قال ابن الجوزي : هي مكية في قول الجماعة ، إلا أن بعضهم يقول : فيها مدني . فروي عن ابن عباس أنه قال : هي مكية إلا ثمان آيات : من قوله سبحانه وتعالى :{ وإن كادوا ليفتنونك } ، إلى قوله : { نصيرا } . وهذا قول قتادة . وقال مقاتل : فيها من المدني :{ وقل رب أدخلني مدخل صدق } الآية ، وقوله تعالى :{ إن الذين أوتوا العلم من قبله } ، وقوله : { إن ربك أحاط بالناس } ، وقوله تعالى :{ وإن كادوا ليفتنونك } ، وقوله تعالى :{ ولولا أن ثبتناك } والتي تليها . وهي مائة وعشر آيات . وقيل : إحدى عشرة آية وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة ، وثلاثة آلاف وأربعمائة وستون حرفا .
قوله عز وجل { سبحان الذين أسرى بعبده ليلاً } روى ابن الجوزي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن تفسير سبحان الله فقال : « تنزيه الله عن كل شيء » هكذا ذكره بغير سند وقال النحويون : سبحان اسم علم على التسبيح يقال سبحت الله تسبيحاً فالتسبيح هو المصدر وسبحان الله علم للتسبيح وتفسير سبحان الله ، تنزيه الله عن كل سوء ونقيصة وأصله في اللغة التباعد فمعنى سبحان الله بعده ونزاهته عن كل ما لا يبغي { الذي أسرى } يقال سري به وأسري به لغتان { بعبده } أجمع المفسرون والعلماء والمتكلمون ، أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلف أحد من الأمة في ذلك ، وقوله بعبده إضافة تشريف وتعظيم وتبجيل وتفخيم وتكريم ومنه قول بعضهم :
لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي
قيل : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والرتب الرفيعة ليلة المعراج ، أوحى الله عز وجل إليه يا محمد بم شرفتك ؟ قال : رب حيث نسبتني إلى نفسك بالعبودية . فأنزل الله سبحانه وتعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً . فإن قلت : الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل . قلت : أراد بقوله ليلاً بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسري به في بعض ليلة من مكة إلى الشام مسيرة شهر أو أكثر ، فدل تنكير الليل على البعضية { من المسجد الحرام } قيل كان الإسراء من نفس مسجد مكة وفي حديث مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر » وذكر حديث المعراج ، وسيأتي بكماله فيما بعد وقيل عرج به من دار أم هانئ بنت أبي طالب وهي بنت عمه أخت علي رضي الله تعالى عنه ، فعلى هذا أراد بالمسجد الحرام الحرم { إلى المسجد الأقصى } يعني إلى بيت المقدس سمي أقصى لبعده عن المسجد الحرام أو لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد { الذي باركنا حوله } يعني بالأنهار والأشجار والثمار ، وقيل سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي وقبلة الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإليه تحشر الخلق يوم القيامة . فإن قلت : ظاهر الآية يدل على أن الإسراء كان إلى بيت المقدس والأحاديث الصحيحة تدل على أنه عرج به إلى السماء فكيف الجمع بين الدليلين ، وما فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط ؟ قلت : قد كان الإسراء على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى ، ومنه كان عروجه إلى السماء على المعراج وفائدة ذكر المسجد الأقصى فقط أنه صلى الله عليه وسلم لو أخبر بصعوده إلى السماء أولاً لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسرى به إلى بيت المقدس ، وبان لهم صدقه فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بعروجه إلى السماء ، فجعل الإسراء إلى المسجد الأقصى كالتوطئة لمعراجه إلى السماء ، وقوله تعالى : { لنريه من آياتنا } يعني من عجائب قدرتنا فقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الأنبياء وصلى بهم ورأى الآيات العظام . فإن قلت لفظة من قوله من آياتنا تقتضي التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه السلام وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ، وظاهر هذا يدل على فضيلة إبراهيم عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم ولا قائل به فما وجهه . قلت : ملكوت السموات والأرض من بعض آيات الله أيضاً ولآيات الله أفضل من ذلك وأكثر والذي أراه محمداً صلى الله عليه وسلم من آياته وعجائبه تلك الليلة كان أفضل من ملكوت السموات والأرض ، فظهر بهذا البيان فضل محمد صلى الله عليه وسلم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم { إنه هو السميع } لأقواله ودعائه { البصير } لأفعاله الحافظة له في ظلمة الليل وقت إسرائه وقيل إنه هو السميع لما قالته له قريش حين أخبرهم بمسراه إلى بيت المقدس { البصير } بما ردوا عليه من التكذيب . وقيل : إنه هو السميع لأقوال جميع خلقه البصير بأفعالهم فيجازي كل عامل بعمله . وحمله على العموم أولى .
