186- وإني مطلع على العباد ، عليم بما يأتون وما يذرون ، فإذا سألك - يا محمد - عبادي قائلين : هل الله قريب منا بحيث يعلم ما نخفي وما نعلن وما نترك ؟ فقل لهم : إني أقرب إليهم مما يظنون ، ودليل ذلك أن دعوة الداعي تصل في حينها ، وأنا الذي أجيبها في حينها كذلك ، وإذا كنت استجبت لها فليستجيبوا هم لي بالإيمان والطاعة فإن ذلك سبيل إرشادهم وسدادهم .
قوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، قال : قال يهود أهل المدينة : يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام ؟ وإن غلظ كل سماء مثل ذلك ؟ فنزلت هذه الآية ، وقال الضحاك : سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أقريب ربنا فنناجيه ؟ أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } وفيه إضمار ، كأنه قال لهم : إني قريب منهم بالعلم لا يخفى على شيء كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد ابن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، عن عاصم عن أبي عثمان عن أبي موسى الأشعري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، أو قال : لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ، أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ، ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم " .
قوله تعالى : { أجيب دعوة الداع إذا دعان } . قرأ أهل المدينة غير قالون وأبو عمرو بإثبات الياء فيهما في الوصل ، والباقون يحذفونها وصلاً ووقفاً ، وكذلك اختلف القراء في إثبات الياءات المحذوفة من الخط وحذفها في التلاوة ، ويثبت يعقوب جميعها ، وصلاً ووقفاً ، واتفقوا على إثبات ما هو مثبت في الخط وصلاً ووقفاً .
قوله تعالى : { فليستجيبوا لي } . قيل : الاستجابة بمعنى الإجابة ، أي : فليجيبوا لي بالطاعة ، والإجابة في اللغة : الطاعة وإعطاء ما سئل فالإجابة من الله تعالى العطاء ، ومن العبد الطاعة ، وقيل : فليستجيبوا لي أي ليستدعوا مني الإجابة ، وحقيقته فليطيعوني .
قوله تعالى : { وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } . لكي يهتدوا ، فإن قيل فما وجه قوله تعالى : ( أجيب دعوة الداع ) وقوله ( ادعوني أستجب لكم ) وقد يدعى كثيراً فلا يجيب ؟ قلنا : اختلفوا في معنى الآيتين قيل معنى الدعاء هاهنا الطاعة ، ومعنى الإجابة الثواب ، وقيل معنى الآيتين خاص وإن كان لفظهما عاماً ، تقديرهما : أجيب دعوة الداع إن شئت ، كما قال : ( فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ) أو أجيب دعوة الداعي إن وافق القضاء أو : أجيبه إن كانت الإجابة خيراً له ، أو أجيبه إن لم يسأل محالاً .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد ابن زنجويه ، أخبرنا عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح أن ربيعة بن يزيد حدثه عن أبي إدريس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يستجيب الله لأحدكم ما لم يدع بإثم ، أو قطيعة رحم ، أو يستعجل . قالوا : وما الاستعجال يا رسول الله ؟ قال : قد دعوتك يا رب ، قد دعوتك يا رب ، فلا أراك تستجيب لي ، فيستحسر عند ذلك فيدع الدعاء " .
وقيل : هو عام ، ومعنى قوله " أجيب " أي أسمع ، ويقال ليس في الآية أكثر من إستجابة الدعوة ، فأما إعطاء المنية فليس بمذكور فيها ، وقد يجيب السيد عبده ، والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله ، فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوة ، وقيل : معنى الآية أنه لا يجيب دعاءه ، فإن قدر له ما سأل أعطاه ، وإن لم يقدره له ادخر له الثواب في الآخرة ، أو كف عنه به سوءاً والدليل عليه ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد زنجويه ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا ابن ثوبان ، وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه ، عن مكحول عن جبير بن نفير عن عبادة بن الصامت حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما على الأرض رجل مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه ، الله إياها ، أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم " . وقيل : إن الله تعالى يجيب دعاء المؤمن في الوقت ، ويؤخر إعطاء من يجيب مراده ليدعوه فيسمع صوته ويعجل إعطاء من لا يحبه لأنه يبغض صوته ، وقيل : إن للدعاء آداباً وشرائط وهي أسباب الإجابة فمن استكملها كان من أهل الإجابة ، ومن أخل بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الإجابة .
