التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الإسراء .

بسم الله الرحمن الرحيم .

مقدمة :

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .

وبعد : فهذا تفسير لسورة الإسراء ، أسأل الله عز وجل أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، إنه سميع مجيب .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

المدينة المنورة في : 5/1/1404ه/ الموافق : 10/10/1983م .

المؤلف : د . محمد سيد طنطاوي .

تعريف بسورة الإسراء :

1- سورة الإسراء هي السورة السابعة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سورة : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء . . . الخ .

أما ترتيبها في النزول ، فقد ذكر السيوطي في الإتقان أنها السورة التاسعة والأربعون ، وأن نزولها كان بعد سورة القصص( {[1]} ) .

2- وتسمى أيضا بسورة " بني إسرائيل " ، وبسورة " سبحان " . وعدد آياتها عند الجمهور إحدى عشرة آية ومائة ، وعند الكوفيين عشر آيات ومائة آية .

3- ومن الأحاديث التي وردت في فضلها ، ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود –رضي الله عنه- أنه قال في بني إسرائيل ، والكهف ومريم : إنهن من العِتَاق الأول ، وهنّ من تِلادي( {[2]} ) .

والعِتاق : جمع عتيق وهو القديم ، وكذلك التالد بمعنى القديم . ومراده –رضي الله عنه- أن هذه السور من أول ما حفظه من القرآن .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد ، عن مروان عن أبي لبابة ، قال : سمعت عائشة –رضي الله عنها- تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم ، وكان يقرأ كل ليلة : " بني إسرائيل " و " الزمر " ( {[3]} ) .

4- ومن وجوه مناسبة هذه السورة لما قبلها ، ما ذكره أبو حيان بقوله : " ومناسبة هذه لما قبلها ، أنه –تعالى- لما أمره –في آخر النحل- بالصبر ، ونهاه عن الحزن عليهم ، وعن أن يضيق صدره من مكرهم ، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والشعر ، وغير ذلك بما رموه به ، أعقب –تعالى- ذلك بذكر شرفه ، وفضله ، واحتفائه به ، وعلو منزلته عنده " ( {[4]} ) .

5- وسورة الإسراء من السور المكية ، ومن المفسرين الذي صرحوا بذلك دون أن يذكروا خلافا في كونها مكية : الزمخشري ، وابن كثير ، والبيضاوي ، وأبو حيان .

وقال الألوسي : وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور .

وقيل : هي مكية إلا آيتين : [ وإن كادوا ليفتنونك . . . وإن كادوا ليستفزونك ] .

وقيل : إلا أربعا ، هاتان الآيتان ، وقوله –تعالى- : [ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس . . . ] .

وقوله –سبحانه- : [ وقل رب أدخلني مدخل صدق . . . ]( {[5]} ) .

والذي تطمئن إليه النفس أن سورة الإسراء بتمامها مكية –كما قال جمهور المفسرين- ، لأن الروايات التي ذكرت في كون بعض آياتها مدنية ، لا تنهض دليلا على ذلك لضعفها . . .

والذي يغلب على الظن أن نزول هذه السورة الكريمة ، أو نزول معظمها ، كان في أعقاب حادث الإسراء والمعراج .

وذلك لأن السورة تحدثت عن هذا الحدث ، كما تحدثت عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا مستفيضا ، وحكت إيذاء المشركين له ، وتطاولهم عليه ، وتعنتهم معه ، كمطالبتهم إياه بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . . .

وقد ردت السورة الكريمة على كل ذلك ، بما يسلي الرسول صلى الله عليه وسلم ويثبته ، ويرفع منزلته ، ويعلي قدره . . . في تلك الفترة الحرجة من حياته صلى الله عليه وسلم وهي الفترة التي أعقبت موت زوجه السيدة خديجة –رضي الله عنها- وموت عمه أبي طالب . . .

