المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

69- ثم هداها - سبحانه - للأكل من كل ثمرات الشجر والنبات ، وسهَّل لها أن تسلك لذلك طرقاً هيأها لها ربها مذللة سهلة ، فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ، إن في ذلك الصنع العجيب لأدلة قوية على وجود صانع قادر حكيم ، ينتفع بها قوم يستعملون عقولهم بالتأمل فيفوزون بالسعادة الدائمة{[114]} .


[114]:يتركب عسل النحل من كمية كبيرة من الجلوكوز والفرفتوز وهو أسهل أنواع السكريات في الهضم، وثبت في آخر الأبحاث الطبية أن الجلوكوز مفيد في كثير من الأمراض ويعطي بطريق الحقن والفم والشرج، بصفته مقويا، ويعطى ضد التسمم في مختلف المعادن وضد التسمم الناشئ من أمراض الأعضاء، مثل التسمم البولي والصفراء، وغيرهما، كما ثبت أنه يحتوي على نسبة عالية من الفيتامينات خصوصا فيتامين ب المركب.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

قوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } ، ليس معنى الكل العموم ، وهو كقوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } [ النمل – 23 ] . { فاسلكي سبل ربك ذللاً } . قيل : هي نعت الطرق ، يقول : هي مذللة للنحل سهلة المسالك . قال مجاهد : لا يتوعر عليها مكان سلكته . وقال آخرون : الذلل نعت النحل ، أي : مطيعة منقادة بالتسخير . يقال : إن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان ، ولها يعسوب إذا وقف وقفت ، وإذا سار سارت . { يخرج من بطونها شراب } ، يعني : العسل { مختلف ألوانه } ، أبيض وأحمر وأصفر . { فيه شفاء للناس } ، أي : في العسل . وقال مجاهد : أي في القرآن ، والأول أولى .

أنبأنا إسماعيل بن عبد القاهر ، حدثنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن مثنى ، أنبأنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسقه عسلاً ، فسقاه ثم جاء فقال : إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث مرات ، ثم جاء الرابعة فقال : اسقه عسلاً ، قال : قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرأ " . قال ابن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور . وروي عنه أنه قال : عليكم بالشفاءين : القرآن والعسل . { إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون } ، فيعتبرون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

{ 68 - 69 } { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

في خلق هذه النحلة الصغيرة ، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة ، ويسر لها المراعي ، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها ،وهدايته لها ، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ ، مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها ، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة . فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى ، وتمام لطفه بعباده ، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

وقوله : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً . . } ، بيان للون آخر من الإِلهامات التي ألهمها الله - تعالى - إياها .

والسبل : جمع سبيل . والمراد بها : الطرق التي تسلكها النحلة في خروجها من بيتها ، وفي رجوعها إليه ، وأضاف - سبحانه - السبل إليه ؛ لأنه هو خالقها وموجدها .

وذللا : جمع ذلول ، وهو : الشيء الممهد المنقاد ، وهو حال من السبل ، أي : فاسلكي سبل ربك حال كونها ممهدة لك ، لا عسر في سلوكها عليك ، وإن كانت صعبة بالنسبة لغيرك .

قالوا : ربما أجدب عليها ما حولها ، فتنتجع الأماكن البعيدة للمرعى ، ثم تعود إلى بيوتها دون أن تضل عنها .

وقيل إن : { ذللا } ، حال من النحلة ، أي : ثم كلي من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك ، حالة كونك منقادة لما يراد منك ، مطيعة لما سخرك الله له ، من أمور تدل على قدرته وحكمته - سبحانه - .

وقوله - تعالى - : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، كلام مستأنف ، عدل به من خطاب النحلة الى خطاب الناس ، تعديدا للنعم ، وتعجيبا لكل سامع ، وتنبيها على مواطن العظات والعبر الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وعجيب صنعه في خلقه .

أي : يخرج من بطون النحل - بعد أكلها من كل الثمرات ، وبعد اتخاذها بيوتها - شراب هو العسل ، مختلف ألوانه ما بين أبيض وأصفر ، وغير ذلك من ألوان العسل ، على حسب اختلاف مراعيها ، ومآكلها ، وسنها ، وغير ذلك بما اقتضته حكمته - سبحانه - .

والضمير في قوله - تعالى - : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، يعود على الشراب المستخرج من بطونها ، وهو : العسل .

أي : في العسل شفاء عظيم للناس من أمراض كثيرة تعرض لهم .

وقيل : الضمير يعود إلى القرآن الكريم ، والتقدير : فيما قصصنا عليكم في هذا القرآن الشفاء للناس .

وهذا القيل وإن كان صحيحا في ذاته ، إلا أن السياق لا يدل عليه ، لأن الآية تتحدث عما يخرج من بطون النحل ، وهو : العسل ، ولا وجه للعدول عن الظاهر ، ومخالفة المرجع الواضح .

قال الإِمام ابن كثير : والدليل على أن المراد بقوله : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، هو : العسل ، الحديث الذي رواه البخاري ، ومسلم ، في صحيحيهما ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، " أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال : " اسقه عسلا " ، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . قال : " اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صدق الله ، وكذب بطن أخيك . اذهب فاسقه عسلا " ، فذهب فسقاه عسلا ، فبرئ " .

ثم ساق الإِمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث في هذا المعنى ، منها : ما رواه البخاري ، عن ابن عباس قال : " الشفاء في ثلاثة : فى شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أوكية بنار ، وأنهى أمتي عن الكي " .

وروى البخاري - أيضا - عن جابر بن عبد الله قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن كان في شئ من أدويتكم - أو يكون في شيء من أدويتكم - خير : ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي " .

وقال صاحب فتح البيان : وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء ، أو خاص ببعض الأمراض ؟ .

فقال طائفة : هو على العموم في كل حال ولكل أحد .

وقالت طائفة أخرى : إن ذلك خاص ببعض الأمراض ، ولا يقتضى العموم في كل علة وفي كل إنسان ، وليس هذا بأول لفظ خصص في القرآن ، فالقرآن مملوء منه ، ولغة العربية يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص ، والخاص بمعنى العام .

ومما يدل على هذا ، أن العسل نكرة في سياق الإِثبات ، فلا يكون عاما باتفاق أهل اللسان . ومحققي أهل الأصول . وتنكيره إن أريد به التعظيم ، لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض ، أو أمراض ، لا لكل مرض ، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم .

ثم قال : قلت : وحديث البخاري : أن أخي استطلق بطنه . . أوضح دليل على ما ذهبت إليه طائفة من تعميم الشفاء ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم " صدق الله " أي : أنه شفاء ، فلو كان لبعض دون بعض لم يكرر الأمر بالسقيا .

والذي نراه ، أن من الواجب علينا أن نؤمن إيمانا جازما بأن العسل المذكور فيه شفاء للناس ، كما صرح بذلك القرآن الكريم ، وكما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم .

وعلينا بعد ذلك أن نفوض أمر هذا الشفاء وعموميته وخصوصيته لعلم الله - تعالى - وقدرته وحكمته ، ويكفينا يقينا في هذا المجال ، إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقول للرجل الذي استطلق بطن أخيه أكثر من مرة ، " اذهب فاسقه عسلا " .

وقد تولى كثير من الأطباء شرح هذه الآية الكريمة شرحا علميا وافيا ، وبينوا ما اشتمل عليه عسل النحل من فوائد .

ثم ختم - سبحانه - : الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .

أي : إن في ذلك الذي ذكرناه لكم من أمر النحل ؛ من إلهامها اتخاذ البيوت العجيبة ، ومن إدارتها لشئون حياتها بدقة متناهية ، ومن سلوكها الطرق التي جعلها الله مذللة في ذهابها وإيابها ، للحصول على قوام حياتها ، ومن خروج العسل من بطونها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

51

والنص على أن العسل فيه شفاء للناس قد شرحه بعض المختصين في الطب . شرحا فنيا . وهو ثابت بمجرد نص القرآن عليه . وهكذا يجب أن يعتقد المسلم استنادا إلى الحق الكلي الثابت في كتاب الله ؛ كما أثر عن رسول الله .

روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله [ ص ] فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال له رسول الله [ ص ] : " اسقه عسلا " فسقاه عسلا . ثم جاء فقال : يا رسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . قال : " اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقا . فقال رسول الله [ ص ] " صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا فبرى ء .

ويروعنا في هذا الأثر يقين الرسول [ ص ] أمام ما بدا واقعا عمليا من استطلاق بطن الرجل كلما سقاه أخوه . وقد انتهى هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية . وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل حقيقة وردت في كتاب الله . مهما بدا في ظاهر الأمر أن ما يسمى الواقع يخالفها . فهي أصدق من ذلك الواقع الظاهري ، الذي ينثني في النهاية ليصدقها . .

ونقف هنا أمام ظاهرة التناسق في عرض هذه النعم : إنزال الماء من السماء . وإخراج اللبن من بين فرث ودم . واستخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب . والعسل من بطون النحل . . إنها كلها أشربة تخرج من أجسام مخالفة لها في شكلها . ولما كان الجو جو أشربة فقد عرض من الأنعام لبنها وحده في هذا المجال تنسيقا لمفردات المشهد كله . وسنرى في الدرس التالي أنه عرض من الأنعام جلودها وأصوافها وأوبارها لأن الجو هناك جو أكنان وبيوت وسرابيل فناسب أن يعرض من الأنعام جانبها الذي يتناسق مع مفردات المشهد . . وذلك أفق من آفاق التناسق الفني في القرآن .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

وقوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } الآية ، المعنى : ثم ألهمها أن كلي ، فعطف { كلي } على { اتخذي } ، و { من } ، للتبعيض ، أي : كلي جزءاً ، أو شيئاً من كل الثمرات ، وذلك أنها إنما تأكل النوار من أشجار ، و «السبل » ، الطرق : وهي مسالكها في الطيران وغيرها ، وأضافها إلى : «الرب » من حيث هي ملكه وخلقه التي يسر لك ربك ، وقوله : { ذللاً } ، يحتمل أن يكون حالاً من { النخل } ، أي : مطيعة منقادة لما يسرت له ، قاله قتادة ، وقال ابن زيد : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون ، وهي تتبعهم ، وقرأ { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون }{[7363]} [ يس : 71-72 ] ، ويحتمل أن يكون حالاً من «السبل » ، أي : مسهلة مستقيمة ، قال مجاهد : لا يتوعر عليها سبيل تسلكه ، ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة ، أمر العسل في قوله : { يخرج من بطونها } ، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل ، وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة ، وأشرف شرابه رجيع نحلة ، فظاهر هذا أنه من غير الفم ، و «اختلاف الألوان » في العسل ، بحسب اختلاف النحل والمراعي ، وقد يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي ، ومن هذا المعنى : قول زينب للنبي صلى الله عليه وسلم : جرست نحْلُهُ العرفطَ حين شبهت رائحته برائحة المغافير{[7364]} ، وقوله : { فيه شفاء للناس } ، الضمير للعسل ، قاله الجمهور : ولا يقتضي العموم في كل علة ، وفي كل إنسان ، بل هو خبر عن أنه يشفي ، كما يشفي غيره من الأدوية في بعض دون بعض ، وعلى حال دون حال ، ففائدة الآية : إخبار منبه منه في أنه دواء ، كما كثر الشفاء به ، وصار خليطاً ومعيناً للأدوية في الأشربة والمعاجين ، وقد روي عن ابن عمر ، أنه كان لا يشكو شيئاً إلا تداوى بالعسل ، حتى إنه يدهن به الدمل والضرحة ، ويقرأ : { فيه شفاء للناس } .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يقتضي أنه يرى الشفاء به على العموم ، وقال مجاهد : الضمير للقرآن ، أي : فيه شفاء ، وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية إنما يراد بها : أهل البيت ورجال بني هاشم ، وأنهم النحل ، وأن الشراب القرآن والحكمة ، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي : فقال له رَجل ممن حضر : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم ، فأضحك الحاضرين ، وبُهت الآخر ، وظهرت سخافة قوله ، وباقي الآية بين .


[7363]:الآية (71) من سورة (يس).
[7364]:قال ابن الأثير في النهاية: المعنى: أكلت النحل، والعرفط: شجر، وفي المعجم الوسيط: جرس النحل نور الشجرة: لحسه للتعسيل، والعرفط: نبات من العضاه من الفصيلة القرينة، والمغافير: جمع مغفارن وهو صمغ حلو يسيل من شجر العرفط يؤكل، أو يوضع في ثوب ثم ينضح بالماء فيشرب، وحديث المغافير أو العسل رواه البخاري، ولفظه: (عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فواطأت أنا وحفصة عن أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير، قال: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، فلن أعود، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي}، يقول: فادخلي،

{سبل ربك}، في الجبال وخلل الشجر،

{ذللا}؛ لأن الله تعالى ذلل لها طرفها حيثما توجهت،

{يخرج من بطونها شراب}، يعني: عسلا،

{مختلف ألوانه}، أبيض، وأصفر، وأحمر...

{فيه شفاء للناس}، يعني العسل شفاء لبعض الأوجاع،

{إن في ذلك لآية}، يعني: فيما ذكر من أمر النحل وما يخرج من بطونها لعبرة،

{لقوم يتفكرون}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ثم كلي أيتها النحل من الثمرات، "فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ"، يقول: فاسلكي طرق ربك "ذُلُلاً"، يقول: مُذَلّلَةً لك، والذّلُل: جمع ذَلُول...

عن مجاهد، في قول الله تعالى: "فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً"، قال: لا يتوعّر عليها مكان سلكته...

وعلى هذا التأويل الذي تأوّله مجاهد، الذلل من نعت السبل.

والتأويل على قوله: فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً، الذّلُل لك: لا يتوعر عليكِ سبيل سلكتيه...

وقال آخرون في ذلك:... عن قتادة، قوله: "فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً": أي مطيعة... قال ابن زيد، في قوله: "فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً "قال: الذلول: الذي يُقاد ويُذهب به حيث أراد صاحبه، قال: فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها، ويذهبون وهي تتبعهم. وقرأ: "أوَلمْ يَرَوْا أنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعاما فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ وَذلّلْناها لَهُمْ.."

فعلى هذا القول، الذّلُل من نعت النحل، وكلا القولين غير بعيد من الصواب في الصحة وجهان مخرجان، غير أنا اخترنا أن يكون نعتا للسّبل؛ لأنها إليها أقرب.

وقوله: "يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ"، يقول تعالى ذكره: يخرج من بطون النحل شراب، وهو العسل، مختلف ألوانه؛ لأن فيها أبيض وأحمر وأسحر وغير ذلك من الألوان...

وقوله: "فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ"، اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله: "فِيهِ"؛

فقال بعضهم: عادت على القرآن، وهو المراد بها...

وقال آخرون: بل أريد بها العسل...

وهذا القول... أولى بتأويل الآية؛ لأن قوله: "فِيهِ"، في سياق الخبر عن العسل، فأن تكون الهاء من ذكر العسل، إذ كانت في سياق الخبر عنه أولى من غيره.

وقوله: "إنّ فِي ذلكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ"، يقول تعالى ذكره: إن في إخراج الله من بطون هذه النحل الشراب المختلف، الذي هو شفاء للناس، لدلالة وحجة واضحة على من سخّر النحل وهداها لأكل الثمرات التي تأكل، واتخاذها البيوت التي تنحت من الجبال والشجر والعروش، وأخرج من بطونها ما أخرج من الشفاء للناس، أنه الواحد الذي ليس كمثله شيء، وأنه لا ينبغي أن يكون له شريك ولا تصحّ الألوهة إلا له.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وفيه دلالة علمه وتدبيره وحكمته؛ لأن إنشاء ذلك اللبن في البطن على غير جوهر ما تناولت، ومن خلاف لونه في تلك الظلمات، دل أن علمه غير مقدم بعلم الخلق، وأن حكمته غير مُقَدّرَة بحكمة الخلق، وكذلك قدرته غير مُقَدرة بقدرة الخلق... وفيه أن ما يحدث، ويكون من اللبن بالعلف الذي يؤكل، أو الطعام الذي يتناول، أو الفواكه والثمار التي تخرج، ليس تكون بنفس الماء، أو بنفس الطعام والعلف، ولكن باللطف ممن الله تعالى؛ لأنه قد يسقي ذلك الماء الشجر والنخل في حال، ثم لا يكون فيه الثمر، وكذلك الدواب تعلف في حال لا يكون ذلك منه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مِن كُلّ الثمرات}، إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل وتعتاد أكلها، أي ابني البيوت، ثم كلي من كل ثمرة تشتهينها، فإذا أكلتها، {فاسلكي سُبُلَ رَبّكِ}، أي: الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. أو فاسلكي ما أكلت في سبل ربك، أي: في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المرّ عسلا، من أجوافك ومنافذ مآكلك. أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها، فقد بلغني أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة. أو أراد بقوله: {ثُمَّ كُلِي}: ثم اقصدي أكل الثمرات، فاسلكي في طلبها في مظانها سبل ربك {ذُلُلاً}، جمع ذلول، وهي حال من السبل؛ لأنّ الله ذللها لها ووطأها وسهلها، كقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} [الملك: 15]، أو من الضمير في {فاسلكي}، أي: وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة. {شَرَابٌ}، يريد العسل؛ لأنه مما يشرب. {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}، منه أبيض وأسود وأصفر وأحمر. {فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ}؛ لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض، كما أن كل دواء كذلك. وتنكيره إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء، وكلاهما محتمل.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

وَسَمَّاهُ شَرَابًا وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا؛ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْأَشْرِبَةِ أَكْثَرَ من تَصْرِيفِهِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ، وَذَلِكَ بِالشَّرَابِيَّةِ أَخَصُّ كَمَا أَنَّ الْجَامِدَ أَخَصُّ بِالطَّعَامِيَّةِ...

{مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}: يُرِيدُ أَنْوَاعَهُ من الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ، وَالْجَامِدِ وَالسَّائِلِ؛ وَالْأُمُّ وَاحِدَةٌ، وَالْأَوْلَادُ مُخْتَلِفُونَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوَّعَتْهُ بِحَسَبِ تَنْوِيعِ الْغِذَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ عَلَى صِفَتِهِ، وَلَا يَجِيءُ إلَّا من جِنْسِهِ، وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ بَعْضُ التَّأْثِيرِ فِيهِ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ؛ وَيُغَيِّرُهُ اللَّهُ، لِتَتَبَيَّنَ قُدْرَتُهُ فِي التَّصْرِيفِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}...

{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}: وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ من أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةِ نَارٍ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ (رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ. فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: فَعَلْت، فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك، اسْقِهِ عَسَلًا، فَسَقَاهُ فَبَرِئَ). وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَشْكُو قُرْحَةً وَلَا شَيْئًا إلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ عَسَلًا حَتَّى الدُّمَّلَ إذَا خَرَجَ عَلَيْهِ طَلَاهُ بِعَسَلٍ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}.

وَرُوِيَ أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ مَرِضَ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا نُعَالِجُك، قَالَ: ائْتُونِي بِمَاءِ سَمَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهُ يَقُولُ: {وَنَزَّلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا}، وَأْتُونِي بِعَسَلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}. وَأْتُونِي بِزَيْتٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ}، فَجَاءُوهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَخَلَطَهُ جَمِيعًا ثُمَّ شَرِبَهُ فَبَرِئَ...

قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}: اُخْتُلِفَ فِي مَحْمَلِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ... وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ لَفْظٍ عَامٍّ حُمِلَ عَلَى مَقْصِدٍ خَاصٍّ؛ فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ، وَلُغَةُ الْعَرَبِ يَأْتِي فِيهَا الْعَامُّ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْخَاصِّ، وَالْخَاصُّ بِمَعْنَى الْعَامِّ... وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى نِيَّةِ كُلِّ أَحَدٍ، فَمَنْ قَوِيَتْ نِيَّتُهُ، وَصَحَّ يَقِينُهُ فَفَعَلَ فِعْلَ عَوْفٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَدَهُ كَذَلِكَ، وَمَنْ ضَعُفَتْ نِيَّتُهُ وَغَلَبَتْهُ عَلَى الدِّينِ عَادَتُهُ، أَخَذَهُ مَفْهُومًا عَلَى قَوْلِ الْأَطِبَّاءِ، وَالْكُلُّ من حُكْمِ الْفَعَّالِ لِمَا يَشَاءُ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه:

الأول: اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها.

والثاني: اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق. والثالث: خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء، ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق، ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة، والله أعلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان أهم شيء للحيوان بعد الراحة من همّ المقيل الأكل، ثنى به، ولما كان عاماً في كل ثمر، ذكره بحرف التراخي، إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها، فقال تعالى: {ثم كلي}، وأشار إلى كثرة الرزق بقوله تعالى: {من كل الثمرات}، قالوا: من أجزاء لطيفة تقع على أوراق الأشجار من الظل، وقال بعضهم: من نفس الأزهار والأوراق.

ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أن تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه، نبه على خرقه للعادة في تيسيره لها فقال تعالى: {فاسلكي}، أي: فتسبب عن الإذن في الأكل الإذن في السير إليه. {سبل ربك}، أي: المحسن إليك بهذه التربية العظيمة، لأجل الأكل ذاهبة إليه وراجعة إلى بيوتك حال كون السبل {ذللاً}، أي موطأة للسلوك مسهلة كما قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً} [الملك: 15]. وأشار باسم الرب إلى أنه لولا عظيم إحسانه في تربيتها لما اهتدت إلى ذلك، ثم أتبعه نتيجة ذلك جواباً لمن، كأنه قال: ماذا يكون عن هذا كله؟ فقال تعالى: -{يخرج من بطونها}- بلفت الكلام لعدم قصدها إلى هذه النتيجة. {شراب}، أيّ شراب! وهو العسل؛ لأنه مع كونه من أجلّ المآكل، هو "مما يشرب"، {مختلف ألوانه}، من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك، اختلافاً دالاً على أن فاعله مع تمام قدرته مختار، ثم أوضح ذلك بقوله تعالى: {فيه}، أي: مع كونه من الثمار النافعة والضارة، {شفاء للناس}. قال الإمام الرازي في اللوامع: إذ المعجونات كلها بالعسل، وقال إمام الأولياء محمد بن علي الترمذي: إنما كان ذلك؛ لأنها ذلت لله مطيعة، وأكلت من كل الثمرات: حلوها ومرها، محبوبها ومكروهها، تاركة لشهواتها، فلما ذلت لأمر الله، صار هذا الأكل لله، فصار ذلك شفاء للأسقام، فكذلك إذا ذل العبد لله مطيعاً، وترك هواه، صار كلامه شفاء للقلوب السقيمة -انتهى.

وكونه شفاء- مع ما ذكر -أدل على القدرة والاختيار من اختلاف الألوان، لا جرم وصل به قوله تعالى: {إن في ذلك}، أي: الأمر العظيم من أمرها كله {لآية}. وكما أشار في ابتداء الآية إلى غريب الصنع في أمرها، أشار إلى مثل ذلك في الختم بقوله تعالى: {لقوم يتفكرون}، أي: في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة واللطائف الخفية بالبيوت المسدسة، والاهتداء إلى تلك الأجزاء اللطيفة من أطراف الأشجار والأوراق- وغير ذلك من الغرائب، حيث ناطه بالفكر المبالغ فيه من الأقوياء، تأكيداً لفخامته وتعظيماً لدقته وغرابته في دلالته على تمام العلم وكمال القدرة، وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين، تارة بالإفراد وتارة بالجمع، ونوطها تارة بالعقل وتارة بالفكر، وتارة بالذكر وتارة بغيرها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والنص على أن العسل فيه شفاء للناس قد شرحه بعض المختصين في الطب. شرحا فنيا... ويروعنا في هذا الأثر يقين الرسول [صلى الله عليه وسلم] أمام ما بدا واقعا عمليا من استطلاق بطن الرجل كلما سقاه أخوه. وقد انتهى هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية. وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل حقيقة وردت في كتاب الله. مهما بدا في ظاهر الأمر أن ما يسمى الواقع يخالفها. فهي أصدق من ذلك الواقع الظاهري، الذي ينثني في النهاية ليصدقها...

ونقف هنا أمام ظاهرة التناسق في عرض هذه النعم: إنزال الماء من السماء. وإخراج اللبن من بين فرث ودم. واستخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب. والعسل من بطون النحل.. إنها كلها أشربة تخرج من أجسام مخالفة لها في شكلها. ولما كان الجو جو أشربة فقد عرض من الأنعام لبنها وحده في هذا المجال تنسيقا لمفردات المشهد كله...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ثم} للترتيب الرتبي، لأن إلهام النحل للأكل من الثمرات يترتّب عليه تكوّن العسل في بطونها، وذلك أعلى رتبة من اتخاذها البيوت لاختصاصها بالعسل دون غيرها من الحشرات التي تبني البيوت، ولأنه أعظم فائدة للإنسان، ولأن منه قوتها الذي به بقاؤها...

وسُمّي امتصاصها أكلاً لأنها تقتاته فليس هو بشرب...

و {الثمرات}: جمع ثمرة. وأصل الثمرة ما تخرجه الشجرة من غلّة، مثل التّمْر والعنب؛ والنحلُ يمتصّ من الأزهار قبل أن تصير ثمرات، فأطلق {الثمرات} في الآية على الأزهار على سبيل المجاز المرسل بعلاقة الأول...

وعطفت جملة {فاسلكي} بفاء التفريع للإشارة إلى أن الله أودع في طبع النحل عند الرعي التنقّل من زهرة إلى زهرة ومن روضة إلى روضة، وإذا لم تجد زهرة أبعدت الانتجاع ثم إذا شبعت قصدت المبادرة بالطيران عقب الشبع لترجع إلى بيوتها فتقذف من بطونها العسل الذي يفضل عن قوتها، فذلك السلوك مفرع على طبيعة أكلها...

وبيان ذلك أن للأزهار وللثمار غدداً دقيقة تفرز سائلاً سكرياً تمتصّه النحل وتملأ به ما هو كالحواصل في بطونها وهو يزداد حلاوة في بطون النحل باختلاطه بمواد كيميائية مودعة في بطون النحل، فإذا راحت من مرعاها إلى بيوتها أخرجت من أفواهها ما حصل في بطونها بعد أن أخذ منه جسمها ما يحتاجه لقوته، وذلك يشبه اجترار الحيوان المجترّ. فذلك هو العسل... والسلوك: المرور وسط الشيء من طريق ونحوه... وإضافة السبل إلى {ربك} للإشارة إلى أن النحل مسخّرة لسلوك تلك السبل لا يَعدلها عنها شيء، لأنها لَوْ لَمْ تسلكها لاختلّ نظام إفراز العسل منها... وجملة {يخرج من بطونها شراب} مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن ما تقدم من الخبر عن إلهام النحل تلك الأعمال يثير في نفس السامع أن يسأل عن الغاية من هذا التكوين العجيب، فيكون مضمون جملة {يخرج من بطونها شراب} بياناً لما سأل عنه. وهو أيضاً موضع المنّة كما كان تمام العبرة... وجيء بالفعل المضارع للدّلالة على تجدّد الخروج وتكرّره...

وعبّر عن العسل باسم الشراب دون العسل لما يومئ إليه اسم الجنس من معنى الانتفاع به وهو محل المنّة، وليرتب عليه جملة {فيه شفاء للناس}...

وسمّي شراباً لأنه مائع يشرب شرباً ولا يمضغ. وقد تقدم ذكر الشراب في قوله تعالى: {لكم منه شراب} في أوائل هذه السورة [النحل: 10]... ووصفه ب {مختلف ألوانه} لأن له مدخلاً في العبرة، كقوله تعالى: {تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} [سورة الرعد: 4]، فذلك من الآيات على عظيم القدرة ودقيق الحكمة... وفي العسل خواص كثيرة المنافع مبيّنة في علم الطب. وجعل الشّفاء مظروفاً في العسل على وجه الظرفية المجازية. وهي الملابسة للدلالة على تمكّن ملابسة الشفاء إياه، وإيماء إلى أنه لا يقتضي أن يطّرد الشفاء به في كل حالة من أحوال الأمزجة، أو قد تعرض للأمزجة عوارض تصير غير ملائم لها شرب العسل...

فالظرفية تصلح للدّلالة على تخلّف المظروف عن بعض أجزاء الظرف، لأن الظرف يكون أوسع من المظروف غالباً...

شبه تخلّف المقارنة في بعض الأحوال بقلّة كمية المظروف عن سعة الظرف في بعض أحوال الظروف ومظروفاتها... وبذلك يبقى تعريف الناس على عمومه، وإنما التخلّف في بعض الأحوال العارضة، ولولا العارض لكانت الأمزجة كلها صالحة للاستشفاء بالعسل...

كما أن مفاد (في) من الظرفية المجازية لا يقتضي عموم الأحوال...

وعمومُ التعريف في قوله تعالى: {للناس} لا يقتضي العموم الشمولي لكل فرد فرد بل لفظ (الناس) عمومه بَدَلي... والشفاء ثابت للعسل في أفراد الناس بحسب اختلاف حاجات الأمزجة إلى الاستشفاء. وعلى هذا الاعتبار محمل ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري... وجملة {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} مثل الجملتين المماثلتين لها. وهو تكرير لتعداد الاستدلال، واختير وصف التفكّر هنا لأن الاعتبار بتفصيل ما أجملته الآية في نظام النحل محتاج إلى إعمال فكر دقيق، ونظر عميق...