قوله تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون } ، لأنفسهم يعني البنات ، { وتصف } ، أي : تقول ، { ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى } ، يعني البنين ، محل " إن " نصب بدل عن الكذب . قال يمان : يعني بالحسنى : الجنة في المعاد ، إن كان محمد صادقاً في البعث . { لا جرم } ، حقاً . قال ابن عباس : بلى ، { أن لهم النار } ، في الآخرة ، { وأنهم مفرطون } ، قرأ نافع بكسر الراء أي : مسرفون . وقرأ أبو جعفر بتشديد الراء وكسرها ، أي : مضيعون أمر الله . وقرأ الآخرون بفتح الراء وتخفيفها ، أي : منسيون في النار ، قاله ابن عباس . وقال سعيد بن جبير : مبعدون . وقال مقاتل : متروكون ، وقال قتادة : معجلون إلى النار ، قال الفراء : مقدمون إلى النار ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : { أنا فرطكم على الحوض } ، أي : متقدمكم .
ثم حكى - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل المشركين فقال تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ . . . } .
أي : أن هؤلاء المشركين ، لا يكتفون بإنكارهم البعث وبجحود نعم الله - تعالى - ، بل أضافوا إلى ذلك ، أنهم يثبتون له - سبحانه وينسبون إليه كذبا وزورا - ما يكرهونه لأنفسهم ، فهم يكرهون أن يشاركهم أحد في أموالهم أو في مناصبهم ؛ ومع ذلك يشركون مع الله - تعالى - في العبادة آلهة أخرى ، ويكرهون أراذل الأموال ، ومع ذلك يجعلون لله - تعالى - أراذل أموالهم . ويجعلون لأصنامهم أكرمها ، ويكرهون البنات ، ومع ذلك ينسبونهن إليه - سبحانه - . فالجملة الكريمة تنعى عليهم أنانيتهم ، وسوء أدبهم مع خالقهم - عز وجل - وقوله - سبحانه - { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى . . . } ، تصوير بليغ لما جبلوا عليه من كذب صريح ، وبهتان واضح .
ومعنى : { تصف } ، تقول وتذكر بشرح وبيان وتفصيل ، حتى لكأنها تذكر أوصاف الشئ ، وجملة { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } ، بدل من { الكذب } .
والحسنى : تأنيث الأحسن ، والمراد بها زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقا ، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب وأعظمه ، كما كان لهم في الدنيا ذلك ، فقد روى أنهم قالوا : إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا فيما يخبر عنه من أمر البعث ، فلنا الجنة . . .
والمعنى : أن هؤلاء المشركين يجعلون لله - تعالى - ما يكرهونه من الأولاد والأموال والشركاء ، وتنطق ألسنتهم بالكذب نطقا واضحا صريحا ؛ إذ زعموا أنه إن كانت الآخرة حقا ، فسيكون لهم فيها أحسن نصيب .
وهذا الزعم قد حكاه القرآن عنهم فى آيات متعددة منها قوله - تعالى - { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ، وقوله - تعالى - : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً . . . } ، قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى وصف ألسنتهم الكذب ؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه . جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم ، فقد حلت الكذب بحليته ، وصورته بصورته . كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر .
وقال بعض العلماء : والتعبير القرآني في قوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } ، يجعل ألسنتهم ذاتها كأنها الكذب ذاته ، أو كأنها صورة له ، تحكيه وتصفه بذاتها ، كما تقول : فلان قوامه يصف الرشاقة . . ؛ لأن ذلك القوام بذاته تعبير عن الرشاقة ، مفصح عنها .
كذلك قال - سبحانه - { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب . . . } ، فهي بذاتها تعبير عن الكذب ، لطول ما قالت الكذب ، ولكثرة ما عبرت عنه ، حتى صارت رمزا عليه ، ودلالة له .
وقوله - سبحانه - : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } ، تكذيب لهم فيما زعموه من أن لهم الحسنى ، ووعيد لهم بإلقائهم في النار .
