تفسير مقاتل بن سليمان - مقاتل  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإسراء : سورة بني إسرائيل ، مكية كلها إلا هذه الآيات ، فإنهن مدنيات ، وهي قوله تعالى : { وقل رب أدخلني مدخل صدق . . . } [ آية :80 ] الآية .

وقوله تعالى : { إن الذين أوتوا العلم من قبله . . . } إلى قوله : { . . . خشوعا } [ آية :107-109 ] .

وقوله تعالى : { إن ربك أحاط بالناس . . . } [ آية :60 ] الآية .

وقوله تعالى : { وإن كادوا ليفتنونك . . . } [ آية :73 ] الآية .

وقوله تعالى : { ولولا أن ثبتناك . . . } [ آية :75 ،74 ] الآيتين .

وقوله تعالى : { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض . . . } [ آية :76 ] الآية .

عددها : مائة وإحدى عشرة آية كوفية .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ سبحان } ، يعنى عجب ، { الذي أسرى بعبده } ، في رجب ، يعنى النبي صلى الله عليه وسلم ، { ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } ، يعنى بيت المقدس ، قبل الهجرة بسنة ، وفرضت عليه الصلوات الخمس تلك الليلة ، وعرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنهار : نهر من لبن ، ونهر من عسل ، ونهر من خمر ، فلم يشرب النبي صلى الله عليه وسلم الخمر ، فقال جبريل : أما إن الله حرمها على أمتك ، { الذي باركنا حوله } ، يعنى بالبركة الماء ، والشجر ، والخير ، { لنريه من ءاياتنا } ، فكان مما رأى من الآيات : البُراق ، والرجال ، والملائكة ، وصلى بالنبيين تلك ، { إنه هو السميع البصير } آية .

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح بمكة ليلة أسري به من مكة ، فقال لأم هانئ ابنة أبي طالب وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي : "لقد رأيت الليلة عجبا" . قالت : وما ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال : "لقد صليت في مصلاي هذا صلاة العشاء ، وصلاة الفجر ، وصليت فيما بينهما في بيت المقدس" . فقالت : وكيف فعلت ؟ قال : "أتاني جبريل ، عليه السلام ، وقد أخذت مضجعي من الفراش قبل أن أنام ، وأخذ بيدي وأخرجني من الباب ، وميكائيل عليه السلام ، بالباب معه دابة ، فوق الحمار ودون البغل ، ووجهها كوجه الإنسان ، وخدها كخد الفرس ، وعرفها كعرف الفرس ، بلقاء ، سيلاء ، مضطربة الخلق ، لها جناحان ، ذنبها كذنب البقر ، وحافرها كأظلاف البقر ، خطوها عند منتهى بصرها ، كان سليمان بن داود ، عليه السلام ، يغدو عليها مسيرة شهر ، فحملاني عليها ، ثم أخذا يزفان بي حتى أتيت بيت المقدس ، ومثل لي النبيون ، فصليت بهم ، ورأيت ورأيت" .

فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم فيخرج ، أخذت أم هانئ بحبرته ، قالت : أين تخرج ؟ قال : "أخرج إلى قريش ، فأخبرهم بالذي رأيت" . فقالت : لا تفعل ، فوالله ليجترِأَن عليك المكذب ، وليمترين فيك المصدق . قال : "وإن كذبوني لأخرجن" ، ونزع يدها من حبرته ، فخرج إلى المسجد ، فإذا فيه شيوخ من شيوخ قريش جلوس في الحِجر ، فقام عليهم . فقال : "ألا أحدثكم بالعجب ؟" ، قالوا : أخبرنا ، فإن أمرك كله عجب . قال : "لقد صليت في هذا الوادي صلاة العشاء ، وصلاة الفجر ، وصليت فيما بينهما ببيت المقدس ، ومثل لي النبيون ، فصليت بهم وكلمت بعضهم" ، فصدقه المؤمنون ، وكذبه المشركون .

فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف : ما ثكلتني يدي على هذا الكذاب ، ألا لن أكون ذلك اليوم جذعا ، فآخذك بيدي أخذا ، تخبرنا أنك صليت ببيت المقدس ، ورجعتك من ليلتك ، ونحن لا نبلغه إلا في أربعين ليلة بعد شق الأنفس ، أشهد أنك كذاب ساحر . فبينما هم كذلك ، إذ جاء أبو بكر الصديق ، رضوان الله عليه . فقالت قريش : يا أبا بكر ، ألا تسمع ما يقول صاحبك ، يزعم أنه صلى العشاء الآخرة والفجر بمكة ، وصلى فيما بينهما ببيت المقدس ؟ قال أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه : إن كان قال ذلك ، فقد صدق .

