المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

230- فإن طلق الزوج امرأته مرة ثالثة بعد التطليقتين السابقتين فلا تحل له حينئذ إلا بعد أن تتزوج زوجاً غيره ويدخل بها ، فإن طلقها من بعد ذلك الزوجُ الثاني وصارت أهلاً لأن يعقد عليها عقداً جديداً فلا إثم عليها ولا على زوجها الأول في أن يستأنفا حياة زوجية جديدة بعقد جديد ، وعليهما أن يعتزما إقامة حياة زوجية صالحة تراعى فيها كل الأحكام الشرعية التي حددها الله سبحانه وتعالى ، وقد بُيِّنَتْ هذه الحدود لمن يؤمن بالشرع الإسلامي ويريد العلم والعمل به .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

قوله تعالى : { فإن طلقها } . يعني الطلقة الثالثة .

قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد } . أي من بعد الطلقة الثالثة .

قوله تعالى : { حتى تنكح زوجاً غيره } . أي : غير المطلق فيجامعهما ، والنكاح يتناول الوطء والعقد جميعاً ، نزلت في تميمة ، وقيل عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرظي ، كانت ابن عمها رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي فطلقها ثلاثاً .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع أنا الشافعي أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنه سمعها تقول : " جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي ، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنما معه مثل هدبة الثوب ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ قالت نعم قال : لا ، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته " .

وروي أنها لبثت ما شاء الله ، ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجي قد مسني ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم كذبت بقولك الأول فلن نصدقك في الآخر . فلبثت حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجع زوجي الأول فإن زوجي الآخر مسني وطلقني ؟ فقال لها أبو بكر : قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته وقال لك ما قال فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه ، أتت عمر رضي الله عنه وقالت له : مثل ذلك ، فقال لها عمر رضي الله عنه : لا ترجعي إليه ، لئن رجعت له لأرجمنك .

قوله تعالى : { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا } . يعني فإن طلقها الزوج الثاني بعد ما جامعها فلا جناح عليهما ، يعني على المرأة وعلى الزوج ، الأول أن يتراجعا يعني بنكاح جديد .

قوله تعالى : { إن ظنا } . أي علما وقيل رجوا ، لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن إلا الله عز وجل .

قوله تعالى : { أن يقيما حدود الله } . أي يكون بينهما الصلاح وحسن الصحبة ، وقال مجاهد : معناه إن علما أن نكاحهما على غير دلسة ، وأراد بالدلسة التحليل ، وهو مذهب سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق ، قالوا : إذا تزوجت المطلقة ثلاثاً زوجاً آخر ليحللها للزوج الأول : فإن النكاح فاسد ، وذهب جماعة إلى أنه إن لم يشترط في النكاح مع الثاني أنه يفارقها فالنكاح صحيح ويحصل به التحليل ولها صداق مثلها ، غير أنه يكره إذا كان في عزمها ذلك .

أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، أنا الحسن بن الفرج ، أخبرنا عمرو بن خالد الحراني ، أنا عبيد الله بن عبد الكريم هو الجوزي عن أبي واصل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لعن المحلل والمحلل له " . وقال نافع : أتى رجل ابن عمر فقال له : إن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً ، فانطلق أخ له من غيره مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول ؟ فقال : لا ، إلا نكاح رغبة ، كنا نعد سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله المحلل والمحلل له " .

قوله تعالى : { وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } . يعني يعلمون ما أمرهم الله تعالى به .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

221

ثم نمضي مع السياق في أحكام الطلاق :

( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا . . إن ظنا أن يقيما حدود الله . وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ) . .

إن الطلقة الثالثة - كما تبين - دليل على فساد أصيل في هذه الحياة لا سبيل إلى إصلاحه من قريب - إن كان الزوج جادا عامدا في الطلاق - وفي هذه الحالة يحسن أن ينصرف كلاهما إلى التماس شريك جديد . فأما إن كانت تلك الطلقات عبثا أو تسرعا أو رعونة ، فالأمر إذن يستوجب وضع حد للعبث بهذا الحق ، الذي قرر ليكون صمام آمن ، وليكون علاجا اضطراريا لعلة مستعصية ، لا ليكون موضعا للعبث والتسرع والسفاهة .

ويجب حينئذ أن تنتهي هذه الحياة التي لا تجد من الزوج احتراما لها ، واحتراسا من المساس بها .