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
هذا جواب سؤال ، سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا : يا رسول الله ، أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فنزل : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } لأنه تعالى ، الرقيب الشهيد ، المطلع على السر وأخفى ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فهو قريب أيضا من داعيه ، بالإجابة ، ولهذا قال : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } والدعاء نوعان : دعاء عبادة ، ودعاء مسألة .
والقرب نوعان : قرب بعلمه من كل خلقه ، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق .
فمن دعا ربه بقلب حاضر ، ودعاء مشروع ، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء ، كأكل الحرام ونحوه ، فإن الله قد وعده بالإجابة ، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء ، وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية ، والإيمان به ، الموجب للاستجابة ، فلهذا قال : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } أي : يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة ، ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة . ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره ، سبب لحصول العلم كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } .
وقبل أن يمضي السياق في بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام ، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك . . نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة . نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم ، والجزاء المعجل على الاستجابة لله . . نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله ، وفي استجابته للدعاء . . تصوره الفاظ رفافة شفافة تكاد تنير :
( وإذا سألك عبادي عني ، فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان . فليستجيبوا لي ، وليؤمنوا بي ، لعلهم يرشدون ) . .
فإني قريب . . أجيب دعوة الداع إذا دعان . . أية رقة ؟ وأي انعطاف ؟ وأية شفافية ؟ وأي إيناس ؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود ، وظل هذا القرب ، وظل هذا الإيناس ؟
وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة :
( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب . أجيب دعوة الداع إذا دعان ) . .
إضافة العباد إليه ، والرد المباشر عليهم منه . . لم يقل : فقل لهم : إني قريب . . إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال . . قريب . . ولم يقل اسمع الدعاء . . إنما عجل بإجابة الدعاء : ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) . .
إنها آية عجيبة . . آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة ، والود المؤنس ، والرضى المطمئن ، والثقة واليقين . . ويعيش منها المؤمن في جناب رضي ، وقربى ندية ، وملاذ أمين وقرار مكين .
وفي ظل هذا الأنس الحبيب ، وهذا القرب الودود ، وهذه الاستجابة الوحية . . يوجه الله عباده إلى الاستجابة له ، والإيمان به ، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح .
( فليستجيبوا لي ، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) . .
فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك . . وهي الرشد والهدى والصلاح . فالله غني عن العالمين .
والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد . فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد ؛ وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد ، ولا ينتهي إلى رشاد . واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون . وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه . فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم .
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن ميمون - بإسناده - عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن النبي [ ص ] أنه قال : " إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبين " .
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - بإسناده - عن ابن ثوبان : ورواه عبد الله بن الإمام أحمد - بإسناده - عن عبادة بن الصامت : أن النبي [ ص ] قال : " ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو كف عنه من السوء مثلها ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم " .
وفي الصحيحين : أن رسول الله [ ص ] قال : " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل . يقول : دعوت فلم يستجب لي ! " . .
وفي صحيح مسلم : عن النبي [ ص ] أنه قال : " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل " قيل : يا رسول الله وما الاستعجال . قال : " يقول : قد دعوت ، وقد دعوت ، فلم أر يستجاب لي ، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء " .
والصائم أقرب الدعاة استجابة ، كما روى الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده - بإسناده - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة " . . فكان عبد الله بن عمر إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا . وروى ابن ماجه في سننه - بإسناده - عن عبد الله بن عمر كذلك قال : قال النبي [ ص ] : " إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد " وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : قال : قال رسول الله [ ص ] : " ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين " . .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أخبرنا جرير ، عن عبدة بن أبي برزة السِّجستاني{[3227]} عن الصُّلْب{[3228]} بن حَكيِم بن معاوية بن حيدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده ، أن أعرابيًا قال : يا رسول الله ، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }{[3229]} .
