وتسمى " سبحان " ، و " بني إسرائيل " ، مكية إلا { وإن كادوا } الآيات الثمان . مائة وعشر آيات أو إحدى عشرة ، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة . وعدد حروفها : ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفاً .
{ بسم الله } الملك المالك لجميع الأمر . { الرحمن } لكل ما أوجده بما رباه . { الرحيم } لمن خصه بالتزام العمل بما يرضاه .
وقوله تعالى : { سبحان } اسم بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه وقد يستعمل علماً له فيقطع عن الإضافة ويمنع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون قال الأعشى في مدحه عامر بن الطفيل :
قد قلت لما جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر
أي : العجب منه إذ يفخر والعرب تقول سبحان من كذا إذا تعجبوا منه الشاهد في سبحان حيث جعله علماً على التنزيه فمنعه الصرف وعلقمة المذكور صحابيّ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شيخ فأسلم وبايع واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حوران فمات بها { الذي أسرى بعبده } هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف عباده على الإطلاق وأحقهم بالإضافة إليه . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي أسرى بالإمالة محضة وورش بين بين والباقون بالفتح وقوله تعالى : { ليلاً } نصب على الظرف والإسراء سير الليل .
وفائدة ذكره الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدّته فكان هذا الأمر الجليل في جزء يسير من الليل وإلى أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج في الإسراء والعروج إلى سدرة المنتهى وسماع الكلام من العليّ الأعلى إلى رياضة بصيام ولا غيره بل كان مهيأ لذلك متأهلاً له فأقامه تعالى من الفرش إلى العرش { من المسجد الحرام } أي : بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «بينما أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق » وقيل كان نائماً في الحطيم ، وقيل في بيت أمّ هانئ بنت أبي طالب قال البقاعي : وهو قول الجمهور ، والمراد بالمسجد حينئذ الحرم لأنه فناء المسجد . { إلى المسجد الأقصى } أي : بيت المقدس الذي هو بعيد المسافة حينئذٍ وأبعد المسجدين الأعظمين مطلقاً من مكة المشرّفة بينهما أربعون ليلة فصلى بالأنبياء كلهم إبراهيم وموسى ومن سواهما على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ورأى من آياتنا الكبرى ما قدرنا له كما سيأتي في حديث المعراج ، ورجع بين أظهركم إلى المسجد الأقرب منكم في ذلك الجزء اليسير من الليل ، وأنتم تضربون أكباد الإبل في هذه المسافة شهراً ذهاباً وشهراً إياباً .
ثم وصفه تعالى بما يقتضي تعظيمه ، وأنه أهل للقصد بقوله تعالى : { الذي باركنا حوله } أي : بما لنا من العظمة بالمياه والأشجار . وقال مجاهد : سماه مباركاً لأنه مقرّ الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي ومنه يحشر الناس يوم القيامة وموطن العبادات ومعدن الفواكه والأرزاق والبركات ، وبارك تعالى حوله لأجله فما ظنك به نفسه فهو أبلغ من باركنا فيه ، ثم منه إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى إلى ما لم ينله بشر غيره صلى الله عليه وسلم قال البقاعي : ولعل حذف ذكر المعراج من القرآن هنا لقصور أفهامهم عن إدراك أدلته ، لو أنكروه بخلاف الإسراء فإنه أقام دليله عليهم بما شاهدوه من الأمارات التي وصفها لهم وهم قاطعون بأنه صلى الله عليه وسلم لم يرها قبل ذلك فلما بان صدقه بما ذكر من الأمارات أخبر بعد ذلك من أراد الله تعالى بالمعراج .
