29- وقل - أيها الرسول - : إن ما جئت به هو الحق من عند ربكم ، فمن شاء أن يؤمن به فليؤمن ، فذلك خير له ، ومن شاء أن يكفر فليكفر فإنه لم يظلم إلا نفسه . إننا أعددنا لمن ظلم نفسه بالكفر ناراً تحيط بهم كالسرادق . وإن يستغث الظالمون بطلب الماء وهم في جهنم ؛ يؤت لهم بماء كالزيت العكر الشديد الحرارة يحرق الوجوه بلهيبه . قَبُحَ هذا الشراب لهم ، وقبحت جهنم مكاناً لراحتهم .
قوله تعالى : { وقل الحق من ربكم } أي : ما ذكر من الإيمان والقرآن ، معناه : قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيها الناس قد جاءكم من ربكم الحق وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضلال ، ليس إلي من ذلك شيء . { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ، هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت -40 ] . وقيل معنى الآية : وقل الحق من ربكم ، ولست بطارد المؤمنين لهواكم ، فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا ، فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم ناراً أحاط بكم سرادقها ، وإن آمنتم فلكم ما وصف الله عز وجل لأهل طاعته . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية : من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء له الكفر ، كفر ، وهو قوله : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } [ الإنسان – 30 ] . { إنا أعتدنا } : أعددنا ، وهيأنا ، من الإعداد ، وهو العدة ، { للظالمين } للكافرين { ناراً أحاط بهم سرادقها } السرادق : الحجزة التي تطيف بالفساطيط .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن رشدين بن سعد ، حدثني عمرو بن الحارث ، عن دراج بن أبي السمح ، عن أبي الهيثم بن عبد الله ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة " . قال ابن عباس : هو حائط من نار . وقال الكلبي :هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة . وقيل : هو دخان يحيط بالكفار وهو الذي ذكره الله تعالى { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } [ المرسلات – 30 ] . { وإن يستغيثوا } ، من شدة العطش ، { يغاثوا بماء كالمهل } .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله بن الخلال ، ثنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد ، ثنا عمرو بن الحارث ، عن دراج بن أبي السمح ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بماء كالمهل " قال كعكر الزيت ، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه " . وقال ابن عباس : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت . وقال مجاهد : هو القيح والدم . وسئل ابن مسعود عن : المهل فدعا بذهب وفضة فأوقد عليهما النار حتى ذابا ، ثم قال : هذا أشبه شيء بالمهل . { يشوي الوجوه } ينضج الوجوه من حره . { بئس الشراب وساءت } النار { مرتفقاً } ، قال ابن عباس : منزلاً . وقال مجاهد : مجتمعاً . وقال عطاء : مقراً . وقال القتيبي : مجلساً . وأصل المرتفق : المتكأ .
{ 29-31 } { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا }
أي : قل للناس يا محمد : هو الحق من ربكم أي : قد تبين الهدى من الضلال ، والرشد من الغي ، وصفات أهل السعادة ، وصفات أهل الشقاوة ، وذلك بما بينه الله على لسان رسوله ، فإذا بان واتضح ، ولم يبق فيه شبهة .
{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } أي : لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين ، بحسب توفيق العبد ، وعدم توفيقه ، وقد أعطاه الله مشيئة بها يقدر على الإيمان والكفر ، والخير والشر ، فمن آمن فقد وفق للصواب ، ومن كفر فقد قامت عليه الحجة ، وليس بمكره على الإيمان ، كما قال تعالى { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } وليس في قوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } الإذن في كلا الأمرين ، وإنما ذلك تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام ، كما ليس فيها ترك قتال الكافرين . ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } بالكفر والفسوق والعصيان { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي : سورها المحيط بها ، فليس لهم منفذ ولا طريق ولا مخلص منها ، تصلاهم النار الحامية .
{ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا } أي : يطلبوا الشراب ، ليطفئ ما نزل بهم من العطش الشديد .
{ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ } أي : كالرصاص المذاب ، أو كعكر الزيت ، من شدة حرارته .
{ يَشْوِي الْوُجُوهَ } أي : فكيف بالأمعاء والبطون ، كما قال تعالى { يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد }
{ بِئْسَ الشَّرَابُ } الذي يراد ليطفئ العطش ، ويدفع بعض العذاب ، فيكون زيادة في عذابهم ، وشدة عقابهم .
{ وَسَاءَتْ } النار { مُرْتَفَقًا } وهذا ذم لحالة النار ، أنها ساءت المحل ، الذي يرتفق به ، فإنها ليست فيها ارتفاق ، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق ، الذي لا يفتر عنهم ساعة ، وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير ، ونسيهم الرحيم في العذاب ، كما نسوه .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بكلمة الحق فى وجوه المستكبرين ، فقال .
{ وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } .
أى : وقل : أيها الرسول - لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ، واتبعوا أهواءهم ، وكان أمرهم فرطا ، قل لهم : هذا الذى جئتكم به من قرآن هو الحق من ربكم وخالقكم . . فقوله : { الحق مِن رَّبِّكُمْ } خبر لمبتدأ محذوف .
أو أن لفظ { الحق } مبتدأ ، والجار والمجرور خبره . أى : الحق الذى جئتكم به فى هذا القرآن العظيم ، كائن مبدؤه من ربكم ، وليس من أحد سواه .
وليس المراد من قوله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } التخيير بين الإيمان والكفر ، بل المراد به التهديد والتخويف ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } . . إلخ .
أى : قل لهم جئتكم من ربكم بالحق الذى يجب اتباعه ، فمن شاء أن يؤمن به فليفعل فإن عاقبته الخير والثواب ، ومن شاء أن يكفر به فليكفر فإن عاقبته الخسران والعقاب ، كما بين - سبحانه - ذلك فى قوله : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } .
والسرادق : كل ما أحاط بغيره ، كالحائط أو السور الذى يحيط بالبناء ، فيمنع من الوصول إلى ما بداخله .
أى : إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بهذا الحق نارا مهولة عظيمة ، أحاط بهم سياجها إحاطة تامة ؛ بحيث لا يستطيعون الخروج منه ، وإنما هم محصورون بداخله . كما ينحصر الشئ بداخل ما يحدق به من كل جانب .
وقوله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } بيان لما ينزل بهم من عذاب عندما يطلبون الغوث مما هم فيه من كروب .
والمهل فى اللغة : يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض . كالحديد ، والرصاص ، والنحاس ، ونحو ذلك كما يطلق - أيضا - على الماء الغليظ كدردى الزيت أى : ما تعكر منه . وقيل . هو نوع من القطران أو السم .
والمرتفق : المتكأ ، من الارتفاق وهو الاتكاء على مرفق اليد .
أى : إن هؤلاء الكافرين ، إن يطلبوا الغوث عما هم فيه من كرب وعطش ، يغاثوا بماء كالمهل فى شدة حرارته ونتنه وسواده ، هذا الماء { يشوى الوجوه } أى : يحرقها .
{ بئس الشراب } ذلك الماء الذى يغاثون به { وساءت } النار منزلا ينزلون به ، ومتكأ يتكئون عليه .
فالآية الكريمة تصور ما ينزل بهؤلاء الظالمين من عذاب ، تصويرا ترتجف من هوله الأبدان ، ويدخل الرعب والفزع على النفوس .
قال بعضهم : " فإن قيل ، أى إغاثة لهم فى ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب ، وكيف قال - سبحانه - ، { يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل } ؟
فالجواب : إن هذا من أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ونظيره من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب .
وخيل قد دلفت لها بخيل . . . تحية بينهم ضرب وجيع
أى : لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع ، وإذا كان هؤلاء الظالمون لا يغاثون إلا بماء كالمهل ، علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم مطلقا " .
والمخصوص بالذم فى قوله : { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } محذوف ، بئس الشراب ذلك الماء الذى يغاثون به ، وساءت النار مكانا للارتفاق والاتكاء .
( وقل : الحق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) . .
بهذه العزة ، وبهذه الصراحة ، وبهذه الصرامة ، فالحق لا ينثني ولا ينحني ، إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه ، قويا لا ضعف فيه ، صريحا لا مداورة فيه . فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن لم يعجبه الحق فليذهب ، ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة ؛ ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه .
إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها . إنما هي ملك لله ، والله غني عن العالمين . والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة ، ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير . والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين .
ثم يعرض ما أعد للكافرين ، وما أعد للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة :
( إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ؛ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه . بئس الشراب وساءت مرتفقا . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا . أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب ؛ ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ، متكئين فيها على الأرائك . نعم الثواب وحسنت مرتفقا ) .
( إنا أعتدنا للظالمين نارا ) . . أعددناها وأحضرناها . . فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها ، ولا تستغرق زمنا لإعدادها ! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة : كن . فيكون . إلا أن التعبير هنا بلفظ( اعتدنا )يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد ، والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال !
وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين ، فلا سبيل إلى الهرب ، ولا أمل في النجاة والإفلات . ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة ، أو يكون فيه استرواح !
فإن استغاثوا من الحريق والظمأ أغيثوا . . أغيثوا بماء كدردي الزيت المغلي في قول ، وكالصديد الساخن في قول ! يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه ( بئس الشراب ) الذي يغاث به الملهوفون من الحريق ! ويا لسوء النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء . وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير . فما هم هنالك للارتفاق ، إنما هم للاشتواء !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ، واتبعوا أهواءهم : الحقّ أيها الناس من عند ربكم ، وإليه التوفيق والحذلان ، وبيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد ، فيؤمن ، ويضلّ من يشاء عن الهدى فيكفر ، ليس إليّ من ذلك شيء ، ولست بطارد لهواكم من كان للحقّ متبعا ، وبالله وبما أنزل عليّ مؤمنا ، فإن شئتم فآمنوا ، وإن شئتم فاكفروا ، فإنكم إن كفرتم فقد أعدّ لكم ربكم على كفركم به نار أحاط بكم سرادقها ، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته ، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته . وروي عن ابن عباس في ذلك ما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ يقول : من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء الله له الكفر كفر ، وهو قوله : وَما تَشاءُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ رَبْ العَالَمِينَ وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء ، والإيمان لمن أراد ، وإنما هو تهديد ووعيد .
وقد بين أن ذلك كذلك قوله : إنّا اعْتَدْنا للظّالِمينَ نارا والاَيات بعدها . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن عمر بن حبيب ، عن داود ، عن مجاهد ، في قوله : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ . قال : وعيد من الله ، فليس بمعجزي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ، وقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ قال : هذا كله وعيد ليس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا . وقوله : إنّا أعْتَدْنا للظّالِمينَ نارا يقول تعالى ذكره : إنا أعددنا ، وهو من العُدّة . للظالمين : الذين كفروا بربهم . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّا أعْتَدْنا للظّالِمِينَ نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها قال : للكافرين .
وقوله : أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها يقول : أحاط سرادق النار التي أعدّها الله للكافرين بربهم ، وذلك فيما قيل : حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط ، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط ، كما قال رؤبة :
يا حَكَمَ بنَ المُنْذِرِ بْنَ الجارُودْ *** سُرادِقُ الفَضْلِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ
هُوَ المُوِلجُ النّعْمانَ بيْتا سَماؤُهُ *** صُدُورُ الفُيُولِ بعدَ بَيْتٍ مُسَرْدَق
يعني : بيتا له سرادق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : إنّا أعْتَدْنا للظّالِمِينَ نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها قال : هي حائط من نار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عمن أخبره ، قال أحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا قال : دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الذي قال الله : ظلّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ .
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر يدلّ على أن معنى قوله أحاطَ بِهمْ سرادِقُها أحاط بهم ذلك في الدنيا ، وأن ذلك السرادق هو البحر . ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس بن محمد والحسين بن نصر ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الله بن أمية ، قال : ثني محمد بن حيي بن يعلى ، عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن أمية ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «البَحْرُ هُوَ جَهَنّمُ » قال : فقيل له : كيف ذلك ، فتلا هذه الاَية ، أو قرأ هذه الاَية : نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها ثم قال : واللّهِ لا أدْخُلُها أبَدا أوْ ما دُمْتُ حَيّا ، وَلا تُصِيبُني مِنْها قَطْرَة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يعمر بن بشر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا رشدين بن سعد ، قال : ثني عمرو بن الحارث ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «سُرَادِقُ النّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ ، كِثْفُ كُلّ وَاحِدٍ مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبعِينَ سَنَةً » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنّ لِسُرَادِقِ النّارِ أرْبَعَةَ جُدُرٍ ، كِثْفُ كُلّ وَاحِدَة مِثْلُ مَسِيرةِ أرْبَعِينَ سَنَةً » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ماءٌ كالمُهْلِ » ، قالَ : «كَعَكَرِ الزّيْتِ ، فإذَا قَرّبَهُ إلَيْه سقط فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ » .
وقوله : وَإن يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ يقول تعالى ذكره : وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة في النار من شدّة ما بهم من العطش ، فيطلبونَ الماء يُغاثوا بماء المُهْل .
واختلف أهل التأويل في المهل ، فقال بعضهم : هو كلّ شيء أذيب وإنماع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن ابن مسعود أهديت إليه سِقاية من ذهب وفضة ، فأمر بأخدود فخدّ في الأرض ، ثم قذف فيه من جزل حطب ، ثم قذف فيه تلك السقاية ، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه : ادع من يحضُرنا من أهل الكوفة ، فدعا رهطا ، فلما دخلوا عليه قال : أترون هذا ؟ قالوا : نعم ، قال : ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من هذا الذهب والفضة ، حين أزبد وإنماع .
وقال آخرون : هو القيح والدم الأسود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم ، عن أبي بَزّة ، عن مجاهد في قوله : وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ قال : القيح والدم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمَاءٍ كالمُهْلِ قال : القيح والدم الأسود ، كعكر الزيت . قال الحرث في حديثه : يعني درديّة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كالمُهْلِ قال : يقول : أسود كهيئة الزيت .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بِمَاءٍ كالمَهْلِ ماء جهنم أسود ، وهي سوداء ، وشجرها أسود ، وأهلها سود .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ قال : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت .
وقال آخرون : هو الشيء الذي قد انتهى حرّة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر وهارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال : المهل : هو الذي قد انتهى حرّة .
وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها ، فمتقاربات المعنى ، وذلك أن كلّ ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حرّة ، وأن ما أوقدت عليه من ذلك النار حتى صار كدردي الزيت ، فقد انتهى أيضا حرّة . وقد :
حُدثت عن معمر بن المثنى ، أنه قال : سمعت المنتجع بن نبهان يقول : والله لفلان أبغض إليّ من الطلياء والمهل ، قال : فقلنا له : وما هما ؟ فقال : الجرباء ، والملة التي تنحدر عن جوانب الخبزة إذا ملت في النار من النار ، كأنها سهلة حمراء مدققة ، فهي أحمره ، فالمهل إذا هو كلّ مائع قد أوقد عليه حتى بلغ غاية حرّة ، أو لم يكن مائعا ، فإنماع بالوقود عليه ، وبلغ أقصى الغاية في شدّة الحرّ .
وقوله : يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ يقول جلّ ثناؤه : يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم . كما :
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا حيوة بن شريح ، قال : حدثنا بقية ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن بُسْر هكذا قال ابن خلف عن أبي أمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قوله ويُسْقَى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرّعُهُ قال : «يقرب إليه فيتكرّهه ، فإذا قرب منه ، شوى وجهه ، ووقعت فَرْوة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه » ، يقول الله : وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ يَشوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالَقاني ويعمر بن بشر ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن صفوان ، عن عبد الله بن بُسْر ، عن أبي أمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر وهارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال هارون : إذا جاع أهل النار . وقال جعفر : إذا جاء أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فأكلوا منها ، فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارّا مارّ بهم يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصبّ عليهم العطش ، فيستغيثون ، فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حرّة ، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّة لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود .
وقوله : بِئْسَ الشّرابُ يقول تعالى ذكره : بئس الشراب ، هذا الماء الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم الذي صفته ما وصف في هذه الاَية . وقوله : وَساءَتْ مُرْتَفَقا يقول تعالى ذكره : وساءت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء الظالمين مرتفقا والمرتفَق في كلام العرب : المتكأ ، يقال منه : ارتفقت إذا اتكأت ، كما قال الشاعر :
قالَتْ لَهُ وَارْتَفَقَتْ ألا فَتَى *** يَسُوقُ بالقَوْمِ غَزَالاتِ الضّحَى
أراد : واتكأت على مرفقها وقد ارتفق الرجل : إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم ، وهو مرتفق ، كما قال أبو ذؤيب الهذليّ :
نامَ الخَلِيّ وَبِتّ اللّيْلَ مُرْتَفِقا *** كأنّ عَيْنِيَ فِيها الصّابُ مَذْبُوحُ
وأما من الرفق فإنه يقال : قد ارتفقت بك مرتفقا ، وكان مجاهد يتأوّل قوله : وَساءَتْ مُرْتَفَقا يعني المجتمع . ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مُرْتَفَقا : أي مجتمعا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا معتمر ، عن ليث ، عن مجاهد وَساءَتْ مُرْتَفَقَا قال : مجتمعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
ولست أعرف الارتفاق بمعنى الاجتماع في كلام العرب ، وإنما الارتفاق : افتعال ، إما من المرفق ، وإما من الرفق .