ورواه ابن مَرْدُويه ، وأبو الشيخ الأصبهاني ، من حديث محمد بن أبي حميد ، عن جرير ، به . وقال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ النبي صلى الله عليه وسلم ]{[3230]} : أين ربنا ؟ فأنزل الله عز وجل : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية{[3231]} .
وقال ابن جُرَيج عن عطاء : أنه بلغه لما نزلت : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] قال الناس : لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا ، ولا نعلو شَرَفًا ، ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير . قال : فدنا منا فقال : " يا أيها الناس ، أرْبعُوا على أنفسكم ؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا ، إنما تدعون سميعًا بصيرًا ، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته . يا عبد الله بن قيس ، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " .
أخرجاه في الصحيحين ، وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي ، واسمه عبد الرحمن بن مُل{[3232]} ، عنه ، بنحوه{[3233]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا شعبة ، حدثنا قتادة ، عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني " {[3234]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله ، عن كريمة بنت الخشخاش المزنية ، قالت : حدثنا أبو هريرة : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله : أنا مع عبدي ما ذكرني ، وتحركت بي شفتاه " {[3235]} .
قلت : وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] ، وكقوله لموسى وهارون ، عليهما السلام : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] . والمراد من هذا : أنه تعالى لا يخيب دعاء داع ، ولا يشغله عنه شيء ، بل هو سميع الدعاء . وفيه ترغيب في الدعاء ، وأنه لا يضيع لديه تعالى ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان - هو النهدي - يحدث عن سلمان - يعني الفارسي - رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردّهما خائبتين " .
قال يزيد : سموا لي هذا الرجل ، فقالوا : جعفر بن ميمون{[3236]} .
وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة من حديث جعفر بن ميمون ، صاحب الأنماط ، به{[3237]} . وقال الترمذي : حسن غريب . ورواه بعضهم ، ولم يرفعه .
وقال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المِزّي ، رحمه الله ، في أطرافه : وتابعه أبو همام محمد بن الزبرقان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، به{[3238]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عَليّ بن دُؤاد أبو المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجِّل له دعوته ، وإما أن يَدّخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " قالوا : إذًا نكثر . قال : " الله أكثر{[3239]} " {[3240]} .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جُبَير بن نفير ، أن عُبَادة بن الصامت حدّثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما على ظهر الأرض من رجل مُسْلِم يدعو الله ، عز وجل ، بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو كف عنه من السوء مثلها ، ما لم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم " {[3241]} .
ورواه الترمذي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن محمد بن يوسف الفرْيابي ، عن ابن ثوبان - وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان - به{[3242]} . وقال : حسن صحيح غريب من هذا الوجه .
وقال الإمام مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي عبيد - مولى ابن أزهر - عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يُسْتَجَاب لأحدكم ما لم يَعْجل ، يقول : دعوتُ فلم يستجب لي " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، به{[3243]} . وهذا لفظ البخاري ، رحمه الله ، وأثابه الجنة .
وقال مسلم أيضًا{[3244]} : حدثني أبو الطاهر ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن ربيعة ابن يزيد ، عن أبي إدريس الخَوْلاني ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل " . قيل : يا رسول الله ، ما الاستعجال ؟ قال : " يقول : قد
دعوتُ ، وقد دَعَوتُ ، فلم أرَ يستجابُ لي ، فَيَسْتَحسر عند ذلك ، ويترك{[3245]} الدعاء " {[3246]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا ابن{[3247]} هلال ، عن قتادة ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل " . قالوا : وكيف يستعجل ؟ قال : " يقول : قد دعوتُ ربي فلم يَسُتَجبْ لي " {[3248]} .
وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر : أن يزيد بن عبد الله بن قسَيط حدثه ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : ما من عَبْد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب ، حتى تُعَجَّل له في الدنيا أو تُدّخر له في الآخرة ، إذا لم{[3249]} يعجل أو يقنط . قال عروة : قلت : يا أمَّاه{[3250]} كيف عجلته وقنوطه ؟ قالت : يقول : سألت فلم أعْطَ ، ودعوت فلم أجَبْ .
قال ابن قُسَيْط : وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا بكر بن عمرو ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " القلوب أوعية ، وبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل " {[3251]} .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبيَّ بن نافع ابن معد يكرب ببغداد ، حدثني أبي بن نافع ، حدثني أبي نافع بن معد يكرب ، قال : كنت أنا وعائشة سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الآية : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } قال : " يا رب ، مسألة عائشة " . فهبط جبريل فقال : الله يقرؤك السلام ، هذا عبدي الصالح{[3252]} بالنية الصادقة ، وقلبُه نقي{[3253]} يقول : يا رب ، فأقول : لبيك . فأقضي حاجته .
هذا حديث غريب من هذا الوجه{[3254]} .
وروى ابن مَرْدُويه من حديث الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : حدثني جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم أمرت بالدعاء ، وتوكَّلْتَ بالإجابة ، لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، لبيك إن الحمد والنعمة لك ، والملك لا شريك لك ، أشهد أنك فرد أحد صَمَد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحد ، وأشهد أن وعدك حق ، ولقاءك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنت تبعث من في القبور " {[3255]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسن بن يحيى الأرزي{[3256]} ومحمد بن يحيى القُطَعي{[3257]} قالا حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا صالح المُرِّي ، عن الحسن ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، واحدة لك وواحدة لي ، وواحدة فيما بيني وبينك ؛ فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا ، وأما التي لك فما عملتَ من شيء وَفَّيْتُكَه{[3258]} وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الإجابة " {[3259]} .
وفي ذكره تعالى{[3260]} هذه الآية الباعثة على الدعاء ، متخللة بين أحكام الصيام ، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العِدّة ، بل وعندَ كلّ فطر ، كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده :
حدثنا أبو محمد المليكي ، عن عَمْرو - هو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمرو ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة " . فكان عبد الله بن عمرو إذ أفطر دعا أهله ، وولده ودعا{[3261]} .
وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه : حدثنا هشام بن عمار ، أخبرنا الوليد بن مسلم ، عن إسحاق بن عبيد الله{[3262]} المدني ، عن عَبْد الله{[3263]} بن أبي مُلَيْكة ، عن{[3264]} عبد الله بن عَمْرو ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن للصائم عند فطره دَعْوةً ما تُرَدّ " . قال عَبْد الله{[3265]} بن أبي مُليَكة : سمعت عبد الله بن عَمْرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعَتْ كل شيء أن تغفر لي{[3266]} .
وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى{[3267]} يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون{[3268]} الغمام يوم القيامة ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين " {[3269]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وإذا سألك يا محمد عبادي عني أين أنا ؟ فإني قريب منهم أسمع دعاءهم ، وأجيب دعوة الداعي منهم .
وقد اختلفوا فيما أنزلت فيه هذه الآية ، فقال بعضهم : نزلت في سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله وإذَا سألَكَ عِبَادِي عَنّي فإِني قَريبٌ أُجِيبُ . . . الآية .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبدة السجستاني ، عن الصلت بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان عن عوف ، عن الحسن ، قال : سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم : أين ربنا ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : { وَإذَا سألكَ عِبَادي عَنّي فإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذَا دَعان . . . } الآية .
وقال آخرون : بل نزلت جوابا لمسئلة قوم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم : أيّ ساعة يدعون الله فيها ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : لما نزلت : { وَقَالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ } قالوا في أي ساعة ؟ قال : فنزلت : { وَإذَا سألَكَ عِبَادِي عَنّي فإنّي قَرِيبٌ } إلى قوله : { لَعَلّهُمْ يَرْشُدُون . }
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذَا دَعان } قالوا : لو علمنا أيّ ساعة ندعو ؟ فنزلت { وإذَا سألَكَ عِبَادِي عَنّي فإنّي قَرِيبٌ . . . } الآية .
حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : زعم عطاء بن أبي رباح أنه بلغه لما نزلت : { وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُوني أسْتَجِيبْ لَكُمْ } قال . الناس : لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت : { وَإذَا سألكَ عِبادي عَنّي فإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذَا دَعان فَلْيَسْتَجيبُوا لي وَلْيْوءْمِنُوا بِي لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ . }
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإذَا سألَكَ عِبَادِي عَنّي فإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعُوَةَ الدّاعِ إذَا دَعان }قال : ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له ، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله ، وإن لم يكن له رزقا في الدنيا ذَخَرَهُ له إلى يوم القيامة ، ودفع عنه به مكروها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن ابن صالح ، عمن حدثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما أُعْطيَ أحدٌ الدّعاءَ وَمُنِعَ الإجابةَ ، لأنّ الله يَقُولُ : { ا دْعُونِي أسْتَجِبْ لَكم . }
ومعنى متأولي هذا التأويل : وإذا سألك عبادي عني أيّ ساعة يدعونني فإني منهم قريب في كل وقت أجيب دعوة الداع إذا دعان .
وقال آخرون : بل نزلت جوابا لقول قوم قالوا إذا قال الله لهم : { ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ } إلى أين ندعوه ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال مجاهد : { ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ } قالوا : إلى أين ؟ فنزلت : { أيْنَما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيم . }
وقال آخرون : بل نزلت جوابا لقوم قالوا : كيف ندعو ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أنه لما أنزل الله { ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قال رجال : كيف ندعو يا نبي الله ؟ فأنزل الله : { وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادي عَنّي فإنّي قَرِيبٌ } إلى قوله : يَرْشُدُونَ .
وأما قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لي }فإنه يعني : فليستجيبوا لي بالطاعة ، يقال منه : استجبت له واستجبته بمعنى أجبته ، كما قال كعب بن سعد الغنوي :
ودَاعٍ دَعا يا مَن يُجِيبُ إلى النّدَى فلَمْ يَتَجِهُ عندَ ذَاكَ مُجِيبُ
يريد : فلم يجبه . وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد وجماعة غيره .
2389حدثنا القاسم ، قال حدثنا الحسين ، قال : حدثني الحجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لي }قال : فليطيعوا لي ، قال : الاستجابة : الطاعة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : سألت عبد الله بن المبارك عن قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُوا ليج قال : طاعة الله .
وقال بعضهم : معنى { فَلْيَسْتَجِيبُوا لي }فليدعوني . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني منصور بن هارون ، عن أبي رجاء الخراساني ، قال{ فَلْيَسْتَجِيبُوا لي } : فليدعوني .
وأما قوله : { وَلْيُؤْمِنُوا بِيج فإنه يعني : وليصدقوا ، أي وليؤمنوا بي إذا هم استجابوا لي بالطاعة أني لهم من وراء طاعتهم لي في الثواب عليها وإجزالي الكرامة لهم عليها .
وأما الذي تأول قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لي } أي بمعنى فليدعوني ، فإنه كان يتأول قوله : { وَلْيُؤْمِنُوا بي } : وليؤمنوا بي أني أستجيب لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، قال : حدثني منصور بن هارون ، عن أبي رجاء الخراساني : { وَلْيُؤْمِنُوا بي } يقول : أني أستجيب لهم .
وأما قوله : { لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ }فإنه يعني : فليستجيبوا لي بالطاعة ، وليؤمنوا بي فيصدّقوا على طاعتهم إياي بالثواب مني لهم وليهتدوا بذلك من فعلهم فيرشدوا كما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع في قوله : { لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ }يقول : لعلهم يهتدون .
فإن قال لنا قائل : وما معنى هذا القول من الله تعالى ذكره ؟ فأنت ترى كثيرا من البشر يدعون الله فلا يجاب لهم دعاء وقد قال : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذَا دَعانِ ؟ }قيل : إن لذلك وجهين من المعنى : أحدهما أن يكون معنيا بالدعوة العمل بما ندب الله إليه وأمر به ، فيكون تأويل الكلام : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ممن أطاعني وعمل بما أمرته به أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني . فيكون معنى الدعاء مسألة العبد ربه وما وعد أولياؤه على طاعتهم بعلمهم بطاعته ، ومعنى الإجابة من الله التي ضمنها له الوفاء له بما وعد العاملين له بما أمرهم به ، كما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : «إنّ الدّعاءَ هُوَ العِبَادَة » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جويبر ، عن الأعمش ، عن ذرّ ، عن سَبيْع الحضرمي ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ الدّعاءَ هُوَ العِبَادةُ » ، ثم قرأ : { وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الّذِينَ يَسْتَكُبِرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرين . }
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن دعاء الله إنما هو عبادته ومسألته بالعمل له والطاعة وبنحو الذي قلنا في ذلك ذكر أن الحسن كان يقول .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني منصور بن هارون ، عن عبد الله بن المبارك ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن أنه قال فيها : { ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ }قال : اعملوا وأبشروا فإنه حق على الله أن يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله .
والوجه الاَخر : أن يكون معناه : أجيب دعوة الداع إذا دعان إن شئت . فيكون ذلك وإن كان عاما مخرجه في التلاوة خاصا معناه .
{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } أي فقل لهم إني قريب ، وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم ، روي : أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت { أجيب دعوة الداع إذا دعان } تقرير للقرب . ووعد للداعي بالإجابة . { فليستجيبوا لي } إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم { وليؤمنوا بي } أمر بالثبات والمداومة عليه { لعلهم يرشدون } راجين إصابة الرشد وهو إصابة الحق . وقرئ بفتح الشين وكسرها . واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة ، وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر ، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم ، مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ، ثم بين أحكام الصوم فقال :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }( 186 )
وقوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني } الآية ، قال الحسن بن أبي الحسن : سببها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه( {[1709]} ) ؟ فنزلت ، وقال عطاء : لما نزلت { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم }( {[1710]} ) [ غافر : 60 ] قال قوم في أي ساعة ندعو ؟ فنزلت { وإذا سألك عبادي عني } ، وقال مجاهد : بل قالوا إلى أين ندعو فنزلت هذه الآية ، وقال قتادة بل قالوا : كيف ندعو ؟ فنزلت { وإذا سألك عبادي } ، روي أن المشركين قالوا لما نزل { فإني قريب } : كيف يكون قريباً وبيننا وبينه على قولك سبع سماوات في غلظ سمك كل واحدة خمسمائة عام وفيما بين كل سماء مثل ذلك ؟ فنزلت : { أجيب دعوة الداعي إذا دعان } أي فإني قريب بالإجابة والقدرة ، وقال قوم : المعنى أجيب إن شئت( {[1711]} ) ، وقال قوم : إن الله تعالى يجيب كل الدعاء : فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا ، وإما أن يكفر عنه ، وإما أن يدخر له أجر في الآخرة ، وهذا بحسب حديث الموطأ : «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث » ، الحديث( {[1712]} ) ، وهذا إذا كان الدعاء على ما يجب دون اعتداء ، فإن الاعتداء في الدعاء ممنوع ، قال الله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين }( {[1713]} ) [ الأعراف : 55 ] قال المفسرون : أي في الدعاء .
والوصف بمجاب الدعوة : وصف بحسن النظر والبعد عن الاعتداء ، والتوفيق من الله تعالى إلى الدعاء في مقدور . وانظر أن أفضل البشر المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم قد دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم ، الحديث( {[1714]} ) ، فمنعها ، إذ كان القدر قد سبق بغير ذلك .
وقوله تعالى : { فليستجيبوا } قال ابو رجاء الخراساني : «معناه فليدعوا لي » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : المعنى فليطلبوا أن أجيبهم ، وهذا هو باب استفعل ، أي طلب الشيء ، إلا ما شذ ، مثل ، استغنى الله ، وقال مجاهد وغيره : المعنى فليجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان ، أي بالطاعة والعمل( {[1715]} ) ، ويقال : أجاب واستجاب بمعنى ، ومنه قول الشاعر( {[1716]} ) : [ الطويل ]
وداع يا من يجيب إلى النّدا . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه ، وقوله تعالى : { وليؤمنوا بي } ، قال أبو رجاء : في أني أجيب دعاءهم ، وقال غيره : بل ذلك دعاء إلى الإيمان بجملته( {[1717]} ) . وقرأ الجمهور { يَرشُدون } بفتح الياء وضم الشين . وقرأ قوم بضم الياء وفتح الشين . وروي عن ابن أبي عبلة وأبي حيوة فتح الياء وكسر الشين باختلاف عنهما قرآ هذه القرءة والتي قبلها( {[1718]} ) .