30- بيَّن - سبحانه - أنه هو الذي أحيا الإنسان ومكَّن له في الأرض ، ثم بيَّن بعد ذلك أصل تكوين الإنسان وما أودع فيه من علم الأشياء وذكره به ، فاذكر يا محمد نعمة أخرى من نعم ربك على الإنسان ، وهي أنه قال لملائكته : إني جاعل في الأرض من أُمكِّنه منها وأجعله صاحبَ سلطان فيها وهو آدم وذريته ، استخلفهم الله في عمارة الأرض .
واذكر قول الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها بالمعاصي ، ومن يسفك الدماء بالعدوان والقتل لما في طبيعته من شهوات ، بينما نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، ونظهر ذكرك ونمجِّدك ؟ فأجابهم ربهم : إني أعلم ما لم تعلموا من المصلحة في ذلك .
قوله تعالى : { وإذ قال ربك } . أي وقال ربك ، " وإذ " زائدة ، وقيل معناه واذكر إذ قال ربك وكذلك كل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله . " وإذ " حرفا توقيت إلا أن إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر قال المبرد : إذا جاء إذ مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله تعالى " وإذ يمكر " يريد وإذ مكر ، وإذا جاء " إذا " مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله : ( فإذا جاءت الطامة إذا جاء نصر الله ) أي يجيء .
قوله تعالى : { للملائكة } . جمع ملك وأصله مالك من المألكة والألوكة والألوك ، وهي : الرسالة فقلبت فقيل ملأك ثم حذفت الهمزة طلباً للخفة لكثرة استعماله ونقلت حركتها إلى اللام فقيل ملك . وأراد بهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض فعبدوا دهراً طويلاً في الأرض ، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة يقال لهم : الجن ، وهم خزان الجنان اشتق لهم من الجنة ، رأسهم إبليس وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض فطردوا الجن إلى شعوب الجبال وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة فأعطى الله إبليس ملك الأرض ، وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله له ولجنده .
قوله تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة } . أي بدلاً منكم ورافعكم أي ، فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة والمراد بالخليفة هاهنا آدم سماه خليفة لأنه خلف الجن أي جاء بعدهم . وقيل لأنه يخلفه غيره ، والصحيح أنه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه .
قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } . بالمعاصي .
قوله تعالى : { ويسفك الدماء } . بغير حق ، أي كما فعل بنو الجان فقاسوا الشاهد على الغائب وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب .
قوله تعالى : { ونحن نسبح بحمدك } . قال الحسن نقول : سبحان الله وبحمده وهو صلاة الخلق وصلاة البهائم وغيرهما سوى الآدميين ، وبها يرزقون .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا زهير بن حرب ، أنا جينان بن هلال ، أنا وهيب ، أنا سعيد الجريري ، عن أبي عبد الله الجسري ، عن ابن الصامت ، عن أبي ذر أن رسول صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ فقال : " ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده : سبحان الله وبحمده " وقيل : ونحن نصلي بأمرك ، قال ابن عباس : كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة .
قوله تعالى : { ونقدس لك } . أي نثني عليك بالقدس والطهارة عما لا يليق بعظمتك وجلالك . وقيل : نطهر أنفسنا لطاعتك وقيل : وننزهك . " واللام " صلة وقيل : لم يكن هذا في الملائكة على طريق الاعتراض والعجب بالعمل ، بل على سبيل التعجب وطلب وجه الحكمة فيه .
قوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } . من المصلحة فيه ، وقيل : إني أعلم أن في ذريته من يطيعني ويعبدني من الأنبياء والأولياء والصلحاء . وقيل : إني أعلم أن فيكم من يعصيني ، وهو إبليس ، وقيل إني أعلم أنهم يذنبون وأنا أغفر لهم . قرأ أهل الحجاز والبصرة إني أعلم بفتح الياء وكذلك كل ياء إضافة استقبلها ألف مفتوحة إلا في مواضع معدودة ويفتحون في بعض المواضع عند الألف المضمومة والمكسورة وعند غير الألف وبين القراء اختلاف .
وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعاً ، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم ، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته ، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ . . . }
في هذه الآيات الكريمة عطف - سبحانه - قصة خلق آدم أبي البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا في الاستدلال على أن الله واحد ، وجمعاً بين تعدد الأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها ، حتى يكون التدليل أجمع ، والإِيمان بالله أقوى وأثبت .
وإذ وإذا ظرفان للزمان ، الأول للماضي والثاني للمستقبل ، فإن جاء إذ مع المضارع أفاد الماضي كقوله : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ . . . } وإن جاء إذا مع الماضي أفاد الاستقبال كقوله : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } وإذ هنا واقعة موقع المفعول به لعامل مقدر دل عليه المقام . والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . وقد جاء هذا المقدر هنا مصرحاً به في آيات أخرى كما قال تعالى :
{ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } والملائكة جمع ملك . والتاء لتأنيث الجمع ، وأصله ملأك ، من ملك ، نحو شمال من شمل ، والهمزة زائدة وهو مقلوب مالك ، وقيل : إن ملاك من لأك إذا أرسل ، ومنه الألوكة ، أي : الرسالة .
والملائكة ، هم جند من خلق الله ، ركز الله فيهم العقل والفهم ، وفطرهم على الطاعة ، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة ، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة ، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره " ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه للنبوة والرسالة . قال تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } وقال تعالى : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس } وقال-تعالى - { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } و ( الخليفة ) من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، والتاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم - عليه السلام - لأنه كان خليفة من الله في الأرض ، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله - تعالى - في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وإجراء أحكامه عليهم ، وتنفيذ أوامره فيهم . وقيل : آدم وذريته ، لأنه يخلف بعضهم بعضاً في عمارة الأرض ، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل . وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة ، ليس المقصود منه المشورة ، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة ، وما أجيبوا به من بعد ، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو - سبحانه - بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة . أو الحكمة تعظيم شأن المجهول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة .
ثم حكى - سبحانه - إجابة الملائكة فقال : { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .
الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح . يقال فسد الشيء فساداً وفسوداً وأفسده غيره .
والسفك : الصب والإِهراق ، يقال : سفكت الدم والدمع سفكاً - من باب ضرب - صببته . والفاعل سافك وسفاك ، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإِنسان ظلماً وعدواناً .
والتسبيح : مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء .
والتقديس : التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال .
فيكون التسبيح نفى ما لا يليق ، والتقديس إثبات ما يليق ، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية . والمعنى : أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، تنزيهاً متلبساً بحمدك والثناء عليك ، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيماً لك وتمجيداً .
وقولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا . . . إلخ } إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإِفساد في الأرض وسفك الدماء . وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله ، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل ، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا . والملائكة لا يعلمون الغيب ، فلابد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه . قال الإِمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى : قوله - تعالى - { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون ، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم . ويردعهم عن المحارم والمآثم . . وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه البعض . . وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا ؟
وقد رد الله - تعالى - على الملائكة بقوله : { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له - تعالى - المتعبون رسله .
فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق - عز وجل - وتنبيه إلى أنه - تعالى - عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه ، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء ، وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء ، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً ، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله ، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم ، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم ، وإن وقفت عقولهم دونها ، ففي تسليمهم لقدر الله ، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا الله ، الذي هو الغاية من الإِيمان به والإِقبال على طاعته .
قال بعض العلماء : " وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب بعض الناس له ، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلو على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين - وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين .
{ وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم ، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له ، إنعام يعم ذريته . وإذا ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى ، كما وضع إذ الزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى ، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان ، وبنيتا تشبيها لهما بالموصولات ، واستعملتا للتعليل والمجازاة ، ومحلهما النصب أبدا بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه ، وأما قوله تعالى : { واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف } ونحوه ، فعلى تأويل : اذكر الحادث إذا كان كذا فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه ، وعامله في الآية قالوا ، أو اذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولا له صريحا في القرآن كثيرا ، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة ، مثل وبدأ خلقكم إذ قال ، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة . وعن معمر أنه مزيد . والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل ، والتاء لتأنيث الجمع ، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي : الرسالة ، لأنهم وسائط بين الله تعالى ، وبين الناس ، فهم رسل الله . أو كالرسل إليهم . واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها . فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك . وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان . وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، منقسمة إلى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره ، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وهم العليون والملائكة المقربون . وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وهم المدبرات أمرا ، فمنهم سماوية ، ومنهم أرضية ، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع .
والمقول لهم : الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ، وقيل ملائكة الأرض ، وقيل إبليس ومن كان معه في محاربة الجن ، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولا فأفسدوا فيها ، فبعث إليهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال . وجاعل : من جعل الذي له مفعولان وهما في { الأرض خليفة } أعمل فيهما ، لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه . ويجوز أن يكون بمعنى خالق . والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه ، والهاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم ، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه ، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه ، وتلقي أمره بغير وسط ، ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال الله تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم ، واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمه بلا واسطة ، كما كلم موسى عليه السلام في الميقات ، ومحمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد ، جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك . أو خليفة من سكن الأرض قبله ، أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم ، أو يخلف بعضهم بعضا . وإفراد اللفظ : إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم : مضر وهاشم . أو على تأويل من يخلفكم ، أو خلفا يخلفكم . وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة ، تعليم المشاورة ، وتعظيم شأن المجعول ، بأن بشر عز وجل بوجود سكان ملكوته ، ولقبه بالخليفة قبل خلقه ، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم ، وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك .
{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية ، واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها ، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره ، وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ، أو تلق من اللوح ، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم ، أو قياس لأحد الثقلين على الآخر . والسفك والسبك والسفح والشن أنواع من الصب ، فالسفك يقال في الدم والدمع ، والسبك في الجواهر المذابة ، والسفح في الصب من أعلى ، والشن في الصب من فم القربة ونحوها ، وكذلك السن ، وقرئ { يسفك } على البناء للمفعول ، فيكون الراجع إلى { من } ، سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوفا ، أي : يسفك الدماء فيهم .
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } حال مقررة لجهة الإشكال كقولك أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج القديم . والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ، والمقصود منه ، الاستفسار عما رجحهم ومع ما هو متوقع منهم ، على الملائكة المعصومين في الاستخلاف ، لا العجب والتفاخر . وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء ، وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة . ونظروا إليها مفردة وقالوا ما الحكمة في استخلافه ، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه ، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليما عن معارضة تلك المفاسد . وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل ، متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف . ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد ، كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف ، وإليه أشار تعالى إجمالا بقوله :
{ قال إني أعلم ما لا تعلمون } والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس ، من سبح في الأرض والماء ، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ، ويقال قدس إذا طهر لأن مطهر الشيء مبعد له عن الأقذار . و{ بحمدك } في موضع الحال ، أي متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك ، تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح ، وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل : نقدسك واللام مزيدة .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً } .
عَطَفَتْ الواو قصة خلق أول البشر على قصة خلق السماوات والأرض انتقالاً بهم في الاستدلال على أن الله واحد وعلى بطلان شركهم وتخلصاً من ذكر خلق السماوات والأرض إلى خلق النوع الذي هو سلطان الأرض والمتصرف في أحوالها ، ليُجمع بين تعدد الأدلة وبين مختلف حوادث تكوين العوالم وأصلها ليعلم المسلمون ما عَلِمَه أهل الكتاب من العلم الذي كانوا يُباهون به العربَ وهو ما في سفر التكوين من التوراة .
واعلم أن موقع الدليل بخلق آدم على الوحدانية هو أن خلق أصل النوع أمر مدرك بالضرورة لأن كل إنسان إذا لَفَتَ ذهنه إلى وجوده علم أنه وجود مسبوق بوجود أصل له بما يشاهد من نشأة الأبناء عن الآباء فيوقن أن لهذا النوع أصلاً أولَ ينتهي إليه نشوءه ، وإذ قد كانت العبرة بخلق ما في الأرض جميعاً أُدْمِجت فيها منة وهي قوله : { لكم } [ البقرة : 29 ] المقتضية أن خلق ما في الأرض لأجلهم تَهَيَّأتْ أنفسهم لسماع قصة إيجاد منشأ الناس الذين خُلقت الأرض لأجلهم ليُحاط بما في ذلك من دلائل القدرة مع عظيم المنة وهي منة الخلق التي نشأت عنها فضائل جمة ومِنَّة التفضيل ومنة خلافة الله في الأرض ، فكان خَلق أصلنا هو أبدع مظاهر إحيائنا الذي هو الأصل في خلق ما في الأرض لنا ، فكانت المناسبة في الانتقال إلى التذكير به واضحة مع حسن التخلص إلى ذكر خبره العجيب ، فإيراد واو العطف هنا لأجل إظهار استقلال هذه القصة في حد ذاتها في عظم شأنها .
و ( إذ ) من أسماء الزمان المبهمَة تدل على زمان نسبة ماضية وقعتْ فيه نسبةٌ أخرى ماضية قارنتها ، ف ( إذْ ) تحتاج إلى جملتين جملة أصلية وهي الدالة على المظروف وتلك هي التي تكون مع جميع الظروف ، وجملة تبين الظرف ما هو ، لأن ( إذ ) لما كانت مبهمة احتاجت لما يبين زمانها عن بقية الأزمنة ، فلذلك لزمت إضافتها إلى الجمل أبداً ، والأكثر في الكلام أن تكون إذ في محل ظرف لزَمن الفعل فتكون في محل نصب على المفعول فيه ، وقد تخرج ( إذ ) عن النصب على الظرفية إلى المفعولية كأسماء الزمان المتصرفة على ما ذهب إليه صاحب « الكشاف » وهو مختار ابن هشام خلافاً لظاهركلام الجمهور ، فهي تصير ظرفاً مبهماً متصرفاً ، وقد يضاف إليها اسم زمان نحو يومئذٍ وساعتئذٍ فتجر بإضافة صورية ليكون ذكرها وسيلة إلى حذف الجملة المضافةِ هي إليها ، وذلك أن ( إذ ) ملازمة للإضافة فإذا حذفت جملتها عَلِم السامع أن هنالك حذفاً ، فإذا أرادوا أن يحذفوا جملة مع اسم زمان غير ( إذ ) خافوا أن لا يهتدي السامع لشيء محذوف حتى يتطلب دليله فجعلوا إذْ قرينة على إضافةٍ وحذفوا الجملة لينبهوا السامع فيتطلب دليل المحذوف .
وهي في هذه الآية يجوز أن تكون ظرفاً وكذلك أعربها الجمهور وجعلوها متعلقة بقوله : { قالوا } وهو يفضي إلى أن يكون المقصود من القصة قولَ الملائكة وذلك بعيد لأن المقصود من العبرة هو خطاب الله لهم وهو مبدأ العبرة وما تضمنته من تشريف آدم وتعليمه بعد الامتنان بإيجاد أصل نوع الناس الذي هو مناط العبرة من قوله : { كيف تكفرون } [ البقرة : 28 ] الآيات ، ولأنه لا يتأتى في نظيرها وهو قوله الآتي : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } [ البقرة : 34 ] إذ وجود فاء التعقيب يمنع من جعل الظرف متعلقاً بمدخولها ، ولأن الأظهر أن قوله : { قالوا } حكاية للمراجعة والمحاورة على طريقة أمثاله كما سنحققه . فالذي ينساق إليه أسلوب النظم فيه أن يكون العطف على جملة : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] أي خلق لكم ما في الأرض وقال للملائكة إني خالق أصل الإنسان لِما قدمناه من أن ذكر خلق ما في الأرض وكونِه لأجلنا يهيىء السامع لترقب ذكر شأننا بعد ذكر شأن ما خُلق لأجلنا من سماء وأرض ، وتكون { إذ } على هذا مزيدة للتأكيد قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى وأنشد قول الأسود بن يعفر :
فإذْ وذلك لامهاهَ لذكره *** والدهرُ يُعقِب صالحاً بفساد
( هكذا رواه فإذْ على أن يكون في البيت زحاف الطي ، وفي رواية فإذا فلا زحاف ، والمهاه بهاءين الحُسْن ولا يشكل عليه أن شأن الزيادة أن تكون في الحروف لأن إذ وإذا ونحوهما عوملت معاملة الحروف ) ، أو أن يكون عطف القصة على القصة ويؤيده أنها تبتدأ بها القصص العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى ، ألا ترى أنها ذكرت أيضاً في قوله تعالى : { وإذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } ولم تذكر فيما بينهما وتكون { إذْ } اسم زمان مفعولاً به بتقدير اذكر ، ونظيره كثير في القرآن ، والمقصود من تعليق الذكر والقصة بالزمان إنما هو ما حصل في ذلك الزمان من الأحوال . وتخصيص اسم الزمان دون اسم المكان لأن الناس تعارفوا إسناد الحوادث التاريخية والقصص إلى أزمان وقوعها .
وكلام الله تعالى للملائكة أطلق على ما يفهمون منه إرادته وهو المعبر عنه بالكلام النفسي فيحتمل أنه كلام سمعوه فإطلاق القول عليه حقيقة وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون وسيلة معتادة ، ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة ، فإطلاق القول عليه مجاز لأنه دلالة للعقلاء والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم " اشتكت النار إلى ربها " وقوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] وقول أبي النجم : « إذ قالت الآطال للبطن الحق » ، ولا طائل في البحث عن تعين أحد الاحتمالين .
والملائكة جمع ملك وأصل صيغة الجمع ملائكة والتاء لتأكيد الجمعية لما في التاء من الإيذان بمعنى الجماعة ، والظاهر أن تأنيث ملائكة سرى إلى لغة العرب من كلام المتنصرين منهم إذ كانوا يعتقدون أن الأملاك بنات الله واعتقده العرب أيضاً قال تعالى : { ويجعلون لله البنات سبحانه } [ النحل : 57 ] فملائك جمع ملأك كشمائل وشمأل ، ومما يدل عليه أيضاً قول بعض شعراء عبد القيس أو غيره :
ولَسْت لإِنْسِيَ ولكِنْ لِمَلأَكٍ *** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يُصَوِّب{[106]}
وقد اختلفوا في اشتقاقه فقال أبو عبيدة هو مفعل من لأك بمعنى أرسل ومنه قولهم في الأمر بتبليغ رسالة ألكني إليه أي كن رسولي إليه وأصل ألكني ألإكني وإن لم يعرف له فعل . وإنما اشتق اسم الملك من الإرسال لأن الملائكة رسل الله إما بتبليغ أو تكوين كما في الحديث : " ثم يرسل إليه ( أي للجنين في بطن أمه ) الملك فينفخ فيه الروح " ، فعلى هذا القول هو مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول ، وقال الكسائي هو مقلوب ووزنه الآن معفل وأصله مأْلك من الألوك والأَلوكة وهي الرسالة ويقال مأْلَكُ ومأْلَُكة ( بفتح اللام وضمها ) فقلبوا فيه قلباً مكانياً فقالوا ملأَك فهو صفة مشبهة . وقال ابن كيسان هو مشتق من الملك ( بفتح الميم وسكون اللام ) والملك بمعنى القوة قال تعالى : { عليها ملائكة غلاظ شداد } [ التحريم : 6 ] والهمزة مزيدة فوزنه فعْأَل بسكون العين وفتح الهمزة كشَمْأَل ، ورد بأن دعوى زيادة حرف بلا فائدة دعوى بعيدة ، ورد مذهب الكسائي بأن القلب خلاف الأصل ، فرجح مذهب أبي عبيدة ، ونقل القرطبي عن النضر بن شميل أنه قال لا اشتقاق للمَلَك عند العرب يريد أنهم عَرَّبوه من اللغة العبرانية ويؤيده أن التوراة سمت المَلَك مَلاَكاً بالتخفيف ، وليس وجود كلمة متقاربة اللفظ والمعنى في لغتين بدال على أنها منقولة من إحداهما إلى الأخرى إلا بأدلة أخرى .
والملائكة مخلوقات نورانية سماوية مجبولة على الخير قادرة على التشكل في خرق العادة لأن النور قابل للتشكل في كيفيات ولأن أجزاءه لا تتزاحم ونورها لا شعاع له فلذلك لا تضىء إذا اتصلت بالعالم الأرضي وإنما تتشكل إذا أراد الله أن يظهر بعضُهم لبعض رسله وأنبيائه على وجه خرق العادة . وقد جعل الله تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد الله تكوينها فتتولى التدبير لها ولهذه التوجهات الملكية حيثيات ومراتب كثيرة تتعذر الإحاطة بها وهي مضادة لتوجهات الشياطين ، فالخواطر الخيرية من توجهات الملائكة وعلاقتها بالنفوس البشرية وبعكسها خواطر الشر .
والخليفة في الأصل الذي يخلف غيره أو يكون بدلاً عنه في عمل يعمله ، فهو فعيل بمعنى فاعل والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالعَلاَّمة . والمراد من الخليفة هنا إما المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملاً يريده المستخلِف مثل الوكيل والوصي ، أي جاعل في الأرض مدبراً يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقة لأن الله تعالى لم يكن حَالاً في الأرض ولا عاملاً فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السلطنة على موجودات الأرض ، ولأن الله تعالى لم يترك عملاً كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الأعظم لم يزل لله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلافَ غيره من الحيوان ، وإما أن يراد من الخليفة معناه الحقيقي إذا صح أن الأرض كانت معمورة من قبلُ بطائفة من المخلوقات يسمَّون الحِن والبِن بحاء مهملة مكسورة ونون في الأول ، وبموحدة مكسورة ونون في الثاني وقيل اسمهم الطَّم والرَّم بفتح أولهما ، وأحسبه من المزاعم ، وأن وضع هذين الاسمين من باب قول الناس : هيَّان بن بَيَّان إشارة إلى غير موجود أو غير معروف .
ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطَّم والرَّم كان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى التِيتَان وأن زفس وهو المشتري كبير الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم . وكل هذا ينافيه سياق الآية فإن تعقيب ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جَعْلَ الخليفة دليل على أن جعْل الخليفة كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها فالخليفة هنا الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته ولا يلزم أن يكون المخلوف مستقِراً في المكان من قبل ، فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي ، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسَن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم ، فكانت الآية من هذا الوجه إيماءً إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك ، وقد بعث الله الرسل وبين الشرائع فربما اجتمعت الرسالة والخلافة وربما انفصلتا بحسب ما أراد الله من شرائعه إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة والخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة ولأن امتزاج الدين والمُلْك هو أكمل مظاهر الخطتين قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } [ النساء : 64 ] ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبيء صلى الله عليه وسلم على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، من جُفاة الأعراب ودُعاة الفتنة فالمناظرة مع أمثالهم سُدًى .
وللخليفة شروط محل بيانها كتب الفقه والكلام ، وستجيء مناسبتها في آيات آتية .
والظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الروح فيه أو قبل النفخ والأول أظهر ، فيكون المراد بالمخبَر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق كما يقول الذي كتب كتاباً بحضرة جليس إني مرسل كتاباً إلى فلان فإن السامع يعلم أن المراد أن ذلك الذي هو بصدد كتابته كتاب لفلان ، ويجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم ، وعلى الوجوه كلها يكون اسم الفاعل في قوله : { جاعل } للزمن المستقبل لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتاً لآدم ساعتئذٍ .
وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما عَلِم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس ، وليكون كالاستشارة لهم تكريماً لهم فيكونُ تعليماً في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب وليَسُنَّ الاستشارة في الأمور ، ولتنبيه الملائكة على ما دقَّ وخفي من حكمة خلق آدم كذا ذكر المفسرون .
وعندي أن هاته الاستشارة جعلت لتكونَ حقيقةً مقارنةً في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموساً أُشْرِبَتْه نفوس ذريته لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء مَّا ، تؤثر تآلُفاً بين ذلك الكائن وبين المقارن . ولعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا تبعاً لذوات مَقامَ أمر التكوين في الذوات فكما أن أمره إذا أراد شيئاً أي إنشاءَ ذاتٍ أن يقول له كن فيكون ، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذات ، ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يكون قَبول العلم من خصائص الإنسان علَّم آدم الأسماء عندما خلقه .
وهذا هو وجه مشروعية تسمية الله تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضاً للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل ، ولهذا أيضاً طَلبت منا الشريعة تخيُّر أكمل الحالات وأفضلِ الأوقات للشروع في فضائل الأعمال ومهمات المطالب ، وتقدم هذا في الكلام على البسملة ، وسنذكر ما يتعلق بالشورى عند قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } في سورة آل عمران ( 159 ) .
وأسندت حكاية هذا القول إلى الله سبحانه بعنوان الرب لأنه قول منبىء عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض ، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف وصلاح وذلك من معاني الربوبية كما تقدم في قوله : { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة 2 ) ، ولما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع وهو النبيء محمد صلى الله عليه وسلم مع تكريمه بشرف حضور المخاطَبة .
{ قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } .
هذا جواب الملائكة عن قول الله لهم : { إني جاعل في الأرض خليفة } فالتقدير فقالوا على وزان قوله : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } [ البقرة : 34 ] وفُصل الجواب ولم يعطف بالفاء أو الواو جرياً به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات وهي طريقة عربية قال زهير :
قيل لهم ألا اركبوا ألاتا*** قالوا جميعاً كلهم آلافا
أي فاركبوا ولم يقل فقالوا . وقال رؤبة بن العجاج :
قالت بنات العم يا سلمى وإن *** كان فقيراً مُعدماً قالت وإنن
وإنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول فإن المحاورة تقتضي الإعادة في الغالب فطردوا الباب فحذفوا العاطف في الجميع وهو كثير في التنزيل وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة تقتضي مخالفة الاستعمال وإن كان العطف بالفاء هو الظاهر والأصل ، وهذا مما لم أسبق إلى كشفه من أساليب الاستعمال العربي .
ومما عطف بالفاء قوله تعالى : { فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } فقال الملأ في سورة المؤمنين ( 23 ، 24 ) وقد يعطف بالواو أيضاً كما في قوله : { فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه } الخ في سورة المؤمنون ( 32 ، 33 ) وذلك إذا لم يكن المقصود حكاية التحاور بل قصد الإخبار عن أقوال جرت أو كانت الأقوال المحكية ممّا جرى في أوقات متفرّقة أو أمكنة متفرّقة . ويظهر ذلك لك في قوله تعالى : { قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه } [ غافر : 25 ] إلى قوله : { وقال فرعون ذروني أقتل موسى } ( 26 ) ثم قال تعالى : { وقال موسى إني عذت بربي وربكم } ( 27 ) ثم قال : { وقال رجل مؤمن من آل فرعون } ( 28 ) الآية في سورة غافر ، وليس قوله : { قالوا أتجعل } جواباً لإذ عاملاً فيها لما قدمناه آنفاً من أنه يفضي إلى أن يكون قولهم : { أتجعل فيها } هو المقصود من القصة وأن تصير جملة { إذ } تابعة له إذ الظرف تابع للمظروف .
والاستفهام المحكي عن كلام الملائكة محمول على حقيقته مضمن معنى التعجب والاستبعاد من أن تتعلق الحكمة بذلك فدلالة الاستفهام على ذلك هنا بطريق الكناية مع تطلب ما يزيل إنكارهم واستبعادهم فلذلك تعين بقاء الاستفهام على حقيقته خلافاً لمن توهم الاستفهام هنا لمجرد التعجب ، والذي أقدم الملائكة على هذا السؤال أنهم علموا أن الله لما أخبرهم أراد منهم إظهار علمهم تجاه هذا الخبر لأنهم مفطورون على الصدق والنزاهة من كل مؤاربة فلما نشأ ذلك في نفوسهم أفصحت عنه دلالة تدل عليه يعلمها الله تعالى من أحوالهم لا سيما إذا كان من تمام الاستشارة أن يبدي المستشار ما يراه نصحاً وفي الحديث : " المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم " يعني إذا تكلم فعليه أداء أمانة النصحية .
وعبر بالموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الكلام وهو الاستفهام والتعجب لأن من كان من شأنه الفساد والسفك لا يصلح للتعمير لأنه إذا عمر نقض ما عمره .
وعُطف سفك الدماء على الإفساد للاهتمام به . وتكرير ضمير ( الأرض ) للاهتمام بها والتذكير بشأن عمرانها وحفظ نظامها ليكون ذلك أدخل في التعجب من استخلاف آدم وفي صرف إرادة الله تعالى عن ذلك إن كان في الاستشارة ائتمار .
والإفساد تقدم في قوله تعالى : { ألا إنهم هم المفسدون } [ البقرة : 12 ] .
والسفك الإراقة وقد غلب في كلامهم تعديته إلى الدماء وأما إراقة غير الدم فهي سفح بالحاء . وفي المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية إما بوصف الله لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده ، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب وعن الامتثال إلى العصيان فإن العقل يشتمل على شاهية وغاضبة وعاقلة ومن مجموعها ومجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة وضارة ، ثم إن القدرة التي في الجوارح تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل وقواه أن يفعله ثم إن النطق يستطيع إظهار خلاف الواقع وترويج الباطل ، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير ومن أحواله أيضاً صلاح عظيم وإن طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها وشرها فيحصل فعل مختلط من صالح وسيء ، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة ، وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات ، وفي توجه نورانية النفوس إلى المعلومات ، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة ، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة .
وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله ، أو قياس على أمة تقدمت وانقرضت ، أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر التكوين من التوراة . وبه أيضاً تعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر ، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم وإنما هو حكم بما يصلحون له بالقوة ، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث لم يفسد ، لأن في هذا القول غفلة عما ذكرناه من البيان .
وأوثر التعبير بالفعل المضارع في قوله : { من يفسد } { ويسفك } لأن المضارع يدل على التجدد والحدوث دون الدوام أي من يحصل منه الفساد تارة وسفك الدماء تارة لأن الفساد والسفك ليسا بمستمرين من البشر .
وقولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } دليل على أنهم علموا أن مراد الله من خلق الأرض هو صلاحها وانتظام أمرها وإلا لما كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع وهم علموا مراد الله ذلك من تلقيهم عنه سبحانه أو من مقتضى حقيقة الخلافة أو من قرائن أحوال الاعتناء بخلق الأرض وما عليها على نظم تقتضي إرادة بقائها إلى أمد ، وقد دلت آيات كثيرة على أن إصلاح العالم مقصد للشارع قال تعالى : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله } [ محمد : 22 ، 23 ] وقال : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنَّسْل واللَّهُ لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] .
ولا يَرد هنا أن هذا القول غيبة وهم منزهون عنها لأن ذلك العالم ليس عالم تكليف ولأنه لا غيبة في مَشُورة ونحوها كالخِطبة والتجريح لتوقف المصلحة على ذكر ما في المستشارِ في شأنه من النقائص ، ورجحاننِ تلك المصلحة على مفسدة ذكر أحدٍ بما يَكْره ، ولأن الموصوف بذلك غيرُ معين إذ الحكم على النوع ، فانتفى جميع ما يترتب على الغيبة من المفاسد في واقعة الحال فلذلك لم يحجم عنها الملائكة .
و { نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .
الواو متعينة للحالية إذ لا موقع للعطف هنا وإن كان ما بعد الواو من مقولهم ومحكياً عنهم لكن الواو من المَحْكِي وليست من الحكاية لأن قولهم { ونحن نسبح بحمدك } يحْتمل معنيين أحدهما أن يكون الغرض منه تفويض الأمر إلى الله تعالى واتهامَ عِلمهم فيما أشاروا به كما يفعل المستشار مع من يعلم أنه أسَدُّ منه رأياً وأرجح عقلاً فيشير ثم يفوّض كما قال أهل مشورة بِلْقِيس إذ قالت : { أَفْتُوني في أمري ما كنتُ قاطعة أمراً حتى تشهدون قالوا نحن أُولُوا قوة وأُولُوا بأسٍ شديد } أي الرأي أن نحاربه ونصده عما يريد من قوله { وأُتُوني مسلمين } [ النمل : 31 ] والأمرُ إليك { فانظري ماذا تَأْمُرين } [ النمل : 32 ، 33 ] ، وكما يفعل التلميذ مع الأستاذ في بحثه معه ثم يصرح بأنه مَبْلغ علمه ، وأن القول الفصل للأستاذ ، أو هو إعلان بالتنزيه للخالق عن أن يخفى عليه ما بدا لهم من مانع استخلاف آدم ، وبراءةٌ من شائبة الاعتراض ، والله تعالى وإن كان يعلم براءَتهم من ذلك إلا أن كلامهم جرى على طريقة التعبير عما في الضمير من غير قصد إعلام الغير ، أو لأنَّ في نفس هذا التصريح تبركاً وعبادة ، أو إعْلاَن لأهل الملإ الأعلى بذلك .
فإذا كان كذلك كان العطف غير جائز لأن الجملة المحكية بالقول إذا عطفت عليها جملة أخرى من القول فالشأن أن لا يقصد العطف على تقدير عامل القول إلا إذا كان القولان في وقتين كما في قوله تعالى : { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } [ آل عمران : 173 ] على أحد الوجوه في عطف جملة { نعم الوَكيل } عند من لا يَرَوْن صحة عطف الإنشاء على الخبر وإن كان الحق صحة عطف الإنشاء على الخبر وعكسه وأنه لا ينافي حُسن الكلام ، فلذلك لم يكن حظ للعطف ، ألا ترى أنهم إذا حَكَوا حادثاً مُلِمًّا أو مُصاباً جَمًّا أعقبوه بنحو حسبنا الله ونعم الوكيل أو إنا لله وإنا إليه راجعون أو نحو ذلك{[107]} ولا يعطفون مثل ذلك فكانت الواو واو الحال للإشارة إلى أن هذا أمر مستحضر لهم في حال قولهم : { أتجعل فيها من يفسد } وليس شيئاً خطر لهم بعد أن توغلوا في الاستبعاد والاستغراب .
الاحتمال الثاني : أن يكون الغرض من قولهم { ونحن نسبح بحمدك } التعريض بأنهم أولى بالاستخلاف لأن الجملة الاسمية دلت على الدوام وجملة { من يفسد فيها } دلت على توقع الفساد والسفك فكان المراد أن استخلافه يقع منه صلاح وفساد والذين لا يصدر منهم عصيان مراد الله هم أولى بالاستخلاف ممن يتوقع منه الفساد فتكون حالاً مقررة لمدلول جملة { أتجعل فيها من يفسد } تكملة للاستغراب ، وعاملها هو { تجعل } وهذا الذي أشار إليه تمثيل « الكشاف » . والعامل في الحال هو الاستفهام لأنه مما تضمن معنى الفعل لا سيما إذا كان المقصود منه التعجب أيضاً إذ تقدير { أتجعل فيها } الخ نتعجب من جعله خليفة .
والتسبيح قول أو مجموع قول مع عمل يدل على تعظيم الله تعالى وتنزيهه ولذلك سمى ذكر الله تسبيحاً ، والصلاة سبحة ويطلق التسبيح على قول سبحان الله لأن ذلك القول من التنزيه وقد ذكروا أن التسبيح مشتق من السبح وهو الذهاب السريع في الماء إذ قد توسع في معناه إذ أطلق مجازاً على مر النجوم في السماء قال تعالى : { وكل في فلك يسبحون } [ يس : 40 ] وعلى جري الفرس قالوا فلعل التسبيح لوحظ فيه معنى سرعة المرور في عبادة الله تعالى ، وأظهر منه أن يكون سبح بمعنى نَسب للسبح أي البعد وأريد البعد الاعتباري وهو الرفعة أي التنزيه عن أحوال النقائص وقيل سمع سبح مخففاً غير مضاعف بمعنى نزه ، ذكره في « القاموس » .
وعندي أن كون التسبيح مأخوذاً من السبح على وجه المجاز بعيد والوجه أنه مأخوذ من كلمة سبحان ولهذا التزموا في هذا أن يكون لوزن فعّل المضاعف فلم يسمع مخففاً .
وإذا كان التسبيح كما قلنا هو قول أو قول وعمل يدل على التعظيم فتعلق قوله { بحمدك } به هنا وفي أكثر المواضع في القرآن ظاهر لأن القول يشتمل على حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه فالباء للملابسة أي نسبح تسبيحاً مصحوباً بالحمد لك وبذلك تنمحي جميع التكلفات التي فسروا بها هنا .
والتقديس التنزيه والتطهير وهو إما بالفعل كما أطلق المقدس على الراهب في قول امرىء القيس يصف تعلق الكلاب بالثور الوحشي :
فأدركنه يأخذن بالساق والنسا *** كما شبرق الولدان ثوب المقدس{[108]}
وإما بالاعتقاد كما في الحديث : " لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها " أي لا نزهها الله تعالى وطهرها من الأرجاس الشيطانية .
وفعل قدس يتعدى بنفسه فالإتيان باللام مع مفعوله في الآية لإفادة تأكيد حصول الفعل نحو شكرت لك ونصحت لك وفي الحديث عند ذكر الذي وجد كلباً يلهث من العطش " فأخذ خفه فأدلاه في الركية فسقاه فشكر الله له " أي شكره مبالغة في الشكر لئلا يتوهم ضعف ذلك الشكر من أنه عن عمل حسنة مع دابة فدفع هذا الإيهام بالتأكيد باللام وهذا من أفصح الكلام ، فلا تذهب مع الذين جعلوا قوله : { لك } متعلقاً بمحذوف تقديره حامدين أو هو متعلق بنسبح واللام بمعنى لأجلك على معنى حذف مفعول { نسبح } أي نسبح أنفسنا أي ننزهها عن النقائص لأجلك أي لطاعتك فذلك عدول عن فصيح الكلام ، ولك أن تجعل اللام لام التبيين التي سنتعرض لها عند قوله تعالى : { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] .
فمعنى { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } نحن نعظمك وننزهك والأول بالقول والعمل والثاني باعتقاد صفات الكمال المناسبة للذات العلية ، فلا يتوهم التكرار بين ( نسبح ) و ( نقدس ) .
وأوثرت الجملة الاسمية في قوله : { ونحن نسبح } لإفادة الدلالة على الدوام والثبات أي هو وصفهم الملازم لجبلتهم ، وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي دون حرف النفي يحتمل أن يكون للتخصيص بحاصل ما دلت عليه الجملة الاسمية من الدوام أي نحن الدائمون على التسبيح والتقديس دون هذا المخلوق والأظهر أن التقديم لمجرد التقوى نحو هو يعطي الجزيل .
{ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
جواب لكلامهم فهو جار على أسلوب المقاولة في المحاورات كما تقدم ، أي أعلم ما في البشر من صفات الصلاح ومن صفات الفساد .
واعلم أن صلاحه يحصل منه المقصد من تعمير الأرض وأن فساده لا يأتي على المقصد بالإبطال وأن في ذلك كله مصالح عظيمة ومظاهر لتفاوت البشر في المراتب واطلاعاً على نموذج من غايات علم الله تعالى وإرادته وقدرته بما يظهره البشر من مبالغ نتائج العقول والعلوم والصنائع والفضائل والشرائع وغير ذلك . كيف ومن أبدع ذلك أن تركب الصفتين الذميمتين يأتي بصفات الفضائل كحدوث الشجاعة من بين طرفي التهور والجبن . وهذا إجمال في التذكير بأن علم الله تعالى أوسع مما علموه فهم يوقنون إجمالاً أن لذلك حكمة ومن المعلوم أن لا حاجة هنا لتقدير وما تعلمون بعد { ما لا تعلمون } لأنه معروف لكل سامع ولأن الغرض لم يتعلق بذكره وإنما تعلق بذكر علمه تعالى بما شذ عنهم . وقد كان قول الله تعالى هذا تنهية للمحاورة وإجمالاً للحجة على الملائكة بأن سعة علم الله تحيط بما لم يحط به علمهم وأنه حين أراد أن يجعل آدم خليفة كانت إرادته عن علم بأنه أهل للخلافة ، وتأكيد الجملة بأن لتنزيل الملائكة في مراجعتهم وغفلتهم عن الحكمة منزلة المترددين .
قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: التقديس: الصلاة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة أن تأويل قوله:"وَإذْ قَالَ رَبكَ": وقال ربك، وأن «إذ» من الحروف الزوائد، وأن معناها الحذف... والأمر في ذلك بخلاف ما قال، وذلك أن «إذ» حرف يأتي بمعنى الجزاء، ويدل على مجهول من الوقت، وغير جائز إبطال حرف كان دليلاً على معنى في الكلام.
فإن قال قائل: فما معنى ذلك؟ وما الجالب ل«إذْ»، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يعطف به عليه؟ قيل له: قد ذكرنا فيما مضى أن الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ "بهذه الآيات والتي بعدها موبخهم مقبحا إليهم سوء فعالهم ومقامهم على ضلالهم مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم، ومذكرهم بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم بأسه أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصية الله، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته ومعرّفهم ما كان منه من تعطفه على التائب منهم استعتابا منه لهم. فكان مما عدد من نعمه عليهم، أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا، وسخر لهم ما في السموات من شمسها وقمرها ونجومها وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع، فكان في قوله: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللّهِ وكُنْتُمْ أمْواتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ "معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئا، وخلقت لكم ما في الأرض جميعا، وسوّيت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله: "وَإذْ قالَ رَبكَ للمَلائِكَة...ِ" على المعنى المقتضَى بقوله: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ..." إذ كان مقتضيا ما وصفت من قوله: اذكروا نعمتي إذْ فعلت بكم وفعلت، واذكروا فعلى بأبيكم آدم، إذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...
(إِنّي جاعِلٌ في الأرْضِ). اختلف أهل التأويل في قوله: إنّي جاعِلٌ، فقال بعضهم: إني فاعل...
عن الحسن وقتادة، قالوا: قال الله للملائكة: إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قال لهم: إني فاعل...
وقال آخرون: إني خالق... عن أبي روق، قال: كل شيء في القرآن «جعل» فهو خلق...
والصواب في تأويل قوله: "إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَة" أي مستخلف في الأرض خليفة ومصير فيها خلفا، وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة. وقيل إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي مكة...
قوله تعالى: (خَلِيفَةً). والخليفة، من قولك: خلف فلان فلانا في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال جل ثناؤه: "ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ في الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" يعني بذلك: أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم، ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفا، يقال منه: خلف الخليفة يخلُف خلافة وخليفا...
عن ابن عباس، قال: أوّل من سكن الأرض الجنّ، فأفسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال: "إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً". فعلى هذا القول "إني جاعل في الأرض خليفة" من الجنّ يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها...
وقال آخرون... أي خلفا يخلف بعضهم بعضا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله...
عن ابن سابط في قوله: "إني جاعلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أتجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ" قال: يعنون به بني آدم...
قال ابن زيد، قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا، وأجعل فيها خليفة، وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة والأرض ليس فيها خلق...
وهذا القول يحتمل ما حُكي عن الحسن، ويحتمل أن يكون أراد ابن زيد أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة له، يحكم فيها بين خلقه بحكمه...
عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله جل ثناؤه قال للملائكة: "إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً" قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله لأنهما أخبرا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته إذ سألوه: ما ذاك الخليفة: إنه خليفة يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذرية خليفته دونه وأخرج منه خليفته. وهذا التأويل وإن كان مخالفا في معنى الخليفة ما حُكي عن الحسن من وجه، فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه فصرف متأوّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياها فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها، وإضافة الحسن الخلافة إلى ولده بمعنى خلافة بعضهم بعضا، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة.
والذي دعا المتأوّلين قوله: "إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً" في التأويل الذي ذكر عن الحسن إلى ما قالوا في ذلك؛ أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها إذ قال لهم ربهم: "إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفكُ الدّماءَ" إخبارا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه جاعله في الأرض لا غيره، لأن المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنه جرت. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله قد برأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء وطهره من ذلك، علم أن الذي عنى به غيره من ذرّيته، فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم، وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك، وأن معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لما وصفنا. وأغفل قائلو هذه المقالة ومتأوّلو الآية هذا التأويل سبيل التأويل، وذلك أن الملائكة إذ قال لها ربها: "إنّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً" لم تضف الإفساد وسفك الدماء في جوابها ربها إلى خليفته في أرضه، بل قالت: "أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها"، وغير منكر أن يكون ربها أعلمها أنه يكون لخليفته ذلك ذرية يكون منهم الإفساد وسفك الدماء، فقالت: يا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ كما قال ابن مسعود وابن عباس، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل...
"أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ" : ذلك منها استخبار لربها بمعنى: أعلمنا يا ربنا، أجاعل أنت في الأرض من هذه صفته وتارك أن تجعل خلفاءك منا، ونحن نسبح بحمدك، ونقدّس لك؟ لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل، وإن كانت قد استعظمت لما أخبرت بذلك أن يكون لله خلق يعصيه.
وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلك فسألته على وجه التعجب، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ولا خبر بها من الحجة يقطع العذر، وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة.
وأما وصف الملائكة من وصفت في استخبارها ربها عنه بالفساد في الأرض وسفك الدماء، فغير مستحيل فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السدّي ووافقهما عليه قتادة من التأويل. وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا: "أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها" على ما وصفت من الاستخبار.
فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها والأمر على ما وصفت من أنها قد أخبرت أن ذلك كائن؟ قيل: وجه استخبارها حينئذٍ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك، وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربهم أن يجعلهم الخلفاء في الأرض حتى لا يعصوه.
وغير فاسد أيضا ما رواه الضحاك عن ابن عباس وتابعه عليه الربيع بن أنس من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض قبل آدم من الجن، فقالت لربها: أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم، لا على وجه الإيجاب أن ذلك كائن كذلك، فيكون ذلك منها إخبارا عما لم تطلع عليه من علم الغيب.
وغير خطأ أيضا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيل الملائكة ما قالت من ذلك على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلق يعصي خالقه.
وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع بن أنس وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطع مجيئه العذر ويلزم سامعه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف، لا يدرك علم صحته إلا بمجيئه مجيئا يمتنع منه التشاغب والتواطؤ، ويستحيل منه الكذب والخطأ والسهو. وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع، ولا فيما قاله ابن زيد. فأولى التأويلات إذ كان الأمر كذلك بالآية، ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالةٌ مما يصحّ مخرجه في المفهوم.
فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة: أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا فأين ذكر إخبار الله إياهم في كتابه بذلك؟ قيل له: اكتفي بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه.
"وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ" فإنه يعني: إنا نعظمك بالحمد لك والشكر، كما قال جل ثناؤه: "فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ" وكما قال: "وَالمَلائِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ" وكل ذكر لله عند العرب فتسبيح وصلاة، يقول الرجل منهم: قضيت سبحتي من الذكر والصلاة. وقد قيل إن التسبيح صلاة الملائكة...
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "ونَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ" قال: يقولون: نصلي لك...
وقال آخرون: "نسبح بحمدك" التسبيح المعلوم...
(وَنُقَدّسُ لَكَ): والتقديس هو التطهير والتعظيم ومنه قولهم: سبّوح قدّوس، يعني بقولهم سبوح: تنزيه لله وبقولهم قدوس: طهارة له وتعظيم ولذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذا: "وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ" ننزّهك ونبرّئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك، ونصلي لك. ونقدس لك: ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
وقد قيل: إن تقديس الملائكة لربها صلاتها له...
عن قتادة في قوله: "وَنُقَدّسُ لَكَ" قال: التقديس: الصلاة...
[و] عن أبي صالح في قوله: "وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ" قال: نعظمك ونمجدك...
[و] عن مجاهد في قول الله: "وَنُقَدّسُ لَكَ" قال: نعظمك ونكبرك...
"قالَ إنّي أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ": اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: يعني بقوله: "أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ" مما اطلع عليه من إبليس، وإضماره المعصية لله وإخفائه الكبر، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته...
عن ابن عباس: "إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ" يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره...
وقال آخرون: معنى ذلك أني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهل الطاعة والولاية لله...
عن قتادة: قال: "إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ" فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة...
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه، ينبئ عن أن الملائكة التي قالت: "أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ" استفظعت أن يكون لله خلق يعصيه، وعجبت منه إذ أخبرت أن ذلك كائن فلذلك قال لهم ربهم: "إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ" يعني بذلك: والله أعلم أنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه وأنا أعلم أنه في بعضكم، وتصفون أنفسكم بصفة أعلم خلافها من بعضكم وتعرّضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته من الفساد وسفك الدماء قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفة من غيرنا يكون من ذريته من يعصيك أم منا؟ فإنا نعظمك ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كشحا إبليسُ من استكباره على ربه. فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورا عنهم من أمر إبليس وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قيلهم ذلك ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عوتبوا...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
... فإن قال قائل: إن الله عز وجل ذكر أنهم [أي الملائكة] قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} هذه تزكية لأنفسهم وقد قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم}. قلنا وبالله تعالى التوفيق: مدح المرء لنفسه ينقسم قسمين:
أحدهما: ما قصد به المرء الافتخار بغيا وانتقاصا لغيره، فهذه هي التزكية وهو مذموم جدا.
والآخر: ما خرج مخرج الإخبار بالحق، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر" و "فضلت على الأنبياء بست "وكقول يوسف عليه السلام {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم 55}، ولا يسمى هذا تزكية. ومن هذا الباب قول الملائكة هاهنا. برهان هذا: أنه لو كان قولهم مذموما لأنكره الله عز وجل عليهم، فإذ لم ينكره الله تعالى فهو صدق. ومن هذا الباب قولنا: نحن المسلمون ونحن خير أمة أخرجت للناس. وكقول الحواريين: {نحن أنصار الله}. فكل هذا إذا قصد به الحض على الخير لا الفخر، فهو خير. فإن قال قائل: إن الله تعالى قال لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون}، قلنا: نعم، وما شك الملائكة قط أن الله تعالى يعلم ما لا يعلمون، وليس هذا إنكارا...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{إني أعلم ما لا تعلمون} من المصلحة فيه.
وقيل: إني أعلم أنهم يذنبون وأنا أغفر لهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فِي الأرض خَلِيفَةً}: ومعناه: مُصَيّرٌ في الأرض خليفة. والخليفة: من يخلف غيره. والمعنى خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته.
فإن قلت: لأي غرض أخبرهم بذلك؟ قلت: ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم. وقيل: لِيُعلِّم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة.
فإن قلت: من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه وإنما هو غيب؟ قلت: عرفوه بإخبار من الله، أو من جهة اللوح، أو ثبت في علمهم أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم، أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر حيث أسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة...
فإن قلت: هلا بين لهم تلك المصالح؟ قلت: كفى العباد أن يعلموا أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة، وإن خفي عليهم وجه الحسن والحكمة. على أنه قد بين لهم بعض ذلك فيما أَتبعه من قوله {وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا}...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
الإشارة إلى خلق آدم عليه السلام. روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إن الله عز وجل، خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك، والخبيث والطيب). قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال: (خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعا). وأخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة ما بين العصر إلى الليل) قال ابن عباس: لما نفخ فيه الروح، أتته النفخة من قبل رأسه، فجعلت لا تجري منه في شيء إلا صار لحما ودما...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة... إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم، وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة، وإقامة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر؛ لئلا تفترق كلمة المسلمين...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة. فلما أمرهم بالسجود ظهر ما في قلوب الملائكة من الطاعة والمحبة، والخشية والانقياد، فبادروا إلى الامتثال، وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والحسد فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
الأول: دلت الآية على أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه، لاسيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال، ويكون بالحال، والتوجه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العلمي، والاستدلال العقلي، والإلهام الإلهي.
الثاني: إذا كان من أسرار الله تعالى، وحكمه، ما يخفى على الملائكة، فنحن أولى بأن يخفى علينا، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا!.
الثالث: إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل -بعد الإرشاد- إلى الخضوع والتسليم. وذلك أنه -بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون- علّم آدم الأسماء، ثم عرضهم على الملائكة، كما سيأتي بيانه.
الرابع: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان، على إنكار ما أنكروا، وبطلان ما جحدوا. فإذا كان الملأ الأعلى قد مُثِّلوا على أنهم يختصمون، ويطلبون البيان والبرهان، فيما لا يعلمون، فأجدرْ بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين. أي فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين، وترشد المسترشدين، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين. وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها. وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب، وكونه لا ريب فيه، والرسول، وكونه يبلغ وحي الله تعالى، ويهدي به عباده، واختلاف الناس فيها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(تمهيد للقصة ومذهب السلف والخلف في المتشابهات)
إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشئون الإلهية التي يعز الوقوف عليها كما هي، وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب من قبلنا، ومثل لنا المعاني في صور محسوسة، وأبرز الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار، كما هي سنته في مخاطبة الخلق، وبيان الحق، وقد ذهب الأستاذ إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها، لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال، وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته، ولا يجامع ما جاء به الدين من وصف الملائكة ككونهم {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} وقد أورد الأستاذ مقدمة تمهيدية لفهم القصة فقال ما مثاله:
أجمعت الأمة الإسلامية على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات 536 وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره، وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص الكتاب أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه. فللمسلمين فيه طريقتان:
(إحداهما) طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل في النقل كقوله تعالى {ليس كمثله شيء} وقوله عز وجل {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك، مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا وصورها لمخيلاتنا.
(والثانية) طريقة الخلف وهي التأويل يقولون: إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بد له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل (قال الأستاذ) وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته علم الغيب. وإننا نسير في فهم الآيات على كلا الطريقتين أنه لا بد للكلام من فائدة يحمل عليها، لأن الله عز وجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد منه معنى.
(وأقول) أنا – مؤلف هذا التفسير: إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى وإنما أذكر من كلام شيخنا ومن كلام غيره ومن تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري الناس أن ما انتشر في الأمة من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين جعل قبول مذهب السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما يخلفه، أو طول ممارسة الرد عليهم، ولا نعرف في كتب علماء السنة أنفع في الجمع بين النقل والعقل من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وإنني أقول عن نفسي: إنني لم يطمئن قلبي بمذهب السلف تفصيلا إلا بممارسة هذه الكتب.
فنحن قد سمعنا بآذاننا شبهات على بعض الآيات والأحاديث لم يسهل علينا دفعها وإقناع أصحابها بصدق كلام الله وكلام رسوله إلا بضرب من التأويل وأمثال تقربها من عقولهم ومعلوماتهم أحسن التقريب، وقد غلط كثير من علماء الكلام والمفسرين في بيان مذهب السلف وفي معاني التفويض والتأويل وتجد تفصيل ذلك لنا في أوائل تفسير سورة آل عمران كما أخطأ من قالوا إن الدليل العقلي هو الأصل فيرد إليه الدليل السمعي ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقا والحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلا من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي، فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا حتى نرجح أحدهما على الآخر، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب ترجيح القطعي مطلقا، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول على المعقول لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالإتباع مما ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا العقلية التي يكثر فيها الخطأ جدا، فظواهر الآيات في خلق آدم مثلا مقدم في الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه مادامت ظنية لم تبلغ درجة القطع.
وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن أن من الخير لك أن تطمئن قلبا بمذهب السلف ولا تحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبك إلا بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربية فلا حرج عليك، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأئمة علماء السلف قد تأولوا بعد الظاهر كما فعل الإمام أحمد وغيره في آيات المعية. وآخرون في غيرها، والذي عليك قبل كل شيء أن توقن بأن كلام الله كله حق، وألا تؤول شيئا منه بسوء القصد. وكذا ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الدين بغير شبهة. والتفسير الموافق للغة العرب لا يسمى تأويلا وإنما يجب معه تنزيه الخالق وعدم تشبيه عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه.
إذا تقرر هذا فهناك تفسير هذا السياق بما قرره شيخنا في الأزهر قال ما مثاله: أما الملائكة فيقول السلف فيهم: إنهم خلق أخبرنا الله تعالى بوجودهم وببعض عملهم فيجب علينا الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم، فنفوض علمها إلى الله تعالى، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك ولكننا نقول إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطيور إذ لو كانت كذلك لرأيناها، وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار فإننا نستدل بذلك على أن في الكون عالما آخر ألطف من هذا العالم المحسوس وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا بل يحكم بإمكانه لذاته، ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به.
(قال الأستاذ) وقد بحث أناس في جوهر الملائكة وحاولوا معرفتهم ولكن من وقفهم الله تعالى على هذا السر قليلون، والدين إنما شرع للناس كافة، فكان الصواب الاكتفاء بالإيمان بعالم الغيب من غير بحث عن حقيقته لأن تكليف الناس هذا البحث أو العلم يكاد يكون من تكليف ما لا يطاق، ومن خصه الله تعالى بزيادة في العلم فذلك فضله يؤتيه من يشاء، فقد ورد في الصحيح عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في هذا العلم اللدنى الخاص وقد سئل "هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم. فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن الخ "وأما ذلك الحوار في الآيات فهو شأن من شؤون الله تعالى مع ملائكته صوره لنا في هذه القصة بالقول والمراجعة والسؤال والجواب ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول ولكننا نعلم أنه ليس كما يكون منا، وأن هناك معاني قصدت إفادتها بهذه العبارات وهي عبارة عن شأن من شؤونه تعالى قبل خلق آدم وأنه كان يعد له الكون، وشأن مع الملائكة يتعلق بخلق نوع الإنسان، وشأن آخر في بيان كرامة هذا النوع وفضله.
وأما الفائدة فيما وراء البحث في حقيقة الملائكة وكيفية الخطاب بينهم وبين الله تعالى فهي من وجوه.
(أحدها) أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه، ولا سيما عند الحيرة، والسؤال يكون بالمقال ويكون بالحال والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها (كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي) وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
(ثانيها) إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليفة وحكمها لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
(ثالثها) أن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم؛ وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل؛ بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم، وذلك أنه بعد أن أخبرهم بأنه يعلم مالا يعلمون علم آدم الأسماء ثم عرضهم على الملائكة كما سيأتي بيانه.
(رابعها) تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس؛ ومحاجتهم في النبوة بغير برهان على إنكار ما أنكروا وبطلان ما جحدوا، فإذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين؛ وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، أي فعليك أيها الرسول أن تصبروا على هؤلاء المكذبين؛ ورشد المسترشدين، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين، وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها. وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب وكونه لا ريب فيه وفي الرسول وكونه يبلغ وحي الله تعالى ويهدي به عباده وفي اختلاف الناس فيهما، ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها أو قريبة منها مع كون الجميع في سياق موضوع واحد.
وأما الخلف فمنهم من تكلم في حقيقة الملائكة ووضع لهم تعريفا ومنهم من أمسك عن ذلك وقد اتفقوا على أنهم يدركون ويعلمون. والقصة على مذهبهم وردت مورد التمثيل لتقرب من أفهام الخلق ما تفيدهم معرفته من حال النشأة الآدمية، وما لها من المكانة والخصوصية: أخبر الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، ففهموا من ذلك أن الله يودع في فطرة هذا النوع الذي يجعله خليفة أن يكون ذا إرادة مطلقة واختيار في عمله غير محدود، وأن الترجيح بين ما يتعارض من الأعمال التي تعن له تكون بحسب علمه، وأن العلم إذا لم يكن محيطا بوجوه المصالح والمنافع فقد يوجه الإرادة إلى خلاف المصلحة والحكمة وذلك هو الفساد، وهو متعين لازم الوقوع، لأن العلم المحيط لا يكون إلا لله تعالى، فعجبوا كيف يخلق الله هذا النوع من الخلق وسألوا الله تعالى بلسان المقال إن كانوا ينطقون، أو بلسان الحال والتوجيه إليه لاستفاضة المعرفة بذلك وطلب البيان والحكمة، وعبر الله عن ذلك بالقول لأنه هو المعهود بالاستعلام والاستفهام عند البشر الذين أنزل القرآن لهدايتهم، كما نسب القول إلى السموات والأرض في قوله {قالتا أتينا طائعين}.
فأول ما ألقى إليهم من الإلهام أو غيره من طريق الإعلام هو وجوب الخضوع والتسليم، لمن هو بكل شيء عليم، لأن ما يضيق عنه علم أحد ويحار في كيفيته يتسع له علم من هو أعلم منه، ومن شأن الإنسان أن يسلم لمن يعتقد أنه فوقه في العلم ما يتصدى له مهما يكن بعيد الوقوع في اعتقاده، ومثل الأستاذ لذلك بمشايخ الصوفية مع مريديهم.
ومن ذلك اعتقاد جماهير الناس في بلاد الحضارة والصناعات في هذا العصر إمكان أمور وأعمال لم يكن أحد يتصور إمكانها من قبل إلا بعض كبار علماء النظر، فإذا قيل إنهم يحاولون عمل كذا فإنهم يصدقون، وإن لم يعقلوا كيف يعملونه.
فإن الذين يصنعون سلكا لنقل الأخبار بالكهرباء إلى الأماكن البعيدة في دقيقة أو دقائق قليلة يصدقون بأنهم يوصلون تلك الأخبار من غير سلك، وقد كان، ويصدقون بإمكان إيجاد آلة تجمع بين نقل الصوت ورؤية المتكلم وهو ما يحاولون الآن، وإذا قال لنا أهل هذه الصناعة إن ذلك ممكن الحصول صدقناهم فيما يقولون من غير تردد، وليس تصديقنا تقليدا ولا تسليما أعمى كما يقال بل هو تصديق عن دليل ركنه قياس ما يكون على ما قد كان بعد العلم بوحدة الوسائل. والملائكة أعلم منا بشأن الله في أفعاله وأنه العليم الحكيم، فهم وإن فاجأهم العجب من خلق الخليفة يردهم إلى اليقين أدنى التنبيه، ولذلك كان قوله تعالى {إني أعلم مالا تعلمون} جوابا مقنعا أي أقناع.
على أن هذا النوع من التسليم للعالم القادر. ربما لا يذهب بالحيرة ولا يزيل الاضطراب من نفس المتعجب، وإنما تسكن النفس ببروز ذلك الأمر الذي كانت تعجب من بروزه إلى عالم الوجود ووقوفها على أسراره وحكمه بالفعل، ولذلك تفضل الله تعالى على الملائكة بإكمال علمهم بحكمته في خلق هذا الخليفة الإنساني وسره عند طلوع فجره. فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة كما سيأتي، فعلموا أن في فطرة هذا الخليفة واستعداده علم ما لم يعلموا، وتبين لهم وجه استحقاقه لمقام الخلافة في الأرض، وأن كل ما يتوقع من الفساد وسفك الدماء لا يذهب بحكمة الاستخلاف وفائدته ومقامه، وناهيك بمقام العلم وفائدته، وسر العالم وحكمته.
فعلمنا أن السلف والخلف متفقون على تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من شؤون المخلوقين، وعصمة ملائكته عما لا يليق بهم من الاعتراض أو الإنكار. فلا فرق في هذه النتيجة بين تفويض وتسليم، وتأويل وتفهيم؛ والله بكل شيء عليم، وهاك تفسير الآيات بالتفصيل.
قد علمت مما تقدم أن الآيات متصلة بما قبلها من الكلام في الكتاب ومن جاء به ومن دعى إليه، فهي تجلى حجة الرسول ودعوته من حيث إن الملائكة إذ كانوا محتاجين إلى العلم ويستفيدونه بالتعلم من الله تعالى بالطريقة التي تناسب حالهم فالبشر أولى بالحاجة إلى ذلك منهم لأن طبيعة البشر جبلت على أن يكتسبوا كل شيء اكتسابا، وهي من جهة أخرى تسلية له صلى الله عليه وسلم ببيان أن البشر أولى من الملائكة بإنكار ما لم يحيطوا بعلمه حتى يعلموا، أنهم جبلوا على أن يتوبوا ويرجعوا بعد أن يخطئوا ويذنبوا، وأن الفساد في الأرض وجحود الحق ومناصب الداعي إليه ليس بدعا من قومه، وإنما هو جبلة أهل الفكر وطبيعة البشر.
ثم إن للمفسرين في (الخليفة) مذهبين: ذهب بعضهم إلى أن هذا اللفظ يشعر بأنه كان في الأرض صنف أو أكثر من نوع الحيوان الناطق، وأنه انقرض، وأن هذا الصنف الذي أخبر الله الملائكة بأن سيجعله خليفة في الأرض سيحل محله ويخلفه، كما قال تعالى بعد ذكر إهلاك القرون {10: 14 ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم} وقالوا: إن ذلك الصنف البائد قد أفسد في الأرض وسفك الدماء وأن الملائكة استنبطوا سؤالهم بالقياس عليه، لأن الخليفة لا بد أن يناسب من يخلفه ويكون من قبيله كما يتبادر إلى الفهم؛ ولكن لما لم يكن دليل على أنه يكون مثله من كل وجه وليس ذلك من مقتضى الخلافة؛ أجاب الله الملائكة بأنه يعلم مالا يعلمون مما يمتاز به هذا الخليفة على من قبله، وما له سبحانه في ذلك من الحكمة البالغة (قال الأستاذ) وإذا صح هذا القول فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض، وإنما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة أو الطوائف البائدة منه في الذات والمادة، وتخالفها في بعض الأخلاق والسجايا.
هذا أحسن ما يجلى فيه هذا المذهب وأكثر ما قالوه فيه قد سرى إلى المسلمين من أساطير الفرس وخرافاتهم، ومنه أنه كان في الأرض قبل آدم خلق يسمون بالحن والبن، أو الطم والرم، والأكثرون على أن الخلق الذين كانوا في الأرض قبل آدم مباشرة كانوا يسمون الجن، والقائلون منهم بالحن (بالمهملة) والبن قالوا إنهم كانوا قبل الجن، وقالوا: إن هؤلاء عاثوا في الأرض فسادا، فأبادهم الله (كما تقدم آنفا) وقالوا: إن الله تعالى أرسل إليهم إبليس في جند من الملائكة فحارب الجن فدمرهم وفرقهم في الجزائر والبحار. وليس لهم في الإسلام سند يحتج به على هذه القصص، ولكن تقاليد الأمم الموروثة في هذه المسألة تنبئ بأمر ذي بال، وهي متفقة فيه بالإجمال، ألا وهو ما قلناه من أن آدم ليس أول الأحياء العاقلة التي سكنت الأرض.
هذا هو المذهب الأول في تفسير الخليفة، وذهب الآخرون إلى أن المراد إني جاعل في الأرض خليفة عني، ولهذا شاع أن الإنسان خليفة الله في أرضه. وقال تعالى {38: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} والظاهر والله أعلم أن المراد بالخليفة آدم ومجموع ذريته، ولكن ما معنى هذه الخلافة، وما المراد من هذا الاستخلاف هل هو استخلاف بعض الإنسان على بعض؛ أم استخلاف البعض على غيره؟
جرت سنة الله في خلقه بأن تعلم أحكامه للناس وتنفذ على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه في ذلك وكما أن الإنسان أظهر أحكام الله وسننه الوضعية (أي الشرعية لأن الشرع وضع إلهي) كذلك أظهر حكمه وسننه الخلقية الطبيعية فيصح أن يكون معنى الخلافة عاما في كل ما يميز الله به الإنسان على سائر المخلوقات، نطق الوحي ودل العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق العالم أنواعا مختلفة، وخص كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معين لا يتعداه. فأما مالا نعرفه إلا من طريق الوحي كالملائكة فقد ورد فيها من الآيات والأحاديث ما يدل على أن وظائفه محدودة. قال تعالى {21: 20 يسبحون الليل والنهار لا يفترون} {27: 165 وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون} {37: 1، 2 والصافات صفا، فالزاجرات زجرا} {79: 1 – 5 والنازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا، فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا} على قول من قال: إن المراد بها الملائكة إلى غير ذلك مما يدل على أنهم طوائف لكل طائفة وظيفة محدودة، وورد في الأحاديث أن منهم الساجد دائما، والراكع دائما إلى يوم القيامة.
وأما ما نعرفه بالنظر والاختبار فهو حال المعدن والجماد ولا علم له ولا عمل. وحال النبات وإنما تأثير حياته في نفسه، فلو فرض أن له علما وإرادة فهما لا أثر لهما في جعل عمل النبات مبينا لحكم الله وسننه في الخلق، ولا وسيلة لبيان أحكامه وتنفيذها، فكل حي من الأحياء المحسوسة والغيبية فإن له استعدادا محدودا، وعلما إلهاميا محدودا، وعملا محدودا، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون خليفة عن الذي لا حد لعلمه وإرادته، ولا حصر لأحكامه وسننه، ولا نهاية لأعماله وتصرفه.
وأما الإنسان فقد خلقه الله ضعيفا كما قال في كتابه {4: 27 وخلق الإنسان ضعيفا} وخلقه جاهلا كما قال تعالى {16: 78 والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} ولكنه على ضعفه وجهله عبرة لمن يعتبر، وموضع لعجب المتعجب، لأنه مع ضعفه يتصرف في الأقوياء، ومع جهله في نشأته يعلم جميع الأسماء، يولد الحيوان عالما بالإلهام ما ينفعه وما يضره، وتكمل له قواه في زمن قليل، ويولد الإنسان وليس له من الإلهام إلا الصراخ بالبكاء، ثم يحس ويشعر بالتدريج البطيء بالنسبة إلى غيره من الحيوان ويعطى قوة أخرى تتصرف بشعوره وإحساسه تصرفا يكون له به السلطان على هذه الكائنات، فيسخرها ويذللها بعد ذلك كما تشاء تلك القوة الغربية هي التي يسمونها العقل ولا يعقلون سرها، ولا يدركون حقيقتها وكنهها، فهي التي تغني الإنسان عن كل ما وهب للحيوان في أصل الفطرة من الكساء الذي يقيه البرد والحر، والأعضاء التي يتناول بها غذاءه والتي يدافع بها عن نفسه ويسطو بها على عدوه، وغير ذلك من المواهب التي يعطاها الحيوان بلا كسب، حتى كان له بها من الاختراعات العجيبة ما كان، وسيكون له من ذلك ما لا يصل إليه التقدير والحسبان.
فالإنسان بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل، فهو على ضعف أفراده يتصرف بمجموعه في الكون تصرفا لا حد له بإذن الله وتصريفه، وكما أعطاه الله تعالى هذه المواهب والأحكام الطبيعة ليظهر بها أسرار خلقته، وملكه الأرض وسخر له عوالمها – أعطاه أحكاما وشرائع حد فيها لأعماله وأخلاقه حدا يحول دون بغي أفراده وطوائفه بعضهم على بعض، فهي تساعده على بلوغ كماله لأنها مرشد ومرب للعقل الذي كان له كل تلك المزايا فلهذا كله جعله خليفته في الأرض وهو أخلق المخلوقات بهذه الخلافة.
ظهرت آثار الإنسان في هذه الخلافة على الأرض ونحن نشاهد عجائب صنعه في المعدن والنبات، وفي البر والبحر والهواء، فهو يتفنن ويبتدع، ويكتشف ويخترع ويجدّ ويعمل، حتى غير شكل الأرض فجعل الحزن سهلا، والماحل خصبا، والخراب عمرانا، والبراري بحارا أو خلجانا، وولد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن كالليمون المسمى "يوسف أفندي" فإن الله تعالى خلقه بيد الإنسان وأنشأه بكسبه، وقد تصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية والتوليد، حتى ظهر التغير في خلقتها وخلائقها وأصنافها، فصار منها الكبير والصغير، ومنها الأهلي والوحشي، وهو ينتفع بكل نوع منها ويسخر لخدمته كما سخر القوى الطبيعية وسائر المخلوقات. أليس من حكمة الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض. يقيم سننه: ويظهر عجائب صنعه، وأسرار خليقته، وبدائع حكمه، ومنافع أحكامه وهل وجدت آية على كمال الله تعالى وسعة علمه أظهر من هذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم؟ وإذا كان الإنسان خليفة بهذا المعنى فكيف تعجب الملائكة منه؟
{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} بادروا إلى السؤال واستفهام الاستغراب و {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} فيغفل بذلك عن تسبيحك وتقديسك {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} بلا غفلة ولا فتور؟ لا شك أن هذا السؤال نشأ من فهم المعنى المراد من الخليفة وما يقتضيه من العلم غير المحدود والإرادة المطلقة، وكون هذا العلم المصرف للإرادة لا يحصل إلا بالتدريج، وكون عدم الإحاطة مدعاة للفساد، والتنازع المفضي إلى سفك الدماء كما تقدم.
نعم إن هذا العلم الواسع لا يعطاه فرد من أفراد الإنسان ولا مجموع النوع دفعة واحدة فيشابه به علمه علم الله تعالى، وكلما أوتى نصيبا منه ظهر له من جهله ما لم يكن يعلم، وكلما أعطي حظا من الأدب والعقل ظهر له ضعف عقله، ولله در الشافعي حيث قال:
كلما أدبني الدهْ *** رُ أراني نَقْصَ عقلي
وإذا ما ازددت علما *** زادني علما بجهلي
فهو على سعة علمه لم يؤت من العلم الإلهي إلا قليلا، وهو مع ذلك أوسع مظاهر العلم الإلهي، ولذلك أجاب الله الملائكة بالعلم {قال إني أعلم مالا تعلمون}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك، وأن الله مستخلفه في الأرض.
فقالت الملائكة عليهم السلام: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} بالمعاصي {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [و] هذا تخصيص بعد تعميم، لبيان [شدة] مفسدة القتل، وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك، فنزهوا الباري عن ذلك، وعظموه، وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة فقالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي: ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، {وَنُقَدِّسُ لَكَ} يحتمل أن معناها: ونقدسك، فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص، ويحتمل أن يكون: ونقدس لك أنفسنا، أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة، كمحبة الله وخشيته وتعظيمه، ونطهرها من الأخلاق الرذيلة.
قال الله تعالى للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ} من هذا الخليفة {مَا لَا تَعْلَمُونَ}، لأن كلامكم بحسب ما ظننتم، وأنا عالم بالظواهر والسرائر، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة، أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك، إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين، ولتظهر آياته للخلق، ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة، كالجهاد وغيره، وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان، وليتبين عدوه من وليه، وحزبه من حربه، وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه، واتصف به، فهذه حكم عظيمة، يكفي بعضها في ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يرد القصص في القرآن في مواضع ومناسبات. وهذه المناسبات التي يساق القصص من أجلها هي التي تحدد مساق القصة، والحلقة التي تعرض منها، والصورة التي تأتي عليها، والطريقة التي تؤدى بها. تنسيقا للجو الروحي والفكري والفني الذي تعرض فيه. وبذلك تؤدي دورها الموضوعي، وتحقق غايتها النفسية، وتلقي إيقاعها المطلوب. ويحسب أناس أن هنالك تكرارا في القصص القرآني، لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى. ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أنه ما من قصة، أو حلقة من قصة قد تكررت في صورة واحدة، من ناحية القدر الذي يساق، وطريقة الأداء في السياق. وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه، ينفي حقيقة التكرار.
ويزيغ أناس فيزعمون أن هنالك خلقا للحوادث أو تصرفا فيها، يقصد به إلى مجرد الفن -بمعنى التزويق الذي لا يتقيد بواقع- ولكن الحق الذي يلمسه كل من ينظر في هذا القرآن، وهو مستقيم الفطرة، مفتوح البصيرة، هو أن المناسبة الموضوعية هي التي تحدد القدر الذي يعرض من القصة في كل موضع، كما تحدد طريقة العرض وخصائص الأداء. والقرآن كتاب دعوة، ودستور نظام، ومنهج حياة، لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ.
وفي سياق الدعوة يجيء القصص المختار، بالقدر وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق، وتحقق الجمال الفني الصادق، الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق، ولكن يعتمد على إبداع العرض، وقوة الحق، وجمال الأداء. وقصص الأنبياء في القرآن يمثل موكب الإيمان في طريقه الممتد الواصل الطويل. ويعرض قصة الدعوة إلى الله واستجابة البشرية لها جيلا بعد جيل؛ كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه النخبة المختارة من البشر، وطبيعة تصورهم للعلاقة بينهم وبين ربهم الذي خصهم بهذا الفضل العظيم.. وتتبع هذا الموكب الكريم في طريقه اللاحب يفيض على القلب رضى ونورا وشفافية؛ ويشعره بنفاسة هذا العنصر العزيز -عنصر الإيمان- وأصالته في الوجود. كذلك يكشف عن حقيقة التصور الإيماني ويميزه في الحس من سائر التصورات الدخيلة.. ومن ثم كان القصص شطرا كبيرا من كتاب الدعوة الكريم.
"وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة"..
وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود، زمام هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كله -بإذن الله- في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه.
وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات؛ ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية.
وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض -وتحكم الكون كله- والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك؛ وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة!
وإذن فهي منزلة عظيمة، منزلة هذا الإنسان، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة. وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم.
هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل: "إني جاعل في الأرض خليفة".. حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض!
"قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟".. ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الأرض، أو من إلهام البصيرة، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق، أو من مقتضيات حياته على الأرض؛ وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض، وأنه سيسفك الدماء.. ثم هم -بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق، وإلا السلام الشامل- يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له، هو وحده الغاية المطلقة للوجود، وهو وحده العلة الأولى للخلق.. وهو متحقق بوجودهم هم، يسبحون بحمد الله ويقدسون له، ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته! لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا، في بناء هذه الأرض وعمارتها، وفي تنمية الحياة وتنويعها، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها، على يد خليفة الله في أرضه. هذا الذي قد يفسد أحيانا، وقد يسفك الدماء أحيانا، ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل. خير النمو الدائم، والرقي الدائم. خير الحركة الهادمة البانية. خير المحاولة التي لا تكف، والتطلع الذي لا يقف، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير...
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء، والخبير بمصائر الأمور:
(قال: إني أعلم ما لا تعلمون)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
"إني جاعل في الأرض خليفة": الخليفة في الأصل: الذي يخلف غيره أو يكون بدلاً عنه في عمل يعمله، فهو فعيل بمعنى فاعل والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالعَلاَّمة. والمراد من الخليفة هنا إما المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملاً يريده المستخلِف مثل الوكيل والوصي، أي جاعل في الأرض مدبراً يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقة لأن الله تعالى لم يكن حَالاً في الأرض ولا عاملاً فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السلطنة على موجودات الأرض، ولأن الله تعالى لم يترك عملاً كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الأعظم لم يزل لله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلافَ غيره من الحيوان، وإما أن يراد من الخليفة معناه الحقيقي إذا صح أن الأرض كانت معمورة من قبلُ بطائفة من المخلوقات يسمَّون الحِن والبِن بحاء مهملة مكسورة ونون في الأول، وبموحدة مكسورة ونون في الثاني وقيل اسمهم الطَّم والرَّم بفتح أولهما، وأحسبه من المزاعم، وأن وضع هذين الاسمين من باب قول الناس: هيَّان بن بَيَّان إشارة إلى غير موجود أو غير معروف.
ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطَّم والرَّم كان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى التِيتَان وأن زفس وهو المشتري كبير الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم.
وكل هذا ينافيه سياق الآية فإن تعقيب ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جَعْلَ الخليفة دليل على أن جعْل الخليفة كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها فالخليفة هنا الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته ولا يلزم أن يكون المخلوف مستقِراً في المكان من قبل، فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسَن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم، فكانت الآية من هذا الوجه إيماءً إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك، وقد بعث الله الرسل وبين الشرائع فربما اجتمعت الرسالة والخلافة وربما انفصلتا بحسب ما أراد الله من شرائعه إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة والخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة ولأن امتزاج الدين والمُلْك هو أكمل مظاهر الخطتين قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} [النساء: 64] ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، من جُفاة الأعراب ودُعاة الفتنة فالمناظرة مع أمثالهم سُدًى.
والظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الروح فيه أو قبل النفخ والأول أظهر، فيكون المراد بالمخبَر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق كما يقول الذي كتب كتاباً بحضرة جليس إني مرسل كتاباً إلى فلان فإن السامع يعلم أن المراد أن ذلك الذي هو بصدد كتابته كتاب لفلان، ويجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم، وعلى الوجوه كلها يكون اسم الفاعل في قوله: {جاعل} للزمن المستقبل لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتاً لآدم ساعتئذٍ.
وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما عَلِم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس، وليكون كالاستشارة لهم تكريماً لهم فيكونُ تعليماً في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب وليَسُنَّ الاستشارة في الأمور، ولتنبيه الملائكة على ما دقَّ وخفي من حكمة خلق آدم كذا ذكر المفسرون.
وعندي أن هاته الاستشارة جعلت لتكونَ حقيقةً مقارنةً في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموساً أُشْرِبَتْه نفوس ذريته لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء مَّا، تؤثر تآلُفاً بين ذلك الكائن وبين المقارن. ولعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا تبعاً لذوات مَقامَ أمر التكوين في الذوات فكما أن أمره إذا أراد شيئاً أي إنشاءَ ذاتٍ أن يقول له كن فيكون، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذات، ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يكون قَبول العلم من خصائص الإنسان علَّم آدم الأسماء عندما خلقه.
وهذا هو وجه مشروعية تسمية الله تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضاً للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل، ولهذا أيضاً طَلبت منا الشريعة تخيُّر أكمل الحالات وأفضلِ الأوقات للشروع في فضائل الأعمال ومهمات المطالب، وتقدم هذا في الكلام على البسملة، وسنذكر ما يتعلق بالشورى عند قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} في سورة آل عمران (159).
وأسندت حكاية هذا القول إلى الله سبحانه بعنوان الرب لأنه قول منبئ عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف وصلاح وذلك من معاني الربوبية كما تقدم في قوله: {الحمد لله رب العالمين} (الفاتحة 2)، ولما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع وهو النبيء محمد صلى الله عليه وسلم مع تكريمه بشرف حضور المخاطَبة.
"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء": وفي المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية إما بوصف الله لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب وعن الامتثال إلى العصيان فإن العقل يشتمل على شاهية وغاضبة وعاقلة ومن مجموعها ومجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة وضارة، ثم إن القدرة التي في الجوارح تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل وقواه أن يفعله ثم إن النطق يستطيع إظهار خلاف الواقع وترويج الباطل، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير ومن أحواله أيضاً صلاح عظيم وإن طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها وشرها فيحصل فعل مختلط من صالح وسيء، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة
وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات، وفي توجه نورانية النفوس إلى المعلومات، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة. وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله، أو قياس على أمة تقدمت وانقرضت، أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر التكوين من التوراة. وبه أيضاً تعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم وإنما هو حكم بما يصلحون له بالقوة، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث لم يفسد، لأن في هذا القول غفلة عما ذكرناه من البيان...