المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

30- فسدد وجهك واتجه إلى الدين بعيداً عن ضلالتهم ، والزم خلقة الله التي خلق الناس عليها ، وهي أنهم قابلون للتوحيد غير منكرين له ، وما ينبغي أن تغير هذه الخلقة . ذلك الخلق على التوحيد هو الدين المستقيم ، ولكن المشركين لا يعلمون حقيقة ذلك .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

قوله تعالى :{ فأقم وجهك للدين } أي : أخلص دينك لله ، قاله سعيد بن جبير ، وإقامة الوجه : إقامة الدين ، وقال غيره : سدد عملك . والوجه ما يتوجه إليه الإنسان ، ودينه وعمله مما يتوجه إليه لتسديده ، { حنيفاً } مائلاً مستقيماً عليه ، { فطرة الله } دين الله ، وهو نصب على الإغراء ، أي : الزم فطرة الله ، { التي فطر الناس عليها } أي : خلق الناس عليها ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة : الدين ، وهو الإسلام . وذهب قوم إلى أن الآية خاصة في المؤمنين ، وهم الذين فطرهم الله على الإسلام .

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يولد يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة ، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها . قالوا : يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين " ورواه الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة من غير ذكر من يموت وهو صغير ، وزاد : ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } . قوله : " من يولد يولد على الفطرة " يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله { ألست بربكم قالوا بلى } وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار ، وهو الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها وإن عبد غيره ، قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } وقالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا ، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ، ألا ترى أنه يقول : فأبواه يهودانه فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " . ويحكى هذا عن الأوزاعي ، وحماد بن سلمة . وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : معنى الحديث إن كل مولود يولد على فطرته ، أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة ، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها ، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها ، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين ، فيحملانه لشقائه على اعتقاد دينهما . وقيل : معناه أن كل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول ، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من آفات النشوء والتقليد ، فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره ثم يتمثل بأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك عن الفطرة السليمة والحجة المستقيمة . ذكر أبو سليمان الخطابي هذه المعاني في كتابه . قوله : { لا تبديل لخلق الله } فمن حمل الفطرة على الدين قال : معناه لا تبديل لدين الله ، وهو خبر بمعنى النهي ، أي : لا تبدلوا دين الله . قال مجاهد ، وإبراهيم : معنى الآية الزموا فطرة الله ، أي دين الله ، واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك { ذلك الدين القيم } المستقيم ، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . وقيل : لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة لا يبدل ، فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً . وقال عكرمة ومجاهد : معناه تحريم إخصاء البهائم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

{ 30 - 32 } { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }

يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } أي : انصبه ووجهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك{[651]} إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها . وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة ، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

وخص اللّه إقامة الوجه لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب ويترتب على الأمرين سَعْيُ البدن ولهذا قال : { حَنِيفًا } أي : مقبلا على اللّه في ذلك معرضا عما سواه .

وهذا الأمر الذي أمرناك به هو { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها ، فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم ، الميل إليها ، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة .

ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "

{ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } أي : لا أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه اللّه ، { ذَلِكَ } الذي أمرنا به { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإلى كرامته ، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } فلا يتعرفون الدين القيم وإن عرفوه لم يسلكوه .


[651]:- كذا في ب، وفي أ: على.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

الفاء فصيحة . والتقدير : إذا علمت أحوال المعرضين عن دلائل الحق فأقم وجهك للدين . والأمر مستعمل في طلب الدوام . والمقصود : أن لا تهتم بإعراضهم ، كقوله تعالى { فإن حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي لله ومن اتبعن } [ آل عمران : 20 ] وقوله { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } [ هود : 112 ] ( أي من آمن ) وقوله { أدْعوا إلى الله على بصيرة أنا ومَن اتّبعن } [ يوسف : 108 ] .

فالمعنى : فأقم وجهك للدين والمؤمنون معك ، كما يؤذن به قوله بعده { منيبين إليه واتقوه } [ الروم : 31 ] بصيغة الجمع .

وإقامة الوجه : تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره غير ملتفت يميناً ولا شمالاً . وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشيء والتمحض للشغل به بحال قصر النظر إلى صوب قبالته غير ملتفت يَمْنَةً ولا يَسْرَةً ، وهذا كقوله تعالى { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادْعُوه مخلصين } [ الأعراف : 29 ] وقوله حكاية عن إبراهيم { إني وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 79 ] وقوله تعالى { فقل أسلمتُ وجهي لله } [ آل عمران : 20 ] ، أي أعطيته لله ، وذلك معنى التمحيض لعبادة الله وأن لا يلتفت إلى معبود غيره .

والتعريف في { الدين } للعهد وهو دينهم الذي هم عليه وهو دين الإسلام . و { حنيفاً } يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر في فعل { أقم } فيكون حالاً للنبي صلى الله عليه وسلم كما كان وصفاً لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى { إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً } [ النحل : 120 ] ، وهذا هو الأظهر في تفسيره . ويجوز كونه حالاً من الدين على ما فسر به الزجاج فيكون استعارة بتشبيه الدين برجل حنيف في خلوّه من شوائب الشرك ، فيكون الحنيف تمثيلية وفي إثباته للدين استعارة تصريحية .

وحنيف : صيغة مبالغة في الاتصاف بالحَنَف وهو الميْل ، وغلب استعمال هذا الوصف في الميل عن الباطل ، أي العدول عنه بالتوجه إلى الحق ، أي عادلاً ومنقطعاً عن الشرك كقوله تعالى { قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } وقد مضى في سورة البقرة ( 135 ) .

و{ فطرة الله } بدل من { حنيفاً } بدل اشتمال فهو في معنى الحال من { الدين } أيضاً وهو حال ثانية فإن الحال كالخبر تتعدد بدون عطف على التحقيق عند النحاة . وهذا أحسن لأنه أصرح في إفادة أن هذا الدين مختص بوصفين هما : التبرؤ من الإشراك ، وموافقتُه الفطرة ، فيفيد أنه دين سمح سهل لا عنت فيه . ونظيره قوله تعالى { ولم يجعل له عِوجاً قيّماً } [ الكهف : 1 ، 2 ] أي الدين الذي هو فطرة الله لأن التوحيد هو الفطرة ، والإشراك تبديلٌ للفطرة . والفطرة أصله اسم هيئة من الفَطْر وهو الخَلْق مثل الخِلقة كما بيّنه قوله { التي فَطَرَ الناس عليها } أي جَبَلَ الناسَ وخلقهم عليها ، أي متمكنين منها . فحرف الاستعلاء مستعار لتمكن ملابسة الصفة بالموصوف تمكناً يشبه تمكن المعتلي على شيء ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى { أولئك على هدى من ربهم } في سورة البقرة ( 5 ) ، وحقيقة المعنى : التي فطر الناس بها .

ومعنى فطر الناس على الدين الحنيف أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها ، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية لله لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسان وتفكيره ولم يلقَّن اعتقاداً ضالاً لاهتدى إلى التوحيد بفطرته . قال ابن عطية : والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أي الفطرة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الإنسان التي هي مُعِدَّة ومُهَيِّئَة لأن يميز بها مصنوعات الله ، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه . اهـ .

وإن لم أر من أتقن الإفصاح عن معنى كون الإسلام هو الفطرة فأبينه : بأن الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق ، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسداً وعقلاً ، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية ، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية ، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية ، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية وهو المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع ، وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابتة في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية ، وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية .

وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتابه { النجاة } فقال : « ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأياً ولم يعتقد مذهباً ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة ، ولكنه شاهَدَ المحسوسات وأخذ منها الحالات ، ثم يَعرضَ على ذهنه شيئاً ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة ، وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلاً ، وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كانت كاذبة ، وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست محسوسة بالذات بل هي مبادىء للمحسوسات . فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديقَ بها : إما شهادة الكل مثل : أنَّ العدل جميل ، وإما شهادة الأكثر ؛ وإما شهادة العلماء أو الأفاضل منهم . وليست الذائعات من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديق بها في الفطرة فما كان من الذائعات ليس بأوَّلي عقلي ولا وهَمِيّ فإنها غير فطرية ، ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبا وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان{[314]} ، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس{[315]} أو الاستقراءُ الكثير ، أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقاً صِرفاً فلا يُفْطَن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق ، اه . فوصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة العقلية ، وأما تشريعاته وتفاريعه فهي : إما أمور فطرية أيضاً ، أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به ، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته .

وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة . وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه وقد بينته في كتابي المسمى « مقاصد الشريعة الإسلامية » . واعلم أن شواهد الفطرة قد تكون واضحة بينة وقد تكون خفية ، كما يقتضيه كلام الشيخ ابن سينا ، فإذا خفيت المعاني الفطرية أو التبست بغيرها فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هم العلماء الحكماء الذين تمرسوا بحقائق الأشياء والتفريق بين متشابهاتها ، وسبروا أحوال البشر ، وتعرضت أفهامهم زماناً لتصاريف الشريعة ، وتوسموا مراميها ، وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء .

إن المجتَمع الإنساني قد مُني عصوراً طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل ، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها ، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته ، فتلك يخاف منها أن تُتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحَق ، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كلَّ سبيل ، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خيرَ دليل . وكونُ الإسلام هو الفطرة ، وملازمة أحكامه لمقتضيَات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه ، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية ، وهذا ما أفاده قوله { ذلك الدين القيّم . } فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح بجميع الأمم ، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحاً للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحاً يُسْراً لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة .

وفي قوله { التي فطر الناس عليها } بيان لمعنى الإضافة في قوله { فطرة الله } وتصريح بأن الله خلق الناس سالمةٌ عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة والعادات الذميمة ، وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جرَّاء التلقي والتعود ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصِّرانه أو يُمجسانه كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تُحِسُّون فيها من جَدعاء " أي كما تولد البهيمة من إبل أو بقر أو غنم كاملة جمعاء أي بذيلها ، أي تُولد كاملة ويعمد بعض الناس إلى قطع ذيلها وجدعه وهي الجدعاء ، و ( تُحسون ) تدركون بالحس ، أي حاسّة البصر . فجعل اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة ، أي في تفاريعهما . وفي « صحيح مسلم » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه : " وإني خلقت عبادي حُنفاء كلهم أي غير مشركين وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحلَلْتُ لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً " الحديث . {[316]}

وجملة { لا تبديل لخلق الله } مبيِّنة لمعنى { فطرة الله التي فطر الناس عليها } فهي جارية مجرى حال ثالثة من { الدّين } على تقدير رابط محذوف . والتقدير : لا تبديل لخلق الله فيه ، أي في هذا الدين ، فهو كقوله في حديث أم زرع في قول الرابعة : زوجي كلَيْل تهامة لا حرَّ ولا قُرَّ ولا مخافة ولا سآمة أي في ذلك الليل .

فمعنى { لا تبديل لخلق الله } أنه الدين الحنيف الذي ليس فيه تبديل لخلق الله خلاف دين أهل الشرك ، قال تعالى عن الشيطان : { ولآمرنهم فَلُيغيِّرُنَّ خلقَ الله } [ النساء : 119 ] . ويجوز أن تكون جملة { لا تبديل لخلق الله } معترضة لإفادة النهي عن تغيير خلق الله فيما أودعه الفطرة . فتكون { لا تبديل لخلق الله } خبراً مستعملاً في معنى النهي على وجه المبالغة كقوله { لا تَقْتُلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] . فنفي الجنس مراد به جنس من التبديل خاص بالوصف لا نفي وقوع جنس التبديل فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة . واسم الإشارة لزيادة تمييز هذا الدين مع تعظيمه .

و القيِّم : وصف بوزن فَيْعِل مثل هيِّن وليِّن يفيد قوة الاتصاف بمصدره ، أي البالغ قوة القيام مثل استقام الذي هو مبالغة في قام كاستجاب .

والقيام : حقيقته الانتصابُ ضد القعود والاضطجاع ، ويطلق مجازاً على انتفاء الاعوجاج يقال : عود مستقيم وقيم ، فإطلاق القيم على الدين تشبيه انتفاء الخطإ عنه باستقامة العود وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ، كما في قوله تعالى : { ولم يجعل له عِوجاً قيماً } [ الكهف : 1 ، 2 ] وقال تعالى : في سورة براءة ( 36 ) .

ويطلق أيضاً على الرعاية والمراقبة والكفالة بالشيء لأنها تستلزم القيام والتعهد قال تعالى { أفَمَنْ هو قائم على كل نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] ، ومنه قلنا لراعي التلامذة ومراقب أحوالهم : قَيِّم . ويطلق القيم على المهيمن والحافظ . والمعاني كلها صالحة للحمل عليها هنا ، فإن هذا الكتاب معصوم عن الخطأ ومتكفل بمصالح الناس ، وشاهد على الكتب السالفة تصحيحاً ونسخاً قال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } وتقدم في طالع سورة المائدة ( 48 ) . فهذا الدين به قوام أمر الأمة . قال عمر بن الخطاب لمعاذ بن جبل : يا معاذ ما قِوام هذه الأمة ؟ قال : الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والصلاة وهي الدين ، والطاعة وهي العصمة ، فقال عمر : صدقت . يريد معاذٌ بالإخلاص التوحيد كقوله تعالى { مخلصين له الدين حنفاء } [ البينة : 5 ] .

والاستدراك في قوله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } لدفع توهم واهِم يقول إذا كان هو دين الفطرة وهو القيِّم فكيف أعرض كثير من الناس عنه بعد تبليغه ، فاستدرك ذلك بأنهم جهال لا علم عندهم فإن كان قد بلغهم فإنهم جهلوا معانيه لإعراضهم عن التأمل ولا يعلمون منه إلا ما لا يفيدهم مُهمهم لأنهم لم يسعوا في أن يَبلغهم على الوجه الصحيح ؛ ففعل { لا يعلمون } غير متطلب مفعولاً بل هو منزل منزلة اللازم لأن المعنى لا علم عندهم على نحو ما قرر في نظيره في أول هذه السورة .

والمراد ب { أكثر الناس } المشركون إذ أعرضوا عن دعوة الإسلام ، وأهلُ الكتاب إذ أبوا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة أديانهم بعد إبطالها لانتهاء صلاحية تفاريعها بانقضاء الأحوال التي شرعت لها انقضاء لا مطمع بعده لأن تعود .

ومقابل { أكثر الناس } هم المؤمنون ، وشرذمة من علماء أهل الكتاب علموا أحقية الإسلام وبقُوا على أديانهم عناداً : فهم يعلمون ويكابرون ، أو تحيُّراً : فهم في شك بين علم وجهل .


[314]:- وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: { وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا}.
[315]:- قال تعالى حكاية عن قوم كذبوا الرسل: { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤهم} وقال { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين}.
[316]:- أخرجه مسلم في صفة أهل الجنة من كتاب الجنة والنار. وهو حديث طويل.