محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ} (62)

[ 62 ] { ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون 62 } .

{ ويجعلون لله } ، أي : ينسبون إليه ، { ما يكرهون } ، أي : من البنات ، ومن الشركاء . وهم يأنفون من الأولى ، كما يكرهون مشاركة أحد لهم في مالهم . وهو تكرير لما سبق ، تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى :{ وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى } ، أي : يجعلون لله ذلك ، مع دعواهم أن لهم العاقبة الحسنى عند الله ، إن كان ثم معاد . كما قصه تعالى عنهم بقوله{[5285]} : { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } ، يعني : جمع هؤلاء بين عمل السوء ، وتمني المحال ، بأن يجاوزوا على ذلك حسنا .

وقد روي أنه وجد في أحد أحجار الكعبة ، لما جددت ، مكتوبا : ( تعملون السيئات وتجزون الحسنات . أجل . كما يجتنى من الشوك العنب ) و { أن لهم } الخ ، بدل من { الكذب } ، أو بتقدير : بأن لهم .

قال الشهاب : قوله تعالى : { وتصف ألسنتهم الكذب } ، من بليغ الكلام وبديعه ، كقولهم : " عينها تصف السحر " ، أي : ساحرة . وقدها يصف الهيف ، أي : هيفاء . قال أبو العلاء المعري{[5286]} :

سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا

/ ثم رد كلامهم وأثبت ضده ، بقوله سبحانه : { لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون } ، أي : معجّلون إليها ومقدمون . من ( الفرط ) ، وهو السابق إلى الورد . يقال : أفرطته في طلب الماء ، إذا قدمته . أو متروكون منسيّون في النار . من ( أفرطته ) ، بمعنى : تركته ونسيته ، على ما حكاه الفراء . كقوله تعالى{[5287]} : { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } . وقرأ نافع : { مفرطون } ، بكسر الراء . اسم فاعل من ( أفرط ) إذا تجاوز ، أي : متجاوزوا الحد في معاصي الله . وقرأ أبو جعفر بكسر الراء المشددة ، من ( فرط في كذا ) ، إذا قصر . ويقرب من الآية ما قص عنهم في قوله تعالى{[5288]} : { ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ، فلننبّئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنّهم من عذاب غليظ } ، وقال تعالى{[5289]} : { ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا } .


[5285]:[41 / فصلت / 50].
[5286]:البيت الأربعون من قصيدته التي مطلعها: أعن وخد القلاص كشفت حالا*** ومن عند الظّلام طلبت مالا (بعد وهن) أي بعد طائفة من الليل. و(معرّة النعمان) بالشام. و(رامة) موضع بعينه. يقول: لما حللنا برامة مغربا، نظرنا إلى برق سرى من جانب الشام من صوب معرّة النعمان، حتى إذا بلغ رامة بات بها يصف الكلال، أي يشكو ضعفه، لأنه قطع شقة بعيدة ومسافة شاسعة. انظر شرح التنوير على سقط الزند، بالصفحة رقم 23 من الجزء الأول (طبعة بولاق عام 1286 هـ).
[5287]:[7 /الأعراف / 51].
[5288]:[41 / فصلت / 50].
[5289]:[18 / الكهف / 35 و 36].