وقد يقول قائل : وما ذنب المرأة تهدد حياتها وأمنها واستقرارها بسبب كلمة تخرج من فم رجل عابث ؟ ولكننا نواجه واقعا في حياة البشر . فكيف يا ترى يكون العلاج ، إن لم نأخذ بهذا العلاج ؟ تراه يكون بأن نرغم مثل هذا الرجل على معاشرة زوجة لا يحترم علاقته بها ولا يوقرها ؟ فنقول له مثلا : إننا لا نعتمد طلاقك هذا ولا نعترف به ولا نقره ! وهذه هي امرأتك على ذمتك فهيا وأمسكها ! . . كلا إن في هذا من المهانة للزوجة وللعلاقة الزوجية ما لا يرضاه الإسلام ، الذي يحترم المرأة ويحترم علاقة الزوجية ويرفعها إلى درجة العبادة لله . . إنما تكون عقوبته أن نحرمه زوجه التي عبث بحرمة علاقاتها معه ؛ وأن نكلفه مهرا وعقدا جديدين أن تركها تبين منه في الطلقتين الأوليين ؛ وأن نحرمها عليه في الطلقة الثالثة تحريما كاملا - إلا أن تنكح زوجا غيره - وقد خسر صداقها وخسر نفقته عليها ؛ ونكلفه بعد ذلك نفقة عدة في جميع الحالات . . والمهم أن ننظر إلى واقع النفس البشرية ؛ وواقع الحياة العملية ؛ لا أن نهوم في رؤى مجنحة ليست لها أقدام تثبت بها على الأرض ، في عالم الحياة !

فإذا سارت الحياة في طريقها فتزوجت بعد الطلقة الثالثة زوجا آخر . ثم طلقها هذا الزوج الآخر . . فلا جناح عليها وعلى زوجها الأول أن يتراجعا . . ولكن بشرط :

( إن ظنا أن يقيما حدود الله ) . .

فليست المسألة هوى يطاع ، وشهوة تستجاب . وليسا متروكين لأنفسهما وشهواتهما ونزواتهما في تجمع أو افتراق . إنما هي حدود الله تقام . وهي إطار الحياة الذي إن أفلتت منه لم تعد الحياة التي يريدها ويرضى عنها الله .

( وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ) . .

فمن رحمته بالعباد أنه لم يترك حدوده غامضة ولا مجهولة . إنما هو يبينها في هذا القرآن . يبينها لقوم يعلمون فالذين يعلمون حق العلم هم الذين يعلمونها ويقفون عندها ؛ وإلا فهو الجهل الذميم ، وهي الجاهلية العمياء !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

وقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي : أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين ، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره ، أي : حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح ، فلو وطئها واطئ في غير نكاح ، ولو في ملك اليمين لم تحل للأول ؛ لأنه ليس بزوج ، وهكذا لو تزوجت ، ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول ، واشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب ، رحمه الله ، أنه يقول : يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني . وفي صحته عنه نظر ، على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد حكاه عنه في الاستذكار ، فالله أعلم .

وقد قال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سالم بن رزين ، عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة ، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها ، قبل أن يدخل بها : أترجع إلى الأول ؟ قال : " لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها " .

هكذا وقع في رواية ابن جرير ، وقد رواه الإمام أحمد فقال :

حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله ، يعني : ابن عمر ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ، ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فترجع إلى زوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حتى يذوق العسيلة " .

وهكذا رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، وابن ماجة عن محمد بن بشار بندار كلاهما عن محمد بن جعفر غندر ، عن شعبة ، به كذلك . فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعًا ، على خلاف ما يحكى عنه ، فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند ، والله أعلم .

وقد روى أحمد أيضا ، والنسائي ، وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد ، عن رزين بن سليمان الأحمري ، عن ابن عمر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر ، فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها ، قبل أن يدخل بها : هل تحل للأول ؟ قال : " لا حتى يذوق العسيلة " .

وهذا لفظ أحمد ، وفي رواية لأحمد : سليمان بن رزين .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا محمد بن دينار ، حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثا فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها : أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته " .

ورواه ابن جرير ، عن محمد بن إبراهيم الأنماطي ، عن هشام بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن دينار ، فذكره .

قلت : ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الأزدي ثم الطاحي البصري ، ويقال له : ابن أبي الفرات : اختلفوا فيه ، فمنهم من ضعفه ، ومنهم من قواه وقبله وحسن له . وقال أبو داود : أنه تغير قبل موته ، فالله أعلم .

حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا أبي ، حدثنا شيبان ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا فتتزوج زوجا غيره ، فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فيريد الأول أن يراجعها ، قال : " لا حتى يذوق الآخر عسيلتها " .

ثم رواه من وجه آخر عن شيبان ، وهو ابن عبد الرحمن ، به . وأبو الحارث غير معروف .

حديث آخر : قال ابن جرير :

حدثنا ابن مثنى ، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، حدثنا القاسم ، عن عائشة : أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجت زوجا فطلقها قبل أن يمسها ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحل للأول ؟ فقال : " لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول " .

أخرجه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، من طرق ، عن عبيد الله بن عمر العمري ، عن القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن عمته عائشة ، به .

طريق أخرى : قال ابن جرير :

حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري ، وسفيان بن وكيع ، وأبو هشام الرفاعي قالوا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ، فتزوجت رجلا غيره ، فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها : أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته " .

وكذا رواه أبو داود عن مسدد ، والنسائي عن أبي كريب ، كلاهما عن أبي معاوية ، وهو محمد بن حازم الضرير ، به .

طريق أخرى : قال مسلم في صحيحه :

حدثنا محمد بن العلاء الهمداني ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها ، فتتزوج رجلا فيطلقها قبل أن يدخل بها : أتحل لزوجها الأول ؟ قال : " لا حتى يذوق عسيلتها " .

قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا ابن فضيل : وحدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو معاوية جميعا ، عن هشام بهذا الإسناد .

وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم ، عن هشام به . وتفرد به مسلم من الوجهين الآخرين . وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله . وهذا إسناد جيد . وكذا رواه ابن جرير أيضا ، من طريق علي بن زيد بن جدعان ، عن امرأة أبيه أمينة أم محمد عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، عن هشام ، حدثني أبي ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا عبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها ، فتزوجت آخر فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له أنه لا يأتيها ، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب فقال : " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " .

تفرد به من هذين الوجهين .

طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : دخلت امرأة رفاعة القرظي - وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن رفاعة طلقني البتة ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني ، وإنما عنده مثل الهدبة ، وأخذت هدبة من جلبابها ، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له ، فقال : يا أبا بكر ، ألا تنهي هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " .

وهكذا رواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك ، ومسلم من حديث عبد الرزاق ، والنسائي من حديث يزيد بن زريع ، ثلاثتهم عن معمر به . وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم : أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات . وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طريق سفيان بن عيينة ، والبخاري من طريق عقيل ، ومسلم من طريق يونس بن يزيد [ وعنده ثلاث تطليقات ، والنسائي من طريق أيوب بن موسى ، ورواه صالح بن أبي الأخضر ] كلهم عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، به .

وقال مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير : أن رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، فنكحت عبد الرحمن بن الزبير ، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ، ففارقها ، فأراد رفاعة أن ينكحها ، وهو زوجها الأول الذي كان طلقها ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاه عن تزويجها ، وقال : " لا تحل لك حتى تذوق العسيلة " كذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك وفيه انقطاع . وقد رواه إبراهيم بن طَهْمَان ، وعبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن رفاعة ، عن الزبير بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، فوصله .

فصل

والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة ، قاصدا لدوام عشرتها ، كما هو المشروع من التزويج ، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحًا ، فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو والزوج صائم أو محرم أو معتكف ، لم تحل للأول بهذا الوطء . وكذا لو كان الزوج الثاني ذميًا لم تحل للمسلم بنكاحه ؛ لأن أنكحة الكفار باطلة عنده . واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني ، وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه السلام : " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ، ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضا . وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه الإمام أحمد والنسائي ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إن العسيلة الجماع " فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول ، فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة .

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك

الحديث الأول : عن ابن مسعود . قال الإمام أحمد :

حدثنا الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا سفيان ، عن أبي قيس ، عن الهذيل ، عن عبد الله قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة ، والمحلل والمحلل له ، وآكل الربا وموكله .

ثم رواه أحمد ، والترمذي ، والنسائي من غير وجه ، عن سفيان ، وهو الثوري ، عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي ، عن هزيل بن شرحبيل الأودي ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم به . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . قال : والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة ، منهم : عمر ، وعثمان ، وابن عمر . وهو قول الفقهاء من التابعين ، ويروى ذلك عن علي ، وابن مسعود ، وابن عباس .

طريق أخرى : عن ابن مسعود . قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله ، عن عبد الكريم ، عن أبي الواصل ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله المحلل والمحلل له " .

طريق أخرى : روى الإمام أحمد ، والنسائي ، من حديث الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن الحارث الأعور ، عن عبد الله بن مسعود قال : آكل الربا وموكله ، وشاهداه وكاتبه إذا علموا به ، والواصلة ، والمستوصلة ، ولاوي الصدقة ، والمتعدي فيها ، والمرتد على عقبيه إعراضا بعد هجرته ، والمحلل والمحلل له ، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة .

الحديث الثاني : عن علي رضي الله عنه . قال الإمام أحمد :

حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن جابر [ وهو ابن يزيد الجعفي ] عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه ، والواشمة والمستوشمة للحُسْن ، ومانع الصدقة ، والمحلل ، والمحلل له ، وكان ينهى عن النوح .

وكذا رواه عن غندر ، عن شعبة ، عن جابر ، وهو ابن يزيد الجعفي ، عن الشعبي عن الحارث ، عن علي ، به .

وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، وحصين بن عبد الرحمن ، ومجالد بن سعيد ، وابن عون ، عن عامر الشعبي ، به .

وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة من حديث الشعبي ، به . ثم قال أحمد :

حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الربا ، وآكله ، وكاتبه ، وشاهده ، والمحلل ، والمحلل له .

الحديث الثالث : عن جابر : قال الترمذي :

حدثنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد اليامي ، حدثنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله وعن الحارث ، عن علي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له ثم قال : وليس إسناده بالقائم ، ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم ، منهم أحمد بن حنبل . قال : ورواه ابن نمير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، عن علي . قال : وهذا وهم من ابن نمير ، والحديث الأول أصح .

الحديث الرابع : عن عقبة بن عامر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة :

حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي ، سمعت الليث بن سعد يقول : قال أبو مصعب مشرح هو : ابن عاهان ، قال عقبة بن عامر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله . قال : " هو المحلِّل ، لعن الله المحلل والمحلل له " .

تفرد به ابن ماجة . وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، عن عثمان بن صالح ، عن الليث ، به ، ثم قال : كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارًا شديدًا .

قلت : عثمان هذا أحد الثقات ، روى عنه البخاري في صحيحه . ثم قد تابعه غيره ، فرواه جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق عن أبي صالح عبد الله بن صالح ، عن الليث به ، فبرئ من عهدته والله أعلم .

الحديث الخامس : عن ابن عباس . قال ابن ماجة :

حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عامر ، عن زمعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له .

طريق أخرى : قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلل قال : " لا إلا نكاح رغبة ، لا نكاح دُلْسَة ولا استهزاء بكتاب الله ، ثم يذوق عسيلتها " .

ويتقوى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن موسى بن أبي الفرات ، عن عمرو بن دينار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالآخر ، والله أعلم .

الحديث السادس : عن أبي هريرة . قال الإمام أحمد :

حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله ، هو ابن جعفر ، عن عثمان بن محمد ، المقبري ، عن أبي هريرة قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له .

وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة ، والجوزجاني ، والبيهقي ، من طريق عبد الله بن جعفر القرشي . وقد وثقه أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين وغيرهم . وأخرج له مسلم في صحيحه ، عن عثمان بن محمد الأخنسي - وثقه ابن معين - عن سعيد المقبري ، وهو متفق عليه .

الحديث السابع : عن ابن عمر . قال الحاكم في مستدركه :

حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف المدني ، عن عمر بن نافع ، عن أبيه أنه قال : جاء رجل إلى ابن عمر ، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ، ليحلها لأخيه : هل تحل للأول ؟ فقال : لا إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .

وقد رواه الثوري ، عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، به . وهذه الصيغة مشعرة بالرفع . وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة ، والجوزجاني ، وحرب الكرماني ، وأبو بكر الأثرم ، من حديث الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، عن قبيصة بن جابر ، عن عمر أنه قال : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما .

وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج ، عن سليمان بن يسار : أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ، ففرق بينهما . وكذا روي عن علي ، وابن عباس ،

وغير واحد من الصحابة ، رضي الله عنهم .

وقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي : الزوج الثاني بعد الدخول بها { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } أي : المرأة والزوج الأول { إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } أي : يتعاشرا بالمعروف [ وقال مجاهد : إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة ] { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي : شرائعه وأحكامه { يُبَيِّنُهَا } أي : يوضحها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين ، وتركها حتى انقضت عدتها ، ثم تزوجت بآخر فدخل بها ، ثم طلقها فانقضت عدتها ، ثم تزوجها الأول : هل تعود إليه بما بقي من الثلاث ، كما هو مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وهو قول طائفة من الصحابة ، رضي الله عنهم ؟ أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق ، فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث ، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ؟ وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى ، والله أعلم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 230 )

قال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي : هذا ابتداء الطلقة الثالثة .

قال القاضي أبو محمد : فيجيء التسريح المتقدم ترك المرأة تتم عدتها من الثانية ، ومن قول ابن عباس رضي الله عنه : «إن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق » ، واحتج من هذه الآية بذكر الله -تعالى - الطلاقين ثم ذكره الخلع ثم ذكره الثالثة بعد الطلاقين ولم يك للخلع حكم يعتد به ، ذكر هذا ابن المنذر في «الإشراف » عنه وعن وعكرمة( {[2189]} ) وطاوس وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وذكر عن الجمهور خلاف قولهم ، وقال مجاهد : «هذه الآية بيان ما يلزم المسرح ، والتسريح هو الطلقة الثالثة » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقوله تعالى : { أو تسريح } يحتمل الوجهين : إما تركها تتم العدة ، وإما إرداف الثالثة . ثم بين في هذه الآية حكم الاحتمال الواحد( {[2190]} ) ، إذ الاحتمال الثاني قد علم منه أنه لا حكم له عليها بعد انقضاء العدة . و { تنكح } في اللغة جار على حقيقته في الوطء ومجاز في العقد ، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح في بنت( {[2191]} ) سموأل امرأة رفاعه حين تزوجها عبد الرحمن بن الزبير( {[2192]} ) وكان رفاعة قد طلقها ثلاثاً ، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : «إني لا أريد البقاء مع عبد الرحمن ، ما معه إلا مثل الهدبة » ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لعلك أردت الرجوع إلى رفاعة ، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته »( {[2193]} ) ، فرأى العلماء أن النكاح المحل إنما هو الدخول والوطء ، وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قال : «لا يحل إلا الإنزال وهو ذوق العسيلة » ، وقال بعض الفقهاء : التقاء الختانين يحل .

قال القاضي أبو محمد والمعنى واحد ، إذ لا يلتقي الختانان إلا مع المغيب الذي عليه الجمهور ، وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد عليها يحلها للأول ، وخطىء هذا القول لخلافه الحديث الصحيح ، ويتأول على سعيد - رحمه الله - أن الحديث لم يبلغه ، ولما رأى العقد عاملاً في منع الرجل نكاح امرأة قد عقد عليها أبوه قاس عليه عمل العقد في تحليل المطلقة .

قال القاضي أبو محمد : وتحليل المطلقة ترخيص فلا يتم إلا بالأوفى ، ومنع الابن شدة تدخل بأرق الأسباب على أصلهم في البر والحنث( {[2194]} ) .

والذي يحل عند مالك - رحمه الله - النكاح الصحيح والوطء المباح ، والمحلل إذا وافق المرأة : فلم تنكح زوجاً( {[2195]} ) ، ولا يحل ذلك ، ولا أعلم في اتفاقه مع الزوجة خلافاً ، وقال عثمان بن عفان : «إذا قصد المحلل التحليل وحده لم يحل ، وكذلك إن قصدته المرأة وحدها » . ورخص فيه مع قصد المرأة وحدها إبراهيم والشعبي إذا لم يأمر به الزوج . وقال الحسن بن أبي الحسن : «إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل لم تحل للأول » ، وهذا شاذ ، وقال سالم والقاسم : لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان .

وقوله تعالى : { فإن طلقها فلا جناح عليهما } الآية ، المعنى إن طلقها المتزوج الثاني فلا جناح عليهما أي المرأة والزوج الأول ، قاله ابن عباس ، ولا خلاف فيه ، والظن هنا على بابه من تغليب أحد الجائزين ، وقال أبو عبيدة : «المعنى أيقنا » ، وقوله في ذلك ضعيف( {[2196]} ) ، و { حدود الله } الأمور التي أمر أن لا تتعدى ، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفاً لهم ، وإذ هم الذين ينتفعون بما بين . أي نصب للعبرة من قول أو صنعة ، وأما إذا أردنا بالتبيين خلق البيان في القلب فذلك يوجب تخصيص الذين يعلمون بالذكر ، لأن من طبع على قلبه لم يبين له شيء( {[2197]} ) ، وقرأ السبعة «يبينها » بالياء ، وقرأ عاصم روي عنه «نبينها » بالنون .


[2189]:- عطف على المجرور قبله.
[2190]:- وهو إرداف الثالثة، وقد بين حكمه في هذه الآية، والاحتمال الثاني هو إتمام عدتها من الطلقة الثانية، ومن المعلوم أنه بعد انقضاء العدة لا يبقى له حكم عليها.
[2191]:- لعل في الكلام تقديما وتأخيرا، والأًصل: اتباع الحديث الصحيح في امرأة رفاعة ابن سموأل حين تزوجها، قال الحافظ بن حجر: رفاعة بن سموأل القرظي، له ذكر في الصحيح من حديث عائشة. قالت: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إن رفاعة طلقني فبت طلاقي الحديث، وروى مالك عن المسور بن رفاعة، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته تميمة بنت وهب فذكر الحديث، وهو مرسل عند جمهور رواة الموطأ، ووصله ابن وهب، وإبراهيم بن طهمان، وأبو علي الحنفي ثلاثتهم عن مالك، فقالوا عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، عن أبيه. وروى ابن شاهين من طريق تفسير مقاتل بن حيان في قوله تعالى: [فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجا غيره] نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلقها طلاقا بائنا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير فذكر القصة مطولة، قال أبو موسى: الظاهر أن القصة واحدة، قال الحافظ بن حجر: وظاهر السياقين أنهما اثنتان. لكن المشكل اتحاد اسم الزوج الثاني عبد الرحمن ابن الزبير، وأما المرأة ففي اسمها اختلاف كثير. انتهى – فقيل: تميمة بنت وهب، كما في رواية الموطأ، وقيل: تميمة بنت أبي عبيد، وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن، وتميمة رويت بالتكبير والتصغير، والله أعلم.
[2192]:- الزَّبير كأمير.
[2193]:- العسيلة هي الوطء والجماع وإن لم يكن إنزال.
[2194]:- يشير بذلك إلى مناقشة القياس. وأن تحليل المطلقة ثلاثا من باب التسهيل والترخيص، وتحريم المرأة على الابن لعقد الأب من باب التشديد والتضييق، والأول يقع بأوفى الأشياء كالوطء، والثاني بأقل الأشياء كالعقد.
[2195]:- يريد أن المحلِّل إذا اتفق مع المرأة فكأنها لم تنكح زوجا غيره أي غير زوجها كما تنص. الآية، والحكم أنه إذا وقع التوافق بين المحلِّل والمحلَّل له أو الزوجة فإن ذلك النكاح لا يحل المطلقة ثلاثا لأنه ليس نكاحاً، وإنما هي حيلة، ولا فرق بين أن يكون التواطؤ بالقول أو بالقصد، فإن المقاصد معتبرة والأعمال بالنيات، والألفاظ لا تساق تعبداً، وإنما تساق للدلالة على المعاني، فإذا ظهرت هذه المعاني ترتب عليها أحكامها ولا عبرة بالألفاظ. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلَّل له، كما روى ذلك جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم، واللعن يدل على أن الفعل حرام، وإذا كان حراماً فليس هو النكاح الذي ذكره الله بقوله: [حتى تنكح زوجا غيره] فنكاح التحليل لا يفيد شرعا وإنما الذي يفيد نكاح الرغبة ثم الطلاق بعده، وللطلاق أسباب، وهناك من يقول بالتيسير في مسألة المطلقة ثلاثا، ويحمل النكاح في الآية على العقد، ويطعن في حديث العُسَيلة بأن المشتكى منه كان عنيناً، فكيف تكون له عُسَيلة، وباختلاف رواياته، وينكر لعن المحلل والمحلَّل له، ويرى أن الآية في نكاح التحليل. والمعروف ما عليه الجمهور، والله أعلم.
[2196]:- لأنه فسر الظن باليقين لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن، إلا الله تعالى، وإذا كان ذلك كذلك فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله، وإنما المعنى إن ظنّا أي: طمِعا ورجَوا ذلك.
[2197]:- والذين يعلمون يعرفون أنها من عند الله فيصدقون بها، ويعلمون بما أودعهم الله من علمه دون الذين قد طبع الله على قلوبهم، وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها ولا يصدقون أنها من عند الله، فهم يجهلون أنها من عند الله، ولذا خص القوم الذين يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون.