المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

تشتمل هذه السورة الكريمة على إحدى وعشرة آية ومائة ، وهي سورة مكية إلا الآيات 26 ، 32 ، 33 ، 57 ، ومن آية إلى 80 ، فمجوع الآيات المدنية اثنتا عشرة آية .

ابتدأت السورة بتسبيح الله تعالى ، ثم ذكرت الإسراء ، ثم رسالة موسى ، وما كان من بني إسرائيل . ثم أشارت إلى منزلة القرآن الكريم في الهداية ، وإلى الآيات الكونية في الليل والنهار ، وما يكون للناس يوم القيامة من جزاء على ما يقدمون من أعمال في الدنيا . وبين سبحانه أسباب فساد الأمم ، وحال الأفراد في مساعيهم ونتائج أعمالهم في الآخرة ، وجاءت الآيات من بعد ذلك بإكرام الوالدين ، وحال الناس بالنسبة لأموالهم ، وجاءت بأوامر عشرة . فيها بناء المجتمع الفاضل ، ثم رد سبحانه مفتريات المشركين بالنسبة للملائكة ، ثم بين القرآن تصريفه في الحجج .

ثم أشار سبحانه إلى ما يستحق من تحميد ، وإلى جحود المشركين ، وقدم سبحانه وصايا للمؤمنين ، وبين معاملته تعالى للكافرين في الدنيا وفي الآخرة . ثم بين سبحانه أصل الخليقة الإنسانية والشيطانية ، وهدد سبحانه المشركين بآياته ، وبين بعد هذا سبحانه الكرامة الإنسانية ، وذكر سبحانه بعذاب يوم القيامة ، ثم ذكر محاولة المشركين لصرف النبي عن دعوته ، وتثبيت الله تعالى له ، وقد أوصى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك النبي بعدة وصايا هادية ، وأدعية ضارعة ، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى منزلة القرآن الكريم ، وتكلم سبحانه عن الروح ، وأشار إلى أسرارها ، ثم ذكر سبحانه قدرته على أن يأتي بآيات أخرى ، ثم بين منزلة القرآن فيما اشتمل عليه من الحق ، وحال المؤمنين الصادقين في إيمانهم ، وما ينبغي من أن يحمدوا الله دائما ويكبروه .

1- تنزيهاً لله عما لا يليق به ، وهو الذي سار بعبده محمداً في جزء من الليل من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس ، الذي بارك الله حوله لسكانه في أقواتهم ، لِنُريَه من أدلتنا ما فيه البرهان الكافي على وحدانيتنا وعظم قدرتنا ، إن الله - وحده - هو السميع البصير .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

مكية . وآياتها إحدى عشرة ومائة .

قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } سبحان الله : تنزيه الله تعالى من كل سوء ، ووصفه بالبراءة من كل نقص على طريق المبالغة ، وتكون سبحان بمعنى التعجب ، { أسرى بعبده } أي : سيره ، وكذلك سرى به ، والعبد هو : محمد صلى الله عليه وسلم . { من المسجد الحرام } ، قيل : كان الإسراء من مسجد مكة . روى قتادة عن أنس عن مالك ابن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " ، فذكر حديث المعراج . وقال قوم : عرج به من دار أم هانئ بنت أبي طالب ، ومعنى قوله : { من المسجد الحرام } أي : من الحرم . قال مقاتل : كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة . ويقال : كان في رجب . وقيل : كان في شهر رمضان { إلى المسجد الأقصى } ، يعني : بيت المقدس ، وسمي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار . وقيل : لبعده من المسجد الحرام { الذي باركنا حوله } ، بالأنهار والأشجار والثمار . وقال مجاهد : سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي ، ومنه يحشر الناس يوم القيامة { لنريه من آياتنا } من عجائب قدرتنا ، وقد رأى هناك الأنبياء والآيات الكبرى { إنه هو السميع البصير } ذكر السميع ، لينبه على أنه المجيب لدعائه ، وذكر البصير ، لينبه على أنه الحافظ له في ظلمة الليل . وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول : ما فقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أسرى بروحه ، والأكثرون على أنه بجسده في اليقظة ، وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك .

أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو حامد أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا همام بن يحيى ، حدثنا قتادة قال البخاري : وقال لي خليفة العصفري : حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد بن هشام . قال : حدثنا قتادة ، حدثنا أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، حدثهم عن ليلة أسري به ، حدثنا قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : حدثنا .

وأخبرنا أبو سعيد إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد الفارسي ، أنبأنا أبو الحسين محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : -دخل حديث بعضهم في بعض- قال أبو ذر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فرج عني سقف بيتي ، وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري ، ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً ، فأفرغه في صدري ، ثم أطبقه " . وقال مالك بن صعصعة : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : " بينما أنا في الحطيم ، وربما قال في الحجر ، بين النائم واليقظان ، وذكر بين رجلين ، فأتيت بطست من ذهب مملوء حكمة وإيماناً فشق من النحر إلى مراق البطن ، واستخرج قلبي فغسل ثم حشي ، ثم أعيد " . وقال سعيد وهشام : ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمةً ، ثم أوتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل ، فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ، فركبته فانطلقت مع جبريل حتى أتيت بيت المقدس ، قال : فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ، قال : ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل : اخترت الفطرة ، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح ، قيل من هذا ؟ قال : جبريل : قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح الباب ، فلما خلصت ، فإذا فيها آدم ، فقال لي : هذا أبوك آدم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح . وفي حديث أبي ذر : علونا السماء الدنيا ، فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة ، إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال : مرحباً بالنبي الصالح ، والابن الصالح . قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة التي عن يمينه وشماله نسم بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى . ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت ، إذا بيحيى وعيسى ، عليهما السلام ، وهما ابنا خالة ، قال : هذا يحيى وعيسى ، فسلم عليهما ، فسلمت فردا ، ثم قالا : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قال : ومن معك ؟ قال محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت ، فإذا يوسف ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، قال : هذا يوسف فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد علي ، ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح ، والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت فإذا إدريس ، قال هذا إدريس فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي والصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا هارون ، قال : هذا هارون فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح ، والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ، فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا موسى ، قال : هذا موسى فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ، فلما جاوزت بكى قيل له : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي . ثم صعد بي إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، قيل : من هذا ؟ قال جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا إبراهيم ، قال : هذا أبوك إبراهيم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالنبي الصالح ، والابن الصالح ، فرفع لي البيت المعمور ، فسألت جبريل ؟ فقال : هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم . وقال ثابت عن أنس : فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور ، إذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، قال : فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، في أصلها أربعة أنهار : نهران باطنان ، ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذان يا جبريل ؟ فقال : أما الباطنان ، فنهران في الجنة ، وأما الظاهرات فالنيل والفرات . وأوحى إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاةً في كل يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم ، قال : فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف على أمتي ، فحط عني خمساً ، فرجعت إلى موسى فقلت : حط عني خمسة ، قال : إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال : يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر ، هي خمس وهي خمسون ، لا يبدل القول لدي ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة . قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . فقلت : سألت ربي حتى استحييت ولكني أرضى وأسلم ، قال : فلما جاوزت نادى مناد : أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك . قال ابن شهاب : فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري ، كانا يقولان : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوىً فيه صريف الأقلام " . قال ابن حزم وأنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ففرض الله على أمتي خمسين صلاة " . وروى معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم : " أتي بالبراق ليلة أسري به ملجماً مسرجاً ، فاستصعب عليه ، فقال جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، فارفض عرقاً " . وقال ابن بريده عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه ، فخرق بها الحجر وشد بها البراق " .

أنبأنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني محمود ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليلة أسري بي لقيت موسى ، قال : فنعته ، فإذا هو رجل- حسبته قال : مضطرب - رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة . قال : ولقيت عيسى ، فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ربعة ، أحمر ، كأنما خرج من ديماس ، يعني : الحمام ، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به ، قال : وأتيت بإناءين : أحدهما لبن ، والآخر فيه خمر ، فقيل له : خذ أيهما شئت ، فأخذت اللبن فشربته ، فقيل لي : هديت الفطرة و أصبت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر لغوت أمتك " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ، قال : هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس . قال : والشجرة الملعونة في القرآن قال : هي شجرة الزقوم .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني سليمان ، عن شريك بن عبد الله قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر ، قبل أن يوحى إليه ، وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال : أوسطهم هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه ، أوتنام عينه ، ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ، ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلموه حتى احتملوه ووضعوه عند بئر زمزم ، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده . وساق حديث المعراج بقصته . فقال : وإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان ، قال : هذا النيل والفرات ، عنصرهما واحد ، ثم مضى به في السماء الثانية ، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر ، قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك . وساق الحديث ، وقال : ثم عرج بي إلى السماء السابعة ، وقال : قال موسى : رب لم أظن أن ترفع علي أحداً ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعمله إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إليه فيما يوحى إليه الله خمسين صلاة كل يوم وليلة ، وقال : فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ، ثم احتبسه موسى عند الخمس ، فقال : يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا عنه وتركوه ، فأمتك أضعف قلوباً وأجساداً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً ، فارجع فليخفف عنك ربك ، كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ، ولا يكره ذلك جبريل ، فرفعه عند الخامسة ، فقال : يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفف عنا ، فقال الجبار : يا محمد ، قال : لبيك وسعديك ، قال : إنه لا يبدل القول لدي ، كما فرضت عليك في أم الكتاب ، فكل حسنة بعشر أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب ، وهي خمس عليك ، فقال موسى : ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه ، قال : فاهبط بسم الله . فاستيقظ وهو في المسجد الحرام . وروى مسلم هذا الحديث مختصراً عن هارون بن سعيد الإيلي ، عن ابن وهب ، عن سليمان ابن بلال . قال شيخنا الإمام رضي الله عنه : قد قال بعض أهل الحديث ما وجدنا لمحمد بن إسماعيل و لمسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلا هذا ، وأحال الأمر فيه إلى شريك بن عبد الله ، وذلك أنه ذكر فيه أن ذلك قبل أن يوحى إليه ، واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة قبل الهجرة بسنة . وفيه أيضاً : أن الجبار دنا فتدلى . وذكرت عائشة أن الذي دنا فتدلى جبريل عليه السلام . قال شيخنا الإمام رضي الله عنه : وهذا الاعتراض عندي لا يصح ، لأن هذا كان رؤيا في النوم ، أراه الله عز وجل قبل الوحي ، بدليل آخر الحديث : قال فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ، ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي قبل الهجرة بسنة تحقيقاً لرؤياه من قبل ، كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ، ثم كان تحقيقه سنة ثمان ونزل قوله عز وجل : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح – 27 ] وروي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وكان بذي طوى قال : يا جبريل إن قومي لا يصدقوني ، قال : يصدقك أبو بكر وهو الصديق . قال ابن عباس ، وعائشة ، رضي الله عنهم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما كانت ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي ، فروي أنه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً ، فمر به أبو جهل فجلس إليه فقال له كالمستهزئ : هل استفدت من شيء ؟ قال : نعم إني أسري بي الليلة قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس ، قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ، قال : نعم ، فلم ير أبو جهل أنه ينكر ، مخافة أن يجحده الحديث ، قال : أتحدث قومك ما حدثتني ؟ قال : نعم ، قال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا ، قال : فانفضت إليه المجالس فجاؤوا حتى جلسوا إليهما ، قال : فحدث قومك ما حدثتني قال : نعم إني أسري بي الليلة ، قالوا إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس ، قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم ، قال : فمن بين مصفق ، ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً ، وارتد ناس ممن كان آمن به وصدقه ، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال : هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس ، قال : أو قد قال ذلك ؟ قال : نعم ، قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : وتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم ، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة ، فلذلك سمي أبو بكر الصديق . قال : وفي القوم من قد أتى المسجد الأقصى ، فقالوا : هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ قال : نعم ، قال : ذهبت أنعت وأنعت ، فمازلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت ، قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد ، وأنا أنظر إليه ، فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب ، ثم قالوا : يا محمد أخبرنا عن عيرنا هي أهم إلينا ، فهل لقيت منها شيئاً ؟ قال : نعم مررت على عير بني فلان ، وهي بالروحاء ، وقد أضلوا بعيرا لهم ، وهم في طلبه ، وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته فشربته ، ثم وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه ؟ قالوا : هذه آية ، قال : ومررت بعير بني فلان ، وفلان وفلان راكبان قعوداً لهما بذي طوى ، فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان ، فانكسرت يده ، فسلوهما عن ذلك ، قالوا : وهذه آية . قالوا : فأخبرنا عن عيرنا نحن متى تجيء ؟ قال : مررت بها بالتنعيم ، قالوا : فما عدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها ؟ فقال : نعم ، هيئتها كذا وكذا ، وفيها فلان وفلان ، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان ، تطلع عليكم عند طلوع الشمس ، قالوا وهذه آية . ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون : والله لقد قص محمد شيئا وبينه حتى أتوا كدىً ، فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه ، إذ قال قائل منهم : والله هذه الشمس قد طلعت ، وقال آخر : وهذه والله الإبل قد طلعت ، يقدمها بعير أورق ، فيها فلان وفلان ، كما قال لهم ، فلم يؤمنوا ، { وقالوا إن هذا إلا سحر مبين } .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا حجر بن المثنى ، أنبأنا عبد العزيز وهو ابن أبي سلمة - عن عبد الله بن الفضل ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيتني في الحجر ، وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربت كرباً ما كربت مثله قط ، قال : فرفعه الله لي أنظر إليه ، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، ولقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلي ، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى قائم يصلي ، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي ، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فجاءت الصلاة فأممتهم ، فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل : يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه . فالتفت إليه فبدأني بالسلام " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }

ينزه تعالى نفسه المقدسة ويعظمها لأن له الأفعال العظيمة والمنن الجسيمة التي من جملتها أن { أَسْرَى بِعَبْدِهِ } ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } الذي هو أجل المساجد على الإطلاق { إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } الذي هو من المساجد الفاضلة وهو محل الأنبياء .

فأسري به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدا ورجع في ليلته ، وأراه الله من آياته ما ازداد به هدى وبصيرة وثباتا وفرقانا ، وهذا من اعتنائه تعالى به ولطفه حيث يسره لليسرى في جميع أموره وخوله نعما فاق بها الأولين والآخرين ، وظاهر الآية أن الإسراء كان في أول الليل وأنه من نفس المسجد الحرام ، لكن ثبت في الصحيح أنه أسري به من بيت أم هانئ ، فعلى هذا تكون الفضيلة في المسجد الحرام لسائر الحرم ، فكله تضاعف فيه العبادة كتضاعفها في نفس المسجد ، وأن الإسراء بروحه وجسده معا وإلا لم يكن في ذلك آية كبرى ومنقبة عظيمة .

وقد تكاثرت الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء ، وذكر تفاصيل ما رأى وأنه أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به من هناك إلى السماوات حتى وصل إلى ما فوق السماوات العلى ورأى الجنة والنار ، والأنبياء على مراتبهم وفرض عليه الصلوات خمسين ، ثم ما زال يراجع ربه بإشارة موسى الكليم حتى صارت خمسا بالفعل ، وخمسين بالأجر والثواب ، وحاز من المفاخر تلك الليلة هو وأمته ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل .

وذكره هنا وفي مقام الإنزال للقرآن ومقام التحدي بصفة العبودية لأنه نال هذه المقامات الكبار بتكميله لعبودية ربه .

وقوله : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } أي : بكثرة الأشجار والأنهار والخصب الدائم .

ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة ، وأنه يطلب شد الرحل إليه للعبادة والصلاة فيه وأن الله اختصه محلا لكثير من أنبيائه وأصفيائه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة

هذه السورة - سورة الإسراء - مكية ، وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده ؛ وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة ؛ وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ؛ إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء . وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان .

ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه في مكة . وهو القرآن الذي جاء به ، وطبيعة هذا القرآن ، وما يهدي إليه ، واستقبال القوم له . واستطرادا بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل ، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها . وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي ، والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع . . كل ذلك بعد أن يعذر الله - سبحانه - إلى الناس ، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل ) وكل شيء فصلناه تفصيلا ) .

ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه . ففي مطلعها : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . . )وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح )إنه كان عبدا شكورا ) . . وعند ذكر دعاوي المشركين عن الآلهة يعقب بقوله : )سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن : )ويقولون : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) . . وتختم السورة بالآية )وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ، ولم يكن لهشريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا ) .

في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا ، يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة .

يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء : )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله )مع الكشف عن حكمة الإسراء )لنريه من آياتنا ) . . وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل ، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين ، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة )وإن عدتم عدنا ) . . ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم ، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته . ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال ، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك .

ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد ، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه ، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه .

ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله ، وعن البعث واستبعادهم لوقوعه ، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول [ ص ] ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر ، ويتكلموا بالتي هي أحسن .

وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا [ ص ] بالخوارق فقد كذب بها الأولون ، فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله ؛ كما يتناول موقف المشركين من إنذارهم لله في رؤيا الرسول [ ص ] وتكذيبهم وطغيانهم . ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس ، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين . ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله ، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان ، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم : فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .

ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول [ ص ] ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم . ويأمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته ، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل ، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين ، بينما الإنسان قليل العلم )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) .

ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه . بينما هم يطلبون خوارق مادية ، ويطلبون نزول الملائكة ، ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب ، يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه . . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة ، لا طلب الهدى والاقتناع . ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة ، ويكل الأمر إلى الله . ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوها خوفا من الإنفاق ! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله ، وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلىإيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض ، فأخذهم الله بالعذاب والنكال .

وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه . القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته ، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية . والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود . ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل . كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه .

وقصة الإسراء - ومعها قصة المعراج - إذ كانتا في ليلة واحدة - الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس . والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى ، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا . . هذه القصة جاءت فيها روايات شتى ؛ وثار حولها جدل كثير . ولا يزال إلى اليوم يثور .

وقد اختلف في المكان الذي أسرى منه ، فقيل هو المسجد الحرام بعينه - وهو الظاهر - وروى عن النبي [ ص ] " بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " . وقيل : أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد .

وروى أنه كان نائما في بيت أم هانيء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانى ء وقال : " مثل لي النبيون فصليت بهم " ثم قام ليخرج إلى المسجد ، فتشبثت أم هانى ء بثوبه ، فقال : " مالك ? " قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم . قال : " وإن كذبوني " . فخرج فجلس إليه أبو جهل ، فأخبره رسول الله [ ص ] بحديث الإسراء فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم . فحدثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ؛ وارتد ناس ممن كان آمن به ؛ وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال : أوقال ذلك ? قالوا نعم . قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ? قال : نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء ! فسمي الصديق . وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد ، فجلى له ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب . فقالوا : أخبرنا عن عيرنا . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ؛ وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت . فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق ، كما قال محمد . . ثم لم يؤمنوا ! . . وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس .

واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : والله ما فقد جسد رسول الله [ ص ] ولكن عرج بروحه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها . وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه ، وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه .

والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله [ ص ] ترك فراشه في بيت أم هانى ء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد .

على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول [ ص ] والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم ، وبين أن تكونرؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة . . المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ؛ ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول [ ص ] عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة . . والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعية شيئا . فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة ، حسب ما اعتاده وما رآه . والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله . أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد ، أو عالم بعيد ؛ والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه . وقد صدق أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول : إني لأصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخير السماء !

ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول [ ص ] لم يسمع لتخوف أم هانى ء - رضي الله عنها - من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة . فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به ، والحق الذي وقع له جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه . وقد ارتد بعضهم فعلا ، واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك . ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول [ ص ] عن الجهر بالحق الذي آمن به . . وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس ، ولا يتملقون به القوم ، ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان ، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال .

كذلك يلاحظ أن الرسول [ ص ] لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته ، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق - وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل - ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق ، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة ، المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها . فلم يكن جهر الرسول [ ص ] بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته . إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة :

والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) . .

تبدأ السورة بتسبيح الله ، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف ، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء .

وتذكر صفة العبودية : ( أسرى بعبده ) لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر ؛ وذلك كي لا تنسى هذه الصفة ، ولا يلتبس مقام العبودية ، بمقام الألوهية ، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام ، بسبب ما لابس مولده ووفاته ، وبسبب الآيات التي أعطيت له ، فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة ، من قريب أو من بعيد .

والإسراء من السرى : السير ليلا . فكلم ( أسرى ) تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكنالسياق ينص على الليل ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) للتظليل والتصوير - على طريقة القرآن الكريم - فيلقي ظل الليل الساكن ، ويخيم جوه الساجي على النفس ، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .

والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، إلى محمد خاتم النبيين [ ص ] وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعا . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ؛ وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .

ووصف المسجد الأقصى بأنه ( الذي باركنا حوله ) وصف يرسم البركة حافة بالمسجد ، فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل : باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .

والإسراء آية صاحبتها آيات : ( لنريه من آياتنا ) والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التى لم يبرد فيها فراش الرسول [ ص ] أيا كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله ، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود ؛ وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري ، والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس ، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه ، وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . ( إنه هو السميع البصير ) . . يسمع ويرى كل ما لطف ودق ، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .

والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا إلى صيغة التقرير من الله : ( لنريه من آياتنا ) إلى صيغة الوصف لله : ( إنه هو السميع البصير ) وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس . فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه . وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصا . والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية . وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

بِسمِ اللّهِ الرحمَن الرّحِيمِ .

القول في تأويل قوله تعالى :

{ سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ } .

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : يعني تعالى ذكره بقوله تعالى : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بعَبْدِه لَيْلاً تنزيها للذي أسرى بعبده وتبرئة له مما يقول فيه المشركون من أنّ له من خلقه شريكا ، وأن له صاحبة وولدا ، وعاوّا له وتعظيما عما أضافوه إليه ، ونسبوه من جهالاتهم وخطأ أقوالهم .

وقد بيّنت فيما مضى قبل ، أن قوله سبحان اسم وُضع موضع المصدر ، فنصب لوقوعه موقعه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد كان بعضهم يقول : نصب لأنه غير موصوف ، وللعرب في التسبيح أماكن تستعمله فيها . فمنها الصلاة ، كان كثير من أهل التأويل يتأوّلون قول الله : فَلَوْلا أنّهُ كانَ مِنَ المُسَبّحِينَ : فلولا أنه كان من المصلين . ومنها الاستثناء ، كان بعضهم يتأول قول الله تعالى : ألَمْ أقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبّحُونَ : لولا تستثنون ، وزعم أن ذلك لغة لبعض أهل اليمن ، ويستشهد لصحة تأويله ذلك بقوله : إذْ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ قال : قَال أوْسَطُهمْ ألَم أقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحونَ فذكرهم تركهم الاستثناء . ومنها النور ، وكان بعضهم يتأوّل في الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْلا ذلكَ لاَءَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما أدْرَكَتْ مِنْ شَيْء » أنه عنى بقوله : سبحات وجهه : نور وجهه .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن عثمان بن موهب ، عن موسى بن طلحة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن التسبيح أن يقول الإنسان : سُبْحانَ الله ، قال : «إنْزَاهُ اللّهِ عَنِ السّوءِ » .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن الحسن بن صالح ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : سبحان الله : قال : إنكاف لله . وقد ذكرنا من الاَثار في ذلك ما فيه الكفاية فيما مضى من كتابنا هذا قبل . والإسراء والسّرى : سير الليل . فمن قال : أَسْرى ، قال : يُسري إسراء ومن قال : سرى ، قال : يَسري سُرَىً ، كما قال الشاعر :

ولَيْلَةٍ ذَاتِ دُجّى سَرَيْتُ *** ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُراها لَيْتُ

ويروى : ذات ندى سَريْت .

ويعني بقوله : لَيْلاً من الليل . وكذلك كان حُذيفة بن اليمان يقرؤها .

حدثنا أبو كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش ورجل يحدّث عنده بحديث حين أُسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : لا تجيء بمثل عاصم ولا زر ، قال : قرأ حُذيفة : «سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللّيْلِ منَ المَسجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى » وكذا قرأ عبد الله .

وأما قوله : مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فإنه اختُلف فيه وفي معناه ، فقال بعضهم : يعني من الحرم ، وقال : الحرم كله مسجد . وقد بيّنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا . وقال : وقد ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ليلة أُسري به إلى المسجد الأقصى كان نائما في بيت أمّ هانىء ابنة أبي طالب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن السائب ، عن أبي صالح بن باذام عن أمّ هانىء بنت أبي طالب ، في مسرى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنها كانت تقول : ما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة ، فصلى العشاء الاَخرة ، ثم نام ونمنا ، فلما كان قُبَيل الفجر ، أهبّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى الصبح وصلينا معه قال : «يا أُمّ هانِىءٍ لَقَدْ صَلّيْتُ مَعَكُمُ العِشاءَ الاَخِرَةِ كمَا رأيْتِ بهَذَا الوَادِي ، ثُمّ جِئْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ فَصَلّيْتُ فِيهِ ، ثُمّ صَلّيْتُ صَلاةَ الغَدَاةِ مَعَكُمُ الاَنَ كمَا تَرَيْنَ » .

وقال آخرون : بل أُسرى به من المسجد ، وفيه كان حين أسرى به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن عدي ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة ، وهو رجل من قومه قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «بَيْنا أنا عِنْدَ البَيْتِ بينَ النائمِ واليَقْظانِ ، إذْ سَمِعْتُ قائلاً يَقُولُ ، أحَدُ الثلاثَةِ ، فأتِيتُ بطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيها مِنْ ماءِ زَمْزَمَ ، فَشَرَحَ صَدْرِي إلى كَذَا وكَذَا » قال قتادة : قلت : ما يعني به ؟ قال : إلى أسفل بطنه قال : «فاسْتَخْرَجَ قَلْبِي فغُسلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمّ أُعِيدَ مَكانَهُ ، ثُمّ حُشِيَ إيمَانا وَحِكْمَةً ، ثُمّ أتِيتُ بِدَابّةٍ أبْيَض » ، وفي رواية أخرى : «بِدَابّة بَيْضَاءَ يُقالُ لَهُ البُرَاقُ ، فَوْقَ الحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ ، يَقَعُ خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ ، فحُمِلْتُ عَلَيْهِ ، ثُمّ انْطَلَقْنا حتى أتَيْنا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ فَصَلّيْتُ فِيِه بالنّبِيّينَ والمُرْسَلِينَ إماما ، ثُمّ عُرِجَ بِي إلى السّماءِ الدّنْيا » . . . فذكر الحديث .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك ، يعني ابن صعصعة رجل من قومه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة رجل من قومه ، قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال محمد بن إسحاق : ثني عمرو بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَيْنا أنا نائمٌ في الحِجْرِ جاءَنِي جبْرِيلُ فَهَمَزَني بِقَدمِهِ ، فجَلَسْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئا ، فَعُدْتُ لِمَضْجَعي ، فجاءَنِي الثّانِيَةَ فَهَمَزَنِي بقَدَمِهِ ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئا ، فَعُدْتُ لِمَضْجَعي ، فجاءَني الثّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بقَدَمِهِ ، فَجَلَسْتُ ، فَأخَذَ بعَضُدِي فَقُمْتُ مَعَهُ ، فخَرَجَ بِي إلى بابِ المَسْجدِ ، فإذَا دَابّةٌ بَيْضَاءُ بينَ الحِمارِ والبَغْلِ ، لَهُ فِي فَخِذَيْهِ جَناحان يَحْفِزُ بِهما رِجْلَيْهِ ، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفهِ ، فحَمَلَني عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ مَعي ، لا يَفُوتُني وَلا أفُوتُهُ » .

حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن سليمان بن بلال ، عن شريك بن أبي نمر ، قال : سمعت أنسا يحدثنا عن ليلة المسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أوّلهم : أيهم هو ؟ قال أوسطهم : هو خيرهم ، فقال أحدهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى جاءوا ليلة أخرى فيما يرى قلبه والنبيّ صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ، ولا ينام قلبه . وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ، ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبرئيل عليه السلام ، فشقّ ما بين نحره إلى لبّته ، حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم حتى أنقى جوفه ، ثم أُتي بطست من ذهب فيه تَوْرٌ محشوّ إيمانا وحكمة ، فحشا به جوفه وصدره ولغاديده ، ثم أطبقه ثم ركب البراق ، فسار حتى أتى به إلى بيت المقدس فصلى فيه بالنّبيين والمرسلين إماما ، ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب بابا من أبوابها ، فناداه أهل السماء : من هذا ؟ قال : هذا جبرائيل ، قيل : من معك ؟ قال : محمد ، قيل : أَوَ قَد بُعث إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحبا به وأهلاً ، فيستبشر به أهل السماء ، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله بأهل الأرض حتى يُعلمهم ، فوجد في السماء الدنيا آدم ، فقال له جبرائيل : هذا أبوك ، فسلّم عليه ، فردّ عليه ، فقال : مرحبا بك وأهلاً يا بني ، فنعم الابن أنت ، ثم مضى به إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها ، فقيل : من هذا ؟ فقال : جبرئيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قد أُرسل إليه ، فقيل : مرحبا به وأهلاً ، ففُتح لهما فلما صعد فيها فإذا هو بنهرين يجريان ، فقال : ما هذان النهران يا جبرائيل ؟ قال : هذا النيل والفرات عنصرهما ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرئيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : أَوَ قَد بُعث إليه ؟ قال : نعم قد بُعث إليه ، قيل : مرحبا به وأهلاً ، ففُتح له فإذا هو بنهر عليه قباب وقصور من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ، وغير ذلك مما لا يعلمه إلاّ الله ، فذهب يشمّ ترابه ، فإذا هو مسك أذفر ، فقال : يا جبرائيل ما هذا النهر ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك في الاَخرة ثم عرج به إلى الرابعة ، فقالوا به مثل ذلك ثم عرج به إلى الخامسة ، فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السادسة ، فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السابعة ، فقالوا له مثل ذلك ، وكلّ سماه فيها أنبياء قد سماهم أنس ، فوعيت منهم إدريس في الثانية ، وهارون في الرابعة ، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه ، وإبراهيم في السادسة ، وموسى في السابعة بتفضيل كلامه الله ، فقال موسى : رب لم أظنّ أن يرفع عليّ أحد ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلاّ الله ، حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا باب الجبّار ربّ العزّة ، فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما شاء ، وأوحى الله فيما أوحى خمسين صلاة على أمته كل يوم وليلة ، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه ، فقال : يا محمد ماذا عهد إليك ربك ؟ قال : «عهد إليّ خمسين صلاة على أمتي كل يوم وليلة » قال : إن أمتك لا تستطيع ذلك ، فارجع فليخفف عنك وعنهم ، فالتفتّ إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار إليه أن نعم ، فعاد به جبرائيل حتى أتى الجبّارَ عزّ وجلّ وهو مكانه ، فقال : «ربّ خفف عنا ، فإن أمتي لا تستطيع هذا » ، فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى عليه السلام فاحتبسه ، فلم يزل يردّده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ، ثم احتبسه عند الخمس ، فقال : يا محمد قد والله راودتُ بني إسرائيل على أدنى من هذه الخمس ، فضعفوا وتركوه ، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبصارا وأسماعا ، فارجع فليخفف عنك ربك ، كلّ ذلك يلتفت إلى جبرئيل ليشير عليه ، ولا يكره ذلك جبرئيل ، فرفعه عند الخمس ، فقال : «يا ربّ إن أمتي ضعاف أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ، فخفف عنا » ، قال الجبّار جلّ جلاله : يا محمد ، قال : «لبّيك وسعديك » ، فقال : إني لا يُبدّل القول لديّ كما كتبت عليك في أمّ الكتاب ، ولك بكلّ حسنة عشر أمثالها ، وهي خمسون في أمّ الكتاب ، وهي خمس عليك فرجع إلى موسى ، فقال : كيف فعلت ؟ فقال : «خفّف عني ، أعطانا بكلّ حسنة عشر أمثالها » ، قال : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من هذا فتركوه فارجع فليخفف عنك أيضا ، قال : «يا موسى قد والله استحييت من ربي مما أختلف إليه » ، قال : فاهبط باسم الله ، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أخبر أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام ، والمسجد الحرام هو الذي يتعارفه الناس بينهم إذا ذكروه ، وقوله : إلى المَسْجِدِ الأقْصَى يعني : مسجد بيت المقدس ، وقيل له : الأقصى ، لأنه أبعد المساجد التي تزار ، ويُبتَغى في زيارته الفضل بعد المسجد الحرام . فتأويل الكلام تنزيها لله ، وتبرئة له مما نحله المشركون من الإشراك والأنداد والصاحبة ، وما يجلّ عنه جلّ جلاله ، الذي سار بعبده ليلاً من بيته الحرام إلى بيته الأقصى .

ثم اختلف أهل العلم في صفة إسراء الله تبارك وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فقال بعضهم : أسرى الله بجسده ، فسار به ليلاً على البُراق من بيته الحرام إلى بيته الأقصى حتى أتاه ، فأراه ما شاء أن يريه من عجائب أمره وعبره وعظيم سُلطانه ، فجمعت له به الأنبياء ، فصلى بهم هُنالك ، وعَرج به إلى السماء حتى صعد به فوق السموات السبع ، وأوحى إليه هنالك ما شاء أن يوحي ثم رجع إلى المسجد الحرام من ليلته ، فصلى به صلاة الصبح . ذكر من قال ذلك ، وذكر بعض الروايات التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيحه :

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسري به على البُراق ، وهي دابّة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام ، يقع حافرها موضع طرفها ، قال : فمرّت بعير من عيرات قريش بواد من تلك الأودية ، فنفرت العير ، وفيها بعير عليه غرارتان : سوداء ، وزرقاء ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيلياء فأتى بقدحين : قدح خمر ، وقدح لبن ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدح اللبن ، فقال له جبرئيل : هُديت إلى الفطرة ، لو أخذت قدح الخمر غوت أمتك . قال ابن شهاب : فأخبرني ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي هناك إبراهيم وعيسى ، فنعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «فأمّا مُوسَى فَضَرْبٌ رَجْلُ الرأسِ كأنّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ ، وأمّا عِيسَى فَرَجْلٌ أحْمَرُ كأنّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ ، فأشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودِ الثّقَفِيّ وأمّا إبْرَاهِيمُ فأنا أشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ » فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حدّث قريشا أنه أُسري به . قال عبد الله : فارتدّ ناس كثير بعد ما أسلموا ، قال أبو سلمة : فأتى أبو بكر الصدّيق ، فقيل له : هل لك في صاحبك ، يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة واحدة ، قال أبو بكر : أَوَ قال ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : فأشهد إن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أفتشهد أنه جاء الشام في ليلة واحدة ؟ قال : إني أصدّقه بأبعد من ذلك ، أصدّقه بخبر السماء . قال أبو سلمة : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لَمّا كَذّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فَمَثّلَ اللّهُ لي بَيْتَ المَقْدِسِ ، فَطَفِقُت أُخْبرُهُمْ عَنْ آياتِه وأنا أنْظُرُ إلَيْهِ » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن أنس بن مالك ، قال : لما جاء جبرائيل عليه السلام بالبراق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنها ضربت بذنبها ، فقال لها جبرئيل : مه يا براق ، فوالله إن ركبك مثله فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بعجوز ناء عن الطريق : أي على جنب الطريق .

قال أو جعفر : ينبغي أن يقال : نائية ، ولكن أسقط منها التأنيث .

فقال : «ما هذه يا جبرائيل ؟ » قال : سر يا محمد ، فسار ما شاء الله أن يسير ، فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول : هلمّ يا محمد ، قال جبرائيل : سر يا محمد ، فسار ما شاء الله أن يسير قال : ثم لقيه خلق من الخلائق ، فقال أحدهم : السلام عليك يا أوّل ، والسلام عليك يا آخر ، والسلام عليك يا حاشر ، فقال له جبرائيل : اردد السلام يا محمد ، قال : فردّ السلام ثم لقيه الثاني ، فقال له مثل مقالة الأوّلين حتى انتهى إلى بيت المقدس ، فعرض عليه الماء واللبن والخمر ، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن ، فقال له جبرائيل : أصبت يا محمد الفطرة ، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك ، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك . ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء ، فأمّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، ثم قال له جبرائيل : أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق ، فلم يبق من الدنيا إلاّ بقدر ما بقي من عمر تلك العجوز ، وأما الذي أراد أن تميل إليه ، فذاك عدوّ الله إبليس ، أراد أن تميل إليه وأما الذين سلّموا عليك ، فذاك إبراهيم وموسى وعيسى .

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره شك أبو جعفر في قول الله عزّ وجلّ : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنّهُ هُوَ السّميع البَصِيرُ قال : جاء جبرائيل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل ، فقال جبرائيل لميكائيل : ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه ، وأشرح له صدره ، قال : فشقّ عن بطنه ، فغسله ثلاث مرّات ، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم ، فشرح صدره ، ونزع ما كان فيه من غلّ ، وملأه حلما وعلما وإيمانا ويقينا وإسلاما ، وختم بين كتفيه بخاتم النبوّة ، ثم أتاه بفرس فحمل عليه كلّ خطوة منه منتهى طرفه وأقصى بصره . قال : فسار وسار معه جبرائيل عليه السلام ، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم ، كلما حصدوا عاد كما كان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا جبْرائيلُ ما هَذَا ؟ » قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله ، تُضاعف لهم الحسنة بسبع مئة ضعف ، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ثم أتى على قوم تُرضخ رؤوسهم بالصخر ، كلما رضخت عادت كما كانت ، لا يفتر عنهم من ذلك شيء ، فقال : «ما هؤلاء يا جَبرائِيل ؟ » قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع ، وعلى أدبارهم رقاع ، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ، ويأكلون الضريع والزقّوم ورضف جهنم وحجارتها ، قال : «ما هَؤُلاء يا جَبْرِائيلُ ؟ » قال : هؤلاء الذين لا يؤدّون صدقات أموالهم ، وما ظلمهم الله شيئا ، وما الله بظلام للعبيد ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور ، ولحم آخر نيء قذر خبيث ، فجعلوا يأكلون من النيء ، ويدعَون النضيج الطيّب ، فقال : «ما هَؤُلاء يا جَبْرَئِيلُ ؟ » قال : هذا الرجل من أمتك ، تكون عنده المرأة الحلال الطيّب ، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح ، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيبا ، فتأتي رجلاً خبيثا ، فتبيت معه حتى تصبح . قال : ثم أتى على خشبة في الطريق لا يمرّ بها ثوب إلاّ شقّته ، ولا شيء إلاّ خرقته ، قال : «ما هَذَا يا جَبْرَئِيلُ ؟ » قال : هذا مثَل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه . ثم قرأ : وَلا تَقْعُدُوا بِكُلّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدّونَ . . . الاَية . ثم أتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها ، وهو يزيد عليها ، فقال : «ما هذا يا جَبْرائِيلُ ؟ » قال : هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ، وهو يزيد عليها ، ويريد أن يحملها ، فلا يستطيع ذلك ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد ، كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء ، قال : «ما هؤلاء يا جَبْرَئِيلُ ؟ » فقال : هؤلاء خطباء أمتك خطباء الفتنة يقولون ما لا يفعلون ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم ، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع ، فقال : «ما هَذَا يا جَبْرَئِيلُ ؟ » قال : هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ، ثم يندم عليها ، فلا يستطيع أن يردّها ثم أتى على واد ، فوجد ريحا طيبة باردة ، وفيه ريح المسك ، وسمع صوتا ، فقال : «يا جَبْرائِيلُ ما هَذِهِ الرّيحُ الطّيّبَةُ البارِدَةُ وَهذِهِ الرّائحَةُ الّتي كَرِيحِ المسْكِ ، وَما هَذَا الصّوْتُ ؟ » قال : هذا صوت الجنة تقول : يا ربّ آتني ما وعدتني ، فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ، ولؤلؤي ومرجاني ، وفضتي وذهبي ، وأكوابي وصحافي وأباريقي ، وفواكهي ونخلي ورماني ، ولبني وخمري ، فآتني ما وعدتني ، فقال : لكِ كلّ مسلم ومسلمة ، ومؤمن ومؤمنة ، ومن آمن بي وبرسلي ، وعمل صالحا ولم يُشرك بي ، ولم يتخذ من دوني أندادا ، ومن خشيني فهو آمن ، ومن سألني أعطيته ، ومن أقرضني جزيته ، ومن توكّل عليّ كفيته ، إني أنا الله لا إله إلاّ أنا لا أخلف الميعاد ، وقد أفلح المؤمنون ، وتبارك الله أحسن الخالقين ، قالت : قد رضيت ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا ، ووجد ريحا منتنة ، فقال : «ما هَذِهِ الرّيحُ يا جَبْرَئيلُ وَما هَذَا الصّوْتُ ؟ » قال : هذا صوت جهنم ، تقول : يا ربّ آتني ما وعدتني ، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي ، وسعيري وجحيمي ، وضريعي وغسّاقي ، وعذابي وعقابي ، وقد بعُد قعري واشتدّ حرّي ، فآتني ما وعدتني ، قال : لك كلّ مشرك ومشركة ، وكافر وكافرة ، وكلّ خبيث وخبيثة ، وكلّ جبّار لا يؤمن بيوم الحساب ، قالت : قد رضيت قال : ثم سار حتى أتى بيت المقدس ، فنزل فربط فرسه إلى صخرة ، ثم دخل فصلى مع الملائكة فلما قُضيت الصلاة . قالوا : يا جبرئيل من هذا معك ؟ قال : محمد ، فقالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء قال : ثم لقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم ، فقال إبراهيم : الحمد لله الذي اتخذني خليلاً وأعطاني ملكا عظيما ، وجعلني أمّة قانتا لله يؤتمّ بي ، وأنقذني من النار ، وجعلها عليّ بردا وسلاما ثم إن موسى أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي كلّمني تكليما ، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي ، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحقّ وبه يعدلون ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلّمني الزّبور ، وألان لي الحديد ، وسخّر لي الجبال يسبحن والطير ، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب ثم إن سليمان أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي سخّر لي الرياح ، وسخّر لي الشياطين ، يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب ، وقدور راسيات ، وعلّمني منطق الطير ، وآتاني من كلّ شيء فضلاً ، وسخّر لي جنود الشياطين والإنس والطير ، وفضّلني على كثير من عباده المؤمنين ، وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي ، وجعل ملكي ملكا طيبا ليس عليّ فيه حساب ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له : كن فيكون ، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير ، فأنفخ فيه ، فيكون طيرا بإذن الله ، وجعلني أبرىء الأكنه والأبرص ، وأحيي الموتى بإذن الله ، ورفعني وطهرني ، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان علينا سبيل قال : ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه ، فقال : «كُلّكُمْ أثْنَى عَلى رَبّهِ ، وأنا مُثْنٍ عَلى رَبّي » ، فقال : «الحَمْدُ لِلّهِ الذِي أرْسَلَنِي رَحْمَةً للعالَمِينَ ، وكافةً للناس بَشِيرا وَنَذِيرا ، وأنْزَلَ عَليّ الفُرقَانَ فِيه تِبْيانُ كُلّ شَيْءٍ ، وَجَعَلَ أُمّتي خَيْرَ أُمةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ ، وَجَعَلَ أُمّتِي وَسَطا ، وَجَعَلَ أُمّتِي هُمُ الأوّلُونَ وَهُمُ الاَخِرُونَ ، وَشَرَحَ لي صَدْري ، وَوَضَعَ عَني وِزْرِي وَرَفَعَ لي ذِكْرِي ، وَجَعَلَني فاتحا خاتِما » قال إبراهيم : بهذا فضلكم محمد . قال : أبو جعفر : وهو الرازي : خاتم النبوّة ، وفاتح بالشفاعة يوم القيامة ثم أتى إليه بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها ، فأتى بإناء منها فيه ماء ، فقيل : اشرب ، فشرب منه يسيرا ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن ، فقيل له : اشرب ، فشرب منه حتى روى ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر ، فقيل له : اشرب ، فقال : «لا أريده قد رويت » فقال له جبرئيل صلى الله عليه وسلم : أما إنها سَتُحَرّم على أمتك ، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلاّ القليل ، ثم عَرَج به إلى سماء الدنيا ، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قيل : ومن معك ؟ فقال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ، قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء فدخل فإذا هو برجل تامّ الخلق لم ينقص من خلقه شيء ، كما ينقص من خلق الناس ، على يمينه باب يخرج منه ريح طيبة ، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة ، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر ، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن ، فقلت : «يا جَبْرَئِيلَ مَنْ هَذَا الشّيْخُ التّامُ الخَلْقِ الّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ ، وَما هَذَانِ البابانِ ؟ » قال : هذا أبوك آدم ، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة ، إذا نظر إلى من يدخله من ذرّيته ضحك واستبشر ، والباب الذي عن شماله باب جهنم ، إذا نظر إلى من يدخله من ذرّيته بكى وحزن ثم صعد به جبرئيل صلى الله عليه وسلم إلى السماء الثانية فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد رسول الله ، فقالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فإذا هو بشابين ، فقال : «يا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَذَانِ الشابّانِ ؟ » قال : هذا عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا ابنا الخالة ، قال : فصعد به إلى السماء الثالثة ، فاستفتح ، فقالوا : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل فإذا هو برجل قد فَضَل على الناس كلهم في الحُسن ، كما فُضّل القمرُ ليلة البدر على سائر الكواكب ، قال : «مَنْ هَذَا يا جِبْرائِيلُ الّذِي فَضَلَ على النّاسِ في الحُسْنِ ؟ » قال : هذا أخوك يوسف ثم صعد به إلى السماء الرابعة ، فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء قال : فدخل ، فإذا هو برجل ، قال : «مَنْ هَذَا يا جَبْرَئيلُ ؟ » قال : هذا إدريس رفعه الله مكانا عليّا . ثم صعد به إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبرائيل ، فقالوا : من هذا ؟ فقال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ثم دخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقصّ عليهم ، قال : «مَنْ هَذَا يا جَبْرَئِيلُ وَمَنْ هَؤُلاءِ الّذِينَ حَوْلَهُ ؟ » قال : هذا هارون المحبب في قومه ، وهؤلاء بنو إسرائيل ثم صعد به إلى السماء السادسة ، فاستفتح جبرائيل ، فقيل له : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء فإذا هو برجل جالس ، فجاوزه ، فبكى الرجل ، فقال : «يا جَبْرائِيلُ مَنْ هَذَا ؟ » قال : موسى ، قال : «فَمَا بالُهُ يَبْكي ؟ » قال : تزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله ، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا ، وأنا في أخرى ، فلو أنه بنفسه لم أبال ، ولكن مع كلّ نبيّ أمته ثم صَعَد به إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبرائيل ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي ، وعنده قوم جلوسٍ بيض الوجوه ، أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ، ثم دخلوا نهرا آخر ، فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلو فيه ، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ، فصارت مثل ألوان أصحابهم ، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم ، فقال : «يا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَذَا الأشْمَطُ ، ثُمّ مَنْ هَؤُلاءِ البِيضُ وُجُوهُهُمْ ، وَمَنْ هَؤُلاءِ الّذِينَ في ألْوَانِهِمْ شَيْءٌ ، وَما هَذِهِ الأنهَارُ الّتي دَخَلُوا ، فَجَاءُوا وَقَدْ صَفَتْ ألْوَانُهُمْ ؟ » قال : هذا أبوك إبراهيم أوّل من شَمِط على الأرض ، وأما هؤلاء البيض الوجوه : فقوم لم يُلْبِسوا إيمانهم بظلم ، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، فقوم خلطوا عملاً صالحا وآخر شيئا ، فتابوا ، فتاب الله عليهم ، وأما الأنهار : فأولها رحمة الله ، وثانيها : نعمة الله ، والثالث : سقاهم ربهم شرابا طهورا قال : ثم انتهى إلى السّدرة ، فقيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كلّ أحد خلا من أمتك على سنتك ، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفّى ، وهي شجرة يسير الراكب في ظلّها سبعين عاما لا يقطعها ، والورقة منها مغطية للأمة كلها ، قال : فغشيها نور الخلاّق عزّ وجلّ ، وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة ، قال : فكلمه عند ذلك ، فقال له : سل ، فقال : «اتخذتَ إبراهيم خليلاً ، وأعطيته مُلكا عظيما ، وكلمت موسى تكليما ، وأعطيت داود ملكا عظيما ، وألنت له الحديد ، وسخرت له الجبال ، وأعطيت سليمان ملكا عظيما ، وسخرت له الجنّ والإنس والشياطين ، وسخرت له الرياح ، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وعلّمت عيسى التوراة والإنجيل ، وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل » . فقال له ربه : قد اتخذتك حبيبا وخليلاً ، وهو مكتوب في التوراة : حبيب الله وأرسلتك إلى الناس كافّة بشيرا ونذيرا ، وشرحت لك صدرك ، ووضعت عنك وزرك ، ورفعت لك ذكرك ، فلا أذكر إلاّ ذكرت معي ، وجعلت أمتك أمة وسطا ، وجعلت أمتك هم الأوّلون والاَخرون ، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة ، حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم ، وجعلتك أوّل النّبيين خَلْقا ، وآخرهم بَعْثا ، وأوّلَهم يُقْضَى له ، وأعطيتك سبعا من المثاني ، لم يُعطها نبيّ قبلك ، وأعطيتك الكوثر ، وأعطيتك ثمانية أسهم الإسلام والهجرة ، والجهاد ، والصدقة ، والصلاة ، وصوم رمضان ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وجعلتك فاتحا وخاتما ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فضّلَنِي رَبّي بسِتّ : أعْطانِي فَوَاتِحَ الكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ ، وَجَوَامِعَ الحَدِيثِ ، وأرْسَلَنِي إلى النّاسِ كافّةً بَشِيرا وَنَذِيرا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِ عَدُوّي الرُعْبَ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ ، وأُحِلّتْ ليَ الغَنائمُ ولَمْ تَحِلّ لأَحَدٍ قَبْلِي ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ كُلّها طَهُورا وَمَسْجِدا ، قال : وَفَرَضَ عَليّ خَمْسِينَ صَلاةٍ » فلما رجع إلى موسى ، قال : بِم أُمرت يا محمد ، قال : «بخَمْسِينَ صَلاةً » ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التّخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، فقد لقيت من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، ثم رجع إلى موسى ، فقال : بكم أُمرت ؟ قال : «بأرْبَعِينَ » ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيتُ من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع إلى ربه ، فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى ، فقال : بكم أُمرت ؟ قال : «أُمِرْتُ بِثَلاثِينَ » ، فقال له موسى : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى فقال : بكم أمرت ؟ قال : «بعشرين » ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى ، فقال : لكم أمرت ؟ قال : قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع على حياء إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه خمسا ، فرجع إلى موسى ، فقال : بكم أمرت ؟ قال : «بخمس » ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيتُ من بني إسرائيل شدّة ، قال : «قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبّي حتى اسْتَحْيَيْت فَمَا أنا رَاجِعٌ إلَيْهِ » ، فقيل له : أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات فإنهنّ يجزين عنك خمسين صلاة ، فإن كلّ حسنة بعشر أمثالها ، قال : فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كلّ الرضا ، فكان موسى أشدّهم عليه حين مرّ به ، وخيرهم له حين رجع إليه .

حدثني محمد بن عبيد الله ، قال : أخبرنا أبو النضر هاشم بن القاسم ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أو غيره شكّ أبو جعفر عن أبي هريرة في قوله : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِه . . . إلى قوله : إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ قال : جاء جبرائيل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو حديث عليّ بن سهل ، عن حجاج ، إلا أنه قال : جاء جبرائيل ومعه مكائيل ، وقال فيه : وإذا بقوم يسرحون كما تسرح الأنعام يأكلون الضريع والزقوم ، وقال في كل موضع قال عليّ : «ما هؤلاء » ، «من هؤلاء يا جبرئيل » ، وقال في موضع «تقرض ألسنتهم » «تقص ألسنتهم » ، وقال أيضا في موضع قال عليّ فيه : «ونعم الخليفة » . قال في ذكر الخمر ، فقال : «لا أريده قد رويت » ، قال جبرئيل : قد أصبت الفطرة يا محمد ، إنها ستحرم على أمتك ، وقال في سدرة المنتهى أيضا : هذه السدرة المنتهى ، إليها ينتهي كلّ أحد خلا على سبيلك من أمتك وقال أيضا في الورقة منها : «تظلّ الخلق كلهم ، تغشاها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجرة ، من حُبّ الله عزّ وجلّ » وسائر الحديث مثل حديث عليّ .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، قال : أخبرنا أبو هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، واللفظ لحديث الحسن بن يحيى ، في قوله : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِد الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى قال : حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة أُسري به فقال نبيّ الله : «أُتِيتُ بِدَابّةٍ هِيَ أشْبَهُ الدّوَابّ بالبَغْلِ ، لَهُ أذُنانِ مُضْطَرِبَتان وَهُوَ البُرَاقُ ، وَهُوَ الّذِي كانَ تَرْكَبُهُ الأنْبِياءُ قَبْلِي ، فَرَكِبْتُهُ ، فانْطَلَقَ بِي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ ، فَسَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي : يا مُحَمّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أعَرّجْ عَلَيْهِ ثُمّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ شِمالي : يا مُحَمّدُ عَلى رِسُلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ وَلمْ أعَرّجْ عَلَيْهِ ثُمّ اسْتَقْبَلْتُ امْرأةً فِي الطّرِيقِ ، فَرأيْتُ عَلَيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدّنيْا رَافِعَةً يَدَها ، تَقُولُ : يا مُحَمّدُ على رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضْيتُ وَلَمْ أعَرّجْ عَلَيْها ، ثُمّ أتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ ، أوْ قالَ المَسْجِدَ الأقْصَى ، فَنَزَلْتُ عَنِ الدّابَةِ فَأوْثْقْتُها بالحَلْقَةِ التي كانَنِ الأنْبِياءُ تُوثِقُ بِها ، ثُمّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَصَلّيْتُ فِيهِ ، فقالَ لِي جَبْرَئِيل : ماذَا رأيْتَ فِي وَجْهِكَ ، فَقُلْتُ : سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي أنْ يا مُحَمّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أعَرّجْ عَلَيْهِ ، قالَ : ذَاكَ داعِيَ اليَهُودِ ، أمَا لَوَ أنّكَ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتهَوّدَتْ أُمّتُكَ ، قال : ثُمّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَسارِي أنْ يا مُحَمّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أعَرّجْ عَلَيْهِ ، قال : ذَاكَ داعي النّصَارَى ، أمَا إنّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصّرَتْ أُمّتُكَ ، قُلْتُ : ثُمّ استْقَبَلَتَنِي امْرأةٌ عَلَيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدّنيْا رَافِعَةً يَدَها تَقُولُ عَلى رِسْلِكَ ، أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرّجْ عَلَيْها ، قال : تِلْكَ الدّنيْا تَزَيّنَتْ لَكَ ، أمَا إنّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْها لاخْتارَتْ أُمّتُكَ الدّنْيا على الاَخِرَةِ ، ثُمّ أُتِيتُ بإناءَيْنِ أحَدُهُما فِيهِ لَبنٌ ، والاَخَرُ فِيهِ خَمْرٌ ، فَقِيلَ لِي : اشْرَبْ أيّهُما شِئْتَ ، فَأخَذْتُ اللّبَنَ فَشَرِبْتُهُ ، قال : أصَبْتَ الفِطْرَةَ أوْ قالَ : أخَذْتَ الفِطْرَةَ » .

