النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة بني إسرائيل [ الإسراء ] :

مكية في قول الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثماني آيات من قوله تعالى : " وإن كادوا ليفتنونك " إلى قوله : " سلطانا نصيرا{[1]} " .

قوله عز وجل : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } أما قوله : { سبحان } ففيه تأويلان :

أحدهما : تنزيه الله تعالى من السوء ، وقيل بل نزه نفسه أن يكون لغيره في إسراء عبده تأثير . الثاني : معناه برأه الله تعالى من السوء ، وقد قال الشاعر{[1778]} :

أقول لمّا جاءني فَخْرُه *** سبحان مِنْ علقمةَ الفاخِر

وهو ذكر تعظيم لله لا يصلح لغيره ، وإنما ذكره الشاعر على طريق النادر ، وهو من السبح في التعظيم وهو الجري فيه إلى أبعد الغايات . وذكر أبان بن ثعلبة أنها كلمة بالنبطية " شبهانك " .

وقد ذكر الكلبي ومقاتل : إن { سبحان } في هذا الموضع بمعنى عجب ، وتقدير الآية : عجب من الذي أسرى بعبده ليلاً ، وقد وافق على هذا التأويل سيبويه وقطرب ، وجعل البيت شاهداً عليه ، وأن معناه عجبٌ من علقمة الفاخر . ووجه هذا التأويل أنه إذا كان مشاهدة العجب سبباً للتسبيح صار التسبيح تعجباً فقيل عجب ، ومثله قول بشار :

تلقي بتسبيحةٍ مِنْ حيثما انصرفت * * * وتستفزُّ حشا الرائي بإرعاد

وقد جاء التسبيح في الكلام على أربعة أوجه :

أحدها : أن يستعمل في موضع الصلاة ، من ذلك قوله تعالى :{ فلولا أنه كان من المسبِّحينَ }[ الصافات : 143 ] أي من المصلين . الثاني : أن يستعمل في الاستثناء ، كما قال بعضهم في قوله تعالى :{ ألم أقل لكم لولا تسبحون }[ القلم : 28 ] أي لولا تستثنون . الثالث : النور ، للخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لأحرقت سبحات وجهه{[1779]} " أي نور وجهه . الرابع : التنزيه ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التسبيح فقال : " تنزيه الله تعالى عن السوء " . وقوله تعالى : { أسرى بعبده } أي بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، والسُّرى : سير الليل ، قال الشاعر{[1780]} :

وليلة ذا ندًى سَرَيت ***    ولم يلتني مِنْ سُراها ليت

وقوله : { من المسجد الحرام } فيه قولان :أحدهما : يعني من الحرم ، والحرم كله مسجد . وكان صلى الله عليه وسلم حين أُسرى به نائماً في بيت أم هانئ بنت أبي طالب ، روى ذلك أبو صالح عن أم هانئ . الثاني : أنه أسرى به من المسجد ، وفيه كان حين أسري به روى ذلك أنس بن مالك{[1781]} . ثم اختلفوا في كيفية إسرائه على قولين :

أحدهما : أنه أسريَ بجسمه وروحه ، روى ذلك ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان .

واختلف قائلو ذلك هل دخل بيت المقدس وصلى فيه أم لا ، فروى أبو هريرة أنه صلى فيه بالأنبياء ، ثم عرج به إلى السماء ، ثم رجع به إلى المسجد الحرام فصلى فيه صلاة الصبح من صبيحة ليلته .

وروى حذيفة بن اليمان أنه لم يدخل بيت المقدس ولم يُصلّ فيه ولا نزل عن البراق حتى عرج به ، ثم عاد إلى مكة .

والقول الثاني : أن النبي صلى الله عليه السلام أسري بروحه ولم يسر بجسمه ، روى ذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما فُقِدَ جَسَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أسرى بروحه .

وروي عن معاوية قال : كانت رؤيا من الله تعالى صادقة ، وكان الحسن يتأول قوله تعالى : { وما جَعَلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس }[ الإسراء : 60 ] أنها في المعراج ، لأن المشركين كذبوا ذلك وجعلوا يسألونه عن بيت المقدس وما رأى في طريقه فوصفه لهم ، ثم ذكر لهم أنه رأى في طريقه قعباً مغطى مملوءاً ماء ، فشرب الماء ثم غطاه كما كان ، ثم ذكر لهم صفة إبل كانت لهم في طريق الشام تحمل متاعاً ، وأنها تقدُم يوم كذا مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق ؛ فخرجوا في ذلك اليوم يستقبلونها ، فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد أشرقت ولم تأت ، وقال آخر : هذه والله العير يقدُمها جمل أورق كما قال محمد . وفي هذا دليل على صحة القول الأول أنه أسرى بجسمه وروحه . وقوله تعالى : { إلى المسجد الأقصى } يعني بيت المقدس ، وهو مسجد سليمان بن داود عليهما السلام وسمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام .

ثم قال تعالى : { الذي باركنا حوله } فيه قولان :

أحدهما : يعني بالثمار ومجاري الأنهار . الثاني : بمن جعل حوله من الأنبياء والصالحين ولهذا جعله مقدساً . وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي{[1782]} " . { لنريه من آياتنا } فيه قولان :أحدهما : أن الآيات التي أراه في هذا المسرى أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة ، وهي مسيرة شهر . الثاني : أنه أراه في هذا المسرى آيات . وفيها قولان :

أحدهما : ما أراه من العجائب التي فيها اعتبار . الثاني : من أري من الأنبياء حتى وصفهم واحداً واحداً .

{ إنه هو السميع البصير } فيه وجهان :

أحدهما : أنه وصف نفسه في هذه الحال بالسميع والبصير ، وإن كانتا من صفاته اللازمة لذاته في الأحوال كلها لأنه حفظ رسوله عند إسرائه في ظلمة الليل فلا يضر ألا يبصر فيها ، وسمع دعاءه فأجابه إلى ما سأل ، فلهذين وصف الله نفسه بالسميع البصير . الثاني : أن قومه كذبوه عن آخرهم بإسرائه ، فقال : السميع يعني لما يقولونه من تصديق أو تكذيب ، البصير لما يفعله من الإسراء والمعراج .


[1]:- ذكر العلماء لفاتحة الكتاب اثنى عشر اسما هي: فاتحة الكتاب وأم القرآن وأم الكتاب وسورة الصلاة وسورة الحمد والسبع المثاني والقرآن العظيم والشفاء والرقية والأساس والوافية والكافية، والحديث عند أبي داود رقم 1457 والترمذي رقم 3320.
[1778]:هو أعشى بني ثعلبة.
[1779]:رواه مسلم في الإيمان. وابن ماجه في المقدمة. وأحمد في المسند 4/401 و405.
[1780]:هو رؤبة بن العجاج.
[1781]:روى حديث الإسراء البخاري 6/217 ـ 219 في بدء الخلق. ومسلم في الإيمان 164. والترمذي في التفسير رقم 3343. والنسائي 1/271 و 218.
[1782]:أخرجه بلفظ مقارب أبو داود بإسناد صحيح (جامع الأصول 9/350.)