6- ( أ ) وعندما نقرأ سورة الإسراء ، نراها في مطلعها تحدثنا عن إسراء الله –تعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وعن الكتاب الذي آتاه الله –تعالى- لموسى –عليه السلام- ليكون هداية لقومه ، وعن قضاء الله في بني إسرائيل . .

قال –تعالى- : [ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، الذي باركنا حوله ، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير . وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، ألا تتخذوا من دوني وكيلا . ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا . وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ] . .

( ب ) ثم يبين –سبحانه- بعد ذلك أن هذا القرآن قد أنزله –سبحانه- على نبيه صلى الله عليه وسلم ليهدي الناس إلى الطريق الأقوم ، وليبشر المؤمنين بالأجر الكبير ، وأن كل إنسان مسئول عن عمله ، وسيحاسب عليه يوم القيامة ، دون أن تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى . . .

قال –تعالى- : [ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، أن لهم أجرا كبيرا . . . ] .

إلى أن يقول –سبحانه- : [ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ] .

( ج ) ثم تسوق السورة الكريمة سنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن عاقبة الترف والفسق ، الدمار والهلاك ، وأن من يريد العاجلة كانت نهايته إلى جهنم ، ومن يريد الآخرة ويقدم لها العمل الصالح كانت نهايته إلى الجنة .

استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البليغ فيقول : [ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها . فحق عليها القول فدمرناها تدميرا . وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح . وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا . ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ] .

( د ) وبعد أن بين –سبحانه- أن سعادة الآخرة منوطة بإرادتها ، وبأن يسعى الإنسان لها وهو مؤمن ، عقب ذلك بذكر بضع وعشرين نوعا من أنواع التكاليف ، التي متى نفذها المسلم ظفر برضى الله –تعالى- ومثوبته ، ومن تلك التكاليف قوله –تعالى- : [ لا تجعل مع الله إلها آخر ] .

[ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ] . . .

[ وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا . . . ] .

[ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم . . . ] .

[ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ] .

[ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ] .

[ ولاتقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ] .

[ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ] .

[ ولا تقف ما ليس لك به علم . . ] .

[ ولا تمش في الأرض مرحا . . ] .

( ه ) وبعد أن ساقت السورة الكريمة تلك التكاليف المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ أوالنقض ، في ثماني عشرة آية ، أتبعت ذلك بالثناء على القرآن الكريم ، وبتنزيه الله –تعالى- عن الشريك ، وببيان أن كل شيء يسبح بحمده –عز وجل- .

قال –تعالى- : [ ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفوراً . قل لو كان معه آلهة كما يقولون ، إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا . سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا . تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، إنه كان حليما غفورا ] .

( و ) ثم تحكي السورة الكريمة جانبا من أقوال المشركين ، وترد عليها بما يدحضها ، وتأمر المؤمنين بأن يقولوا الكلمة التي هي أحسن . . فتقول :

[ وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا . قل كونوا حجارة أو حديدا . أو خلقا مما يكبر في صدوركم ، فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ، فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو ، قل عسى أن يكون قريبا . يوم يدعوكم فتسجيبون بحمده ، وتظنون إن لبثتم إلا قليلا . وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ، إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ] .

( ز ) وبعد أن تقرر السورة الكريمة شمول علم الله –تعالى- لكل شيء ، وقدرته على كل شيء ، بعد أن تقرر ذلك ، تحكي لنا جانبا من قصة آدم وإبليس فتقول :

[ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا . قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ، لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ] .

( ح ) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألوانا من نعم الله على عباده في البر والبحر ، وألوانا من تكريمه لبني آدم ، كما تصور أحوال الناس يوم القيامة ، وعدالة الله –تعالى- في حكمه عليهم فتقول :

[ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا . أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ، أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا . . . ] .

ثم يقول –سبحانه- : [ ولقد كرمنا بني آدم ، وحملناهم في البر والبحر ، ورزقناهم من الطيبات ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا . يوم ندعو كل أناس بإمامهم ، فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . . . ] .

