . فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بيوسف ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، فرحب ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل . فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد . فقيل : قد أرسل إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح الباب ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب ودعا لي بخير . ثم قال : يقول الله : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } [ مريم : 57 ] .
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل . فقيل : [ و ]{[16801]} من معك ؟ فقال : محمد . فقيل : قد أرسل إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بهارون ، فرحب ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل . قيل{[16802]} ومن معك ؟ قال : محمد . فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بموسى فرحب ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل :{[16803]} ومن معك ؟ قال : محمد . فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بإبراهيم{[16804]} ، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه .
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، فإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال . فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت ، فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها . قال : " فأوحى الله إليّ ما أوحى ، وفرض عليّ في كل يوم وليلة خمسين صلاة ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى " . قال : " ما فرض ربك على أمّتك ؟{[16805]} قال : " قلت : خمسين صلاة في كل يوم وليلة " . قال : ارجع{[16806]} إلى ربك فاسأله التخفيف ؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك ، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم " . قال{[16807]} : " فرجعت إلى ربي ، فقلت : أي رب ، خفف عن أمّتي ، فحطّ عني خمسًا . فرجعت إلى موسى فقال : ما فعلت ؟ قلت :{[16808]} قد حطّ عني خمسًا " . قال : " إن أمّتك لا تطيق ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك " قال : " فلم{[16809]} أزل أرجع بين ربي وبين موسى ، ويحط عني خمسًا خمسًا حتى قال : يا محمد ، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة ، بكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت [ له ]{[16810]} حسنة ، فإن عملها كتبت عشرًا . ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة . فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك ، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت " .
ورواه مسلم عن شَيْبَان بن فَرُّوخ ، عن حماد بن سلمة بهذا السياق{[16811]} ، وهو أصح من سياق شَريك .
قال البيهقي : وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به ، عليه الصلاة والسلام ، من مكة إلى بيت المقدس{[16812]} . وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مُسْرَجًا ملجمًا ليركبه ، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : ما يحملك على هذا ؟ فوالله ما ركبك قط أكرم على الله منه . قال : فارفضَّ عرقًا .
ورواه الترمذي عن إسحاق بن منصور ، عن عبد الرزاق ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديثه{[16813]} .
وقال أحمد أيضًا : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما عرج بي ربي ، عز وجل ، مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم " .
وأخرجه أبو داود ، من حديث صفوان بن عمرو ، به{[16814]} . ومن وجه آخر ليس فيه أنس{[16815]} ، فالله أعلم .
وقال أيضًا : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن سليمان التّيْمِي ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مررت ليلة أسري بي على موسى ، عليه السلام ، قائمًا يصلي في قبره " {[16816]} .
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة ، عن سليمان بن طرخان التيمي وثابت البناني ، كلاهما عن أنس{[16817]} .
قال النسائي : وهذا أصح من رواية من قال : سليمان عن ثابت ، عن أنس .
وقال [ الحافظ ]{[16818]} أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا وهب بن بقيَّة ، حدثنا خالد ، عن التيمي ، عن أنس قال : أخبرني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرّ على موسى وهو يصلي في قبره{[16819]} .
وقال أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة ، حدثنا معتمر ، عن أبيه قال : سمعت أنسًا : أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرّ بموسى{[16820]} وهو يصلي في قبره - قال أنس : ذكر أنه حمل على البراق - فأوثق الدابة - أو قال : الفرس - قال أبو بكر : صفها لي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر كلمة{[16821]} فقال : أشهد أنك رسول الله ، وكان أبو بكر ، رضي الله عنه ، قد رآها{[16822]} .
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن أبي عمران الجوني ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا أنا قاعد{[16823]} إذ جاء جبريل عليه السلام ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير ، فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر فسمت{[16824]} وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي ، ولو شئت أن أمس السماء لمسست ، فالتفت إلى جبريل ، عليه السلام ، كأنه حِلْس{[16825]} لاط فعرفت فضل علمه بالله علي ، وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظمَ ، وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت ، وأوحى إليَّ ما شاء الله أن يوحى " ثم قال : هذا الحديث لا نعلم رواه إلا أنس ، ولا نعلم رواه عن أبي عمران الجوني إلا الحارث بن عبيد ، وكان رجلا مشهورًا من أهل البصرة{[16826]} .
ورواه الحافظ البيهقي في " الدلائل " ، عن أبي بكر القاضي ، عن أبي جعفر محمد بن علي بن دُحَيْم ، عن محمد بن الحسين بن أبي الحُنَيْن ، عن سعيد بن منصور ، فذكر بسنده مثله ، ثم قال : وقال غيره في هذا الحديث في آخره : " ولُطّ دوني - أو قال : دون الحجاب - رفرف الدر والياقوت " . ثم قال : هكذا{[16827]} رواه الحارث بن عبيد . ورواه حماد{[16828]} بن سلمة ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن محمد بن عمير بن عطارد : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ملإ من أصحابه ، فجاءه{[16829]} جبريل ، فنكت في ظهره فذهب به إلى الشجرة وفيها مثل وَكْري الطير ، فقعد في أحدهما وقعد جبريل في الآخر ، فنشأت بنا حتى بلغت{[16830]} الأفق ، فلو بسطت يدي إلى السماء لنلتها ، فدلي بسبب وهبط النور ، فوقع جبريل مغشيًا عليه كأنه حِلْس ، فعرفت فضل خشيته على خشيتي . فأوحي إلي : نبيًا ملكًا أو نبيًا عبدًا ؟ وإلى الجنة ما أنت ؟ فأومَأ{[16831]} إلي جبريل وهو مضطجع : أن تواضع . قال : قلت : لا . بل نبيًا عبدًا{[16832]} .
قلت : وهذا إن صح يقتضي أنها واقعة غير ليلة الإسراء ، فإنه لم يذكر فيها بيت المقدس ، ولا الصعود إلى السماء ، فهي كائنة غير ما نحن فيه ، والله أعلم .
وقال البزار أيضًا : حدثنا عمرو بن عيسى ، حدثنا أبو بحر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس ، رضي الله عنه ، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ، عز وجل ، هذا غريب .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا يونس ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن أنس بن مالك قال : لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فكأنها أَمَرَّت ذنبها ، فقال لها جبريل : مه يا براق ، فوالله إن ركبك{[16833]} مثله . وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بعجوز على جانب الطريق ، فقال : " ما هذه يا جبريل ؟ " قال : سر يا محمد . قال : فسار ما شاء الله أن يسير ، فإذا شيء يدعوه متنحيًا عن الطريق يقول : هلم يا محمد فقال له جبريل : سر يا محمد فسار ما شاء الله أن يسير ، قال : فلقيه خلق من الخلق فقالوا : السلام عليك يا أول ، السلام عليك يا آخر ، السلام عليك يا حاشر ، فقال له جبريل : اردد السلام يا محمد . فرد السلام ، ثم لقيه الثانية فقال له مثل مقالته الأولى ، ثم الثالثة كذلك ، حتى انتهى إلى بيت المقدس . فعرض عليه الماء والخمر واللبن ، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن ، فقال له جبريل : أصبت الفطرة ، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك ، ولو شربت الخمر لغويت ولغوت{[16834]} أمتك . ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء ، عليهم السلام ، فأمَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة . ثم قال له جبريل : أما العجوز التي{[16835]} رأيت على جانب الطريق ، فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز ، وأما الذي أراد أن تميل إليه ، فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه ، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى ، عليهم الصلاة والسلام .
وهكذا رواه الحافظ البيهقي في " دلائل النبوة " من حديث ابن وهب{[16836]} ، وفي بعض ألفاظه نكارة وغرابة .
وفيها غرابة ونكارة جدًا ، وهي في سنن النسائي المجتبى ، ولم أرها في الكبير قال : أخبرنا عمرو{[16837]} بن هشام ، حدثنا مَخْلَد - هو ابن الحسين - عن سعيد بن عبد العزيز ، حدثنا يزيد بن أبي مالك ، حدثنا أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل ، خطوها عند منتهى طرفها ، فركبت ومعى جبريل عليه السلام فسرت فقال : انزل فصل . فصليت ، فقال : أتدري أين صليت ؟ [ صليت بطيبة وإليها المهاجر ، ثم قال : انزل فصل . فصليت ، فقال : أتدري أين صليت ؟ ]{[16838]} صليت بطور سيناء ، حيث كلم الله موسى ، ثم قال : انزل فصل . فصليت ، فقال : أتدري أين صليت . صليت ببيت لحم ، حيث ولد عيسى ، عليه السلام ، ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام ، فقدمني جبريل حتى أممتهم [ ثم صعد بي إلى السماء الدنيا ، فإذا فيها آدم ، عليه السلام ]{[16839]} ثم صعد بي إلى السماء الثانية ، فإذا فيها ابنا الخالة : عيسى ويحيى ، عليهما السلام ، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة ، فإذا فيها يوسف عليه السلام . ثم صعد بي إلى السماء الرابعة ، فإذا فيها هارون ، عليه السلام . ثم صعد بي إلى السماء الخامسة ، فإذا فيها إدريس عليه السلام . ثم صعد بي إلى السماء السادسة ، فإذا فيها موسى ، عليه السلام . ثم صعد بي إلى السماء السابعة ، فإذا فيها إبراهيم عليه السلام ، ثم صعد بي فوق سبع سموات وأتيت سدرة المنتهى ، فغشيتني ضبابة فخررت{[16840]} ساجدًا فقيل لي : إني يوم خلقت السموات والأرض ، فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة ، فقم بها أنت وأمتك [ فرجعت إلى إبراهيم فلم يسألني ، عن شيء . ثم أتيت موسى فقال : كم فرض الله عليك وعلى أمتك ؟ ]{[16841]} قلت : خمسين صلاة . قال : فإنك لا تستطيع أن تقوم بها ، لا أنت ولا أمتك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف{[16842]} فرجعت إلى ربي فخفف عني عشرًا . ثم أتيت موسى فأمرني بالرجوع ، فرجعت فخفف عني عشرًا ، ثم ردت إلى خمس صلوات ، قال : فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين ، فما قاموا بهما . فرجعت إلى ربي ، عز وجل ، فسألته التخفيف ، فقال : إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة ، فخمس بخمسين ، فقم بها أنت وأمتك . فعرفت أنها من الله عز وجل{[16843]} صِرَّى فرجعت إلى موسى ، عليه السلام{[16844]} فقال : ارجع ، فعرفت أنها من الله صِرَّى - يقول : أي حتم - فلم أرجع " {[16845]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، أتاه جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل ، حمله جبريل عليها ، ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها . فلما بلغ بيت المقدس وبلغ{[16846]} المكان الذي يقال له : " باب محمد صلى الله عليه وسلم " أتى إلى الحجر الذي ثمة ، فغمزه جبريل بأصبعه فثقبه ، ثم ربطها . ثم صعد فلما استويا في صَرْحَة المسجد ، قال جبريل : يا محمد ، هل سألت ربك أن يريك الحور العين ؟ فقال : نعم . فقال : فانطلق إلى أولئك النسوة ، فسلم عليهن وهن جلوس عن يسار الصخرة ، قال : فأتيتهن فسلمت عليهن ، فرددن عليّ السلام ، فقلت : من أنتن ؟ فقلن : نحن خيرات حسان ، نساء قوم أبرار ، نقوا فلم يدرنوا ، وأقاموا فلم يظعنوا ، وخلدوا فلم يموتوا " . قال : " ثم انصرفت{[16847]} ، فلم ألبث إلا يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير ، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة " . قال : " فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا ، فأخذ بيدي جبريل عليه السلام ، فقدمني فصليت بهم . فلما انصرفت قال جبريل : يا محمد ، أتدري من صلى خلفك ؟ " قال : " قلت : لا . قال : صلى خلفك كل نبي بعثه الله عز وجل " .