وكلمة { لا جرم } ، وردت في القرآن الكريم في خمسة مواضع ، متلوة " بأن " و " اسمها " وليس بعدها فعل . وجمهور النحاة على أنها مركبة من " لا " و { جرم } ، تركيب " خمسة عشر " . ومعناها بعد التركيب ، معنى حق وثبت . والجملة بعدها فاعل ، أي : حق وثبت كونهم لهم النار ، وأنهم مفرطون فيها .
وقوله - سبحانه - : { مفرطون } ، قرأها الجمهور - بسكون الفاء وفتح الراء - بصيغة اسم المفعول ، من أفرطه بمعنى قدمه . يقال : أفرطته إلى كذا . أي : قدمته إليه .
قال القرطبى : والفارط الذي يتقدم غيره إلى الماء . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا فرطكم على الحوض " أي : متقدمكم . . . .
أو من أفرط إذا نسيه وتركه . تقول : أفرطت فلانا خلفي ، إذا تركته ونسيته .
والمعنى : أن هؤلاء الذين يزعمون أن لهم الحسنى في الآخرة ، كذبوا في زعمهم ، وفجروا في إفكهم ، فإنهم ليس لهم شيء من ذلك ، وإنما الأمر الثابت الذي لا شك فيه ، أن لهم في الآخرة النار ، وأنهم مفرطون فيها ، مقدمون إليها بدون إمهال ، ومتروكون فيها بدون اكتراث بهم ، كما يترك الشيء الذي لا قيمة له . قال - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } . وقرأ نافع : { وأنهم مفرطون } - بسكون الفاء وكسر الراء - ، بصيغة اسم الفاعل . من " أفرط " اللازم بمعنى : أسرف وتجاوز الحد . يقال : أفرط فلان في كذا ، إذا تجاوز الحدود المشروعة .
فيكون المعنى : لا جرم أن لهم النار ، وأنهم مفرطون ومسرفون في الأقوال والأعمال التي جعلتهم حطبا لها ، ووقودا لنيرانها ، كما قال - تعالى - :
وقوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ، أي : من البنات ، ومن الشركاء ، الذين هم [ من ]{[16505]} عبيده ، وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله .
وقوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا ، وإن كان ثمَّ معاد ففيه أيضا لهم الحسنى ، وإخبار عن قيل من قال منهم ، كقوله : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ هود : 9 ، 10 ] ، وكقوله{[16506]} : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ فصلت : 50 ] ، وقوله : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ{[16507]} بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا [ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ] } [ مريم : 77 ، 78 ]{[16508]} وقال إخبارا عن أحد الرجلين : أنه { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ{[16509]} مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } [ الكهف : 35 ، 36 ] - فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل ، بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل ، كما ذكر ابن إسحاق : أنه وُجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حِكَم ومواعظ ، فمن{[16510]} ذلك : تعملون السيئات{[16511]} ويجزون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى{[16512]} من الشوك العنب{[16513]} .
وقال مجاهد ، وقتادة : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، أي :{[16514]} الغلمان .
وقال ابن جرير : { أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، أي : يوم القيامة ، كما قدمنا بيانه ، وهو الصواب ، ولله الحمد .
ولهذا قال الله تعالى رادا عليهم في تمنيهم [ ذلك ] ، {[16515]} { لا جَرَمَ } ، أي : حقا لا بد منه ، { أَنَّ لَهُمُ النَّارَ } ، أي : يوم القيامة ، { وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ } .
قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة وغيرهم : منسيون فيها مضيعون .