فصل : في ذكر حديث المعراج وما يتعلق به من الأحكام ، وما قال العلماء فيه ( ق ) حدثنا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : « بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجعاً ، ومنهم من قال بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فقد قال وسمعته يقول : فشق ما بين هذه إلى هذه فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به قال من ثغرة نحره إلى شعرته سمعته يقول من قصته إلى شعرته ، فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيماناً ، فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض فقال له الجارود : أهو البراق يا أبا حمزة ؟ قال أنس : نعم يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه ، فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى المساء الدنيا فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل : وقد أرسل إليه قال : نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال : هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح . قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال : محمد قيل : وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة قال : هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت فردا ثم قالا : مرحباً بالأخ الصالح ، والنبي الصالح . ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل : ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال : نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت إذا يوسف ، قال : هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت ، فإذا إدريس قال : هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال : هذا هارون فسلم عليه فسلمت فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قال مرحباً فنعم المجيء فلما خلصت فإذا موسى قال : هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت بكى قيل له : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل : ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء لما خلصت فإذا إبراهيم قال : هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة قال : هذه سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذان يا جبريل قال : أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ، ثم رفع لي البيت المعمور ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال : هي الفطرة أنت عليها وأمتك ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت ، فمررت على موسى فقال بم أمرت قلت : أمرت بخمسين صلاة كل يوم . قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله قد جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فرجعت فوضع عني عشراً ، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشراً ، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشراً ، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى ، قال : بم أمرت ؟ قلت : بخمس صلوات كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال سألت : ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم قال : فلما جاوزت نادى منادي أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي » زاد في رواية أخرى « وأجزي بالحسنة عشراً » وفي رواية أخرى « بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وفيه ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمة ، وفيه فرفع إلى البيت المعمور فسألت جبريل فقال هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا لم يعودوا مرة أخرى » ( ق ) « عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ، ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً ، فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء الدنيا : افتح قال من هذا قال هذا جبريل قيل هل معك أحد قال : نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم قال : فأرسل إليه قال نعم فافتح ففتح قال : فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح ، قال : قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم ، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى ، قال : ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال لخازنها : افتح . فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح . قال أنس بن مالك : فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم ، ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه قد وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة ، قال : لما مر جبريل ورسول الله بإدريس قال مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ، قال : ثم مر فقلت من هذا قال هذا إدريس قال : ثم مررت بموسى فقال مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح قال : فقلت من هذا قال : هذا موسى . قال ثم مررت بعيسى فقال مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا قال : عيسى ابن مريم قال ثم مررت بإبراهيم فقال مرحباً بالنبي الصالح والإبن الصالح قال فقلت من هذا قال هذا إبراهيم . قال ابن شهاب : وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام . قال ابن حزم وأنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ففرض الله على أمتي خمسين صلاة قال : فرجعت بذلك حتى مررت بموسى فقال موسى : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : فرض عليهم خمسين صلاة . قال لي موسى : فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال فراجعت ربي فوضع شطرها . قال فرجعت إلى موسى فأخبرته قال : راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال : فراجعت ربي فقال : هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي قال فرجعت إلى موسى فقال : راجع ربك فقلت قد استحييت من ربي قال : ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي ؟ قال : ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك » ( ق ) . عن شريك بن أبي نمر « أنه سمع أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام . فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال أوسطهم هو خيرهم فقل آخرهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ، ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشواً إيماناً ، وحكمة فحشا به صدره ولغاد يده يعني عروق حلقه ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا فقال جبريل قالوا : ومن معك قال معي محمد قالوا : وقد بعث إليه قال نعم قالوا : مرحباً به وأهلاً يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء ما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم فوجد في السماء الدنيا آدم عليه السلام فقال له جبريل : هذا أبوك آدم فسلم عليه ورد عليه السلام وقال : مرحباً وأهلاً يا بني نعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا ، بنهرين يطردان فقال : ما هذان النهران يا جبريل ؟ قال : هذان النيل والفرات عنصر هما ثم مضى به في السماء ، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده ، فإذا هو مسك أذفر قال ما هذا يا جبريل قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم عرج إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى من هذا ؟ قال جبريل قالوا : ومن معك قال محمد قالوا : وقد بعث إليه قال : نعم قالوا : مرحباً به وأهلاً ثم عرج به إلى السماء الثالثة . وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية . ثم عرج به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك . ثم عرج به إلى السماء الخامسة . فقالوا له مثل ذلك . ثم عرج به إلى السماء السادسة . فقالوا له مثل ذلك . ثم عرج به إلى السماء السابعة . فقالوا له مثل ذلك . كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة ، وآخر في الخامسة ولم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله فقال موسى : رب لم أظن أن يرفع علي أحد ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى فكان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة ، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال : يا محمد ماذا عهد إليك ربك قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة قال : إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى ، فقال : وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت خمس صلوات ، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال : يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا ، فضعفوا فتركوه فأمتك أضعف أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً ، فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام ليشير عليه ، فلا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة فقال : يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم ، فخفف عنا . فقال الجبار : يا محمد . قال : لبيك وسعديك قال : إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب قال : فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فرجع إلى موسى فقال : كيف فعلت ؟ قال : خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها . قال موسى : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا موسى قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه . قال : فاهبط بسم الله فاستيقظ وهو في المسجد الحرام » هذا لفظ حديث البخاري وأدرج مسلم حديث شريك بن أنس الموقوف عليه في حديث ثابت البناني المسند ، فذكر من أول حديث شريك طرفاً ثم قال : وساق الحديث نحو حديث ثابت قال مسلم ، وقدم وأخر وزاد ونقص وليس في حديث ثابت من هذه الألفاظ إلا ما نورده على نصه ، أخرجه مسلم وحده وهو حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عن منتهى طرفه . قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليه السلام اخترت الفطرة قال ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ، قال : قد بعث إليه ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل ، قيل ومن معك قال محمد ، قيل : وقد بعث إليه ، قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام فإذا هو قد أعطى شطر الحسن ، قال : فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة . فاستفتح جبريل فقيل : من هذا ؟ قال جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد قيل وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب ودعا لي بخير ، قال الله تعالى ورفعناه مكاناً علياً ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة . فاستفتح جبريل فقيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك قال محمد قيل : وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل ، فقيل من هذا قال جبريل قيل : ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل : من هذا قال : جبريل قيل : ومن معك ؟ قال محمد قيل : وقد بعث إليه قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كأذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال : فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف على أمتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقلت : قد حط عني خمساً قال : إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال : فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً ، فإن عملها كتبت واحدة قال فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقلت قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه . هذه رواية مسلم وأخرجه الترمذي مختصراً وفيه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسرى به ملجماً مسرجاً ، فاستصعب عليه فقال له جبريل أبمحمد تفعل هكذا ما ركبك أحد أكرم على الله منه فارفض عرقاً » وأخرجه النسائي مختصراً ، والمعنى واحد وفي آخره قال : فرجعت إلى ربي فسألته التخفيف فقال إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك ، فعرفت أن أمر الله جرى بقول حتم فلم أرجع .
قال البغوي : قال بعض أهل الحديث ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا حديث شريك بن أبي نمر عن أنس ، وأحال الأمر فيه على شريك وذلك أنه ذكر فيه إن ذلك كان قبل الوحي ، واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة وفيه أن الجبار تبارك وتعالى دنا فتدلى وذكرت عائشة أن الذي دلى هو جبريل عليه السلام . قال البغوي : وهذا الاعتراض عندي لا يصح لأن هذا كان رؤيا في النوم أراه الله ذلك قبل أن يوحى إليه بدليل آخر الحديث ، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي ، وقبل الهجرة بسنة تحقيقاً لرؤياه التي رآها من قبل كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ، ثم كان تحقيقها سنة ثمان ، ونزل قوله سبحانه وتعالى : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق . وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في كتابه شرح مسلم : قد جاء في رواية شريك في هذا الحديث أوهام أنكرها عليه العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله قدم وأخر وزاد ونقص منه قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه فإنه الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهراً . وقال الحربي : كانت ليلة الإسراء ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ، وقال الزهري : كان ذلك بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين . وقال ابن إسحاق : أسري به صلى الله عليه وسلم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل . قال الشيخ محيي الدين : وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق وأما قوله في رواية شريك وهو نائم وفي الرواية الأخرى بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ، فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ، ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه ، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائماً في القصة كلها هذا كلام القاضي عياض ، وهذا الذي قاله في رواية شريك وأن أهل العلم قد أنكروها قد قاله غيره ، وقد ذكر البخاري في رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه ، وأتى بالحديث مطولاً . قال الحافظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة ، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين ، والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى شريك ، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث قال : والأحاديث التي تقدمت قبل هذا هي المعمول عليها .
في شرح بعض ألفاظ حديث المعراج وما يتعلق به ، كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة يقال كانت في رجب ويقال في رمضان وقد تقدم زيادة على هذا القدر في الفصل الذي قبل هذا واختلف الناس في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : إنما كان ذلك في المنام والحق الذي عليه أكثر الناس ، ومعظم السلف وعامة الخلف من المتأخرين والفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } ولفظ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ، والأحاديث الصحيحة التي تقدمت تدل على صحة هذا القول لمن طالعها ، وبحث عنها وحكى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن حذيفة أنه قال : كل ذلك كان رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أسري بروحه . وحكي هذا القول عن عائشة أيضاً وعن معاوية ونحوه والصحيح ما عليه جمهور العلماء من السلف والخلق والله أعلم قوله صلى الله عليه سلم أتيت بالبراق هو اسم للدابة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به واشتقاقه من البرق لسرعته ، أو لشدة صفائه وبياضه ولمعانه وتلألؤه ونوره والحلقة بإسكان اللام ، ويجوز فتحها والمراد بربط البراق بالحلقة الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب ، وإن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى وقوله جاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فيه اختصار والتقدير ، قال لي اختر فاخترت اللبن وهو قول جبريل اخترت الفطرة يعني فطرة الإسلام ، وجعل اللبن علامة للفطرة الصحيحة السليمة لكونه سهلاً طيباً سائغاً للشاربين وأنه سليم العاقبة ، بخلاف الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع الشر . قوله : ثم عرج بي حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل : من أنت قال : جبريل فيه بيان الأدب لمن استأذن وأن يقول : أنا فلان ولا يقول : أنا فإنه مكروه وفيه أن