قال : " ثم أخذ بيدي جبريل فصعد بي إلى السماء ، فلما انتهينا إلى الباب استفتح فقالوا : من أنت ؟ قال : أنا جبريل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم " . قال : " ففتحوا له وقالوا : مرحبًا بك وبمن معك " . قال : " فلما استوى على ظهرها إذا فيها آدم ، فقال لي جبريل : يا محمد ، ألا تسلم على أبيك آدم ؟ " قال : " قلت : بلى . فأتيته فسلمت عليه ، فرد عليّ وقال : مرحبًا بابني والنبي الصالح " . قال : " ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح ، قالوا : من أنت ؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم " : " ففتحوا{[16848]} له وقالوا : مرحبًا بك وبمن معك ، فإذا فيها عيسى وابن خالته يحيى عليهما السلام{[16849]} . قال : " ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح ، قالوا : من أنت ؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم " {[16850]} . ففتحوا{[16851]} وقالوا : مرحبًا بك وبمن معك ، فإذا فيها يوسف ، عليه السلام ، ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح ، قالوا : من أنت ؟ قال : جبريل ؟ قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم . ففتحوا وقالوا : مرحبًا بك وبمن معك . فإذا فيها إدريس عليه السلام " . قال : " فعرج بي إلى السماء الخامسة ، فاستفتح ، قالوا : من أنت ؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم . قال : ففتحوا وقالوا : مرحبًا بك وبمن معك فإذا فيها هارون ، عليه السلام " . قال : " ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح ، قالوا : من أنت ؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم . ففتحوا وقالوا : مرحبًا بك وبمن معك ، فإذا فيها موسى ، عليه السلام . ثم عرج بي إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، فقالوا{[16852]} من أنت ؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم . ففتحوا له وقالوا : مرحبًا بك وبمن معك ، فإذا فيها إبراهيم ، عليه السلام . فقال جبريل : يا محمد ، ألا تسلم على أبيك إبراهيم ؟ قال : قلت : بلى . فأتيته فسلمت عليه ، فرد عليّ السلام وقال : مرحبًا بك يا بني{[16853]} والنبي الصالح .
ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة ، حتى انتهى بي إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد وعليه طير خضر أنعم طير رأيت . فقلت : يا جبريل ، إن هذا الطير لناعم قال{[16854]} : يا محمد ، آكله أنعم منه ثم قال : يا محمد ، أتدري أي نهر هذا ؟ قال : " قلت : لا . قال : هذا الكوثر الذي أعطاك الله إياه . فإذا فيه آنية الذهب والفضة ، يجري{[16855]} على رَضرَاض من الياقوت والزمرد ، ماؤه ، {[16856]} أشد بياضًا من اللبن " قال : " فأخذت منه آنية{[16857]} من الذهب ، فاغترفت من ذلك الماء فشربت ، فإذا هو أحلى من العسل ، وأشد{[16858]} رائحة من المسك . ثم انطلق بي حتى انتهيت{[16859]} إلى الشجرة ، فغشيتني سحابة فيها من كل لون ، فرفضني جبريل ، وخررت ساجدًا لله ، عز وجل ، فقال الله لي : يا محمد ، إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة ، فقم بها أنت وأمتك " . قال : " ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل ، فانصرفت سريعًا فأتيت على إبراهيم فلم يقل لي شيئًا ، ثم أتيت على موسى فقال : ما صنعت يا محمد ؟ فقلت : فرض ربي عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة . قال : فلن تستطيعها أنت ولا أمتك ، فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك . فرجعت سريعًا حتى انتهيت إلى الشجرة ، فغشيتني السحابة ، ورفضني جبريل وخررت ساجدًا وقلت : رب ، إنك فرضت عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة ، ولن أستطيعها أنا ولا أمتي ، فخفف عنا . قال : قد وضعت عنكم عشرًا . قال : ثم انجلت عني السحابة ، وأخذ{[16860]} بيدي جبريل وانصرفت{[16861]} سريعًا حتى أتيت على إبراهيم فلم يقل لي شيئًا ، ثم أتيت على موسى ، فقال لي : ما صنعت يا محمد ؟ فقلت : وضع ربي عني عشرًا فقال : أربعون صلاة ! لن تستطيعها أنت ولا أمتك ، فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنكم - فذكر الحديث كذلك إلى خمس صلوات ، وخمس بخمسين ثم أمره{[16862]} موسى أن يرجع فيسأل التخفيف ، فقلت : " إني قد استحييت منه تعالى " .
قال : ثم انحدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : " ما لي لم آت على{[16863]} سماء إلا رحبوا بي وضحكوا إليّ ، غير رجل واحد ، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام فرحب بي ولم يضحك إليّ . قال : يا محمد ، ذاك مالك خازن جهنم لم يضحك منذ خلق{[16864]} ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك " .
قال : ثم ركب منصرفًا ، فبينا هو في بعض طريقه مرّ بعير لقريش تحمل طعامًا ، منها جمل عليه غرارتان : غرارة سوداء ، وغرارة بيضاء ، فلما حاذى بالعير نفرت منه واستدارت ، وصرع ذلك البعير وانكسر .
ثم إنه مضى فأصبح ، فأخبر عما كان ، فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا : يا أبا بكر ، هل لك في صاحبك ؟ يخبر{[16865]} أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ، ثم رجع في ليلته . فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : إن كان قاله فقد صدق ، وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا ، نصدقه على خبر السماء .
فقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما علامة ما تقول ؟ قال : " مررت بعير لقريش ، وهي في مكان كذا وكذا ، فنفرت العير{[16866]} منا واستدارت ، [ وفيها بعير عليه ]{[16867]} غرارتان : غرارة سوداء ، وغرارة بيضاء ، فصرع فانكسر " .
فلما قدمت العير سألوهم ، فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم{[16868]} ومن{[16869]} ذلك سمي أبو{[16870]} بكر الصديق .
وسألوه وقالوا{[16871]} : هل كان معك فيمن حضر موسى وعيسى ؟ قال : " نعم " . قالوا : فصفهم . قال : " نعم " ، أما موسى فرجل آدم ، كأنه من رجال أزْدِ عمان ، وأما عيسى فرجل ربعة ، سَبْط ، تعلوه{[16872]} حمرة كأنما يتحادر من شعره الجُمَان " {[16873]} .
رواية أنس ، رضي الله عنه ، عن مالك بن صَعْصَعَة :
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا هَمَّام ، قال : سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك : أن مالك بن صعصعة حدثه : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به ، قال : " بينما أنا في الحطيم{[16874]} - وربما قال قتادة : في الحجر - مضطجعًا إذ أتاني آت " فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة ، قال : " فأتاني فقدّ - وسمعت قتادة يقول : فشق - ما بين هذه إلى هذه " . وقال قتادة : فقلت للجارود وهو إلى جنبي : ما يعني ؟ قال : من ثغرة نحره إلى شِعْرته ، وقد سمعته يقول : من قَصَّته إلى شِعْرَته قال : " فاستخرج قلبي " قال : " فأتيت بطست من ذهب مملوء إيمانًا وحكمة فغسل قلبي ثم حشى ، ثم أعيد . ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض " قال : فقال الجارود : وهو البراق يا أبا حمزة ؟ قال : نعم ، يقع خطوه عند أقصى طرفه . قال : " فحملت عليه ، فانطلق بي جبريل ، عليه السلام ، حتى أتى بي إلى السماء الدنيا ، فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . فقيل : مرحبًا به ، ولنعم المجيء جاء " قال : " ففتح{[16875]} فلما خلصت ، فإذا فيها آدم ، عليه السلام ، فقال : هذا أبوك آدم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ، ثم قال : مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح .
ثم صعد حتى أتى السماء الثانية ، فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال{[16876]} : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد قيل{[16877]} : أوقد{[16878]} أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء " ، قال : " ففتح ، فلما خلصت ، فإذا يحيى{[16879]} وعيسى وهما ابنا الخالة . قال : هذا{[16880]} يحيى وعيسى ، فسلم عليهما . قال : فسلمت فردا السلام ثم قالا{[16881]} مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح .
ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء " . قال : ففتح{[16882]} فلما خلصت ، فإذا يوسف{[16883]} ، عليه السلام ، قال : هذا يوسف{[16884]} قال : " فسلمت عليه ، فرد السلام ثم قال : مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح .
ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة ، فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟
قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ، ولنعم المجيء جاء " قال : " ففتح فلما خلصت فإذا إدريس ، قال : هذا إدريس فسلم عليه " . قال : " فسلمت عليه . فرد السلام{[16885]} ، ثم قال : مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح " .
قال : " ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء " . قال : " ففتح ، فلما خلصت ، فإذا هارون ، عليه السلام ، قال : هذا هارون فسلم عليه . قال : فسلمت عليه فرد السلام{[16886]} ، ثم قال : مرحبًا بالأخ والنبي الصالح " .
قال : " ثم صعد حتى أتى السماء السادسة فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء . ففتح ، فلما خلصت ، فإذا أنا بموسى ، قال : هذا موسى ، عليه السلام ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ثم قال : مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح " . قال : " فلما تجاوزته بكى . قيل له : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلامًا بعث بعدي ، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي " .
قال : " ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء " . قال : " ففتح ، فلما خلصت ، فإذا إبراهيم ، عليه السلام . فقال : هذا إبراهيم ، فسلم عليه " . قال : " فسلمت عليه ، فرد السلام{[16887]} ، ثم قال : مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح " .
قال : ثم رفعت إلي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قِلال هَجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، فقال : هذه سدرة المنتهى " . قال : " وإذا أربعة أنهار : نهران باطنان ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات " .
قال : ثم رفع إلي البيت المعمور .
قال قتادة : وحدثني الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون فيه .
ثم رجع إلى حديث أنس [ قال : " ثم ]{[16888]} أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل " . قال : " فأخذت اللبن ، قال : هذه الفطرة وأنت{[16889]} عليها وأمتك " .
قال : " ثم فرضت الصلاة خمسين صلاة كل يوم " . قال : " فنزلت حتى انتهيت إلى{[16890]} موسى ، قال{[16891]} ما فرض ربك على أمتك ؟ " قال : " قلت{[16892]} خمسين صلاة كل يوم . قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة ، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، عن أمتك{[16893]} " . قال : " فرجعت فوضع عني عشرًا ، قال : فرجعت إلى موسى ، فقال : بم أمرت ؟ قلت : بأربعين صلاة كل يوم . قال : إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . قال : فرجعت فوضع عني عشرًا أخر . فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ فقلت : أمرت بثلاثين صلاة . قال : إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك " . قال : " فرجعت فوضع عني عشرًا أخر ، فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ قلت : بعشرين{[16894]} صلاة كل يوم . فقال : إن أمتك لا تستطيع لعشرين صلاة كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك " . قال : " فرجعت فوضع عني عشرًا أخر ، فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ فقلت : أمرت بعشر صلوات في كل يوم . فقال : إن أمتك{[16895]} لا تستطيع لعشر صلوات كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك " . قال : " فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ فقلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم . فقال : إن أمتك{[16896]} لا تستطيع لخمس صلوات كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك " . قال : " قلت : لقد{[16897]} سألت ربي [ عز وجل ]{[16898]} حتى استحييت ، ولكن أرضى وأسلم . فنفذت ، فناداني مناد : قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي " .
وأخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة ، بنحوه{[16899]} .
قال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَيْر ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر ، رضي الله عنه ، يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فرج سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج [ صدري ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا ، فأفرغه ]{[16900]} في صدري ، ثم أطبقه . ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء ، فلما جئت إلى السماء [ الدنيا ]{[16901]} قال جبريل لخازن السماء : افتح . قال : من هذا ؟ قال : جبريل . قال : هل معك أحد ؟ قال : نعم ، معي محمد . قال : أرسل إليه ؟ قال : نعم . فلما فتح علونا السماء الدنيا وإذا رجل قاعد على يمينه أَسْوِدَة وعلى يساره أسودة ، فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى . فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح . قلت : لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم . وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نَسَم{[16902]} بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار . فإذا نظر ، عن يمينه ضحك ، وإذا نظر ، عن شماله بكى .
" ثم عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها : افتح . فقال له خازنها مثل ما قال له الأول ، ففتح " . قال أنس : فذكر أنه وجد في السموات آدم ، وإدريس ، وموسى ، وعيسى ، وإبراهيم ، ولم يثبت كيف منازلهم ، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا ، وإبراهيم في السماء السادسة . قال أنس : فلما مرّ جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال : " مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح . فقلت : من هذا ؟ فقال : هذا إدريس . ثم مررت بموسى فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح . قلت :{[16903]} من هذا ؟ قال : موسى{[16904]} ثم مررت بعيسى فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح . قلت : من هذا ؟ قال : عيسى{[16905]} ابن مريم . ثم مررت بإبراهيم فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح . قلت : من هذا ؟ قال : هذا إبراهيم " . قال الزهري : فأخبرني ابن حزم : أن ابن عباس وأبا حَبَّة{[16906]} الأنصاري كانا يقولان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام " . قال ابن حزم وأنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى ، فقال : ما فرض الله على أمتك ؟ قلت : فرض خمسين صلاة . قال : فارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فرجعت [ فوضع شطرها ، فرجعت إلى موسى ، قلت : وضع شطرها . فقال : ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك . فرجعت فوضع شطرها . فرجعت إليه فقال : ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك . فراجعته ]{[16907]} فقال : هي خمس وهي خمسون ، لا يبدل القول لديّ . فرجعت إلى موسى فقال : ارجع إلى ربك . قلت : قد استحييت من ربي . ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان{[16908]} لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جَنَابذ{[16909]} اللؤلؤ وإذا ترابها المسك " .