( ط ) ثم تحكي السورة جانبا من نعم الله –تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم ، حيث ثبته –سبحانه- أمام مكر أعدائه ، وأمره بالمداومة على الصلاة وعلى قراءة القرآن ، لأن ذلك يزيده ثباتا على ثباته ، وتكريما على تكريمه .

قال –تعالى- : [ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره ، وإذا لاتخذوك خليلا . ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ] .

( ي ) ثم يقول –سبحانه- : [ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا . وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا . . ] .

( ك ) وبعد أن تقرر السورة الكريمة طبيعة الإنسان ، وتقرر أن الروح من أمر الله –تعالى- تتبع ذلك بالثناء على القرآن الكريم ، وببيان أنه المعجزة الخالدة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبإيراد المطالب المتعنتة التي طالب المشركون بها النبي صلى الله عليه وسلم .

استمع إلى القرآن الكريم وهو يقرر كل ذلك بأسلوبه البليغ فيقول : [ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أوتكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ] .

( ل ) ثم تسوق السورة الكريمة في أواخرها الدلائل الدالة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته ، وتحكي جانبا من قصة موسى –عليه السلام- مع فرعون وتؤكد أن هذا القرآن أنزله الله –تعالى- بالحق ، وبالحق نزل ، وأنه نزله مفرقا ليقرأه الناس على تؤدة وتدبر .

وكما افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله –تعالى- ، فقد اختتمت بحمد الله –تعالى- وتكبيره . قال –تعالى- :

[ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ] .

( م ) وبعد فهذا عرض إجمالي لأهم الموضوعات والمقاصد التي اشتملت عليها سورة الإسراء . ومن هذا العرض يتبين لنا ما يلي :

1- أن سورة الإسراء –كغيرها من السور المكية- قد اهتمت اهتماما بارزا بتنقية العقيدة من كل ما يشوبها من شرك ، أو انحراف عن الطريق المستقيم .

وقد ساقت السورة في هذا المجال أنواعا متعددة من البراهين على وحدانية الله –تعالى- وعلمه وقدرته ، ووجوب إخلاص العبادة له ، وعلى تنزيهه –سبحانه- عن الشريك ، ومن ذلك قوله –تعالى- : [ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما . ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا . قل لو كان معه آلهة كما يقولون ، إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا . سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ] .

2- كذلك على رأس الموضوعات التي فصلت السورة الحديث عنها ، شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقد ابتدأت بإسراء الله –تعالى- به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، حيث أراه –سبحانه- من آياته ما أراه ، ثم تحدثت عن طبيعة رسالته ، وعن مزاياها ، وعن موقف المشركين منه ، وعن المطالب المتعنتة التي طلبوها منه ، وعن تثبيت الله –تعالى- له ، وعن تبشيره بحسن العاقبة . قال –تعالى- : [ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ] .

3- من الواضح –أيضا- أن سورة الإسراء اعتنت بالحديث عن القرآن الكريم ، من حيث هدايته ، وإعجازه ، ومنع الذين لا يؤمنون به عن فقهه ، واشتماله على ما يشفي الصدور ، وتكراره للبينات والعبر بأساليب مختلفة ، ونزوله مفرقا ليقرأه الناس على مكث . .

ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله –تعالى- :

[ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . . ] .

[ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . . ] .

[ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين . . ] .

[ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ، وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا . وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ، ونزلناه تنزيلا . . ] .

4_ اهتمت السورة الكريمة اهتماما بينا ، بالحديث عن التكاليف الشرعية ، المتضمنة لقواعد السلوك الفردي والجماعي .

وقد ذكرت السورة أكثر من عشرين تكليفا ، في آيات متتالية ، بدأت بقوله –تعالى- : [ ولا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ] الآية 22 ، وانتهت بقوله –تعالى- : [ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ] الآية 38 .

وبجانب حديثها المستفيض عن التكاليف الشرعية ، تحدثت –أيضا- عن طبيعة الإنسان في حالتي العسر واليسر ، وعن بخله الشديد بما يملكه . .