وهذا كقوله تعالى : { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [ الأعراف : 51 ] . {[16516]}
وعن قتادة أيضا : { مُفْرَطُونَ } ، أي : معجلون إلى النار ، من الفَرَط ، وهو : السابق إلى الوِرْد ، ولا منافاة ؛ لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار ، وينسون فيها ، أي : يخلدون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنّ لَهُمُ الْحُسْنَىَ لاَ جَرَمَ أَنّ لَهُمُ الْنّارَ وَأَنّهُمْ مّفْرَطُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهونه لأنفسهم . وَتَصِفُ ألْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ يقول : وتقول ألسنتهم الكذب وتفتريه . { أنّ لهم الحُسْنَى } ، ف " أن " في موضع نصب ؛ لأنها ترجمة عن الكذب . وتأويل الكلام : ويجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم ، ويزعمون أن لهم الحسنى ، الذي يكرهونه لأنفسهم ، البنات يجعلونهن لله تعالى ، وزعموا أن الملائكة بنات الله . وأما الحُسنى التي جعلوها لأنفسهم : فالذكور من الأولاد ، وذلك أنهم كانوا يئدون الإناث من أولادهم ، ويستبقون الذكور منهم ، ويقولون : لنا الذكور ولله البنات . وهو نحو قوله : { ويَجْعَلُونَ لِلّهِ البَناتِ سُبْحانَهُ وَلهُمْ ما يَشْتَهونَ } .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، قال : قول قريش : لنا البنون ولله البنات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : قول كفّار قُريش .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ويَجْعَلُونَ لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ ألْسِنَتِهُمُ الكَذِبَ } ، أي : يتكلمون بأن لهم الحُسنى ، أي : الغلمان .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { أنّ لَهُمُ الحُسْنَى } ، قال : الغلمان .
وقوله : { لا جَرَمَ أن لَهُمُ النّارَ وأنّهُمْ مُفْرَطُونَ } يقول تعالى ذكره : حقّا واجبا أن لهؤلاء القائلين لله البنات ، الجاعلين له ما يكرهونه لأنفسهم ، ولأنفسهم الحسنى ، عند الله يوم القيامة النار .
وقد بيّنا تأويل قول الله : لا جَرَمَ في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا جَرَمَ يقول : بلى .
وقوله : لا جَرَمَ ، كان بعض أهل العربية يقول : لم تُنْصَب جَرَمَ ب «لا » كما نصبت الميم من قول : لا غلام لك ، قال : ولكنها نُصِبَت لأنها فعل ماض ، مثل قول القائل : قَعَدَ فلان وجلس ، والكلام : لا ردّ لكلامهم ، أي : ليس الأمر هكذا ، جَرَم : كَسَبَ ، مثل قوله : لا أقسم ، ونحو ذلك . وكان بعضهم يقول : نصب «جَرَمَ » ب «لا » ، وإنما بمعنى : لا بدّ ، ولا محالة ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة «حقّا » .
وقوله : { وأنّهُمْ مُفْرَطُونَ } ، يقول تعالى ذكره : وأنهم مُخَلّفون ، متروكون في النار ، منسيّون فيها .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال أكثرهم بنحو ما قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الاَية : { لا جَرَمَ أنّ لهُمُ النّارَ وأنّهُمْ مُفْرَطُونَ } قال : منسيّون مُضَيّعون .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : أخبرنا سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا بهز بن أسد ، عن شعبة ، قال : أخبرني أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { لا جَرَمَ أنّ لَهُمْ النّارَ وأنّهُمْ مُفْرَطُونَ } ، قال : متروكون في النار ، منسيّون فيها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حصين أخبرنا عن سعيد بن جبير ، بمثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير بمثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وأنّهُم مُفْرَطُونَ } قال : منسيّون .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة وأبو معاوية وأبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وأنّهُم مُفْرَطُونَ } ، قال : متروكون في النار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم ، عن مجاهد : { مُفْرَطُونَ } ، قال : مَنْسيّون .
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن الحسين ، عن قتادة : وأنّهُم مُفْرَطُونَ يقول : مُضَاعُون .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا بدل ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، في قول الله : { وأنّهُم مُفْرَطُونَ } ، قال : منسيون في النار .