ثم ذكر سبحانه وتعالى الغرض من الإسراء بقوله تعالى : { لنريه } بعينه وقلبه { من آياتنا } أي : عجائب قدرتنا السماوية والأرضية كما أرينا أباه الخليل عليه السلام ملكوت السماوات والأرض . { إنه } أي : الله { هو السميع } لجميع الأقوال { البصير } أي : العالم بأحوال عباده فيكرم ويقرّب من شاء منهم وقيل : إنه أي : هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو أي : خاصة السميع أي : أذناً وقلباً بالإجابة لنا والإذعان لأوامرنا البصير بصراً وبصيرة بدليل ما أخبر به من الآيات وصدقه من الدلالات حتى نعت ما سألوه عنه من بيت المقدس ومن أمر عيرهم وغيرهما مما هو مشهور في قصة الإسراء . واختلف هل أسري بروحه أو بجسده صلى الله عليه وسلم فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقول ما فقدت جسد النبيّ صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه ، والأكثرون على أنه أسري بجسده في اليقظة وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم «أوتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس فربطت الدابة بالحلقة التي تربط فيها الأنبياء ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن ، قال جبريل عليه السلام : أصبت الفطرة . قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . فقيل : من معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير . ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل . فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : قد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا بي ودعوا لي بخير . ثم عرج بي إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . فقيل : ومن معك ؟ قال محمد . فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير . ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد . فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه . ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير . ثم عرج بي إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل . فقيل : من معك ؟ قال : محمد . فقيل : قد أرسل إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير . ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير . ثم عرج بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم فإذا هو مستند إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها . قال صلى الله عليه وسلم فأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض عليّ في كل يوم وليلة خمسين صلاة ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمّتك ؟ قلت : خمسين صلاة في كل يوم وليلة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك ، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم . قال : فرجعت إلى ربي فقلت له : أي : رب خفف عن أمّتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقال : ما فعلت ؟ فقلت : قد حط عني خمساً . قال : إنّ أمّتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، لأنّ أمّتك لا تطيق ذلك . قال : فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحط عني خمساً خمساً حتى قال : يا محمد ، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك فإن أمّتك لا تطيق فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت » رواه الشيخان . وروي أنه قال بعد ذلك : «ولكن أرضى وأسلم فلما جاوزت نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك » .
وروي أنه لما وصل إلى سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت : «ما هذان يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ، ثم رفع إليّ البيت المعمور ثم أوتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فاخترت اللبن فقال : هي الفطرة التي أنت عليها وأمّتك قال : ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة يوم فرضت فمررت على موسى وساق الحديث » . ومنها ما رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «رأيت ربي عز وجل » . قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس . قال : والشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم .
ومنها ما رواه قتادة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم عن ليلة الإسراء به قال : «بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر ، مضطجع ومنهم من قال : بين النائم واليقظان ، وذكر بين رجلين وأتيت بطشت من ذهب مملوءة حكمة وإيماناً فشق من النحر إلى مراق البطن واستخرج قلبي فغسل ثم حشي ثم أعيد » ، وقال سعيد وهشام : ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمة «ثم أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته » وساق بقية الحديث .
ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً في بيت أمّ هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ، ورجع من ليلته ، وقص القصة على أمّ هانئ . وقال : «مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أمّ هانئ بثوبه فقال : ما لك ؟ قالت : أخشى أن يكذبك الناس وقومك إن أخبرتهم . قال : وإن كذبوني فخرج إليهم » . وروي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ، فكان بذي طوى قال : «يا جبريل إنّ قومي لا يصدّقوني . قال : يصدّقك أبو بكر الصدّيق » . قال ابن عباس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لما كانت ليلة أسري بي فأصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت أنّ الناس يكذبوني » . فروي «أنه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً فمرّ به أبو جهل فجلس إليه فقال كالمستهزئ : هل استفدت من شيء ؟ قال : نعم ، أسري بي الليلة . قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس . قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم . فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤيّ هلموا فانفضت إليه المجالس فجاؤوا حتى جلسوا إليهما قال : حدّث قومك بما حدّثتني . قال : نعم ، إني قد أسري بي الليلة . قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس . قالوا : ثم أصبحت بين أظهرنا ؟ قال : نعم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً وارتدّ ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه . فقالوا له : هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس . قال : أو قد قال ؟ قالوا : نعم . قال : إن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : تصدّقه على ذلك ؟ قال : إني لأصدّقه على أبعد من ذلك أصدّقه على خبر السماء في غدوة أو روحة فسمي الصدّيق . قال : وفي القوم من كان يأتي المسجد الأقصى ، فقالوا : فهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد الأقصى قال : نعم . قال : فذهبت أنعت وأنعت فما زلت أنعت حتى التبس عليّ . قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل ، فنعت المسجد وأنا أنظر إليه فقال القوم : أما النعت فو الله لقد أصاب ثم قالوا : يا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهمّ إلينا هل لقيت منها شيئاً قال : نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ثم وضعته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه . قالوا هذه آية قال : ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان راكبان قعوداً لهما فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فاسألوهما عن ذلك . قالوا : وهذه آية . قالوا : فأخبرنا عن عيرنا متى تجيء قال : مررت بها بالتنعيم قالوا : فما عدّتها وما حملها وما أحمالها ومن فيها . فقال : هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا : وهذه آية ، ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون : والله لقد قص محمد شيئاً وبينه حتى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم : هذه الشمس والله قد أشرقت فقال آخر : والله وهذه العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين » والأورق من الإبل الذي في لونه بياض إلى سواد وهو أطيب الإبل لحماً قاله الجوهري .
ومنها ما روي عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذرّ يحدث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ، وجاء بطشت من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي وعرج بي إلى السماء فلما جئنا إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء : افتح . قال : ومن هذا ؟ قال جبريل . قال : هل معك أحد ؟ قال : نعم معي محمد . قال : فأرسل إليه ؟ قال : نعم ففتح ، قال : فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال : مرحباً بالابن الصالح والنبيّ الصالح . قال : قلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا آدم ، وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار وإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، ثم عرج بي جبريل حتى أتى إلى السماء الثانية فقال لخازنها : افتح ، فقال له خازنها : مثل ما قال خازن السماء الدنيا . فقال أنس بن مالك فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يبين كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة . قال : فلما مرّ جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس فقال : مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح . قال : فقلت : من هذا ؟ قال : إنه إدريس . قال : ثم مررت بموسى فقال : مرحباً بالنبيّ الصالح والأخ الصالح . قال : قلت : من هذا ؟ قال : هذا موسى فقال : ثم مررت بعيسى فقال : مرحباً بالنبيّ الصالح والأخ الصالح . قال : فقلت من هذا ؟ قال : عيسى ، ثم مررت بإبراهيم فقال : مرحباً بالابن الصالح والنبيّ الصالح . قال : فقلت : من هذا ؟ قال : هذا إبراهيم . قال ابن شهاب : أخبرني ابن حزم أنّ ابن عباس كان يقول كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صرير الأقلام » .
وروى معمر عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أتى بالبراق ليلة أسري به مسرجاً ملجماً فاستصعب عليه فقال جبريل أبمحمد تفعل هذا فما ركبك أحد أكرم على الله منه فارفض عرقاً وقال ابن زيد عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهيت إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه فخرق بها حجراً وشد به البراق وفي رواية أنه جاء جبريل بالبراق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له يا محمد اركب فركبه صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل وطار به البراق في الهواء فاخترق به الجو فعطش صلى الله عليه وسلم واحتاج إلى الشراب فأتاه جبريل بإناءين إناء من لبن وإناء من خمر وذلك قبل تحريم الخمر فعرضهما عليه فتناول اللبن فقال له جبريل عليه السلام أصبت الفطرة أصاب الله تعالى بك أمّتك ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتأوّل اللبن بالعلم فلما وصل إلى السماء الدنيا استفتح إلى أن قال ثم عرج بي إلى سدرة المنتهى وأخبره جبريل أن أعمال بني آدم تنتهي إلى تلك السدرة وأنها مقر الأرواح فهي نهاية لما ينزل مما فوقها ونهاية لما يعرج إليها مما هو دونها وبها مقام جبريل عليه السلام فنزل صلى الله عليه وسلم عن البراق وجيء إليه بالرفرف وهو نظير المحفة عندنا فقعد عليه وسلمه جبريل إلى الملك النازل بالرفرف فسأله الصحبة ليأنس به فقال له : لا أقدر لو خطوت خطوة لاحترقت فما منا إلا له مقام معلوم وما أسرى الله بك يا محمد إلا ليريك من آياته فلا تغفل ، فودّعه وانصرف مع ذلك الملك والرفرف ، والملك يمشي به إلى أن ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام في الألواح وهي تكتب ما يجريه الله تعالى في خلقه وما تنسخه الملائكة من أعمال عباده قال تعالى : { كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } [ الجاثية ، 29 ] ثم زج بي في النور زجة فأفرده الملك الذي كان معه وتأخر عنه فلم يره معه فعلم أن الرفرف ما تدلى إلا لكون البراق له مكان لا يتعدّاه كجبريل ، لما بلغ إلى المكان الذي لا يتعدّاه وقف وكذلك الرفرف لما وصل إلى مقام لا يتعدّاه زج به في النور فغمره النور من جميع نواحيه وأعطي علماً آخر لم يكن يعلمه قبل ذلك عن وحي من حيث لا يدري وجهته » :
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لقد رأيتني وأنا في الحجر وقريش تسألني عن مسراي : فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط فرفعه الله إليّ لأنظر إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبئتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا بموسى قائم يصلي فإذا رجل جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني به نفسه صلى الله عليه وسلم فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت قال قائل : يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فالتفت إليه فبدأني بالسلام » . وعن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لما كذبني قريش قمت إلى الحجر فجلّى الله لي بيت المقدس » وذكر الحديث . وعن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أتيت موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره » .
فإن قيل : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره وكيف تصلي الأنبياء بعد الموت وهم في دار الآخرة ؟ أجيب : بأن صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام ببيت المقدس يحتمل أن الله تعالى جمعهم له ليصلي بهم ويعرفوا فضله وتقدّمه عليهم ، ثم إن الله تعالى أراه إياهم في السماوات على مراتبهم ليعرف هو مراتبهم وفضلهم ، وأما مروره بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج ، وأما حكم صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل هم أفضل منهم ، وقد قال تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء } [ آل عمران ، 169 ] فالأنبياء بعد الموت أولى ، وأمّا حكم صلاتهم فيحتمل أنها بالذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة . قال تعالى : { دعواهم فيها سبحانك اللهمّ } [ يونس ، 10 ] وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ، ويحتمل أن الله تعالى خصهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم . منها أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه رآهم يلبون ويحجون فكذلك الصلاة والله أعلم بحقائق الأمور .
وروي عن شريك بن عبد الله قال : سمعت أنس بن مالك يقول : «ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاء ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم : أيهم هو . قال أوسطهم : هو خيرهم فقال آخرهم : خذوا خيرهم » وساق حديث المعراج بقصته . قال : «فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان قال : ما هذان يا جبريل ؟ قال : هذان النيل والفرات عنصرهما ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه نهر من لؤلؤ وزبرجد فضرب يده فإذا هو مسك أذفر . قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هو الكوثر الذي خبأ لك ربك » وذكر في آخر حديثه أنه صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث : «ثم علا بي حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار ورب العزة فتدلى فكان منه كقاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه » وذكرت عائشة أنّ الذي دنا فتدلى جبريل عليه السلام وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة النجم .
فإن قيل : قوله تعالى : { لنريه من آياتنا } يدلّ على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات لأنّ كلمة من تفيد التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } [ الأنعام ، 75 ] أي : ملكهما فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل من معراج محمد عليهما الصلاة والسلام ؟ أجيب : بأنه لما أضيفت تلك الآيات إلى الله تعالى دلّ على أنها أفضل مما رآه إبراهيم .
تنبيه : قال النووي في شرح مسلم قد جاء في رواية شريك في حديثه أوهام أنكر عليه العلماء فيها منها قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه وإنّ الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً . وقال الطبراني : كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ، وقال الزهري : كان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين قال ابن إسحق أسرى به صلى الله عليه وسلم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل وقيل كان الإسراء في رجب ويقال في رمضان قال النووي وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحق ومما يدل على أنه أسري بجسده صلى الله عليه وسلم قوله تعالى { أسرى بعبده } ولفظ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد .
وقوله صلى الله عليه وسلم :«أتيت بالبراق » وهو اسم للدابة وهي التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به واشتقاقه من البرق لسرعته أو لشدة صفائه وبياضه ولمعانه وتلألؤ نوره والحلقة بإسكان اللام ويجوز فتحها والمراد بربط البراق بالحلقة الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب وأنّ ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى وقوله جاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فيه اختصار والتقدير قال لي اختر فاخترت اللبن وقول جبريل اخترت الفطرة يعني فطرة الإسلام وجعل اللبن علامة الفطرة الصحيحة السليمة لكونه سهلاً طيباً سائغاً للشاربين وإنه سليم العاقبة بخلاف الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع الشرّ وقوله : ثم عرج بي حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل . فيه بيان الأدب لمن استأذن أن يقول أنا فلان ، ولا يقول أنا فقط فإنه مكروه ، وفيه أن للسماء أبواباً وبوّابين عليها حرساً وقول بوّاب السماء وقد أرسل إليه وفي الرواية الأخرى ، وقد بعث إليه معناه للاستواء وصعود السماء وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة فإنّ ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدّة ، وقوله فإذا أنا بآدم وذكر جماعة من الأنبياء فيه استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام الحسن وإن كان الزائر أفضل من المزور وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه ، إذا أمن عليه من الإعجاب وغيره من أسباب الفتنة وقوله فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور فيه دليل على جواز الاستناد إلى القبلة وتحويل ظهره إليها .
وقوله ذهب بي إلى السدرة المنتهى هكذا وقع في هذه الرواية بالألف واللام وفي باقي الروايات إلى سدرة المنتهى . قال ابن عباس وغيره من المفسرين : سميت بذلك لأنّ علم الملائكة ينتهي إليها ولم يجاوزها أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن مسعود : سميت بذلك لكونه ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله عز وجل . وقوله وإذا ثمرها مثل القلال هو بكسر القاف جمع قلة بضمها وهي الجرّة الكبيرة التي تسع قربتين أو أكثر وقوله فرجعت إلى ربي . قال النووي : معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته منه أولاً فناجيته فيه ثانياً وقوله فلم أزل أرجع بين موسى وبين ربي معناه ربي موضع مناجاة ربي . وقوله ففرض على أمتي خمسين صلاة إلى قوله فوضع عني خمساً وفي رواية شطرها وفي رواية عشراً ليس بين هذه الروايات منافاة لأنّ المراد بالشطر الجزء وهو الخمس وليس المراد منه التنصيف وأمّا رواية العشر فهو رواية شريك ورواية الخمس رواية قتادة وهو أثبت من شريك والمراد حط عني خمساً إلى آخره ، ثم قال : هي خمس وهنّ خمسون يعني خمسين في الأجر والثواب لأنّ الحسنة بعشر أمثالها ، واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله وفي الحديث أنه شق صدره ليلة المعراج وقد شق صدره أيضاً في صغره وهو عند حليمة التي كانت ترضعه فالمراد بالشق الثاني زيادة التطهير لما يراد به من الكرامة ليلة المعراج وقوله : أتيت بطشت من ذهب قد يتوهم أنه يجوز استعمال الذهب لنا وليس الأمر كذلك لأنّ هذا الفعل من فعل الملائكة وهم مباح لهم استعمال الذهب ، أو لعل هذا كان قبل تحريمه . وقوله ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري قد يقال الحكمة والإيمان من المعاني والإفراغ صفة الأجسام فما معنى ذلك أجيب بأنه يحتمل أنه جعل في الطشت شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما تسمى إيماناً وحكمة لكونه سبباً لها ، وهذا من أحسن المجاز . وقوله في صفة آدم : فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة هو جمع سواد وقد فسره في الحديث بأنه نسم بنيه يعني أرواح بنيه .
فإن قيل : أرواح المؤمنين في السماء وأمّا أرواح الكفار فتحت الأرض السفلى فكيف تكون في السماء ؟ أجيب : بأنه يحتمل أنّ أرواح الكفار تعرض على آدم عليه السلام وهو في السماء فوافق وقت عرضها على آدم مرور النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبر بما رأى .
وقوله : إذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى ، ففيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم وحزنه على حال الكافر منهم وقوله في إدريس مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح ، قد اتفق المؤرخون أنه هو أخنوخ جدّ نوح فيكون جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أنّ إبراهيم جدّه فكان ينبغي أن يقول بالنبيّ الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم ؟ وأجيب : بأنه قيل إنّ إدريس المذكور هنا هو إلياس وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جدّ نوح قاله القاضي عياض . وقال النووي : ليس في هذا الحديث ما يمنع كون إدريس أباً لنبينا صلى الله عليه وسلم وأنّ قوله : الأخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفاً وتأدّباً وهو أخ وإن كان ابناً لأنّ الأنبياء إخوة والمؤمنون إخوة انتهى . وإنما أطلت في بيان ذلك لأنّ الكلام مع الأحبة يحلو ولولا خوف الملل ما اقتصرت على ذلك . فقد قال بعض المفسرين لا أعلم في الكتاب العزيز سورة تضمنت من خصائصه التي فضل بها كافة الأنبياء ما تضمنته هذه السورة ولكن في هذا القدر كفاية لأولي الألباب .