قال –تعالى- : [ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ، وإذا مسه الشر كان يئوسا ] .

وقال –سبحانه- : [ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي ، إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ] .

1- ومن الجوانب التي حرصت السورة الكريمة على تجليتها والكشف عنها : بيان سنن الله التي لا تتخلف في الهداية والإضلال ، وفي الثواب والعقاب ، وفي النصر والخذلان ، وفي الرحمة والإهلاك ، ومن ذلك قوله –تعالى- :

[ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ] .

[ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ] .

[ يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ] .

[ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها . . ] .

هذه بعض المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها سورة الإسراء ، وهناك مقاصد أخرى يراها المتأمل فيها ، والمتدبر لآياتها ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

د . محمد سيد طنطاوي .

افتتحت سورة الإسراء بتنزيه الله - تعالى - عن كل ما لا يليق بجلاله ، كما يدل على ذلك لفظ " سبحان " الذى من أحسن وجوه إعرابه ، أنه اسم مصدر منصوب - على أنه مفعول مطلق - بفعل محذوف ، والتقدير : سبحت الله - تعالى - سبحانا أى تسبيحا ، بمعنى نزهته تنزيها عن كل سوء .

قال القرطبى : " وقد روى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة - أى المبشرين بالجنة - أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم : ما معنى سبحان الله ؟ فقال : " تنزيه الله من كل سوء " " .

وقوله { أسرى } من الإِسراء ، وهو السير بالليل خاصة .

قال الجمل : يقال أسرى وسرى ، بمعنى سار فى الليل ، وهما لازمان ، لكن مصدر الأول الإِسراء ومصدر الثانى السرى - بضم السين كالهدى - فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول ، وإنما جاءت التعدية هنا من الباء . ومعنى أسرى به ، صيره ساريا فى الليل .

والمراد { بعبده } خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم ، والإِضافة للتشريف والتكريم .

وأوثر التعبير بلفظ العبد ، للدلالة على أن مقام العبودية لله - تعالى - هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها ، إذ لو كان هناك وصف أعظم منه فى هذا المقام لعبر به ، وللإِشارة - أيضا - إلى تقرير هذه العبودية لله - تعالى - وتأكيدها ، حتى لا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية ، كما التبسا فى العقائد المسيحية ، حيث ألهوا عيسى - عليه السلام - ، وألهوا أمه مريم ، مع أنهما بريئان من ذلك . . .

قال الشيخ القاسمى نقلا عن الإِمام ابن القيم فى كتاب " طريق الهجرتين " : أكمل الخلق أكملهم عبودية لله - تعالى - ، ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم أقرب الخلق إلى الله - تعالى - وأعظمهم عنده جاها ، وأرفعهم عنده منزلة ، لكماله فى مقام العبودية . وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " أيها الناس ما أحب أن ترفعونى فوق منزلتى . إنما أنا عبد " وكان يقول : " لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله " .

وذكره - سبحانه - بسمة العبودية فى أشرف مقاماته : فى مقام الإِسراء حيث قال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } .

وفى مقام الدعوة حيث قال : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ } وفى مقام التحدى حيث قال : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } وقوله : { ليلا } ظرف زمان لأسرى .

قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : الإِسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل ؟ .

قلت : أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير ، تقليل مدة الإِسراء ، وأنه أسرى به بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية .

. . " .

وقوله : { مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } بيان لابتداء الإِسراء وانتهائه .

أى : جل شأن الله - عز وجل - وتنزه عن كل نقص ، حيث أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم فى جزء من الليل ، من المسجد الحرام الذى بمكة إلى المسجد الأقصى الذى بفلسطين .

ووصف مسجد مكة بالحرام ، لأنه لا يحل انتهاكه بقتال فيه ، ولا بصيد صيده ، ولا بقطع شجره .