قال معمر : وأخبرني الزهري ، عن ابن المسيب أنه قيل له : أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك .

قال أبو هارون في حديث أبي سعيد : «ثُمّ جِيءَ بالمِعْرَاجِ الّذِي تَعْرُجُ فِيهِ أرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فإذَا هُوَ أحْسَنُ ما رأيْتُ ألَمْ تَرَ إلى المَيّتِ كَيْفَ يُحِدّ بَصَرَهُ إلَيْهِ فَعُرِجَ بِنا فِيهِ حتى انْتَهَيْنا إلى بابِ السّماءِ الدّنيْا ، فاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ ، فَقيلَ مَنْ هَذا ؟ قال : جَبْرَئِيلُ ؟ قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قال : مُحَمّدٌ ، قِيلَ : أوَ قَدْ أُرْسِلَ إلَيْهِ ؟ قال : نَعَمْ ، فَفَتَحُوا وَسَلّمُوا عَلَيّ ، وَإذَا مَلَكٌ مُوَكّلٌ يَحْرُسُ السّماءَ يُقال لَهُ إسْماعِيلُ ، مَعَهُ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ مَعَ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ مِئَةُ ألْفٍ ، ثم قرأ : وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ وَإذَا أنا بِرَجُلٍ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَهُ اللّهُ لَمْ يَتَغَيّرْ مِنْهُ شَيْءٌ ، فإذَا هُوَ تُعْرَض عَلَيْهِ أرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ ، فإذَا كانَتْ رُوح مُؤْمِنٍ ، قالَ : رُوحٌ طَيّبَةٌ ، وَرِيحٌ طَيّبَةٌ ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِي عِلّيِينَ وَإذَا كانَ رُوحَ كافِرٍ قالَ : رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَرِيحٌ خَبِيثَةٌ ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِي سِجيّلٍ ، فَقُلْتُ : يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا ؟ قال : أبُوكَ آدَمُ ، فَسَلّمَ عَليّ وَرَحّبَ بِي وَدَعا لِي بِخَيرٍ وَقال : مَرْحَبا بالنّبِيّ الصّالِحِ والوَلَدِ الصّالِحِ ، ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بقَوْمٍ لَهُمْ مَشافِرُ كمَشافِرِ الإبلِ ، وَقَدْ وُكّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ ، ثُمّ يُجْعَلُ في أفْوَاهِهِمْ صَخْرا مِنْ نارٍ يَخْرُجُ مِنْ أسافِلِهِمْ ، قُلْتُ : يا جَبرْئِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ ؟ قال : هَؤُلاءِ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْما . ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بَقَوْمٍ يُحْذَي مِنْ جُلُودِهِمْ ويُرَدّ فِي أفْوَاهِهِمْ ، ثُمّ يُقال : كُلُوا كمَا أكَلْتُمْ ، فإذَا أكْرَهُ ما خَلَقَ اللّهُ لَهُمْ ذلكَ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَائِيلُ ؟ قال : هَؤُلاءِ الهَمّازُونَ اللّمازُونَ الذِينَ يأكُلُونَ لُحُومَ النّاسِ ، وَيَقَعُونَ فِي أعْرَاضِهِمْ بالسّبّ ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بِقَوْمٍ عَلى مائِدَةٍ عَلَيْها لَحْمٌ مَشْوِيّ كأحْسَنِ ما رأيْتُ مِنَ اللحْمِ ، وَإذَا حَوْلَهُمْ جِيَفٌ ، فَجعلُوا يَمِيلُونَ عَلى الجِيفِ يَأكُلُونَ مِنْها وَيَدَعُونَ ذلكَ اللحْمَ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤلاءِ يا جَبْرَائِيَلُ ؟ قالَ : هَؤُلاءِ الزّناةُ عَمَدُوا إلى مَا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ، وَتَرَكُوا ما أحَلّ اللّهُ لَهُمْ ثمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بِقَوْمٍ لَهُمْ بُطونٌ كأنّها البُيُوتُ وَهِيَ على سابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ ، فإذَا مَرّ بِهِمْ آلُ فِرْعَوْنَ ثارُوا ، فَيَمِيلُ بأحَدِهِمْ بَطْنُهُ فَيَقَعُ ، فَيَتَوَطئُوهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ بأرْجُلِهِمْ ، وَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلى النارِ غُدُوّا وَعَشِيّا قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاء يا جَبْرَائِيلُ ؟ قال : هَؤُلاءِ أكَلَةُ الرّبا ، رَبا فِي بُطُونِهِمْ ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطانُ مِن المَسّ ثُمّ نَظَرْتُ ، فإذَا أنا بِنِساءٍ مُعَلّقاتٍ بِثُدُيّهِنّ ، وَنِساءٌ مُنَكّساتٌ بأرْجُلِهِنّ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يا جِبْرَئِيلُ ؟ قال : هنّ اللاتي يَزْنِينَ وَيَقْتُلْنَ أوْلادَهُنّ قالَ : ثُمّ صَعَدْنا إلى السّماءِ الثّانِيَةِ ، فإذَا أنا بِيُوسُف وحَوْلهُ تَبَعٌ مِنْ أُمّتِهِ ، وَوَجْهُهُ كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ ، فَسَلّمَ عَليّ وَرَحّبَ بِي ، ثُمّ مَضَيْنا إلى السّماءِ الثّالِثَةِ ، فإذا أنا بابْنِيَ الخالَةِ يَحيَى وَعِيَسى ، يُشْبِهُ أحَدُهُما صَاحِبَهُ ، ثِيابُهما وَشَعْرُهُما ، فَسَلّما عَليّ ، وَرَحبّابِي ثُمّ مَضَيْنَا إلى السّماءِ الرّابِعَةِ ، فإذا أنا بإدْرِيَس ، فَسَلّمَ عَليّ وَرَحّب وَقَدْ قالَ اللّهُ : وَرَفَعْناه مَكانا عَلِيّا ثُمّ مَضَيْنا إلى السّماءِ الخامِسَةِ ، فإذَا أنا بِهارُونَ المُحَبّبِ فِي قَوْمِهِ ، حَوْلَهُ تَبَعٌ كَثِيرٌ مِنْ أُمّتِهِ » فَوَصَفَهُ النّبِي صلى الله عليه وسلم : «طَوِيلُ اللّحْيَةِ تَكادُ لِحْيَتُهُ تَمَسّ سُرّتَهُ ، فَسلّمَ عليّ وَرَحَبَ ثُمّ مَضَيْنا إلى السّماءِ السّادِسَةِ فإذَا أنا بمُوسَى بْنِ عِمْرانَ » فَوَصَفَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ : «كَثِيرُ الشّعْرِ لَوْ كانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ خَرَجَ شَعْرُهُ مِنْهُمَا قالَ مُوسَى : تَزْعَمُ النّاسُ أنّي أكْرَمُ الخَلْقِ عَلى اللّهِ ، فَهَذَا أكْرَمُ عَلى اللّهِ مِنّي ، وَلَوْ كانَ وَحْدَهُ لَمْ أكُنْ أُبالي ، وَلَكِنْ كُلّ نَبِيّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أُمّتِهِ ثُمّ مَضَيْنا إلى السّماءِ السّابِعَةِ ، فإذَا أنا بإبْرَاهِيمَ وَهُوَ جالِس مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورَ فَسَلّمَ عَليّ وَقال : مَرْحبا بالنّبِيّ الصّالِحِ وَالَوَلَدِ الصّالِحِ ، فَقِيلَ : هذَا مَكانُكَ وَمَكانُ أُمّتِك ، ثُمّ تَلا : إنّ أوْلَى النّاسِ بابْرَاهِيمَ للّذِينَ اتّبَعُوا وَهَذا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا ، وَاللّهُ وَلِيّ المُؤْمِنِينَ ثُمّ دَخَلْتُ البَيْتَ المَعْمُورَ فَصَلّيْتُ فِيهِ ، وَإذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بشَجَرَةٍ إنْ كانَتْ الوَرَقَةُ مِنْها لُمغَطّيَةٌ هَذِهِ الأُمّةَ ، فإذَا فِي أصْلِها عَيْنٌ تَجْرِي قَدْ تَشَعّبَتْ شُعْبَتَيْنِ ، فَقُلْتُ : ما هذَا يا جَبْرَائِيلُ ؟ قال : أمّا هَذَا : فَهُوَ نَهْرُ الرّحْمَةِ ، وأمّا هذَا : فَهُوَ الكَوْثَرُ الذِي أعْطاكَهُ اللّهُ ، فاغْتَسَلْتُ فِي نَهْرِ الرّحمَةِ فَغُفِرَ لِي ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِي وَما تَأخّرَ ، ثُمّ أَخَذْتُ عَلى الكَوْثَرِ حتى دَخَلْتُ الجَنّة ، فإذَا فِيها ما لا عَيْنٌ رأتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمَعَتْ ، وَلا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ ، وَإذَا فِيها رُمّانٌ كأنّهُ جُلُودُ الإبِلِ المُقَتّبَةُ ، وإذَا فِيها طَيْرٌ كأنّها البُخْتُ » فقالَ أبُو بَكْرِ : إنّ تِلكَ الطّيْرَ لَناعِمَةٌ ، قالَ : «أكَلَتْها أنْعَمُ مِنْها يا أبا بَكْرٍ ، وإنّي لأَرْجُو أنْ تَأكُلَ مِنْها ، ورأيْتُ فِيها جارِيَةً ، فَسألْتُها : لَمَنْ أنْتِ ؟ فَقالَتْ : لزَيْدِ بْنِ حارِثَة » فَبَشّرَ بِها رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدا قالَ : «ثُمّ إنّ اللّهَ أمَرَنِي بأمْرِهِ ، وَفَرَض عَليّ خَمْسِينَ صَلاةً ، فَمَرَرْتُ عَلى مُوسَى ، فقالَ : بِمَ أمَرَكَ رَبّكَ ؟ قُلْتُ : فَرَضَ عَليّ خَمْسِينَ صَلاةَ ، قالَ : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فأسألْهُ التّخْفِيفَ ، فإنّ أُمّتَكَ لَنْ يَقُومُوا بِهذَا ، فَرَجَعْتُ إلى رَبّي فَسألْتُهُ فَوَضَعَ عَنّي عَشْرا ، ثُمّ رَجَعْتُ إلى مُوسَى ، فَلَمْ أزَلْ أرْجِعُ إلى رَبّي إذَا مَرَرْتُ بِمُوسَى حتى فَرَض عَلَيّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ ، فَقالَ مُوسَى : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ التّخْفِيفَ ، فَقُلْتُ : قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبّي حتى اسْتَحْيَيْتُ » أوْ قالَ : «قُلْت : ما أنا بِرَاجِعٍ ، فَقيلَ لي : إنّ لَكَ بِهذِهِ الخَمْسِ صَلَوَاتِ خَمْسِينَ صَلاةً ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا ، وَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كُتِبتْ لَهُ حَسَنَة ، وَمَنْ عَمِلَها كُتِبَتْ لَهُ عَشْرا ، وَمَنْ هَمّ بِسيَئَةٍ فَلَم يَعْمَلْها لَمْ تُكْتَبْ شَيْئا ، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ وَاحِدَةً » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني روح بن القاسم ، عن أبي هارون عمارة بن جوين العبدي ، عن أبي سعيد الخدري وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : وثني أبو جعفر ، عن أبي هارون ، عن أبي سعيد ، قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «لَمّا فَرَغْتُ مِمّا كانَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ ، أُتِيَ بالمِعْرَاجِ ، ولَمْ أرَ شَيْئا قَطّ أحْسَنَ مِنْهُ ، وَهُوَ الّذِي يَمُدّ إلَيْهِ مَيّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إذا حَضَرَ ، فَأصْعَدَنِي صَاحِبي فِيهِ حتى انْتَهَى إلى بابٍ مِنَ الأبْوَابِ يُقالُ لَهُ بابُ الحَفَظَةِ ، عَلَيْهِ مَلَكٌ يُقالُ لَهُ إسْماعِيلُ ، تَحْتَ يَدَيهِ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ ، تَحْت يَدَيْ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدّث هذا الحديث : «ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ » ثم ذكر نحو حديث معمر ، عن أبي هارون إلا أنه قال في حديثه : قال : «ثُمّ دَخَلَ بِيَ الجَنّةَ فَرأيْتُ فِيها جارِيَةً ، فسألتُها لِمَنْ أنْتِ ؟ وَقَدْ أعْجَبَتْنِي حينَ رأيْتُها ، فَقالَتْ : لِزَيْدِ بْنِ حارِثَةَ » فبشّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ، ثم انتهى حديث ابن حميد عن سلمة إلى ههنا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لأصحابه ليلة أُسري به إبراهيمَ وموسى وعيسى فقال : «أمّا إبْرَاهِيمُ فَلَمْ أرَ رَجُلاً أشْبَهً بِصَاحِبِكُمْ مِنْهُ . وأمّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمٌ طِوَالٌ جَعْدٌ أقْنَى ، كأنّه مِنْ رِجالِ شُنُوءَةَ . وأمّا عِيسَى فَرجُلٌ أحْمَرُ بينَ القَصِيرِ والطّوِيلِ سَبطُ الشّعْرِ كَثِيرُ خِيلانِ الوَجْهِ ، كأنّه خَرَجَ مِنْ دِيماَسٍ كأنّ رأسَهُ يَقْطُرُ ماءً ، وَما بِهِ ماءٌ ، أشْبَهُ مِنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ولم يقل عن أبي هريرة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِي بالبراق ليلة أُسري به مسرجا ملجما ليركبه ، فاستصعب عليه ، فقال له جبرئيل : ما يحملك على هذا ، فوالله ما ركبك أحد قطّ أكرم على الله منه قال : فارفض عرقا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ أسري بِنَبِيّ الله عشاء من مكة إلى بيت المقدس ، فصلى نبيّ الله فيه ، فأراه الله من آياته وأمره بما شاء ليلة أسري به ، ثم أصبح بمكة . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «حُمِلْتُ عَلى دَابّةٍ يُقالُ لَهَا البُرَاقُ ، فَوْقَ الحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ ، يَضَعُ حافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ » فحدث نبيّ الله بذلك أهل مكة ، فكذب به المشركون وأنكروه وقالوا : يا محمد تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس ، وأقبلت من ليلتك ، ثم أصبحت عندنا بمكة ، فما كنت تجيئنا به ، وتأتي به قبل هذا اليوم مع هذا فصدقه أبو بكر ، فسمّي أبو بكر الصدّيق من أجل ذلك .

حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا سليمان الشيباني ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : لما كان ليلة أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بدابة يقال لها البراق ، دون البغل وفوق الحمار ، تضع حافرها عند منتهى ظفرها فلما أتى بيت المقدس أُتِيَ بإناءين : إناء من لبن ، وإناء من خمر ، فشرب اللبن . قال : فقال له جبرائيل : هديت وهديت أمتك .

وقال آخرون ممن قال : أسرى بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى بنفسه وجسمه أسرى به عليه السلام ، غير أنه لم يدخل بيت المقدس ، ولم يصلّ فيه ، ولم ينزل عن البراق حتى رجع إلى مكة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني عاصم بن بهدلة عن زرّ بن حبيش ، عن حُذيفة بن اليمان ، أنه قال في هذه الاَية : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى قال : لم يصلّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو صلى فيه لكتب عليكم ألصلاة فيه ، كا كتب عليكم الصلاة عند الكعبة .

حدثنا أبو كريب ، قال : سمعا أبا بكر بن عياش ، ورجل يحدّث عنده بحديث حين أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : لا تجِيء بمثل عاصم ولا زرّ قال : قال حُذيفة لزرّ بن حبيش قال : وكان زِرّ رجلاً شريفا من أشراف العرب ، قال : قرأ حُذيفة سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللّيْلِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنّهُ هُوَ السّميعُ البَصِيرُ وكذا قرأ عبد الله ، قال : وهذا كما يقولون : إنه دخل المسجد فصلى فيه ، ثم دخل فربط دابته ، قال : قلت : والله قد دخله ، قال : من أنت فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك ، قال : قلت : زر بن حبيش ، قال : ما عملك هذا ؟ قال : قلت : من قبَل القرآن ، قال : من أخذ بالقرآن أفلح ، قال : فقلت : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ قال : فنظر إليّ فقال : يا أصلع ، هل ترى دخله ؟ قال : قلت : لا والله ، قال حُذيفة : أجل والله الذي لا إله إلا هو ما دخله ، ولو دخله لوجبت عليكم صلاة فيه ، لا والله ما نزل عن البراق حتى رأى الجنة والنار ، وما أعدّ الله في الاَخرة أجمع وقال : تدري ما البراق ؟ قال : دابة دون البغل وفوق الحمار ، خطوه مدّ البصر .

وقال آخرون : بل أسري بروحه ، ولم يسر بجسده . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان ، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد ، قال : ثني بعض آل أبي بكر ، أن عائشة كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أسرى بروحه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال ابن إسحاق : فلم يُنكر ذلك من قولها الحسن أن هذه الاَية نزلت وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ ولقول الله في الخبر عن إبراهيم ، إذ قال لابنه : يا بنيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ فانْظُرْ ماذَا تَرَى ثم مضى على ذلك ، فعرفت أن الوحي يأتي بالأنبياء من الله أيقاظا ونياما ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «تَنامُ عَيْسَى وَقَلْبِي يَقْظانُ » فالله أعلم أيّ ذلك كان قد جاءه ؤعاين فيه من أمر الله ما عاين على أيّ حالاته كان نائما أو يقظانا كلّ ذلك حقّ وصدق .

والصواب من القؤل في ذلك عندنا أن يقال : إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، كما أخبر الله عباده ، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الله حمله على البراق حين أتاه به ، وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل ، فأراه ما أراه من الاَيات ولا معنى لقول من قال : أسرى بروحه دون جسده ، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون ذلك دليلاً على نبوّته ، ولا حجة له على رسالته ، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك ، وكانوا يدفعون به عن صدقه فيه ، إذ لم يكن منكرا عندهم ، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة ، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقلّ ؟ وبعد ، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده ، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده ، وليس جائزا لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره . فإن ظنّ ظانّ أن ذلك جائز ، إذ كانت العرب تفعل ذلك في كلامها ، كما قال قائلهم :

حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عَناقا *** وَما هِيَ وَيْبَ غيرِكِ بالْعَناقِ

يعني : حسبت بغام راحلتي صوت عناق ، فحذف الصوت واكتفى منه بالعناق ، فإن العرب تفعل ذلك فيما كان مفهوما مراد المتكلم منهم به من الكلام . فأما فيما لا دلالة عليه إلا بظهوره ، ولا يوصل إلى معرفة مراد المتكلّم إلا ببيانه ، فإنها لا تحذف ذلك ولا دلالة تدلّ على أن مراد الله من قوله : أسْرَى بِعَبْدِهِ أسرى بروح عبده ، بل الأدلة الواضحة ، والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به على دابة يُقال لها البراق ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق ، إذ كانت الدوابّ لا تحمل إلا الأجسام . إلا أن يقول قائل : إن معنى قولنا : أسرى بروحه : رأى في المنام أنه أسرى بجسده على البراق ، فيكذب حينئذٍ بمعنى الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن جبرئيل حمله على البراق ، لأن ذلك إذا كان مناما على قول قائل هذا القول ، ولم تكن الروح عنده مما تركب الدوابّ ، ولم يحمل على البراق جسم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم على قوله حُمل على البراق لا جسمه ، ولا شيء منه ، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين ، وذلك دفع لظاهر التنزيل ، وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاءت به الاَثار عن الأئمة من الصحابة والتابعين .

وقوله : الّذِي باركْنا حَوْلَهُ يقول تعالى ذكره : الذي جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم . وقوله : لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يقول تعالى ذكره : كي نرى عبدنا محمدا من آياتنا ، يقول : من عبرنا وأدلتنا وحججنا ، وذلك هو ما قد ذكرت في الأخبار التي رويتها آنفا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريه في طريقه إلى بيت المقدس ، وبعد مصيره إليه من عجائب العبر والمواعظ . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ما أراه الله من الاَيات والعبر في طريق بيت المقدس .

وقوله : إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول تعالى ذكره : إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في مسرى محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ، ولغير ذلك من قولهم وقول غيرهم ، البصير بما يعملون من الأعمال ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ولا يعزب عنه علم شيء منه ، بل هو محيط بجميعه علما ، ومحصيه عددا ، وهو لهم بالمرصاد ، ليجزى جميعهم بما هم أهله .

وكان بعض البصريين يقول : كسرت «إن » من قوله : إنّهُ هَوَ السّمِيعُ البَصِيرُ لأن معنى الكلام : قل يا محمد : سبحان الذي أسرى بعبده ، وقل : إنه هو السميع البصير .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإسراء ، وقيل : إلا قوله تعالى : { وإن كادوا ليفتنونك } إلى آخر ثمان آيات . وهي مائة وإحدى عشرة آية .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } سبحان اسم بمعنى التسبيح { الذي } هو التنزيه يستعمل علما له فيقطع عن الإضافة ويمنع عن الصرف قال :

قد قلت لمّا جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر

وانتصابه بفعل متروك إظهاره ، وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد . و{ أسرى } وسرى بمعنى ، و{ ليلا } نصب على الظرف . وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء ، ولذلك قرئ : من " الليل " . أي بعضه كقوله : { ومن الليل فتهجد به } . { من المسجد الحرام } بعينه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " . أو " من الحرم " وسماه المسجد الحرام لأنه كله مسجد أو لأنه محيط به ، أو ليطابق المبدأ المنتهى . لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة عليها وقال : " مثل لي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصليت بهم " ، ثم خرج إلى المسجد الحرام وأخبر به قريشا فتعجبوا منه استحالة ، وارتد ناس ممن آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : إن كان قال لقد صدق ، فقالوا : أتصدقه على ذلك ، قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق ، واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون إلى الثنية فصادفوا العير كما أخبر ، ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين وكان ذلك قبل الهجرة بسنة . واختلف في أنه كان في المنام أو في اليقظة بروحه أو بجسده ، والأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس ، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، ولذلك تعجب قريش واستحالوه ، والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية ، وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على كل الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فيما يحمله ، والتعجب من لوازم المعجزات . { إلى المسجد الأقصى } بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد . { الذي باركنا حوله } ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن موسى عليه الصلاة والسلام ، ومحفوف بالأنهار والأشجار . { لنُريه من آياتنا } كذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ومشاهدته بيت المقدس وتمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له ، ووقوفه على مقاماتهم ، وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات . وقرئ " ليريه " بالياء . { إنه هو السميع } لأقوال محمد صلى الله عليه وسلم . { البصير } بأفعاله فيكرمه ويقربه على حسب ذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم .

تفسير سورة الإسراء . {[1]}

هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات :{[2]} قوله عز وجل : " وإن كادوا ليفتنونك " ، وقوله : " وإن كادوا ليستفزونك " ، نزلت حين جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفدُ ثقيف ، وحين قالت اليهود : ليست هذه بأرض الأنبياء ، وقوله عز وجل : " وقل رب أدخلني مدخل صدق " ، وقوله عز وجل : " إن ربك أحاط بالناس " وقال مقاتل : وقوله عز وجل : " إن الذين أوتوا العلم من قبله " . قال ابن مسعود في بني إسرائيل والكهف : " إنهن من العِتاق الأُوَل ، وهن في تِلاَدِي " ، {[3]} يريد أنهن من قديم كسبه .

لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده ، وهو محمد عليه السلام ، ويظهر أن { أسرى } هي هنا معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره ، أسرى الملائكة بعبده ، وكذلك يقلق أن يسند { أسرى } وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى ، إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل ، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة ، فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث «أتيته سعياً ، وأتيته هرولة »{[7458]} حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث ، و { أسرى } في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا تحتاج إلى تجوز قلق فيمثل هذا اللفظ ، فإنه ألزم للنقلة من أتيته{[7459]} و { أتى الله بنيانهم }{[7460]} [ النحل : 26 ] ويحتمل أن يكون { أسرى } بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى { ذهب الله بنورهم }{[7461]} [ البقرة : 17 ] ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث ، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه ، وذكر النقاش عمن رواه عشرين صحابياً ، فروى جمهور الصحابة وتلقى جل العلماء منهم أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم ، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه ، وروى حذيفة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن البراق في بيت المقدس ولا دخله ، قال حذيفة ولو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه ، وأنه ركب البراق بمكة ولم ينزل عنه حتى انصرف إلى بيته ، إلا في صعوده إلى السماء ، وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارق شخصه مضجعه وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق من ربه عز وجل ، وجوزه الحسن وابن إسحاق ، والحديث ، قال القاضي أبو محمد ، مطول في البخاري ومسلم وغيرهما ، فلذلك اختصرنا نصه في هذا الباب ، وركوب البراق على قول هؤلاء يكون من جملة ما رأى في النوم ، قال ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن في كتاب الطبري : البراق هو دابة إبراهيم الذي كان يزور عليه البيت الحرام .

قال القاضي أبو محمد : يريد أن يجيء من يومه ويرجع وذلك من مسكنه بالشام ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق ، ولا قالت له أم هاني : لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل ، واحتج لقول عائشة بقوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس }{[7462]} [ الإسراء : 60 ] ، ويحتمل القول الآخر لأنه يقال لرؤية العين رؤيا ، واحتج أيضاً بأن في بعض الأحاديث : فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وهذا محتمل أن يريد من الإسراء إلى نوم ، واعترض قول عائشة بأنها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدثت عن النبي عليه السلام ، وأما معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال صغيراً ، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { سبحان } مصدر غير متمكن لأنه لا يجري بوجوه الإعراب ولا تدخل عليه الألف واللام ولم يجر منه فعل ، وسبح إنما معناه قال سبحان الله فلم يستعمل سبح إلا إشارة إلى { سبحان } ، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً ، هذا كله مذهب سيبويه فيه ، وقالت فرقة : قال القاضي أبو محمد : نصبه على النداء كأنه قال : «يا سبحان » ، قال القاضي أبو محمد الذي ، وهذا ضعيف ومعناه تنزيهاً لله ، وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة{[7463]} أنه قال للنبي صلى الله عليه ولم ما معنى سبحان الله ؟ قال :

«تنزيهاً لله من كل سوء » ، والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي هو من معناه لا من لفظه إذ يجر من لفظه فعل ، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء " {[7464]} ، فالتقدير عنده أنزه الله تنزيهاً فوقع { سبحان } مكان قولك تنزيهاً ، وقال قوم من المفسرين : { أسرى } فعل غير متعد عداه هنا بحرف جر تقول سرى الرجل وأسرى إذ سار بالليل بمعنى ، وقد ذكرت ما يظهر في اللفظ من جهة العقيدة ، وقرأ حذيفة وابن مسعود «أسرى بعبده من الليل من المسجد الحرام » ، وقوله من { المسجد الحرام } ، قال أنس بن مالك : أراد المسجد المحيط بالكعبة نفسها ورجحه الطبري وقال : هو الذي يعرف إذا ذكر هذا الاسم ، وروى الحسن بن أبي الحسن عن النبي عليه السلام أنه قال : «بينا أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل والملائكة » ، الحديث بطوله . وروى قوم أن ذلك كان بين زمزم والمقام ، وروى مالك بن صعصعة عن النبي عليه السلام : «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان{[7465]} » ، وذكر عبد بن حميد الكشي في تفسيره عن سفيان الثوري أنه قال : أسري بالنبي عليه السلام من شعب أبي طالب ، وقالت فرقة : { المسجد الحرام } مكة كلها واستندوا إلى قوله تعالى { لتدخلن المسجد الحرام }{[7466]} [ الفتح : 27 ] وعظم المقصد هنا إنما هو مكة ، وروى بعض هذه الفرقة عن أم هاني أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيتي{[7467]} ، وروي بعضها عن النبي عليه السلام ، أنه قال : «خرج سقف بيتي » وهذا يلتئم مع قول أم هاني ، وكان الإسراء فيما قال مقاتل قبل الهجرة بعام ، وقاله قتادة ، وقيل بعام ونصف ، قاله عروة عن عائشة وكان ذلك في رجب ، وقيل في ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول والنبي صلى الله عليه وسلم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً ، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة{[7468]} ، وقبل بيعة العقبة ، ووقع في الصحيحين لشريك بن أبي نمر وهم في هذا المعنى فإنه روى حديث الإسراء فقال فيه : وذلك قبل الوحي إليه ، ولا خلاف بين المحدثين أن هذا وهم من شريك{[7469]} ، و { المسجد الأقصى } ، مسجد بيت المقدس ، وسماه { الأقصى } أي في ذلك الوقت كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة ، ويحتمل أن يريد ب { الأقصى } البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه ، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة .

و «البركة حوله » هي من جهتين ، إحداهما النبوءة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه وبواديه ، والأخرى النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : «إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس » وقوله : { لنريه من آياتنا } يريد لنري محمداً بعينه آياتنا في السماوات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب ، ويحتمل أن يريد لنري محمداً للناس آية ، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع وتكون الرؤية على هذا رؤية قلب ، ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة . وقوله : { إنه هو السميع البصير } وعيد من الله للكفار تكذيبهم محمداً في أمر الإسراء ، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي { هو السميع } لما تقولون { البصير } بأفعالكم .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[7458]:ورد هذا في حديث قدسي رواه البخاري في التوحيد، ومسلم في التوبة والذكر، والترمذي في الزهد والدعوات، وابن ماجه في الأدب، والدارمي في الرقاق، وأحمد في مواضع كثيرة من مسنده، ولفظه كما في مسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلى ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
[7459]:يريد (أتيته) التي في الحديث القدسي، وفيها مع الانتقال والحركة.
[7460]:من الآية (26) من سورة (النحل)، وقد نقل صاحب (البحر المحيط) كلام ابن عطية هذا عن (أسرى)، ثم عقب عليه بقوله: "وإنما احتاج ابن عطية إلى هذه الدعوى اعتقادا منه بأنه إذا كان (أسرى) بمعنى (سرى) لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول، وهذا شيء ذهب إليه المبرد، فإذا قلت: "قمت بزيد" لزم منه قيامك وقيام زيد عنده، وهذا ليس كذلك، التبست عند باء التعدية بباء الحال، فباء الحال يلزم فيه المشاركة، إذ المعنى: قمت ملتبسا بزيد، وباء التعدية مرادفة للهمزة، فقولك: "قمت بزيد" والباء للتعدية مثل قولك: "أقمت زيدا"، ولا يلزم من إقامتك إياه أن تقوم أنت، اهـ بتصرف.
[7461]:من الآية (17) من سورة (البقرة). قال أبو حيان في البحر: "يعني أن يكون التقدير: سرت ملائكته بعبده، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا مبني على أنه يلزم المشاركة والباء للتعدية".
[7462]:من الآية (60) من هذه السورة (الإسراء).
[7463]:هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي المدني، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، كان دهاة قريش، وكان يقال له ولأبي بكر: القرينان، ويقال له: "طلحة الجود" و"طلحة الخير"، و"طلحة الفياض"، وكل ذلك لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة، ودعاه مرة: "الصبيح المليح الفصيح"، أصيب في أُحد بعد أن ثبت مع الرسول صلى الله عليه وسلم بأربعة وعشرين جرحا، قتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة رضي الله عنهما، ودفن بالبصرة، له 38 حديثا.
[7464]:القرفصاء: جلسة المحتبي بيديه، وهي أن يجلس على أليتيه ويلصق فخديه ببطنه ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه. والصماء: ضرب من الاشتمال، واشتمال الصماء أن تجلل جسدك بثوبك نحو شملة الأعراب بأكسيتهم، وهو أن يرد العربي الكساء من ناحية يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا.
[7465]:أخرجه ابن إسحق، وابن جرير، وابن المنذر، قال في (الدر المنثور): "عن الحسن بن الحسين رضي الله عنه"، والذي في تفسير ابن جرير: "عن الحسن بن أبي الحسن" – واللفظ فيهما: "بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني برجله فجلست"...الخ.
[7466]:من الآية (27) من سورة (الفتح).
[7467]:أخرجه الطبراني، وابن مردويه، عن أم هاني رضي الله عنها، وأخرج نجوه أبو يعلى وابن عساكر، وأخرج أيضا نحوه ابن إسحق، وابن جرير (الدر المنثور).
[7468]:روى ابن إسحق أن قريشا حين رأت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وبعد إسلام عمر وحمزة، فاجتمعت قريش، وائتمرت على أن تكتب فيما بينها كتابا تتعاقد فيه قبائلها على بني هاشم، وبني المطلب، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا ذلك في صحيفة، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة. وهذه الصحيفة كانت موضع نقد من أهل العقل في قريش، وانتهت إلى أن شقت ومزقت.
[7469]:حديث شريك بن نمير هذا أخرجه البخاري. ومسلم، وابن جرير، وابن مردويه، وقال فيه الحافظ عبد الحق رحمه الله في كتابه (الجمع بين الصحيحين(: "هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر، عن أنس، وقد زاد فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين، والأئمة المشهورين، كابن شهاب، وثابت البناني، وقتادة – عن أنس- فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث". وقد انتقد رواية شريك هذه أيضا سندا ومتنا الشهاب الخفاجي في كتاب (نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض).