66- ولو أنهم حفظوا التوراة والإنجيل كما نزلا ، وعملوا بما فيهما . وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم ، وهو القرآن ، لوسَّع الله عليهم الرزق يأتيهم من كل جهة يلتمسونه منها . وهم ليسوا سواء في الضلال ، ومن هؤلاء جماعة عادلة عاقلة ، وهم الذين آمنوا بمحمد وبالقرآن ، وكثير منهم لبئس ما يعملونه ويقولونه معرضين عن الحق .
قوله تعالى : { لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } ، يعني : أقاموا أحكامهما وحدودهما ، وعملوا بما فيهما .
قوله تعالى : { وما أنزل إليهم من ربهم } ، يعني : القرآن ، وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيل .
قوله تعالى : { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } ، قيل : من فوقهم هو المطر ، ومن تحت أرجلهم نبات الأرض . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأنزلت عليهم القطر ، وأخرجت لهم من نبات الأرض . قال الفراء : أراد به التوسعة في الرزق ، كما يقال : فلان في الخير من قرنه إلى قدمه ، نظيره قوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [ الأعراف :96 ] .
قوله تعالى : { منهم أمة مقتصدة } ، يعني : مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، ( مقتصدة ) أي عادلة غير غالية ، ولا مقصرة جافية ، ومعنى الاقتصاد في اللغة : الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير .
قوله تعالى : { وكثير منهم } ، كعب بن الأشرف وأصحابه .
قوله تعالى : { ساء ما يعملون } ، بئس ما يعملون ، بئس شيئاً عملهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رََّبِّهِمْ ْ } أي : قاموا بأوامرهما ونواهيهما ، كما ندبهم الله وحثهم .
ومن إقامتهما الإيمان بما دعيا إليه ، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ، فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم ، أي : لأجلهم وللاعتناء بهم { لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ْ } أي : لأدر الله عليهم الرزق ، ولأمطر عليهم السماء ، وأنبت لهم الأرض كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ْ }
{ مِنْهُمْ ْ } أي : من أهل الكتاب { أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ْ } أي : عاملة بالتوراة والإنجيل ، عملا غير قوي ولا نشيط ، { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ْ } أي : والمسيء منهم الكثير . وأما السابقون منهم فقليل ما هم .
{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } بإذاعة ما فيهما من نعت محمد عليه الصلاة والسلام والقيام بأحكامها . { وما أنزل إليهم من ربهم } يعني سائر الكتب المنزلة فإنها من حيث إنهم مكلفون بالإيمان بها كالمنزل إليهم ، أو القرآن { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض ، أو يكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع ، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار . فيجتنونها من رأس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض بين بذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم ومعاصيهم لا لقصور الفيض ، ولو أنهم آمنوا وأقاموا ما أمروا به لوسع عليهم وجعل لهم خير الدارين . { منهم أمة مقتصدة } عادلة غير غالية ولا مقصرة ، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل مقتصدة متوسطة في عداوته . { وكثير منهم ساء ما يعملون } أي بئس ما يعملونه ، وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم وهو المعاندة وتحريف الحق والإعراض عنه والإفراط في العداوة .
{ ولو أنهم أقاموا التوراة } أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة ، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس ، إذ هي أظهر هيئات المرء ، وقوله تعالى : { والإنجيل } يقتضي دخول النصارى في لفظ { أهل الكتاب } في هذه الآية ، وقوله تعالى : { وما أنزل إليهم من ربهم } معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء ، واختلف المفسرون في معنى { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي : المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل الله تعالى . وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه ، وذكر النقاش أن المعنى : لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا ، إذ هو من نبات الأرض . قوله تعالى { منهم أمة مقتصدة } معناه : معتدلة ، والقصد والاقتصاد : الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال ، قال الطبري : معنى الآية أن من بني إسرائيل من هو مقتصد في عيسى عليه السلام يقولون هو عبد الله ورسول وروح منه ، والأكثر منهم غلا فيه فقال بعضهم هو إله ، وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بأخرة{[1]} في ملة عيسى عليه السلام ، وقال بعضهم وهم الأكثر من بني إسرائيل : هو آدمي لغير رشدة ، فكفر الطرفان ، وقال مجاهد : المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماً وحديثاً .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا يتخرج قول الطبري : ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم ، وقال ابن زيد : هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب ، وهذا هو المترجح ، وقد ذكر الزجّاج{[2]} أنه يعني بالمقتصدة الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتهتكين المجاهرين .
قال القاضي أبو محمد : وإنما يتوجه أن توصف بالاقتصاد بالإضافة إلى المتمردة كما يقال في أبي البحتري بن هشام إنه مقتصد بالإضافة إلى أبي جهل بن هشام لعنه الله ، ثم وصف تعالى الكثير منهم بسوء العمل عموماً ، وذهب الطبري إلى أن ذلك في تكذيبهم الأنبياء ، وكفر اليهود بعيسى والجميع من أهل الكتابين بمحمد صلى الله عليه وسلم { ساء } في هذه الآية هي المتصرفة كما تقول ساء الأمر يسوء ، وقد تستعمل { ساء } استعمال نعم وبئس ، كقوله عز وجل : { ساء مثلاً }{[3]} فتلك غير هذه ، يحتاج في هذه التي في قوله { ساء مثلاً } من الإضمار والتقدير إلى ما يحتاج في نعم وبئس ، وفي هذا نظر .