ووصف مسجد فلسطين بالأقصى ، لبعده عن المسجد الحرام ، إذ المسافة بينهما كان يقطعها الراكب للإِبل فى مدة شهر أو أكثر .

قال الآلوسى : ووصفه بالأقصى - أى الأبعد - بالنسبة إلى من بالحجاز . وقال غير واحد : إنه سمى به لأنه أبعد المساجد التى تزار من المسجد الحرام وبينهما زهاء أربعين ليلة . وقيل - وصف بذلك - : لأنه ليس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها . . .

وظاهر الآية يفيد أن الإِسراء كان من المسجد الحرام ، فقد أخرج الشيخان والترمذى والنسائى من حديث أنس بن مالك - رضى الله عنه - " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا أنا فى الحجر - وفى رواية - فى الحطيم ، بين النائم واليقظان ، إذ أتانى آت فشق ما بين هذه إلى هذه ، فاستخرج قلبى فغسله ثم أعيد ، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه " " .

وقيل أُسرِى به من بيت أم هانئ بنت أبى طالب ، فيكون المراد بالمسجد الحرام : الحرم لإِحاطته بالمسجد والتباسه به . فعن ابن عباس - رضى الله عنهما - : الحرم كله مسجد .

ويمكن الجمع بين هذه الروايات ، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بقى فى بيت أم هانئ لفترة من الليل ، ثم ترك فراشه عندها وذهب إلى المسجد ، فلما كان فى الحِجْر أو فى الحطيم بين النائم واليقظان ، أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عرج به إلى السموات العلا . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد - كما جاء فى بعض الروايات .

وبذلك يترجح لدينا أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم فى تلك الليلة فى بيت أم هانئ ، لا ينفى أن الإِسراء بدأ من المسجد الحرام ، كما تقرر الآية الكريمة .

وقوله { الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } صفة مدح للمسجد الأقصى .

أى : جل شأن الله الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، الذى أحطنا جوانبه بالبركات الدينية والدنيوية .

أما البركات الدينية فمن مظاهرها : أن هذه الأرض التى حوله ، جعلها الله - تَعالى - مقرا لكثير من الأنبياء ، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وداود وسليمان ، وزكريا ويحيى وعيسى .

قال - تعالى - : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا . . } وقال - سبحانه - فى شأن إبراهيم : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } والمقصود بهذه الأرض : أرض الشام ، التى منها فلسطين .

وأما البركات الدنيوية فمن مظاهرها : كثرة الأنهار والأشجار والثمار والزروع فى تلك الأماكن .

قال بعض العلماء : وقد قيل فى خصائص المسجد الأقصى : أنه متعبد الأنبياء السابقين ، ومسرى خاتم النبيين ، ومعراجه إلى السموات العلا . . وأولى القبلتين وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه .

وقوله - سبحانه - : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } إشارة الى الحكمة التى من أجلها أسرى الله - تعالى - بنبيه صلى الله عليه وسلم فقوله { لنريه } متعلق بأسرى .

و " من " للتبعيض لأن ما رآه النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان عظيما إلا أنه مع عظمته بعض آيات الله بالنسبة لما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب .

أى : أسرينا بعبدنا محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله ، ثم عرجنا به إلى السموات العلا ، لنطلعه على آياتنا ، وعلى عجائب قدرتنا ، والتى من بينها : مشاهدته لأنبيائنا الكرام ، ورؤيته لما نريد أن يراه من عجائب وغرائب هذا الكون .

ولقد وردت أحاديث متعددة فى بيان ما أراه الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم فى تلك الليلة المباركة ، ومن ذلك ما رواه البخارى عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " . . . ووجدت فى السماء الدنيا آدم فقال لى جبريل : هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه ورد على آدم السلام فقال : مرحبا وأهلا بابنى ، فنعم الابن أنت . . " .

وفى رواية للإِمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما عرج بى ربى - عز وجل - مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون فى أعراضهم . . " .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على سعة علمه ، ومزيد فضله فقال - تعالى - : { إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } .

أى : إنه - سبحانه - هو السميع لأقوال عباده : مؤمنهم وكافرهم ، مصدقهم ومكذبهم . بصير بما يسرونه ويعلنونه ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب ، بدون ظلم أو محاباة .

هذا وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية جملة من المسائل منها :

1- أن هذه الآية دلت على ثبوت الإِسراء للنبى صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وأما العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلا فقد استدل عليه بعضهم بآيات سورة النجم ، وهى قوله - تعالى - :

{ والنجم إِذَا هوى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى ذُو مِرَّةٍ فاستوى وَهُوَ بالأفق الأعلى ثُمَّ دَنَا فتدلى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى } وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية أحاديث كثيرة بأسانيدها ومتونها ، وقال فى أعقاب ذكر بعضها :

قال البيهقى : وفى هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسرى به - عليه الصلاة والسلام - من مكة إلى بيت المقدس ، وهذا الذى قاله هو الحق الذى لاشك فيه ولا مرية .

وقال القرطبى : ثبت الإِسراء فى جميع مصنفات الحديث ، وروى عن الصحابة فى كل أقطار الإِسلام ، فهو من المتواتر بهذا الوجه ، وذكر النقاش ممن رواه عشرين صحابيا .

2- قال بعض العلماء ما ملخصه : ذهب الاكثرون إلى أن الإِسراء كان بعد المبعث ، وأنه قبل الهجرة بسنة . قاله الزهرى وابن سعد وغيرهما . وبه جزم النووى ، وبالغ ابن حزم فنقل الإِجماع فيه . وقال : كان فى رجب سنة اثنتى عشرة من النبوة .

وإختار الحافظ المقدسى أنه كان فى ليلة السابع والعشرين من شهر رجب .

والذى تطمئن إليه النفس أن حادث الإِسراء والمعراج ، كان بعد وفاة أبى طالب والسيدة خديجة - رضى الله عنها - .

ووفاتهما كانت قبل الهجرة بسنتين أو ثلاثة . وفى هذه الفترات التى أعقبت وفاتهما اشتد أذى المشركين بالنبى صلى الله عليه وسلم فكان هذا الحادث لتسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم ، ولتشريفه وتكريمه . .

3- من المسائل التى ثار الجدل حولها ، مسألة : أكان الإِسراء والمعراج فى اليقظة أم فى المنام ؟ وبالروح والجسد أم بالروح فقط ؟ .

وقد لخص بعض المفسرين أقوال اللعماء فى هذه المسألة فقال : اعلم أن هذا الإِسراء به صلى الله عليه وسلم المذكور فى هذه الآية الكريمة زعم بعض أهل العلم أنه بروحه دون جسده ، زاعما أنه فى المنام لا فى اليقظة ، لأن رؤيا الأنبياء وحى .

وزعم بعضهم أن الإِسراء بالجسد ، والمعراج بالروح دون الجسد .

ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما ، لأنه قال : { بعبده } والعبد مجموع الروح والجسد .

ولأنه قال : { سبحان } والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام ، فلو كان مناما لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه .

ولأنه لو كان رؤيا منام لما كان فتنة ، ولا سببا لتكذيب قريش له صلى الله عليه وسلم لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح .

ولأنه - سبحانه - قال { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } والظاهر أن ما أراه الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم إنما كان رؤيا عن طريق العين ويؤيده قوله - تعالى - : { مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } ولأنه ثبت فى الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل فى رحلته البراق ، واستعماله البراق يدل على أن هذا الحادث كان بالروح والجسد وفى اليقظة لا فى المنام .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
[3]:- سورة المائدة: الآيتان 15، 16.
[4]:- سورة الجن: الآيتان 1، 2.
[5]:- سورة البقرة: الآيتان 23، 24.