وقال آخرون : معنى ذلك : مُعْجَلُون إلى النار مقدّمون إليها . وذهبوا في ذلك إلى قول العرب : أفرطنا فلانا في طلب الماء ، إذا قدّموه لإصلاح الدّلاء والأرشية ، وتسوية ما يحتاجون إليه عند ورودهم عليه ، فهو مُفْرَط . فأما المتقدّم نفسه ، فهو فارط ، يقال : قد فَرَط فلان أصحابَه ، يَفْرُطهم فُرْطا وفُروطا : إذا تقدمهم . وجمع فارط : فَرّاط ، ومنه قول القُطامِيّ :
واسْتَعْجَلُونا وكانُوا مِنْ صَحَابَتِنا *** كمَا تَعَجّلَ فُرّاطٌ لِوُرّادِ
ومن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أنا فَرَطُكُمْ على الحَوْضِ » : أي : متقدمكم إليه ، وسابقكم ، «حتى تَردُوه » . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وأنّهُم مُفْرَطُونَ } يقول : مُعْجَلُون إلى النار .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { وأنّهُم مُفْرَطُونَ } ، قال : قد أُفْرِطوا في النار ، أي : مُعْجَلُون .
وقال آخرون : معنى ذلك : مُبْعَدُون في النار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أشعث السّمان ، عن الربيع ، عن أبي بشر ، عن سعيد : { وأنّهُم مُفْرَطُونَ } ، قال : مُخْسَئون مُبْعَدون .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي اخترناه ، وذلك أن الإفراط الذي هو بمعنى التقديم ، إنما يقال فيمن قدَم مقدمَا لإصلاح ما يقدم إليه إلى وقت ورود من قدّمه عليه ، وليس بمُقَدّم من قُدّم إلى النار من أهلها لإصلاح شيء فيها ، لوارد يرد عليها فيها ، فيوافقه مصلحا ، وإنما تَقَدّم مَن قُدّم إليها لعذاب يُعجّل له . فإذا كان معنى ذلك ، الإفراط الذي هو : تأويل التعجيل ، ففسد أن يكون له وجه في الصحة ، صحّ المعنى الاَخر ، وهو : الإفراط الذي بمعنى التخليف والترك ، وذلك أن يُحْكَى عن العرب : ما أفْرَطت ورائي أحدا : أي ما خَلّفته ، وما فرطته ، أي : لم أخلفه .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المِصرَينِ الكوفة والبصرة : { وأنّهُم مُفْرَطُونَ } ، بتخفيف الراء وفتحها ، على معنى ما لم يُسَمّ فاعله ، من أُفرِط فهو مُفْرَط . وقد بيّنت اختلاف قراءة ذلك ، كذلك في التأويل . وقرأه أبو جعفر القارىء : «وأنّهُم مُفْرَطُونَ » ، بكسر الراء وتشديدها ، بتأويل : أنهم مفرّطون في أداء الواجب الذي كان لله عليهم في الدنيا ، من طاعته وحقوقه ، مضيعو ذلك ، من قول الله تعالى : { يا حَسْرتَا على ما فَرّطْتُ في جَنْبِ اللّه }ِ . وقرأ نافع بن أبي نعيم : «وأنّهُم مُفْرَطُونَ » ، بكسر الراء وتخفيفها . حدثني بذلك يونس ، عن وَرْش عنه .
بتأويل : أنهم مُفْرِطون في الذنوب والمعاصي ، مُسْرِفون على أنفسهم مكثرون منها ، من قولهم : أفرط فلان في القول : إذا تجاوز حَدّه ، وأسرف فيه .
والذي هو أولى القراءات في ذلك بالصواب : قراءة الذين ذكرنا قراءتهم من أهل العراق ؛ لموافقتها تأويل أهل التأويل الذي ذكرنا قبل ، وخروج القراءات الأخرى عن تأويلهم .
