فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإسراء

آياتها مائة وإحدى عشرة آية ، وهي مكية إلا ثلاث آيات قوله عز وجل { وإن كادوا ليستفزونك } نزلت حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف ، وحين قالت اليهود : ليست هذه بأرض الأنبياء ، وقوله : { وقل رب أدخلني مدخل صدق } .

وقوله : { إن ربك أحاط بالناس } وزاد مقاتل قوله : { إن الذين أوتوا العلم من قبله } . وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة بني إسرائيل بمكة . وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله . وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه عن ابن مسعود قال : في بني إسرائيل والكهف ومريم ، إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي . وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر . وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عمرو الشيباني قال : صلى بنا عبد الله الفجر فقرأ السورتين الآخرة منهما بنو إسرائيل .

قوله : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } هو مصدر سبح ، يقال : سبح يسبح تسبيحاً وسبحاناً ، مثل كفر اليمين تكفيراً وكفراناً ، ومعناه التنزيه والبراءة لله من كل نقص . وقال سيبويه : العامل فيه فعل لا من لفظه ، والتقدير : أنزه الله تنزيهاً ، فوقع سبحان مكان تنزيهاً ، فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء ؛ وقيل : هو علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحان ، ثم نزل منزلة الفعل وسدّ مسدّه ، وقد قدّمنا في قوله : { سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } [ البقرة : 32 ] . طرفاً من الكلام المتعلق بسبحان . والإسراء قيل : هو سير الليل ، يقال : سرى وأسرى ، كسقى وأسقى لغتان ، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله :

حي النضير وربة الخدر *** أسرت إليّ ولم تكن تسري

وقيل هو سير أوّل الليل خاصة ، وإذا كان الإسراء لا يكون إلاّ في الليل فلا بدّ للتصريح بذكر الليل بعده من فائدة ، فقيل : أراد بقوله { ليلاً } تقليل مدّة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة . ووجه دلالة { ليلاً } على تقليل المدّة ما فيه من التنكير الدالّ على البعضية ، بخلاف ما إذا قلت : سريت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعاً . وقد استدلّ صاحب الكشاف على إفادة ليلاً للبعضية بقراءة عبد الله وحذيفة ( من الليل ) . وقال الزجاج : معنى { أسرى بعبده ليلاً } سير عبده ، يعني : محمداً ليلاً ، وعلى هذا فيكون معنى أسرى : معنى سير ، فيكون للتقيد بالليل فائدة ، وقال : { بعبده } ولم يقل : بنبيه أو رسوله ، أو بمحمد تشريفاً له صلى الله عليه وسلم . قال أهل العلم : لو كان غير هذا الاسم أشرف منه ، لسماه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم ، والحالة العلية :

لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي

ادعاء بأسماء نبزا في قبائلها *** كأن أسماء أضحت بعض أسمائي

{ منَ المسجد الحرام } قال الحسن وقتادة : يعني المسجد نفسه ، وهو ظاهر القرآن . وقال عامة المفسرين : أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من دار أم هانئ ، فحملوا المسجد الحرام على مكة ، أو الحرام ، لإحاطة كل واحد منهما بالمسجد الحرام ، أو لأن الحرم كله مسجد . ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسوله صلى الله عليه وسلم إليها فقال : { إلى المسجد الأقصى } وهو بيت المقدس . وسمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ، ولم يكن حينئذٍ وراءه مسجد ، ثم وصف المسجد الأقصى بقوله : { الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } بالثمار والأنهار والأنبياء والصالحين ، فقد بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة . وفي { باركنا } بعد قوله { أسرى } التفات من الغيبة إلى التكلم . ثم ذكر العلة التي أسرى به لأجلها فقال : { لِنُرِيَهُ مِنْ آياتنا } أي : ما أراه الله سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل { إنَّهُ } سبحانه { هُوَ السميع } بكل مسموع ، ومن جملة ذلك قول رسوله صلى الله عليه وسلم { البصير } بكل مبصر ، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله .

وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلى الله عليه وسلم مع روحه ، أو بروحه فقط ؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأوّل ، وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ، ومعاوية ، والحسن ، وابن إسحاق ، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان ، وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا : كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس ، وإلى السماء بالروح ، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله : { إلى المسجد الأقصى } ، فجعله غاية للإسراء بذاته صلى الله عليه وسلم . فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء ، وقع بذاته لذكره ، والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس ، ثم إلى السماوات ، ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة ، ولا مقتضى لذلك إلاّ مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء ، ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط ، وأن رؤيا الأنبياء حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صلى الله عليه وسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتدّ من ارتدّ ممن لم يشرح بالإيمان صدراً ، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد ، بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد ؛ وأما التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] فعلى تسليم أن المراد بهذه الرؤيا هو هذا الإسراء فالتصريح الواقع هنا بقوله : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسرى به لا تقصر عن الاستدلال بها على تأويل هذه الرؤيا الواقعة في الآية برؤية العين ، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا ، وكيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب البراق ؟ وكيف يصح وصف الروح بالركوب ؟ وهكذا كيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريحه بأنه كان عند أن أسري به بين النائم واليقظان ؟

وقد اختلف أيضاً في تاريخ الإسراء ، فروي أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة . وروي أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام . ووجه ذلك أن خديجة صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين ، وقيل : بثلاث ؛ وقيل : بأربع ، ولم تفرض الصلاة إلاّ ليلة الإسراء . وقد استدل بهذا ابن عبد البرّ على ذلك ، وقد اختلفت الرواية عن الزهري . وممن قال بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة الزهري في رواية عنه ، وكذلك الحربي فإنه قال : أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة . وقال ابن القاسم في تاريخه : كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهراً . قال ابن عبد البرّ : لا أعلم أحداً من أهل السير قال بمثل هذا . وروي عن الزهري أنه أسري به قبل مبعثه بسبعة أعوام ، وروي عنه أنه قال : كان قبل مبعثه بخمس سنين . وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت : توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة .

/خ3