للسماء أبواباً وبوابين وأن عليها حرساً وقول بواب السماء وقد أرسل إليه ، وفي الرواية الأخرى وقد بعث إليه معناه للإسراء وصعوده السماء وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة ، فإن ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدة هذا هو الصحيح في معناه ، وقيل غيره وقوله فإذا أنا بآدم وذكر جماعة من الأنبياء فيه استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام اللين الحسن ، وإن كان الزائر أفضل من المزور وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه من الإعجاب ، وغيره من أسباب الفتنة وقوله فإذا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور فيه دليل على جواز الاستناد إلى القبلة ، وتحويل ظهره إليها . وقوله ثم ذهب بي إلى السدرة هكذا ، وقع في هذه الرواية السدرة بالألف واللام وفي باقي الروايات إلى سدرة المنتهى قال ابن عباس وغيره من المفسرين : سميت بذلك لأن علم الملائكة ينتهي إليها . ولم يجاوزها أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن مسعود : سميت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ، وما يصعد من تحتها من أمر الله عز وجل وقوله وإذا ثمرها كالقلال ، هو بكسر القاف جمع قلة بضمها ، وهي الجرة الكبيرة التي تسع قربتين أو أكثر قوله فرجعت إلى ربي . قال الشيخ محيي الدين النووي : معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته فيه أولاً فناجيته فيه ثانياً وقوله : فلم أزل أرجع بين موسى وبين ربي معناه وبين موضع مناجاة ربي عز وجل . قلت : وأما الكلام على معنى الرؤية وما يتعلق بها فإنه سيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة والنجم ، عند قوله تعالى ثم دنا فتدلى قوله ففرض الله سبحانه وتعالى على أمتي خمسين صلاة إلى قوله فوضع شطرها وفي الرواية الأخرى فوضع عني عشراً وفي الأخرى خمساً ليس بين هذه الرواية منافاة ، لأن المراد بالشطر الجزء وهو الخمس ، وليس المراد منه التصنيف ، وأما رواية العشر فهي رواية شريك ورواية الخمس رواية ثابت البناني وقتادة ، وهما أثبت من شريك فالمراد حط عني خمساً إلى آخره ثم قال : خمس وهن خمسون يعني خمسين في الأجر والثواب لأن الحسنة بعشر أمثالها ، واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله وفي أول الحديث أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، وقد شق أيضاً في صغره وهو عند حليمة التي كانت ترضعه ، فالمراد بالشق الثاني زيادة التطهير لمن يراد به من الكرامة ليلة المعراج . وقوله : أتيت بطست من ذهب ، قد يتوهم متوهم أنه يجوز استعمال إناء الذهب لنا وليس الأمر كذلك لأن هذا الفعل من فعل الملائكة ، وهو مباح لهم استعمال الذهب أو يكون هذا قد كان قبل تحريمه وقوله ممتلئ إيماناً وحكمة فأفرغها في صدري . فإن قلت الحكمة والإيمان معان والإفراغ صفة الإجسام ، فما معنى ذلك ؟ قلت : يحتمل أنه جعل في الطست شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما ، فسمي إيماناً وحكمة لكونه سبباً لهما وهذا من أحسن المجاز . وقوله في صفة آدم عليه السلام : فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة هو جمع سواد ، وقد فسره في الحديث بأنه نسم بنيه يعني أرواح بنيه وقد اعترض على هذا ، بأن أرواح المؤمنين في السماء وأرواح الكفار تحت الأرض السفلى فكيف تكون في السماء والجواب عنه أنه يحتمل أن أرواح الكفار ، تعرض على آدم عليه السلام ، وهو في السماء فوافق وقت عرضها على آدم مرور النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بما رأى . وقوله : فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر عن شماله بكى فيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم ، وحزنه على سوء حال الكفار منهم . وقوله في إدريس مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح قد اتفق المؤرخون على أن إدريس ، هو أخنوخ وهو جد نوح عليهما السلام فيكون جد النبي صلى الله عليه وسلم كما أن إبراهيم جده ، فكان ينبغي أن يقول بالنبي الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام : فالجواب عن هذا أنه قيل : إن إدريس المذكور هنا هو إلياس ، وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جد نوح هذا جواب القاضي عياض .
قال الشيخ محيي الدين : ليس في الحديث ما يمنع كون إدريس أباً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإن قوله : الأخ الصالح يحتمل إن يكون قاله تلطفاً وتأدباً ، وهو أخ وإن كان أباً لأن الأنبياء إخوة المؤمنون إخوة والله أعلم .
في ذكر الآيات التي ظهرت بعد المعراج الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وسياق أحاديث تتعلق بالإسراء قال البغوي ؛ روي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به وكان بذي طوى قال : يا جبريل إن قومي لا يصدقون . قال : يصدقك أبو بكر وهو الصديق . قال ابن عباس وعائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لما كانت ليلة أسري بي إلى السماء أصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس يكذبوني فروي أنه صلى الله عليه وسلم قعد معتزلاً حزيناً ، فمر به أبو جهل فجلس إليه فقال كالمستهزئ هل استفدت من شيء ؟ قال : نعم أسري بي الليلة قال إلى أين قال إلى بيت المقدس قال : أبو جهل : ثم أصبحت بين أظهرنا ؟ قال : نعم . فلم يرد أبو جهل أن ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث ، ولكن قال : أتحدث قومك بما حدثتني به . قال : نعم . قال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا ، فانقضت المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما قال : حدث قومك بما حدثتني قال : نعم أسري بي الله قالوا إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس قالوا ثم أصبحت بين أظهرنا ؟ قال : نعم قال فبقي الناس بين مصفق وبين واضع يده على رأسه متعجباً وارتد أناس ممن كان قد آمن به وصدقه ، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال له هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال : أو قد قال ذلك قال نعم قال لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا : أو تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء في ليلة قبل أن يصبح ؟ قال : نعم إني أصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق . قال : وكان في القوم من أتى المسجد الأقصى . قالوا : هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد قال : نعم قال فذهبت أنعت حتى التبس علي قال فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد وأنا أنظر إليه ، فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب فيه ثم قالوا يا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئاً ؟ قال : نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيراً وهم في طلبه ، وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته فشربته ، ثم وضعته كما كان فسلوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا قالوا : هذه آية قال ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعوداً لهما بذي طوى فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك قالوا وهذه آية أخرى قالوا : فأخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وهيئتها ؟ فقال : كنت في شغل عن ذلك ثم مثلت له بعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها وكانوا بالحزورة قال : نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس » قالوا : وهذه آية . ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون والله لقد قص محمد شيئاً وبينه حتى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم : هذه الشمس قد طلعت . وقال آخر : وهذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق فيه فلان وفلان كما قال : فلم يؤمنوا وقالوا : هذا سحر مبين ( م ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط . قال : فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعداً كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني به نفسه صلى الله عليه سلم فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل : يا محمد يا محمد هذا مالك صاحب النار ، فسلم عليه فالتفتُّ إليه فبدأني بالسلام » ( ق ) عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لما كذبتني قريش قمت إلى الحجر فجلى الله إلي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه زاد البخاري في رواية : لما كذبني قريش حين أسري بي إلى المقدس » وذكر الحديث ( م ) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر ، فإذا هو قائم يصلي في قبره » عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل كذا بأصبعه فخرق به الحجر وشد به البراق » أخرجه الترمذي . فإن قلت : كيف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره وكيف صلى بالأنبياء في بيت المقدس ثم وجدهم على مراتبهم في السموات ، وسلموا عليه وترحبوا به وكيف تصح الصلاة من الأنبياء بعد الموت ، وهم في الدار الآخرة ؟ قلت أما صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في بيت المقدس يحتمل أن الله سبحانه وتعالى ، جمعهم له ليصلي بهم ويعرفوا فضله وتقدمه عليهم ثم إن الله سبحانه وتعالى ، أراه إياهم في السموات على مراتبهم ليعرف هو مراتبهم وأما مروره بموسى ، وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ، فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج ، وأما صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل أفضل منهم ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء فالأنبياء أحياء بعد الموت ، وأما حكم صلاتهم فيحتمل أنها الذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة فإن الله تعالى قال { دعواهم فيها سبحانك اللهم } وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ، ويحتمل أن الله سبحانه وتعالى خصّهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم . منها أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه رآهم يلبون ، ويحجون ، فكذلك الصلاة والله أعلم بالحقائق .