69- ثم هداها - سبحانه - للأكل من كل ثمرات الشجر والنبات ، وسهَّل لها أن تسلك لذلك طرقاً هيأها لها ربها مذللة سهلة ، فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ، إن في ذلك الصنع العجيب لأدلة قوية على وجود صانع قادر حكيم ، ينتفع بها قوم يستعملون عقولهم بالتأمل فيفوزون بالسعادة الدائمة{[114]} .
قوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } ، ليس معنى الكل العموم ، وهو كقوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } [ النمل – 23 ] . { فاسلكي سبل ربك ذللاً } . قيل : هي نعت الطرق ، يقول : هي مذللة للنحل سهلة المسالك . قال مجاهد : لا يتوعر عليها مكان سلكته . وقال آخرون : الذلل نعت النحل ، أي : مطيعة منقادة بالتسخير . يقال : إن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان ، ولها يعسوب إذا وقف وقفت ، وإذا سار سارت . { يخرج من بطونها شراب } ، يعني : العسل { مختلف ألوانه } ، أبيض وأحمر وأصفر . { فيه شفاء للناس } ، أي : في العسل . وقال مجاهد : أي في القرآن ، والأول أولى .
أنبأنا إسماعيل بن عبد القاهر ، حدثنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن مثنى ، أنبأنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسقه عسلاً ، فسقاه ثم جاء فقال : إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث مرات ، ثم جاء الرابعة فقال : اسقه عسلاً ، قال : قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرأ " . قال ابن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور . وروي عنه أنه قال : عليكم بالشفاءين : القرآن والعسل . { إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون } ، فيعتبرون .
{ 68 - 69 } { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
في خلق هذه النحلة الصغيرة ، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة ، ويسر لها المراعي ، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها ،وهدايته لها ، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ ، مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها ، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة . فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى ، وتمام لطفه بعباده ، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه .
والنص على أن العسل فيه شفاء للناس قد شرحه بعض المختصين في الطب . شرحا فنيا . وهو ثابت بمجرد نص القرآن عليه . وهكذا يجب أن يعتقد المسلم استنادا إلى الحق الكلي الثابت في كتاب الله ؛ كما أثر عن رسول الله .
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله [ ص ] فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال له رسول الله [ ص ] : " اسقه عسلا " فسقاه عسلا . ثم جاء فقال : يا رسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . قال : " اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقا . فقال رسول الله [ ص ] " صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا فبرى ء .
ويروعنا في هذا الأثر يقين الرسول [ ص ] أمام ما بدا واقعا عمليا من استطلاق بطن الرجل كلما سقاه أخوه . وقد انتهى هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية . وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل حقيقة وردت في كتاب الله . مهما بدا في ظاهر الأمر أن ما يسمى الواقع يخالفها . فهي أصدق من ذلك الواقع الظاهري ، الذي ينثني في النهاية ليصدقها . .
ونقف هنا أمام ظاهرة التناسق في عرض هذه النعم : إنزال الماء من السماء . وإخراج اللبن من بين فرث ودم . واستخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب . والعسل من بطون النحل . . إنها كلها أشربة تخرج من أجسام مخالفة لها في شكلها . ولما كان الجو جو أشربة فقد عرض من الأنعام لبنها وحده في هذا المجال تنسيقا لمفردات المشهد كله . وسنرى في الدرس التالي أنه عرض من الأنعام جلودها وأصوافها وأوبارها لأن الجو هناك جو أكنان وبيوت وسرابيل فناسب أن يعرض من الأنعام جانبها الذي يتناسق مع مفردات المشهد . . وذلك أفق من آفاق التناسق الفني في القرآن .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم كلي أيتها النحل من الثمرات ، فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ، يقول : فاسلكي طرق ربك ذُلُلاً ، يقول : مُذَلّلَةً لك ، والذّلُل : جمع ذَلُول .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ، قال : لا يتوعّر عليها مكان سلكته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ، قال : طُرُقا ذُلُلا ، قال : لا يتوعّر عليها مكان سلكته .
وعلى هذا التأويل الذي تأوّله مجاهد ، الذلل من نعت السبل .
والتأويل على قوله : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ، الذّلُل لك : لا يتوعر عليكِ سبيل سلكتيه ، ثم أسقطت الألف واللام ، فنصب على الحال .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً : أي مطيعة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ذُلُلاً قال : مطيعة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً قال : الذلول : الذي يُقاد ويُذهب به حيث أراد صاحبه ، قال : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ، ويذهبون وهي تتبعهم . وقرأ : أوَلمْ يَرَوْا أنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعاما فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ وَذلّلْناها لَهُمْ . . . . الاَية .