هذا ضغث على إبّالة من أحوالهم في إشراكهم تخالف قصّة قوله تعالى : { ويجعلون لله البنات } [ سورة النحل : 57 ] باعتبار ما يختصّ بهذه القصّة من إضافتهم الأشياء المكروهة عندهم إلى الله مما اقتضته كراهتهم البنات بقوله تعالى : { ولهم ما يشتهون } [ سورة النحل : 57 ] ، فكانَ ذلك الجعل ينطوي على خصلتين من دين الشّرك ، وهما : نسبة البنوّة إلى الله ، ونسبة أخسّ أصناف الأبناء في نظرهم إليه ، فخصّت الأولى بالذكر بقوله { ويجعلون لله البنات } مع الإيماء إلى كراهتهم البنات كما تقدّم . وخصّت هذه بذكر الكراهية تصريحاً ، ولذلك كان الإتيان بالموصول والصلة { ما يكرهون } هو مقتضى المقام الذي هو تفظيع قولهم وتشنيع استئثارهم . وقد يكون الموصول للعموم فيشير إلى أنهم جعلوا لله أشياء يكرهونها لأنفسهم مثل الشريك في التصرّف ؛ وأشياء لا يرضونها لآلهتهم ونسبوها لله كما أشار إليه قوله تعالى : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون } [ سورة الأنعام : 136 ] .
وفي الكشاف : « يجعلون لله أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها » . فهو مراد من عموم الموصول ، فتكون هذه القصة أعمّ من قصّة قوله تعالى : { ويجعلون لله البنات } ، ويكون تخصيصها بالذكر من جهتين : جهة اختلاف الاعتبار ، وجهة زيادة أنواع هذا الجعل .
وجملة { وتصف ألسنتهم الكذب } عطف قصة على قصة أخرى من أحوال كفرهم .
ومعنى { تصف } تذكر بشرح وبيان وتفصيل ، حتى كأنها تذكر أوصاف الشيء . وحقيقة الوصف : ذكر الصفات والحُلَى . ثم أطلق على القول المبيّن المفصل . قال في « الكشاف » في الآية الآتية في أواخر هذه السورة : « هذا من فصيح الكلام وبليغه . جعل القول كأنه عين الكذب فإذا نطقت به ألسنتهم فقد صورت الكذب بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر » ا هـ .
وقد تقدم في قوله تعالى : { سبحانه وتعالى عما يصفون } في سورة الأنعام ( 100 ) . وسيأتي في آخر هذه السورة { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } [ سورة النحل : 116 ] . ومنه قول المعرّي :
سرى برق المعرّة بعد وهن *** فباتَ برامةٍ يصف الكَلاَلا
أي يشكو الإعياء من قطع مسافة طويلة في زمن قليل ، وهو من بديع استعاراته .
والمراد من هذا الكذب كل ما يقولونه من أقوال خاصتهم ودهمائهم باعتقاد أو تهكّم . فمن الأول قول العاصي بن وائل المحكي في قوله تعالى : { وقال لأوتينّ مالاً وولداً } [ سورة مريم : 77 ] وفي قوله تعالى : { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [ سورة فصلت : 50 ] . ومن الثاني قولهم في البليّة : أن صاحبها يركبها يوم القيامة لكيلا يُعيى .
وانتصب { الكذب } على أنه مفعول { تصف } .
و{ أن لهم الحسنى } بدل من { الكذب } أو { الحسنى } صفة لمحذوف ، أي الحالة الحسنى .
وجملة { لا جرم أن لهم النار } جواب عن قولهم المحكي . ومعنى لا جرم لا شكّ ، أي حقاً .
و { مُفْرِطُونَ } بكسر الراء المخففة في قراءة نافع : اسم فاعل من أفرط ، إذا بلغ غاية شيء ما ، أي مفرطون في الأخذ من عذاب النار .
وقرأه أبو جعفر بكسر الراء مشددة من فرّط المضاعف . وقرأه البقية بفتح الراء مخففة على زنة اسم المفعول ، أي مجعولون فرطاً بفتحتين وهو المقدم إلى الماء ليسقي .
والمراد : أنهم سابقون إلى النار معجّلون إليها لأنهم أشدّ أهل النار استحقاقاً لها ، وعلى هذا الوجه يكون إطلاق الإفراط على هذا المعنى استعارة تهكّمية كقول عمرو بن كلثوم :
أراد فبادرنا بقتالكم حين نزلتم بنا مغيرين علينا .
وفيها مع ذكر النار في مقابلتها مُحسن الطباق . على أن قراءة نافع تحتمل التفسير بهذا أيضاً لِجواز أن يقال : أفرط إلى الماء إذا تقدّم له .