وقال أبو بكر ، رضي الله عنه ، للنبي صلى الله عليه وسلم : بأبي أنت وأمي ، حدثني عن باب بيت المقدس ، وعن البيت ، وعن سواريه ، وعن الصخرة ، وعن هذا كله . فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم . فالتزمه أبو بكر ، فقال : أشهد أنك صادق . فسمي يومئذ الصديق اسمه : عتيق بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة . فقال المسلمون : يا رسول الله ، كيف رأيت الأنبياء عليهم السلام ؟ قال : "رأيت عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم رجلا أبيض ، فوق الربعة ، ودون الطويل ، ظاهر الدم ، عريض الصدر ، جعد الرأس ، يعلوه صهوبة ، أشبه الناس بعروة بن معتب الثقفي . ورأيت موسى ، عليه السلام ، رجلا طويلا ، آدم شديد الأدمة ، ضرب اللحم ، سبط الشعر ، أشعر كأنه من رجال أزد شنوءة ، لو لبس قميصين لرؤي شعره منهما . ورأيت إبراهيم ، عليه السلام ، أشبه الناس بي خلقا وخلقا ، فبدأني بالسلام والمصافحة والترحم . ورأيت الدجال ، رجلا جسيما ، لحيما ، آدم ، جعد الرأس ، كث اللحية ، ممسوح العين ، أحلى الجبهة ، براق الثنايا ، مكتوب بين عينيه كافر ، شبيه بقطن بن عبد العزى" . "ورأيت عمرو بن ربيعة بن يحيى بن قمعة بن خندف الخزاعي ، والحارث بن كعب بن عمرو ، وعليهما وفرة يجران قصبهما في النار" ، يعنى أمعاءهما . قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : ولم ؟ قال : "لأنهما أول من سيبا السائبة ، واتخذا البحيرة والوصيلة والحام ، وأول من سميا اللات والعزى ، وأمرا بعبادتهما ، وغيرا دين الحنيفية ملة إبراهيم ، عليه السلام ، ونصبا الأوثان حول الكعبة ؛ فأما عمرو بن ربيعة ، فهو رجل قصير ، أشبه الناس به هذا ، يعنى أكثم بن الجون الخزاعي" . فقال أكثم : يا رسول الله ، أيضرني شبهه ؟ قال : "لا ، أنت مؤمن وهو كافر" .

فقال رجل من كفار قريش للمطعم بن عدي : عجلت على ابن أخيك ، ثم قال كهيئة المستهزئ ، رويدك يا محمد حتى نسألك عن عيرنا ، هل رأيتها في الطريق ؟ قال : "نعم" ، قال : فأين رأيتها ؟ قال : "رأيت عير بني فلان بالروحاء نزولا ، قد ضلت لهم ناقة ، وهم في طلبها ، فمررت على رجالهم وليس بها أحد منهم ، فوجدت في إناء لهم ماء ، فشربت منه وتوضأت ، فاسألوهم إذا أتوكم ، هل كان ذلك ؟" ، قالوا : هذه آية .

قال : "ومررت على عير بني فلان ، في وادي كذا وكذا ، في ساعة كذا وكذا من الليل ، ومعي جبريل وميكائيل ، عليهما السلام ، فنفرت منا إبلهم ، فوقعت ناقة حمراء فانكسرت ، فهم يجبرونها ، فاسألوهم إذا أتوكم ، هل كان ذلك ؟" ، قالوا : نعم ، هذه آية . قال رجل منهم : فأين تركت عيرنا ؟ قال : "تركتها بالتنعيم قبيل" . قال : فإن كنت صادقا ، فهي قادمة الآن . قال : "نعم" قال : فأخبرنا بعدتها وأحمالها وما فيها . قال : "كنت عن ذلك مشغولا ، غير أن برنسا كان لهم على البعير الذي يقدم الركب ، فسقط البرنس ، فرجع حبشي من القوم فأصابه ، فوضعه على آخر الركب ، فاسألوهم إذا أتوكم هل كان ذلك" .

فبينا هو صلى الله عليه وسلم يحدثهم ، إذ مثل الله عز وجل له كل شيء حتى نظر إلى عدتها وأحمالها ومن فيها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أين السائل آنفا عن إبله ، فإن عدتها وأحمالها ومن فيها كذا وكذا ، ويقدمها جمل أورق ، وهي قادمة الآن" . فانطلقوا يسعون ، فإذا هي منحدرة من عتبة التنعيم ، وإذا هي وأحمالها وعدتها وما فيها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . فقال المشركون : لقد صدق الوليد بن المغيرة ، إن هذا لساحر مبين ، وما يدري محمد صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا متى تقدم عيرنا ، وما حالها وأحمالها ومن فيها . فكفوا بعض الأذى سنة .