فعلى هذا القول ، الذّلُل من نعت النحل ، وكلا القولين غير بعيد من الصواب في الصحة وجهان مخرجان ، غير أنا اخترنا أن يكون نعتا للسّبل ؛ لأنها إليها أقرب .
وقوله : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ ، يقول تعالى ذكره : يخرج من بطون النحل شراب ، وهو العسل ، مختلف ألوانه ؛ لأن فيها أبيض وأحمر وأسحر وغير ذلك من الألوان .
قال أبو جعفر : «أسحر » : ألوان مختلفة ، مثل أبيض يضرب إلى الحمرة .
وقوله : فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله : فِيهِ ، فقال بعضهم : عادت على القرآن ، وهو المراد بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن ليث ، عن مجاهد : فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ قال : في القرآن شفاء .
وقال آخرون : بل أريد بها العسل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، ففيه شفاء كما قال الله تعالى من الأدواء ، وقد كان ينهي عن تفريق النحل وعن قتلها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر أن أخاه اشتكى بطنه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلاً » ثم جاءه فقال : ما زاده إلا شدة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلاً ، فَقَدْ صَدَقَ اللّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ » فسقاه ، فكأنما نُشِط من عِقال .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : شفاءان : العسل شفاء من كلّ داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، العسل .
وهذا القول ، أعني قول قتادة ، أولى بتأويل الآية ؛ لأن قوله : فِيهِ ، في سياق الخبر عن العسل ، فأن تكون الهاء من ذكر العسل ، إذ كانت في سياق الخبر عنه أولى من غيره .
وقوله : إنّ فِي ذلكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ ، يقول تعالى ذكره : إن في إخراج الله من بطون هذه النحل : الشراب المختلف ، الذي هو شفاء للناس ، لدلالة وحجة واضحة على من سخّر النحل وهداها لأكل الثمرات التي تأكل ، واتخاذها البيوت التي تنحت من الجبال والشجر والعروش ، وأخرج من بطونها ما أخرج من الشفاء للناس ، أنه الواحد الذي ليس كمثله شيء ، وأنه لا ينبغي أن يكون له شريك ولا تصحّ الألوهة إلا له .
وقوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } الآية ، المعنى : ثم ألهمها أن كلي ، فعطف { كلي } على { اتخذي } ، و { من } ، للتبعيض ، أي : كلي جزءاً ، أو شيئاً من كل الثمرات ، وذلك أنها إنما تأكل النوار من أشجار ، و «السبل » ، الطرق : وهي مسالكها في الطيران وغيرها ، وأضافها إلى : «الرب » من حيث هي ملكه وخلقه التي يسر لك ربك ، وقوله : { ذللاً } ، يحتمل أن يكون حالاً من { النخل } ، أي : مطيعة منقادة لما يسرت له ، قاله قتادة ، وقال ابن زيد : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون ، وهي تتبعهم ، وقرأ { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون }{[7363]} [ يس : 71-72 ] ، ويحتمل أن يكون حالاً من «السبل » ، أي : مسهلة مستقيمة ، قال مجاهد : لا يتوعر عليها سبيل تسلكه ، ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة ، أمر العسل في قوله : { يخرج من بطونها } ، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل ، وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة ، وأشرف شرابه رجيع نحلة ، فظاهر هذا أنه من غير الفم ، و «اختلاف الألوان » في العسل ، بحسب اختلاف النحل والمراعي ، وقد يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي ، ومن هذا المعنى : قول زينب للنبي صلى الله عليه وسلم : جرست نحْلُهُ العرفطَ حين شبهت رائحته برائحة المغافير{[7364]} ، وقوله : { فيه شفاء للناس } ، الضمير للعسل ، قاله الجمهور : ولا يقتضي العموم في كل علة ، وفي كل إنسان ، بل هو خبر عن أنه يشفي ، كما يشفي غيره من الأدوية في بعض دون بعض ، وعلى حال دون حال ، ففائدة الآية : إخبار منبه منه في أنه دواء ، كما كثر الشفاء به ، وصار خليطاً ومعيناً للأدوية في الأشربة والمعاجين ، وقد روي عن ابن عمر ، أنه كان لا يشكو شيئاً إلا تداوى بالعسل ، حتى إنه يدهن به الدمل والضرحة ، ويقرأ : { فيه شفاء للناس } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يقتضي أنه يرى الشفاء به على العموم ، وقال مجاهد : الضمير للقرآن ، أي : فيه شفاء ، وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية إنما يراد بها : أهل البيت ورجال بني هاشم ، وأنهم النحل ، وأن الشراب القرآن والحكمة ، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي : فقال له رَجل ممن حضر : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم ، فأضحك الحاضرين ، وبُهت الآخر ، وظهرت سخافة قوله ، وباقي الآية بين .