هذا لفظ البخاري في " كتاب الصلاة " {[16910]} ورواه في ذكر بني إسرائيل ، وفي الحج وفي أحاديث الأنبياء من طرق أخر ، عن يونس ، به{[16911]} ورواه مسلم في صحيحه في " كتاب الإيمان " منه ، عن حَرْملة ، عن ابن وهب ، عن يونس به نحوه . {[16912]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شَقِيق قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته . قال : وما كنت تسأله ؟ قال : كنت أسأله : هل رأى ربه ؟ فقال : إني قد سألته فقال : " إني قد رأيته{[16913]} نورا أنى أراه " {[16914]} .
هكذا قد وقع في رواية الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق ، [ عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال : " إني نور أنى أراه " .
وعن محمد بن بَشَّار ، عن معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق ]{[16915]} قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته . فقال{[16916]} عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال : كنت أسأله : هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر : قد سألت فقال : " رأيت نورًا " {[16917]} .
رواية أنس ، عن أبي بن كعب الأنصاري ، رضي الله عنه :
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن إسحاق بن محمد بن المسيبي {[16918]} حدثنا أنس بن عياض ، عن يونس بن يزيد قال : قال ابن شهاب : قال أنس بن مالك : كان أبي بن كعب يحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فرج سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري ، ثم غسله من ماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا ، فأفرغها{[16919]} في صدري ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء . فلما جاء السماء [ فافتتح فقال : من هذا ؟ قال : جبريل . قال : هل معك أحد ؟ قال : نعم ، معي محمد . قال : أرسل إليه ؟ قال : نعم ، فافتح . فلما علونا السماء الدنيا ]{[16920]} إذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة ، فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى قال : مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح " . قال : " قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة{[16921]} عن يمينه وعن شماله نسم بنيه ، فأهل اليمين هم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله هم أهل النار . فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى " قال : " ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية ، فقال لخازنها : افتح . فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح له " . قال أنس : فذكر أنه وجد في السموات : آدم ، وإدريس ، وموسى ، وعيسى ، وإبراهيم ، ولم يثبت لي كيف منازلهم ؟ غير أنه ذكر أنه وجد آدم ، عليه السلام ، في السماء الدنيا ، وإبراهيم في السماء السادسة . قال أنس : فلما مرّ جبريل عليه السلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس قال : " مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح " . قال : " قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا إدريس " ، قال : " ثم مررت بموسى ، فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح . فقلت : من هذا ؟ قال : هذا موسى ، ثم مررت بعيسى فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح . قلت : من هذا . قال : هذا عيسى ابن مريم " قال : " ثم مررت بإبراهيم فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح . قلت : من هذا ؟ قال : هذا إبراهيم " . قال ابن شهاب : وأخبرني ابن حزم : أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع صريف الأقلام " قال ابن حزم وأنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فرض الله على أمتي خمسين صلاة " قال : " فرجعت بذلك حتى أمر{[16922]} على موسى ، فقال موسى : ماذا فرض ربك على أمتك ؟ قلت : فرض عليهم خمسين صلاة . فقال لي موسى : راجع ربك ؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك " قال : " فراجعت ربي فوضع شطرها ، فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك{[16923]} فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فرجعت{[16924]} فقال : هي خمس وهي خمسون ، لا يبدل القول لدي " . قال : " فرجعت إلى موسى فقال : راجع ربك . فقلت{[16925]} قد استحييت من ربي " قال : " ثم انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى . قال : " فغشيها ألوان ما أدري{[16926]} ما هي ؟ " قال : " ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك " .
هكذا رواه عبد الله بن [ الإمام ]{[16927]} أحمد في مسند أبيه{[16928]} . وليس هو في شيء من الكتب الستة ، وقد تقدم في الصحيحين من طريق يونس ، عن الزهري{[16929]} ، عن أبي ذر ، مثل هذا السياق سواء ، فالله أعلم{[16930]} .
رواية بريدة بن الحصيب الأسلمي :
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبد الرحمن بن المتوكل ويعقوب بن إبراهيم - واللفظ له - قالا حدثنا أبو نُميلَة ، أخبرنا الزبير بن جنادة ، عن عبد الله بن بُرَيْدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما كان ليلة أسري به{[16931]} قال : فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس ، فوضع إصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق " .
ثم قال البزار : لا نعلم رواه عن الزبير بن جنادة إلا أبو نُميلَة ، ولا نعلم{[16932]} هذا الحديث [ يروى ]{[16933]} إلا عن بريدة . وقد رواه الترمذي في التفسير من جامعه ، عن يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقِي به{[16934]} وقال : غريب .
رواية جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه{[16935]} :
قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب قال : قال أبو سلمة : سمعت جابر بن عبد الله يحدث : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول{[16936]} : " لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ، قمت في الحجر فَجَلَّى الله لي بيت المقدس ، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه " .
أخرجاه في الصحيحين من طرق ، عن الزهري به ، {[16937]} .
وقال البيهقي : أخبرنا أحمد بن الحسن{[16938]} القاضي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس بن محمد الدوري ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، عن صالح بن كَيْسَان ، عن ابن شهاب قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس ، لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى ، وإنه أتي بقدحين : قدح من لبن وقدح خمر ، فنظر إليهما ، ثم أخذ قدح اللبن . فقال جبريل{[16939]} : أصبت ، هديت للفطرة{[16940]} ، لو اخترت الخمر لغوت أمتك . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، فأخبر أنه أسري به ، فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه .
قال ابن شهاب : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : فتجهز - أو كلمة نحوها - ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا : هل لك في صاحبك ؟ يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة ! فقال أبو بكر : أوقال ذلك ؟ قالوا : نعم . قال : فأشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : فتصدقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ؟ قال : نعم ، إني أصدقه بأبعد من ذلك{[16941]} أصدقه بخبر السماء . قال أبو سلمة : فبها سمي أبو بكر : الصديق .
قال أبو سلمة : فسمعت جابر بن عبد الله يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ، قمت في الحجر ، فجلى الله لي بيت المقدس ، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه " {[16942]} .
رواية حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : ثنا أبو النضر ، ثنا شيبان ، عن عاصم ، عن زِرَّ بن حُبَيْش ، قال : أتيت على حذيفة بن اليمان وهو يحدث ، عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول : " فانطلقنا{[16943]} حتى أتينا{[16944]} بيت المقدس " . فلم يدخلاه . قال : قلت : بل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ وصلى فيه . قال : ما اسمك يا أصلع ؟ فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك ؟ قال : قلت : أنا زر بن حُبَيْش . قال : فما علمك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه ليلتئذ ؟ قال : قلت : القرآن يخبرني بذلك . قال : من تكلم بالقرآن فلج{[16945]} ، اقرأ . قال : فقلت : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى } قال : يا أصلع ، هل تجد " صلى فيه " ؟ قلت : لا . قال : والله ما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ ، ولو صلى فيه لكتب عليكم صلاة فيه ، كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق ، والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء ، فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع ، ثم عادا عودهما على بدئهما . قال : ثم ضحك حتى رأيت نواجذه . قال : وتحدثوا{[16946]} أنه ربطه لا يفر منه ، وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة . قلت : أبا عبد الله{[16947]} أي دابة البراق ؟ قال : دابة أبيض طويل هكذا ، خطوه مد البصر .
ورواه أبو داود الطيالسي ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم ، به . ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث عاصم - وهو ابن أبي النجود - به{[16948]} ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
وهذا الذي قاله حذيفة ، رضي الله عنه ، نفي ، وما أثبته غيره ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربط الدابة بالحلقة ومن الصلاة بالبيت المقدس ، مما سبق وما سيأتي مقدم على قوله ، والله أعلم بالصواب .
رواية أبي سعيد - سعد بن مالك بن سنان الخدري :
قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب " دلائل النبوّة " :
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، أخبرنا أبو محمد راشد الحماني ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له أصحابه : يا رسول الله ، أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها ، قال : قال الله عز وجل : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
قال : فأخبرهم فقال : " فبينا أنا نائم عشاء في المسجد الحرام ، إذ أتاني آت فأيقظني ، فاستيقظت فلم أر شيئًا ، وإذا أنا بكهيئة خيال ، فأتبعته بصري حتى خرجت من المسجد{[16949]} فإذا أنا بدابة أدنى في شبهه بدوابكم هذه ، بغالكم هذه ، مضطرب{[16950]} الأذنين يقال له : البراق . وكانت الأنبياء تركبه قبلي ، يقع حافره عند مَدِّ بصره ، فركبته ، فبينما أنا أسير عليه ، إذ دعاني داع ، عن يميني : يا محمد ، انظرني أسألك ، يا محمد ، انظرني أسألك ، فلم أجبه ولم أقم عليه ، [ فبينما أنا أسير عليه ، إذ دعاني داع ، عن يساري : يا محمد ، انظرني أسألك ، فلم أجبه ولم أقم عليه ]{[16951]} ، فبينما أنا أسير ، إذ أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها ، وعليها من كل زينة خلقها الله ، فقالت : يا محمد ، انظرني أسألك . فلم ألتفت إليها ولم أقم عليها . حتى أتيت بيت المقدس ، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها بها . فأتاني{[16952]} جبريل ، عليه السلام بإناءين : أحدهما خمر ، والآخر لبن ، فشربت اللبن ، وتركت الخمر ، فقال جبريل : أصبت الفطرة{[16953]} فقلت : الله أكبر ، الله أكبر . فقال : جبريل : ما رأيت في وجهك هذا ؟ " قال : " فقلت : بينما أنا أسير ، إذ دعاني داع ، عن يميني : يا محمد ، انظرني أسألك . فلم أجبه ولم أقم عليه . قال : ذاك داعي اليهود ، أما إنك لو أجبته - أو : وقفت عليه - لتهودت أمتك " . قال{[16954]} : فبينما أنا أسير ، إذ دعاني داع عن يساري قال : يا محمد ، انظرني أسألك . فلم ألتفت إليه ولم أقم عليه . قال : ذاك داعي النصارى ، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك " . قال : " فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها الله تقول : يا محمد ، انظرني أسألك . فلم أجبها ولم أقم عليها " . قال : تلك الدنيا ، أما إنك لو أجبتها أو أقمت عليها ، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة " .
قال : " ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس ، فصلى كل واحد منا ركعتين .
ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج{[16955]} عليه أرواح بني آدم{[16956]} ، فلم ير الخلائق أحسن من المعراج ، أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحًا إلى السماء ، فإنما يشق بصره طامحًا إلى السماء عجبه بالمعراج " . قال : " فصعدت أنا وجبريل ، فإذا أنا بملك يقال : له : إسماعيل . وهو صاحب السماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك ، مع كل ملك جُنْده مائة ألف ملك " . قال : " وقال : الله [ عز وجل ]{[16957]} { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } [ المدثر : 31 ] فاستفتح {[16958]} جبريل باب السماء ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : أوقد بعث إليه ؟ قال : نعم . فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله ، عز وجل على صورته{[16959]} ، هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين ، فيقول : روح طيبة ، ونفس طيبة ، اجعلوها في عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول : روح خبيثة ، ونفس خبيثة ، اجعلوها في سجين .
ثم مضيت هنية{[16960]} ، فإذا أنا بأخونة عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد ، وإذا أنا بأخْوِنَة أخرى عليها لحم قد أروح وأنتن ، عندها أناس يأكلون منها ، قلت : يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون{[16961]} الحرام . "
قال : " ثم مضيت هنية{[16962]} ، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت ، كلما نهض أحدهم خرّ يقول : اللهم ، لا تقم الساعة " ، قال : " وهم على سابلة آل فرعون " . قال : " فتجيء السابلة فتطؤهم " . قال : " فسمعتهم يضجون إلى الله عز وجل " . قال : " قلت : يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] .
قال : " ثم مضيت هنية{[16963]} ، فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل " . قال : " فتفتح على أفواههم ويلقمون من ذلك الجمر ، ثم يخرج من أسافلهم . فسمعتهم يضجون إلى الله ، عز وجل ، فقلت{[16964]} : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء من أمتك { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] .
قال : " ثم مضيت هنية ، فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن{[16965]} فسمعتهن يضججن إلى الله عز وجل قلت : يا جبريل من هؤلاء النساء ؟ قال : هؤلاء الزناة من أمتك " .
قال : " ثم مضيت هنية{[16966]} فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم ، فيلقمونه ، فيقال له : كل كما كنت تأكل من لحم أخيك . قلت : يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون " .
قال : " ثم صعدنا إلى السماء الثانية ، فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله ، عز وجل ، قد فضل الناس في الحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، قلت : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه وسلم عليّ .
ثم صعدت{[16967]} إلى السماء الثالثة ، فإذا أنا بيحيى وعيسى ، عليهما السلام ، ومعهما نفر من قومهما ، فسلمت عليهما وسلما عليّ .
ثم صعدت{[16968]} إلى السماء الرابعة ، فإذا أنا بإدريس قد رفعه الله مكانًا عليًا ، فسلمت عليه وسلم عليّ " .
قال : " ثم صعدت{[16969]} إلى السماء الخامسة ، فإذا [ أنا ]{[16970]} بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء ، تكاد لحيته تصيب سرته من طولها ، قلت : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : هذا المحبب في قومه ، هذا هارون بن عمران ، ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه وسلم عليّ .
ثم صعدت{[16971]} إلى السماء السادسة ، فإذا أنا بموسى بن عمران ، رجل آدم كثير الشعر ، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دون القميص ، فإذا{[16972]} هو يقول : يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا ، بل هذا أكرم على الله تعالى مني " . قال : " قلت : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران ، عليه السلام ، ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه وسلم علي .
ثم صعدت إلى السماء السابعة ، فإذا أنا بأبينا إبراهيم{[16973]} خليل الرحمن ساند ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال ، قلت : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : هذا أبوك{[16974]} خليل الرحمن ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه فسلم عليّ ، وإذا [ أنا ]{[16975]} بأمتي شطرين : شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس . وشطر عليهم ثياب رُمْد " . قال : " فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض ، وحجب الآخرون الذين عليهم ثياب رمد ، وهم على خير . فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور ، ثم خرجت أنا ومن معي " . قال : " والبيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، لا{[16976]} يعودون فيه إلى يوم القيامة " .
قال : " ثم دفعت لي سدرة المنتهى ، فإذا كل ورقة منها تكاد أن تغطي هذه الأمة ، وإذا فيها عين تجري يقال لها : سلسبيل ، فينشق منها نهران ، أحدهما : الكوثر ، والآخر : يقال له : نهر الرحمة . فاغتسلت فيه ، فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر .
ثم إني دفعت إلي الجنة ، فاستقبلتني جارية ، فقلت : لمن أنت يا جارية ؟ فقالت{[16977]} لزيد بن حارثة ، وإذا [ أنا ]{[16978]} بأنهار من [ ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من ]{[16979]} عسل مصفى ، وإذا رمانها كأنه الدلاء عظمًا ، وإذا أنا بطيرها كأنها بختيكم هذه " . فقال عندها صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى قد أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " .
قال : " ثم عرضت علي النار ، فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته ، لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها ، ثم أغلقت{[16980]} دوني .
ثم إني دفعت{[16981]} إلى سدرة المنتهى ، فتغشاني فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى " . قال : " ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة " . قال : " وفرضت علي خمسون{[16982]} وقال : لك بكل حسنة عشر ، إذا هممت بالحسنة فلم تعملها كتبت لك حسنة ، فإذا عملتها كتبت لك عشرًا ، وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شيء ، فإن{[16983]} عملتها كتبت عليك سيئة واحدة .
ثم دفعت إلى موسى فقال : بما أمرك ربك ؟ قلت : بخمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، ومتى لا [ تطيقه ]{[16984]} تكفر{[16985]} فرجعت إلى ربي [ عز . وجل ]{[16986]} فقلت : يا رب ، خفف عن أمتي ، فإنها أضعف الأمم . فوضع عني عشرًا ، وجعلها
أربعين . فما زلت أختلف بين موسى وربي{[16987]} كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته ، حتى رجعت إليه فقال لي : بم أمرت ؟ فقلت : أمرت بعشر صلوات . قال : ارجع إلى ربك [ عز وجل ]{[16988]} فاسأله التخفيف لأمتك . فرجعت إلى ربي [ سبحانه وتعالى ]{[16989]} فقلت : أي رب ، خفف عن أمتي ، فإنها أضعف الأمم . فوضع عني خمسًا ، وجعلها خمسًا . فناداني ملك عندها : تممت فريضتي ، وخففت عن عبادي ، وأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها .
ثم رجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ فقلت : بخمس صلوات . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإنه لا يؤوده شيء ، فاسأله التخفيف لأمتك " . " فقلت{[16990]} : رجعت إلى ربي حتى استحييته " ثم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب : " إني أتيت البارحة بيت المقدس ، وعرج بي إلى السماء ، ورأيت كذا وكذا{[16991]} " . فقال أبو جهل - يعني ابن هشام - : ألا تعجبون مما يقول محمد ؟ يزعم أنه أتى البارحة بيت المقدس ، ثم أصبح فينا . وأحدنا يضرب مطيته مصعدة شهرًا ، ومقفلة شهرًا ، فهذا مسيرة شهرين في ليلة واحدة ! قال : فأخبرهم بعير لقريش : " لما كنت{[16992]} في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا ، وأنها نفرت ، فلما رجعت رأيتها عند العقبة " . وأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا وكذا ، ومتاعه كذا وكذا . فقال أبو جهل : يخبرنا{[16993]} بأشياء . فقال رجل من المشركين : أنا أعلم الناس ببيت المقدس ، وكيف بناؤه ؟ وكيف هيئته ؟ وكيف قربه من الجبل ؟ [ فإن يك محمد صادقا فسأخبركم ، وإن يك كاذبًا فسأخبركم . فجاء ذلك المشرك فقال : يا محمد ، أنا أعلم الناس ببيت المقدس ، فأخبرني كيف بناؤه ؟ وكيف هيئته ؟ وكيف قربه من الجبل ]{[16994]} . قال : فرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس من مقعده ، فنظر إليه كنظر أحدنا إلى بيته : بناؤه كذا وكذا ، وهيئته كذا وكذا ، وقربه من الجبل كذا وكذا . فقال الآخر : صدقت . فرجع إلى أصحابه فقال : صدق محمد فيما قال أو نحو هذا{[16995]} الكلام{[16996]} .
وكذا رواه الإمام أبو جعفر بن جرير بطوله ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي هارون العبدي ، وعن الحسن بن يحيى ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي هارون العبدي ، به . ورواه ، أيضًا ، من حديث محمد بن إسحاق : حدثني روح بن القاسم ، عن أبي هارون ، به نحو سياقه المتقدم{[16997]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أحمد بن عبدة ، عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، فذكره{[16998]} بسياق طويل حسن أنيق ، أجود مما ساقه غيره ، على غرابته وما فيه من النكارة .
ثم ذكره{[16999]} البيهقي ، أيضًا ، من رواية نوح بن قيس الحُدَّاني وهُشَيم ومعمر ، عن أبي هارون العبدي - واسمه عمارة بن جوين{[17000]} وهو مضعف عند الأئمة{[17001]} .
وإنما سقنا حديثه هاهنا لما في حديثه{[17002]} من الشواهد لغيره ، ولما رواه البيهقي :
أخبرنا [ الإمام ]{[17003]} أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن{[17004]} ، أنبأنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم البزاز ، حدثنا أبو حامد{[17005]} بن بلال ، حدثنا أبو الأزهر ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم قال : رأيت في النوم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، رجل من أمتك يقال له : " سفيان الثوري " لا بأس به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا بأس به " ، حدثنا عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، عنك{[17006]} ليلة أسري بك ، قلت{[17007]} " رأيت في السماء " فحدثه بالحديث ؟ فقال لي : " نعم " . فقلت له : يا رسول الله ، إن ناسًا من أمتك يحدثون عنك في السرى بعجائب ؟ فقال لي : " ذلك{[17008]} حديث القصاص " {[17009]} .
قال الإمام أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزَّبيدي ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن عبد الله بن سالم{[17010]} الأشعري ، عن محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي ، حدثنا الوليد{[17011]} بن عبد الرحمن ، عن جبير{[17012]} بن نفير : حدثنا{[17013]} شداد بن أوس قال : قلنا : يا رسول الله ، كيف أسري بك ؟ قال : " صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتمًا " . قال : " فأتاني جبريل ، عليه السلام ، بدابة أبيض - أو قال : بيضاء - فوق الحمار ودون البغل ، فقال : اركب . فاستصعبت علي ، فرازها{[17014]} بأذنها ، ثم حملني عليها . فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ، حتى بلغنا أرضًا ذات نخل{[17015]} فأنزلني فقال : صل . فصليت ، ثم ركبنا{[17016]} فقال : أتدري أين صليت ؟ قلت : الله أعلم . قال : صليت بيثرب صليت بطيبة . فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها . ثم بلغنا أرضًا فقال : انزل . [ فنزلت ]{[17017]} ثم قال : صل . فصليت ثم ركبنا ، فقال : أتدري أين صليت ؟ قلت : الله أعلم . قال : صليت بمدين ، صليت عند شجرة موسى . ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ، ثم بلغنا أرضًا ، بدت لنا قصور ، فقال : انزل . فنزلت ، فقال{[17018]} صل فصليت ثم ركبنا فقال : أتدري أين صليت ؟ قلت : الله أعلم . قال : صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم . ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني ، فأتى قبلة المسجد ، فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر ، فصليت من المسجد حيث شاء الله ، وأخذني من العطش أشد ما أخذني ، فأتيت بإناءين{[17019]} ، في أحدهما لبن وفي الآخر عسل ، أرسل إليّ بهما جميعًا ، فعدلت بينهما ، ثم هداني الله عز وجل{[17020]} ، فأخذت اللبن فشربت{[17021]} حتى قَرَعت به جبيني ، وبين يدي شيخ متكئ على مثواة له ، فقال : أخذ صاحبك الفطرة ، إنه ليهدى . ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي فيه المدينة ، فإذا جهنم [ تنكشف{[17022]} عن مثل الزرابي ، قلت : يا رسول الله ، كيف وجدتها ؟ قال : مثل الحمة السخنة . ثم انصرف بي{[17023]} فمررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا ، قد أضلوا بعيرًا لهم ، قد جمعه فلان ، فسلمت عليهم ، فقال بعضهم : هذا صوت محمد . ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة " ، فأتاني أبو بكر ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، أين كنت الليلة ؟ فقد التمستك في مظانك{[17024]} . فقال : " علمت أني أتيت بيت المقدس الليلة ؟ " . فقال : يا رسول الله ، إنه مسيرة شهر ، فصفه لي . قال : " ففتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه " . قال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله . فقال المشركون : انظروا إلى ابن أبي كَبْشَة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة ! . قال : فقال : " إن من آية ما أقول لكم أني مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا ، قد أضلوا بعيرًا لهم ، فجمعه فلان ، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا ، ويأتونكم يوم كذا وكذا ، يقدمهم جمل آدم ، عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان " . فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون{[17025]} حتى كان قريب من نصف النهار حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هكذا رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي ، به{[17026]} . ثم قال بعد تمامه : " هذا إسناد صحيح ، وروى ذلك مفرقًا في أحاديث غيره ، ونحن نذكر من ذلك إن شاء الله ما حضرنا " . ثم ساق أحاديث كثيرة في الإسراء كالشاهد لهذا الحديث . وقد روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره ، عن أبيه ، عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، به . ولا شك أن هذا الحديث - أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس - مشتمل{[17027]} على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي ، ومنها ما هو منكر ، كالصلاة في بيت لحم ، وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس ، وغير ذلك . والله أعلم .
رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما :
قال الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد ، حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه قال : حدثنا ابن عباس قال : ليلة أسري بنبي الله صلى الله عليه وسلم دخل الجنة ، فسمع في جانبها وَجْسًا{[17028]} فقال : " يا جبريل ، ما هذا ؟ " قال : " هذا بلال المؤذن " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى الناس : " قد أفلح بلال ، قد رأيت له كذا وكذا " . قال : فلقيه موسى ، عليه السلام ، فرحب به ، وقال : " مرحبًا بالنبي الأمي " ، قال : " وهو رجل آدم طويل ، سبط شعره مع أذنيه أو فوقهما " ، فقال : " من هذا يا جبريل ؟ " قال : " هذا موسى . [ قال : فمضى ، فلقيه عيسى فرحب به ، وقال : " من هذا يا جبريل ؟ " قال : " هذا عيسى " . قال ]{[17029]} فمضى فلقيه شيخ جليل متهيب فرحب به وسلم عليه وكلهم يسلم عليه ، قال : " من هذا يا جبريل ؟ " قال : " هذا أبوك إبراهيم " ، قال : ونظر في النار ، فإذا قوم يأكلون الجيف ، قال : " من هؤلاء يا جبريل ؟ " قال : " هؤلاء الذين يأكلون لحم{[17030]} الناس " ، ورأى رجلا أحمر أزرق جدًا ، قال : " من هذا يا جبريل ؟ " قال : " هذا عاقر الناقة " ، قال : فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام يصلي ، [ فالتفت ثم التفت ]{[17031]} فإذا النبيون أجمعون يصلون معه . فلما انصرف جيء بقدحين ، أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال ، في أحدهما لبن وفي الآخر عسل ، فأخذ اللبن فشرب منه ، فقال الذي كان معه القدح : أصبت الفطرة . إسناد صحيح ولم يخرجوه{[17032]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ثابت أبو زيد ، حدثنا هلال ، حدثني عكرمة ، عن ابن عباس قال : أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم ، فقال ناس : نحن لا نصدق محمدًا بما يقول ! فارتدوا كفارًا ، فضرب الله رقابهم مع أبي جهل{[17033]} وقال أبو جهل{[17034]} يخوفنا محمد بشجرة الزقوم ، هاتوا تمرا وزبدا فتزقموا ، ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس برؤيا منام ، وعيسى وموسى وإبراهيم . فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال فقال : " رأيته فيلمانيًا أقمر هجانا ، إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري ، كأن شعر رأسه أغصان شجرة . ورأيت عيسى أبيض ، جعد الرأس ، حديد البصر ، مبطن الخلق . ورأيت موسى أسحم آدم ، كثير الشعر ، شديد الخلق . ونظرت إلى إبراهيم فلم أنظر إلى إرب منه إلا نظرت إليه مني ، حتى كأنه صاحبكم . قال جبريل : سلم على مالك فسلمت عليه " .
ورواه النسائي من حديث أبي زيد ثابت بن يزيد{[17035]} عن هلال - وهو ابن خباب - به ، وهو{[17036]} إسناد صحيح .
وقال البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو بكر الشافعي ، أنبأنا إسحاق بن الحسن ، حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا شيبان ، عن قتادة ، عن أبي العالية قال : حدثنا ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران ، رجلا طوالا جعدًا ، كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق ، إلى الحمرة والبياض ، سبط الرأس " . وأرى مالكًا خازن جهنم والدجال ، في آيات أراهن الله إياه ، قال : { فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } [ السجدة : 23 ] فكان قتادة يفسرها : أن نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[17037]} قد لقي موسى [ عليه السلام ]{[17038]} { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } قال : جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل{[17039]} .
رواه مسلم في الصحيح عن عبد بن حميد ، عن يونس بن محمد ، عن شيبان{[17040]} . وأخرجاه من حديث شعبة عن قتادة مختصرًا{[17041]} .
قال [ البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفَّار ، حدثنا دُبَيْس المُعدَّل ، حدثنا عفان قال : حدثنا ]{[17042]} حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أسري بي ، مرت بي رائحة طيبة ، فقلت : ما هذه الرائحة ؟ قالوا : ماشطة بنت فرعون وأولادها ، سقط مُشْطُهَا من يدها فقالت : باسم الله : فقالت ابنة فرعون : أبي ؟ قالت : ربي وربك ورب أبيك . قالت : أولك رب غير أبي ؟ قالت : نعم ، ربي وربك ورب أبيك الله " . قال : " فدعاها فقال : ألك رب غيري ؟ قالت : نعم ، ربي وربك الله ، عز وجل " . قال : " فأمر بنقرة{[17043]} من نحاس فأحميت ، ثم أمر بها لتلقى فيها ، قالت : إن لي [ إليك ]{[17044]} حاجة . قال : ما هي ؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع ، قال{[17045]} ذاك لك ، لما لك علينا من الحق " ، قال : " فأمر بهم فألقوا واحدًا واحدًا ، حتى بلغ رضيعًا فيهم ، فقال : يا أمه ، قعي ولا تقاعسي ، فإنك{[17046]} على الحق " . قال : " وتكلم أربعة وهم صغار : هذا ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم ، عليه السلام " {[17047]} .
إسناد لا بأس به ، ولم يخرجوه .
وقال الإمام أحمد [ أيضًا ]{[17048]} حدثنا محمد بن جعفر وروح المعنى{[17049]} قالا حدثنا عوف ، عن زُرَارة بن أوفى ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة ، فظعت [ بأمري ]{[17050]} وعرفت أن الناس مكذبي " فقعد{[17051]} معتزلا حزينًا ، فمرّ به عدو الله أبو جهل{[17052]} فجاء حتى جلس إليه ، فقال له كالمستهزئ : هل كان من شيء ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " قال : وما هو ؟ قال " إني أسري بي الليلة " : قال إلى أين ؟ قال : " إلى بيت المقدس " قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ ! قال : " نعم " . قال : فلم يره أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه ، فقال : أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " . قال : هيا{[17053]} معشر بني كعب بن لؤي ، قال : فانتفضت{[17054]} إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما . قال : حدث قومك بما حدثتني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أسري بي الليلة " . فقالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى بيت المقدس " قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : " نعم " . قال : فمن بين مصفق ، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبًا للكذب - زعم - قالوا : وتستطيع أن تنعت [ لنا ]{[17055]} المسجد - وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد - قال{[17056]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فذهبت أنعت ، فما زلت أنعت حتى التبس عليّ بعض النعت " قال : " فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه ، حتى وضع دون دار عقيل - أو عقال – فَنَعتُّه وأنا أنظر إليه " . قال : وكان مع هذا نعت لم أحفظه - يقول عوف - : قال : فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب .
وأخرجه{[17057]} النسائي من حديث عوف بن أبي جميلة - وهو الأعرابي ، به . ورواه البيهقي من حديث النضر بن شميل وهوذة ، عن عوف وهو ابن أبي جميلة الأعرابي ، أحد الأئمة الثقات ، به{[17058]} .
رواية عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه :
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، حدثنا السري بن خزيمة ، حدثنا يوسف بن بُهلول ، حدثنا عبد الله بن نمير ، عن مالك بن مِغْوَل ، عن الزبير بن عدي ، عن طلحة بن مُصَرِّف ، عن مرة الهَمْدَاني ، عن عبد الله بن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتهى إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ، وإليها ينتهي ما يصعد به حتى يقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط [ به ]{[17059]} من فوقها حتى يقبض [ منها ]{[17060]} { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [ النجم : 16 ]قال : غشيها فراش من ذهب ، وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم{[17061]} الصلوات الخمس ، وخواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله{[17062]} المقحمات ، يعني الكبائر .
ورواه مسلم في صحيحه ، عن محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب ، كلاهما عن عبد الله بن نمير ، به{[17063]} . ثم قال البيهقي : " وهذا الذي ذكره عبد الله بن مسعود طرف من حديث المعراج ، وقد رواه أنس بن مالك ، عن مالك بن صَعْصَعَة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رواه مرة مرسلا دون ذكرهما " {[17064]} ثم إن البيهقي ساق الأحاديث الثلاثة كما تقدّم .
قلت : وقد روي عن ابن مسعود بأبسط من هذا ، وفيه غرابة ، وذلك فيما رواه " الحسن بن عرفة " في جزئه المشهور . حدثنا مروان بن معاوية ، عن قنان بن عبد الله النهمي{[17065]} ، حدثنا أبو ظبيان الجنبي قال : كنا جلوسًا عند أبي عبيدة بن عبد الله - يعني ابن مسعود - ومحمد بن سعد بن أبي وقاص ، وهما جالسان ، فقال محمد بن سعد لأبي عبيدة : حدثنا عن أبيك ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم . فقال أبو عبيدة : لا بل حدثنا أنت عن أبيك . فقال محمد : لو سألتني قبل أن أسألك لفعلت ! قال : فأنشأ أبو عبيدة يحدث يعني عن أبيه كما سئل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل ، فحملني عليه ، ثم انطلق يهوي بنا كلما صعد عقبة استوت رجلاه كذلك مع يديه ، وإذا هبط استوت يداه مع رجليه ، حتى مررنا برجل طوال سبط آدم ، كأنه من رجال أزد شنوءة ، وهو يقول - فيرفع{[17066]} صوته يقول - أكرمته وفضلته " . قال : " فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام ، فقال : من هذا معك يا جبريل ؟ قال : هذا أحمد{[17067]} ، قال : مرحبًا بالنبي الأمي العربي ، الذي بلغ رسالة ربه ، ونصح لأمته " . قال : " ثم اندفعنا فقلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا موسى بن عمران " . قال : قلت : ومن يعاتب ؟ قال : يعاتب ربه فيك ! قلت : فيرفع صوته على ربه ؟ ! قال : إن الله [ عز وجل ]{[17068]} قد عرف له حدته " . قال : " ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السُّرُج تحتها شيخ وعياله " . قال : " فقال لي جبريل : اعمد إلى أبيك إبراهيم . فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام ، فقال إبراهيم : من هذا معك يا جبريل ؟ قال : هذا ابنك أحمد " . قال : " فقال : مرحبًا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته ، يا بني ، إنك لاق ربك الليلة ، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها ، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل " . قال : " ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى ، فنزلت فربطت الدابة بالحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها . ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين راكع وقائم وساجد " . قال : " ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن فأخذت اللبن فشربت فضرب جبريل عليه السلام منكبي وقال : أصبت الفطرة ورب محمد " . قال : " ثم أقيمت الصلاة فأممتهم ، ثم انصرفنا فأقبلنا " {[17069]} .
إسناد غريب ولم يخرجوه ، فيه من الغرائب{[17070]} سؤال الأنبياء عنه عليه السلام ابتداء ، ثم سؤاله عنهم{[17071]} بعد انصرافه . والمشهور في الصحاح كما تقدم : أن جبريل [ عليه السلام ]{[17072]} كان يعلمه بهم أولا ليسلم عليهم سلام معرفة . وفيه{[17073]} أنه اجتمع بالأنبياء عليهم{[17074]} السلام قبل دخوله المسجد{[17075]} ، والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في السموات ، ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيًا وهم معه ، وصلى بهم فيه ، ثم إنه ركب البراق وكر راجعًا إلى مكة ، والله أعلم .
قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم ، أخبرنا العوام ، عن جبلة بن سُحَيْم ، عن مُوثَر{[17076]} بن عفارة ، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى ، فتذاكروا أمر الساعة " قال : " فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام{[17077]} فقال : لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى موسى . فقال : لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، عز وجل ، وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج " . قال : " ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص " . قال : " فيهلكه الله إذا رآني ، حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرًا ، فتعال فاقتله " . قال : " فيهلكهم الله ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم{[17078]} " . قال : " فعند{[17079]} ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطؤون بلادهم ، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه " قال : " ثم يرجع الناس إليّ فيشكونهم . فأدعو الله عليهم ، فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم - أي : تنتن " قال : " فينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر . ففيما عهد إلي ربي : أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم ، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ، ليلا أو نهارًا " .
وأخرجه ابن ماجه ، عن بُنْدار ، عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب{[17080]} .
رواية عبد الرحمن بن قرط ، أخي عبد الله بن قرط الثمالي :
قال سعيد بن منصور : حدثنا مسكين بن ميمون - مؤذن{[17081]} مسجد الرملة - حدثني عُروة بن رُوَيْم ، عن عبد الرحمن بن قُرط ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بين زمزم{[17082]} والمقام ، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فطارا به حتى بلغ السموات العلى ، فلما رجع قال : " سمعت تسبيحًا في السموات العلى مع تسبيح كثير{[17083]} ، سبحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات من ذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى ، سبحانه وتعالى " {[17084]} .
ويذكر هذا الحديث عند قوله تعالى من هذه السورة : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ } الآية [ الإسراء : 44 ] .
رواية عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب ؛ أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان بالجابية ، فذكر فتح بيت المقدس قال : قال أبو سلمة : فحدثني أبو سنان ، عن عبيد بن آدم قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب : أين ترى أن أصلي ؟ قال{[17085]} إن أخذت عني صليت خلف الصخرة ، فكانت القدس كلها بين يديك ، فقال عمر رضي الله عنه : ضاهيت اليهودية ، [ لا ]{[17086]} ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم إلى القبلة ، فصلى ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه ، وكنس الناس{[17087]} .
فلم يعظم الصخرة تعظيما يصلي وراءها وهي بين يديه ، كما أشار كعب الأحبار وهو من قوم يعظمونها حتى جعلوها قبلتهم . ولكن منّ الله عليه بالإسلام ، فهُدي إلى الحق ؛ ولهذا لما أشار بذلك قال له أمير المؤمنين : ضاهيت اليهودية ، ولا أهانها إهانة النصارى الذين كانوا قد جعلوها مزبلة من أجل أنها قبلة اليهود ، ولكن أماط الأذى ، وكنس عنها الكناس بردائه . وهذا شبيه بما جاء في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغَنَوِي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها " {[17088]} .
رواية أبي هريرة ، رضي الله عنه :
وهي مطولة جدًا وفيها غرابة . قال الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير " سورة سبحان " : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا حجاج ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره - شك أبو جعفر - في قول الله عز وجل : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } قال : جاء جبريل [ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل ، فقال جبريل ]{[17089]} لميكائيل : ائتني بطَسْت من ماء زمزم ، كيما أطهر قلبه وأشرح له صدره . قال : فشق عنه بطنه ، فغسله ثلاث مرات . واختلف إليه ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم ، فشرح صدره ونزع ما كان فيه من غل ، وملأه حلمًا وعلمًا ، وإيمانًا ويقينًا وإسلامًا ، وختم بين كتفيه بخاتم النبوة .
ثم أتاه بفرس فحمل{[17090]} عليه ، كل خطوة منه منتهى بصره - أو : أقصى بصره - قال : فسار وسار معه جبريل عليهما{[17091]} السلام قال : فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم ، كلما حصدوا عاد كما كان ، فقال النبي{[17092]} صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ، ما هذا ؟ " قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله ، تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف ، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه ، وهو خير الرازقين .
ثم أتى على قوم تُرضَخ رءوسهم بالصخر ، كلما رُضخت عادت كما كانت ، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء ، فقال : " ما هؤلاء يا جبريل ؟ " قال : هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة . ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع ، وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والنعم ، ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها ، قال{[17093]} : " ما هؤلاء يا جبريل ؟ " قال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم ، وما ظلمهم الله شيئًا وما الله بظلام للعبيد .
ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر{[17094]} ولحم نيئ في قدر خبيث ، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب ، فقال : " ما هؤلاء يا جبريل ؟ " فقال : هذا الرجل من أمتك ، تكون عنده المرأة الحلال الطيبة ، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح ، [ والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبًا ، فتأتي رجلا خبيثًا فتبيت معه حتى تصبح ]{[17095]} .
قال : ثم أتى على خشبة على الطريق ، لا يمر بها ثوب إلا شقته ، ولا شيء إلا خرقته ، قال : " ما هذا يا جبريل ؟ " قال : هذا مثل أقوام من أمتك ، يقعدون على الطريق يقطعونه{[17096]} ثم تلا { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ]{[17097]} } [ الأعراف : 86 ] .
قال : ثم أتى على رجل قد جمع{[17098]} حزمة [ حطب ]{[17099]} عظيمة لا يستطيع حملها ، وهو يزيد عليها ، فقال : " ما هذا يا جبريل ؟ " فقال{[17100]} هذا الرجل من أمتك يكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها .
ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء ، قال : " ما هؤلاء يا جبريل ؟ " قال : هؤلاء خطباء الفتنة .
ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم ، فجعل الثور يريد أن يرجع من [ حيث ]{[17101]} خرج ، فلا يستطيع ، فقال : " ما هذا يا جبريل ؟ " فقال : هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها .
ثم أتى على واد فوجد ريحًا طيبة باردة ، وريح مسك ، وسمع صوتًا ، فقال : " يا جبريل ، ما هذه{[17102]} الريح الطيبة الباردة ؟ وما هذا المسك ؟ وما هذا الصوت ؟ " قال : هذا صوت الجنة تقول : يا رب آتني ما وعدتني ، فقد كثرت غرفي ، وإستبرقي وحريري وسندسي ، وعبقريي ولؤلؤي ومرجاني ، وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي ، وأباريقي ومراكبي ، وعسلي ومائي ، وخمري ولبني فآتني ما{[17103]} وعدتني . فقال : لك كل مسلم ومسلمة ، ومؤمن ومؤمنة ، ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا ولم يشرك بي ، ولم يتخذ من دوني أندادًا ، ومن خشيني فهو آمن ، ومن سألني أعطيته ، ومن أقرضني جزيته ، ومن توكل عليّ كفيته ، إني أنا الله لا إله إلا أنا ، لا أخلف الميعاد ، وقد أفلح المؤمنون ، وتبارك الله أحسن الخالقين ، قالت : قد رضيت .
قال : " ثم أتى على واد فسمع صوتًا منكرًا ، ووجد ريحًا منتنة ، فقال : ما هذه{[17104]} الريح يا جبريل ؟ وما هذا الصوت ؟ " فقال : هذا صوت جهنم تقول : يا رب آتني ما وعدتني ، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي ، وسعيري وحميمي ، وضريعي ، وغساقي وعذابي ، وقد بعد قعري ، واشتد حري ، فآتني كل ما وعدتني ، فقال : لك كل مشرك ومشركة ، وكافر وكافرة ، وكل خبيث وخبيثة ، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب . قالت : قد رضيت .
قال : ثم سار حتى أتى بيت المقدس ، فنزل فربط فرسه إلى صخرة ، ثم دخل فصلى مع الملائكة ، فلما قضيت الصلاة قالوا : يا جبريل ، من هذا معك ؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم . قالوا : أوقد أرسل محمد ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء .
قال : ثم لقي أرواح الأنبياء ، فأثنوا على ربهم ، فقال إبراهيم : الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكًا عظيمًا ، وجعلني أمة قانتًا يؤتم بي ، وأنقذني من النار ، وجعلها عليّ بردًا وسلامًا . ثم{[17105]} إن موسى ، عليه السلام{[17106]} ، أثنى على ربه ، عز وجل ، فقال : الحمد لله الذي كلمني تكليمًا ، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي ، وجعل من أمتي قومًا يهدون بالحق وبه يعدلون . ثم إن داود ، عليه السلام{[17107]} أثنى على ربه [ عز وجل ]{[17108]} ، فقال : الحمد لله الذي جعل لي ملكًا عظيمًا ، وعلمني الزبور ، وألان لي الحديد ، وسخر لي الجبال يسبحن والطير ، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب . ثم إن سليمان ، عليه السلام ، أثنى على ربه [ عز وجل ]{[17109]} فقال : الحمد لله الذي سخر لي الرياح ، وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل ، وجفان كالجواب وقدور راسيات ، وعلمني منطق الطير ، وآتاني من كل شيء فضلا وسخر لي جنود الشياطين والإنس والطير ، وفضلني على كثير من عباده المؤمنين ، وآتاني ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحد من بعدي ، وجعل ملكي ملكًا طيبًا ليس فيه حساب . ثم إن عيسى ، عليه السلام ، أثنى على ربه ، عز وجل ، فقال : الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم ، خلقه من تراب ثم قال له : " كن " فيكون ، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير ، فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله ، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذنه{[17110]} ، ورفعني وطهرني ، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان علينا سبيل . قال : ثم إن محمدًا{[17111]} صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه ، عز وجل ، فقال : " فكلكم أثنى على ربه ، وإني مثن على ربي [ عز وجل ]{[17112]} فقال : الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين ، وكافة للناس بشيرًا ونذيرًا ، وأنزل عليّ الفرقان{[17113]} فيه بيان لكل شيء ، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس ، وجعل أمتي أمة وسطًا ، وجعل أمتي هم الأولين وهم الآخرين ، وشرح لي صدري ، ووضع عني وزري ، ورفع لي ذكري ، وجعلني فاتحًا وخاتمًا " فقال إبراهيم [ عليه السلام ]{[17114]} : بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم .
قال أبو جعفر الرازي : خاتم النبوة ، فاتح بالشفاعة يوم القيامة .
ثم أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها ، فأتي بإناء منها فيه ماء فقيل : اشرب . فشرب منه يسيرًا ، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن ، فقيل له : اشرب ، فشرب منه حتى روي . ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له : اشرب فقال : " لا أريده قد رويت " . فقال له جبريل [ عليه السلام ]{[17115]} : أما إنها ستحرم على أمتك ، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا قليل .
قال : ثم صعد به إلى السماء فاستفتح ، فقيل : من هذا يا جبريل ؟ فقال : محمد ، فقالوا : أوقد أرسل ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء . فدخل فإذا هو برجل تام الخلق{[17116]} لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خلق الناس ، عن{[17117]} يمينه باب يخرج منه ريح طيبة ، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة ، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر ، وإذا نظر إلى الباب الذي عن يساره بكى وحزن ، فقلت : " يا جبريل من هذا الشيخ التام الخلق الذي لم ينقص من خلقه شيء ؟ وما هذان البابان ؟ " فقال : هذا أبوك آدم [ عليه السلام ]{[17118]} ، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة ، إذا نظر إلى من يدخل{[17119]} من ذريته ضحك واستبشر ، والباب الذي عن شماله باب جهنم ، إذا نظر إلى من يدخله من ذريته بكى وحزن .
ثم صعد به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح ، فقيل : من هذا معك ؟ فقال : محمد رسول الله . قالوا : أوقد أرسل محمد ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة ، فلنعم الأخ ولنعم الخليفة ونعم المجيء جاء . قال : فدخل فإذا هو بشابين فقال : " يا جبريل ، من هذان الشابان ؟ " قال : هذا عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا ، ابنا الخالة عليهما السلام .
قال : فصعد به إلى السماء الثالثة فاستفتح ، فقالوا : من هذا ؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : أوقد أرسل ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء . قال : فدخل فإذا هو برجل قد فضل على الناس في الحسن كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، قال : " من هذا يا جبريل الذي قد فضل على الناس في الحسن ؟ " قال : هذا أخوك يوسف ، عليه السلام{[17120]} .
قال : ثم صعد به إلى السماء{[17121]} الرابعة فاستفتح ، فقالوا{[17122]} من هذا ؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : أوقد أرسل ؟ {[17123]}قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء . قال : فدخل ، فإذا هو برجل ، قال : " من هذا يا جبريل ؟ " قال : هذا إدريس رفعه الله [ تعالى ]{[17124]} مكانًا عليًا .
ثم صعد به إلى السماء الخامسة فاستفتح ، فقالوا : من هذا ؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : أوقد أرسل{[17125]} إليه ؟ قال : نعم . قالوا : حياه{[17126]} الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء . ثم دخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم ، قال : " من هذا يا جبريل ؟ ومن هؤلاء حوله ؟ " قال : هذا هارون المحبب [ في قومه ]{[17127]} وهؤلاء بنو إسرائيل .
ثم صعد به إلى السماء السادسة فاستفتح ، قيل :{[17128]} من هذا ؟ قال : جبريل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أوقد أرسل ؟{[17129]} قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء{[17130]} . فإذا هو برجل جالس فجاوزه فبكى الرجل ، فقال : " يا جبريل ، من هذا ؟ " قال : موسى ، قال : " فما باله{[17131]} يبكي ؟ " قال : زعم{[17132]} بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عز وجل ، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا ، وأنا في أخرى ، فلو أنه بنفسه لم أبال ، ولكن مع كل نبي أمته .
قال : ثم صعد به إلى السماء السابعة فاستفتح ، فقيل له : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قالوا : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء . قال : فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي ، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهرًا فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد{[17133]} خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلص [ من ]{[17134]} ألوانهم [ شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلصت ألوانهم ]{[17135]} فصارت مثل ألوان أصحابهم ، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم ، فقال : " يا جبريل من هذا الأشمط ؟ ثم من هؤلاء البيض الوجوه ؟ ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ؟ وما هذه الأنهار التي دخلوا فيها فجاءوا وقد صَفَت ألوانهم ؟ " قال : هذا أبوك إبراهيم [ عليه السلام ]{[17136]} أول من شمط على الأرض . وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم . وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، فقوم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا ، فتابوا فتاب الله عليهم . وأما الأنهار فأولها رحمة الله ، والثاني نعمة الله ، والثالث سقاهم ربهم شرابًا طهورًا .
قال : ثم انتهى إلى السدرة فقيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك . فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها . والورقة منها مغطية للأمة كلها . قال : فغشيها نور الخلاق ، عز وجل ، وغشيتها{[17137]} الملائكة أمثال الغربان حين يقعن{[17138]} على الشجرة قال : فكلمه الله عند ذلك{[17139]}
قال له : سل{[17140]} ، قال : " إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكًا عظيمًا ، وكلمت موسى تكليمًا ، وأعطيت داود ملكًا عظيمًا ، وألنت له الحديد ، وسخرت له [ الجبال ، وأعطيت سليمان ملكًا عظيمًا ، وسخرت له الجن والإنس والشياطين ، وسخرت له ]{[17141]} الرياح ، وأعطيت له ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحد من بعده ، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل ، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك ، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل " . فقال له ربه عز وجل : وقد اتخذتك خليلا - وهو مكتوب في التوراة : حبيب الرحمن{[17142]} - وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا ، وشرحت لك صدرك ، ووضعت عنك وزرك ، ورفعت لك ذكرك ، فلا أذكر إلا ذكرت معي ، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس ، وجعلت أمتك أمة وسطًا ، وجعلت أمتك هم الأولين والآخرين ، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ، وجعلت من أمتك أقوامًا قلوبهم أناجيلهم ، وجعلتك أول النبيين خلقًا ، وآخرهم بعثًا ، وأولهم يقضى له ، وأعطيتك سبعًا من المثاني لم يعطها نبي قبلك ، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبيًا قبلك ، وأعطيتك الكوثر ، وأعطيتك ثمانية أسهم : الإسلام ، والهجرة ، والجهاد ، والصدقة ، والصلاة ، وصوم رمضان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلتك فاتحًا وخاتمًا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فضلني ربي بست : أعطاني فواتح الكلام{[17143]} وخواتيمه وجوامع الحديث ، وأرسلني إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا وقذف في قلوب عدوي الرعب من مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض كلها طهورًا ومسجدًا " .
قال : وفرض عليه خمسين صلاة . فلما رجع إلى موسى قال : بم أمرت يا محمد ؟ قال : " بخمسين صلاة " قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، فقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ، عز وجل ، فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرًا . ثم رجع إلى موسى فقال : بكم أمرت ؟ قال : " بأربعين " قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه [ عز وجل ]{[17144]} فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرًا ، فرجع إلى موسى فقال : بكم أمرت ؟ قال : " أمرت بثلاثين " ، فقال له موسى : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع إلى ربه [ عز وجل ]{[17145]} فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى فقال{[17146]} بكم أمرت ؟ قال : " أمرت بعشرين " . قال : ارجع إلى ربك [ عز وجل ]{[17147]} فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع إلى ربه [ عز وجل ]{[17148]} فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرًا . فرجع إلى موسى فقال : بكم أمرت ؟ قال : " أمرت بعشر " ، قال : ارجع إلى ربك [ عز وجل ]{[17149]} فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع على حياء إلى ربه [ عز وجل ]{[17150]} فسأله التخفيف فوضع عنه خمسًا . فرجع إلى موسى ، عليه السلام ، فقال{[17151]} بكم أمرت ؟ قال : " بخمس " فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : " قد رجعت إلى ربي حتى استحييت ، فما أنا براجع إليه " ، قيل : أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات ، فإنهن يجزين عنك خمسين صلاة ، فإن كل حسنة بعشر أمثالها . قال : فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كل الرضا ، قال : وكان موسى ، عليه السلام ، من أشدهم عليه حين مرّ به وخيرهم له حين رجع إليه{[17152]} .
ثم رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبيد الله ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن أبى جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أو غيره - شك أبو جعفر - عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه{[17153]} .
وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن أبي سعيد الماليني ، عن ابن عدي ، عن محمد بن الحسن السَّكُوني البالسي بالرملة ، حدثنا علي بن سهل ، فذكر مثل ما رواه ابن جرير عنه{[17154]} ، وذكر البيهقي أن الحاكم أبا عبد الله رواه عن إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني ، عن جده ، عن إبراهيم بن حمزة الزبيري ، عن حاتم بن إسماعيل ، حدثني عيسى بن ماهان - يعني أبا جعفر الرازي - عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره{[17155]} .
وقال : ابن أبي حاتم : ذكر أبو زُرْعَة ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا عيسى بن عبد الله التميمي{[17156]} - يعني : أبا جعفر الرازي - عن الربيع بن أنس البكري ، عن أبي العالية أو غيره - شك عيسى - ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى ]{[17157]} } فذكر الحديث بطوله كنحو مما سقناه .
قلت : " أبو جعفر الرازي " قال فيه الحافظ أبو زرعة : " الرازي يهم في الحديث كثيرًا " وقد ضعفه غيره أيضًا ، ووثقه بعضهم ، والأظهر أنه سيئ الحفظ ففيما تفرد به نظر . وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة ، وفيه{[17158]} شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري ، ويشبه أن يكون مجموعًا من أحاديث شتى ، أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء ، والله أعلم .
وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَرُ ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري به : " لقيت موسى " قال : فنعته فإذا رجل - حسبته قال : - مضطرب ، رَجْل الرأس ، كأنه من رجال شنوءة . قال : " ولقيت عيسى " - فنعته النبي صلى الله عليه وسلم - ربعة{[17159]} أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني حمام . قال : " ورأيت إبراهيم ، وأنا أشبه ولده به " . قال : " وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر ، قيل لي : خذ أيهما شئت ، فأخذت اللبن ، فشربت ، فقيل لي : هديت الفطرة - أو : أصبت الفطرة - أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك " وأخرجاه من وجه آخر . عن الزهري - به نحوه{[17160]} .
وفي صحيح مسلم ، عن محمد بن رافع ، عن حُجَيْن بن المثنى ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي{[17161]} فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربت كربًا ما كربت مثله قط ، فرفعه الله لي أنظر إليه ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، وإذا موسى قائم يصلي ، وإذا هو رجل ضربٌ جعد كأنه من رجال شنوءة ، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم ، فلما فرغت قال قائل : يا محمد ، هذا مالك صاحب النار ، [ فسلم عليه ]{[17162]} فالتفت إليه فبدأني بالسلام " {[17163]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي الصلت ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة ، فنظرت فوق{[17164]} فإذا رعد وبرق وصواعق " . قال : " وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا ، فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا بِرَهَج ودخان وأصوات ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذه الشياطين يحرفون على أعين بني آدم ألا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض ، ولولا ذلك لرأوا العجائب " .
ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به . ورواه ابن ماجه من حديث حماد ، به{[17165]} .
رواية جماعة من الصحابة [ رضي الله عنهم ]{[17166]} ممن تقدم وغيرهم :
قال الحافظ البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله - يعني الحاكم - أخبرنا عبدان بن يزيد بن يعقوب الدقاق بهمذان ، حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني ، حدثنا أبو محمد هو إسماعيل بن موسى الفزاري ، حدثنا عمر بن سعد النصري{[17167]} من بني نصر{[17168]} بن قُعَين ، حدثني عبد العزيز ، وليث بن أبي سليم{[17169]} وسليمان الأعمش ، وعطاء بن السائب - بعضهم يزيد في الحديث على بعض - عن علي بن أبي طالب وعبد الله{[17170]} بن عباس - ومحمد بن إسحاق بن يسار ، عمن حدثه عن ابن عباس - وعن سليم بن مسلم العقيلي ، عن عامر الشعبي ، عن عبد الله بن مسعود - وجويبر ، عن الضحاك ، ابن مزاحم قالوا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ راقدًا ، وقد صلى العشاء الآخرة . قال أبو عبد الله الحاكم : قال لنا هذا الشيخ . . . وذكر الحديث ، فكتب{[17171]} المتن من نسخة مسموعة منه ، فذكر حديثًا طويلا يذكر فيه عدد الدرج والملائكة وغير ذلك مما لا ينكر شيء منها في قدرة الله إن صحت الرواية .
قال البيهقي : فيما ذكرنا قبل في حديث أبي هارون العبدي في إثبات الإسراء والمعراج كفاية ، وبالله التوفيق{[17172]} .
قلت : وقد أرسل هذا الحديث غير واحد من التابعين وأئمة المفسرين ، رحمة الله عليهم أجمعين .
رواية عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها :
قال [ الإمام ]{[17173]} البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني مكرم بن أحمد القاضي ، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي{[17174]} ، حدثنا محمد بن كثير الصَّنْعاني ، حدثنا معمر بن راشد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ، أصبح يحدث الناس بذلك ، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه ، وسعوا بذلك إلى أبي بكر ، فقالوا : هل لك في صاحبك ؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس ! فقال : أو قال ذلك ؟ قالوا : نعم . قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس ، وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم ، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء في غَدْوة أو رَوْحة . فلذلك سمي أبو بكر : الصديق ، رضي الله عنه{[17175]} .
رواية أم هانئ بنت أبي طالب ، رضي الله عنها :
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح باذان ، عن أم هانئ بنت أبي طالب [ رضي الله عنها ]{[17176]} في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول : ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي ، نائم عندي تلك الليلة ، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا ، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال : " يا أم هانئ ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين " {[17177]} .
الكلبي : متروك بمرة ساقط ، لكن رواه أبو يعلى في مسنده عن محمد بن إسماعيل الأنصاري ، عن ضَمْرَة بن ربيعة ، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني{[17178]} ، عن أبي صالح ، عن أم هانئ بأبسط من هذا
السياق ، فليكتب هاهنا{[17179]} .
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المُسَاور ، عن عكرمة ، عن أم هانئ قالت : بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به في بيتي ، ففقدته من الليل ، فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن جبريل ، عليه السلام ، أتاني فأخذ بيدي فأخرجني ، فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار ، فحملني عليها ، ثم انطلق حتى انتهى بي إلى بيت المقدس ، فأراني إبراهيم يشبه خلقه خلقي ، ويشبه خلقي خلقه ، وأراني موسى آدم طويلا سبط الشعر ، شبهته برجال أزد شنوءة ، وأراني عيسى ابن مريم رَبْعة أبيض يضرب إلى الحمرة ، شبهته بعروة بن مسعود الثقفي ، وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى ، شبهته بقطن بن عبد العزى "
قال : " وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت " . فأخذت بثوبه فقلت : إني أذكرك{[17180]} الله ، إنك تأتي قوما يكذبونك وينكرون مقالتك ، فأخاف أن يسطوا بك . قالت : فضرب ثوبه من يدي ، ثم خرج إليهم فأتاهم وهم جلوس ، فأخبرهم ما أخبرني ، فقام جبير بن مطعم فقال : يا محمد لو كنت شابا{[17181]} كما كنت ، ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا . فقال رجل من القوم : يا محمد ، هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا ؟ قال : " نعم ، والله قد وجدتهم أضلوا بعيرًا لهم فهم في طلبه " .
قال : فهل مررت بإبل لبني فلان ؟ قال : " نعم ، وجدتهم في مكان كذا وكذا ، وقد انكسرت{[17182]} لهم ناقة حمراء ، وعندهم قصعة من ماء ، فشربت ما فيها " . قالوا : فأخبرنا عدتها وما فيها من الرعاة [ قال : " قد كنت عن عدتها مشغولا " . فنام فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة ]{[17183]} ثم أتى قريشا فقال لهم : " سألتموني عن إبل بني فلان ، فهي كذا وكذا ، وفيها من الرعاة فلان وفلان ، وسألتموني عن إبل بني فلان ، فهي كذا وكذا ، وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان وفلان ، وهي مصبحتكم من الغداة{[17184]} على الثنية " . قال : فقعدوا {[17185]}على الثنية ينظرون أصدقهم ما قال ؟ فاستقبلوا الإبل فسألوهم : هل ضل لكم بعير ؟ قالوا : نعم . فسألوا الآخر : هل انكسرت لكم ناقة حمراء ؟ قالوا : نعم . قالوا : فهل كان عندكم قصعة ؟ قال : أبو بكر : أنا والله وضعتها فما شربها أحد ، ولا أهراقوه في الأرض . فصدقه أبو بكر [ رضي الله عنه ]{[17186]} وآمن به ، فسمي يومئذ الصديق{[17187]} .
وإذا{[17188]} حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها ، يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ، وأنه مرة واحدة ، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه ، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه ، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء ، عليهم السلام . ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة ، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب ، وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب .
وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه ، عليه السلام{[17189]} أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط ، ومرة من مكة إلى السماء فقط ، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء . وفرح بهذا المسلك ، وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات . وهذا بعيد جدًا ، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف ، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته ، ولنقلته{[17190]} الناس على التعدد والتكرر .
قال موسى بن عقبة ، عن الزهري : كان الإسراء قبل الهجرة بسنة . وكذا قال عروة . وقال السدي : بستة عشر شهرًا .
والحق أنه ، عليه السلام{[17191]} أسري به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس ، راكبًا البراق ، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين . ثم أتى المعراج{[17192]} - وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها - فصعد فيه إلى السماء الدنيا ، ثم إلى بقية السماوات السبع ، فتلقاه من كل سماء مقربوها ، وسلم عليه الأنبياء [ عليهم السلام ]{[17193]} الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم ، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة ، وإبراهيم الخليل في السابعة ، ثم جاوز منزلتهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء ، حتى انتهى إلى مستوى يسمع{[17194]} فيه صريف الأقلام ، أي : أقلام القدر بما هو كائن ، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله ، تعالى ، عظمة عظيمة ، من فراش من ذهب ، وألوان متعددة ، وغشيتها الملائكة ، ورأى هنالك جبريل على صورته ، وله ستمائة جناح ، ورأى رفرفًا أخضر قد سد الأفق ، ورأى البيت المعمور{[17195]} وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندًا ظهره إليه ؛ لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبدون فيه ، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة . ورأى الجنة والنار ، وفرض الله [ عز وجل ]{[17196]} عليه هنالك الصلوات خمسين ، ثم خففها إلى خمس ؛ رحمة منه ولطفًا بعباده . وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها . ثم هبط إلى بيت المقدس ، وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة ، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ . ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء . والذي تظاهرت به الروايات أنه بيت المقدس ، ولكن في بعضها أنه كان أول{[17197]} دخوله إليه . والظاهر أنه بعد رجوعه إليه ؛ لأنه لما مرّ بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدًا واحدًا وهو يخبره بهم ، وهذا هو اللائق ؛ لأنه كان أولا مطلوبًا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله ، تعالى . ثم لما فرغ من الذي أريد به ، اجتمع هو وإخوانه من النبيين [ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ]{[17198]} ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة ، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام{[17199]} له في ذلك . ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما عرض الآنية عليه من اللبن والعسل ، أو اللبن والخمر ، أو اللبن والماء ، أو الجميع - فقد ورد أنه في بيت المقدس ، وجاء أنه في السماء . ويحتمل أن يكون هاهنا وهاهنا ؛ لأنه كالضيافة للقادم ، والله أعلم .
ثم اختلف الناس : هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام{[17200]} وروحه ؟ أو بروحه فقط ؟ على قولين ، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا منامًا ، ولا ينكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك منامًا ، ثم رآه بعده يقظة ؛ لأنه عليه السلام{[17201]} كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ؛ والدليل على هذا قوله [ عز وجل ]{[17202]} { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام ، ولو كان منامًا لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظمًا ، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه ، ولما ارتد جماعة ممن كان قد أسلم . وأيضًا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ، وقد قال [ عز شأنه ]{[17203]} { أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا } وقد قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] قال ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[17204]} هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ليلة أسري به ، والشجرة الملعونة : شجرة الزقوم ]{[17205]} رواه البخاري . وقال تعالى : { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [ النجم : 17 ] ، والبصر من آلات الذات لا الروح . وأيضًا فإنه حمل على البراق ، وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان ، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح ؛ لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب{[17206]} عليه ، والله أعلم .
وقال آخرون : بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده . قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ؛ أن معاوية بن أبي سفيان [ رضي الله عنهما ]{[17207]} كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة .
وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أسري بروحه .
قال ابن إسحاق : فلم ينكر ذلك من قولها ، لقول الحسن : إن هذه الآية نزلت { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } ولقول{[17208]} الله في الخبر عن إبراهيم : { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } [ الصافات : 102 ] ، ثم مضى على ذلك . فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظًا ونياما .
فكان{[17209]} رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تنام عيناي ، وقلبي يقظان " فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه ، وعاين فيه من الله ما عاين ، على أي حالاته كان ، نائمًا أو يقظان ، كل ذلك حق وصدق . انتهى كلام ابن إسحاق{[17210]} .
وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع ، بأن هذا خلاف{[17211]} ظاهر سياق القرآن ، وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم{[17212]} والله أعلم .
روى الحافظ أبو نُعَيم الأصبهاني في كتاب " دلائل النبوة " من طريق محمد بن عمر الواقدي : حدثني مالك بن أبي الرجال ، عن عمرو بن عبد الله ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دَحْية بن خليفة إلى قيصر - فذكر وروده عليه وقدومه إليه . وفي السياق دلالة عظيمة على وُفُور عقل هرقل - ثم استدعى من بالشام من التجار ، فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه ، فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم ، كما سيأتي بيانه ، وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده . قال في هذا السياق عن أبي سفيان : والله ما يمنعني أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليّ ، ولا يصدقني بشيء . قال : حتى ذكرت قوله ليلة أسري به قال : فقلت : أيها الملك ، ألا أخبرك خبرًا تعرف أنه قد كذب ؟ قال : وما هو ؟ قال : قلت : إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا - أرض الحرم - في ليلة فجاء مسجدكم هذا - مسجد إيلياء ، ورجع{[17213]} إلينا تلك الليلة قبل الصباح . قال : وبَطْرِيقُ إيلياء عند رأس قيصر ، فقال : بَطْرِيق إيلياء : قد علمت تلك الليلة ، قال : فنظر{[17214]} قيصر ، وقال : وما علمك بهذا ؟ قال : إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد ، فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني ، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته فغلبني ، فلم نستطع أن نحركه ، كأنما نزاول به جبلا فدعوت إليه النجاجرة ، فنظروا إليه فقالوا : إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى . قال : فرجعت وتركت البابين مفتوحين . فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي في زاوية الباب{[17215]} مثقوب ، وإذا فيه أثر مربط الدابة قال : فقلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي ، وقد صلى الليلة في مسجدنا . وذكر تمام الحديث{[17216]} .
قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحْيَة في كتابه " التنوير في مولد السراج المنير " وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس ، وتكلم عليه فأجاد وأفاد - ثم قال : وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب ، وعلي [ بن أبي طالب ]{[17217]} وابن مسعود ، وأبي ذر ، ومالك بن صعصعة ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وابن عباس ، وشداد بن أوس ، وأبي بن كعب ، وعبد الرحمن بن قُرْط ، وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين{[17218]} ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وحذيفة ، وبريدة ، وأبي أيوب ، وأبي أمامة ، وسمرة بن جُنْدُب ، وأبي الحمراء ، وصهيب الرومي ، وأم هانئ ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهم أجمعين . منهم من ساقه بطوله ، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد ، وإن لم تكن{[17219]} رواية بعضهم على شرط الصحة ، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون ، واعترض فيه الزنادقة الملحدون{[17220]} { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ الصف : 8 ] .
تفسير سورة الإسراء . {[1]}
هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات :{[2]} قوله عز وجل : " وإن كادوا ليفتنونك " ، وقوله : " وإن كادوا ليستفزونك " ، نزلت حين جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفدُ ثقيف ، وحين قالت اليهود : ليست هذه بأرض الأنبياء ، وقوله عز وجل : " وقل رب أدخلني مدخل صدق " ، وقوله عز وجل : " إن ربك أحاط بالناس " وقال مقاتل : وقوله عز وجل : " إن الذين أوتوا العلم من قبله " . قال ابن مسعود في بني إسرائيل والكهف : " إنهن من العِتاق الأُوَل ، وهن في تِلاَدِي " ، {[3]} يريد أنهن من قديم كسبه .
لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده ، وهو محمد عليه السلام ، ويظهر أن { أسرى } هي هنا معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره ، أسرى الملائكة بعبده ، وكذلك يقلق أن يسند { أسرى } وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى ، إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل ، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة ، فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث «أتيته سعياً ، وأتيته هرولة »{[7458]} حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث ، و { أسرى } في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا تحتاج إلى تجوز قلق فيمثل هذا اللفظ ، فإنه ألزم للنقلة من أتيته{[7459]} و { أتى الله بنيانهم }{[7460]} [ النحل : 26 ] ويحتمل أن يكون { أسرى } بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى { ذهب الله بنورهم }{[7461]} [ البقرة : 17 ] ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث ، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه ، وذكر النقاش عمن رواه عشرين صحابياً ، فروى جمهور الصحابة وتلقى جل العلماء منهم أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم ، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه ، وروى حذيفة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن البراق في بيت المقدس ولا دخله ، قال حذيفة ولو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه ، وأنه ركب البراق بمكة ولم ينزل عنه حتى انصرف إلى بيته ، إلا في صعوده إلى السماء ، وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارق شخصه مضجعه وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق من ربه عز وجل ، وجوزه الحسن وابن إسحاق ، والحديث ، قال القاضي أبو محمد ، مطول في البخاري ومسلم وغيرهما ، فلذلك اختصرنا نصه في هذا الباب ، وركوب البراق على قول هؤلاء يكون من جملة ما رأى في النوم ، قال ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن في كتاب الطبري : البراق هو دابة إبراهيم الذي كان يزور عليه البيت الحرام .
قال القاضي أبو محمد : يريد أن يجيء من يومه ويرجع وذلك من مسكنه بالشام ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق ، ولا قالت له أم هاني : لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل ، واحتج لقول عائشة بقوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس }{[7462]} [ الإسراء : 60 ] ، ويحتمل القول الآخر لأنه يقال لرؤية العين رؤيا ، واحتج أيضاً بأن في بعض الأحاديث : فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وهذا محتمل أن يريد من الإسراء إلى نوم ، واعترض قول عائشة بأنها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدثت عن النبي عليه السلام ، وأما معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال صغيراً ، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { سبحان } مصدر غير متمكن لأنه لا يجري بوجوه الإعراب ولا تدخل عليه الألف واللام ولم يجر منه فعل ، وسبح إنما معناه قال سبحان الله فلم يستعمل سبح إلا إشارة إلى { سبحان } ، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً ، هذا كله مذهب سيبويه فيه ، وقالت فرقة : قال القاضي أبو محمد : نصبه على النداء كأنه قال : «يا سبحان » ، قال القاضي أبو محمد الذي ، وهذا ضعيف ومعناه تنزيهاً لله ، وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة{[7463]} أنه قال للنبي صلى الله عليه ولم ما معنى سبحان الله ؟ قال :
«تنزيهاً لله من كل سوء » ، والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي هو من معناه لا من لفظه إذ يجر من لفظه فعل ، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء " {[7464]} ، فالتقدير عنده أنزه الله تنزيهاً فوقع { سبحان } مكان قولك تنزيهاً ، وقال قوم من المفسرين : { أسرى } فعل غير متعد عداه هنا بحرف جر تقول سرى الرجل وأسرى إذ سار بالليل بمعنى ، وقد ذكرت ما يظهر في اللفظ من جهة العقيدة ، وقرأ حذيفة وابن مسعود «أسرى بعبده من الليل من المسجد الحرام » ، وقوله من { المسجد الحرام } ، قال أنس بن مالك : أراد المسجد المحيط بالكعبة نفسها ورجحه الطبري وقال : هو الذي يعرف إذا ذكر هذا الاسم ، وروى الحسن بن أبي الحسن عن النبي عليه السلام أنه قال : «بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل والملائكة » ، الحديث بطوله . وروى قوم أن ذلك كان بين زمزم والمقام ، وروى مالك بن صعصعة عن النبي عليه السلام : «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان{[7465]} » ، وذكر عبد بن حميد الكشي في تفسيره عن سفيان الثوري أنه قال : أسري بالنبي عليه السلام من شعب أبي طالب ، وقالت فرقة : { المسجد الحرام } مكة كلها واستندوا إلى قوله تعالى { لتدخلن المسجد الحرام }{[7466]} [ الفتح : 27 ] وعظم المقصد هنا إنما هو مكة ، وروى بعض هذه الفرقة عن أم هاني أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيتي{[7467]} ، وروي بعضها عن النبي عليه السلام ، أنه قال : «خرج سقف بيتي » وهذا يلتئم مع قول أم هاني ، وكان الإسراء فيما قال مقاتل قبل الهجرة بعام ، وقاله قتادة ، وقيل بعام ونصف ، قاله عروة عن عائشة وكان ذلك في رجب ، وقيل في ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول والنبي صلى الله عليه وسلم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً ، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة{[7468]} ، وقبل بيعة العقبة ، ووقع في الصحيحين لشريك بن أبي نمر وهم في هذا المعنى فإنه روى حديث الإسراء فقال فيه : وذلك قبل الوحي إليه ، ولا خلاف بين المحدثين أن هذا وهم من شريك{[7469]} ، و { المسجد الأقصى } ، مسجد بيت المقدس ، وسماه { الأقصى } أي في ذلك الوقت كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة ، ويحتمل أن يريد ب { الأقصى } البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه ، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة .
و «البركة حوله » هي من جهتين ، إحداهما النبوءة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه وبواديه ، والأخرى النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : «إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس » وقوله : { لنريه من آياتنا } يريد لنري محمداً بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب ، ويحتمل أن يريد لنري محمداً للناس آية ، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع وتكون الرؤية على هذا رؤية قلب ، ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة . وقوله : { إنه هو السميع البصير } وعيد من الله للكفار تكذيبهم محمداً في أمر الإسراء ، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي { هو السميع } لما تقولون { البصير } بأفعالكم .