فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ} (62)

{ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ ( 62 ) }

ثم ذكر نوعا آخر من جهلهم وحمقهم ، فقال : { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ، أي : ينسبون إليه سبحانه ما يكرهون ، نسبته إلى أنفسهم من البنات ، والشريك في الرياسة ، وإهانة الرسل ، وهو تكرير لما تقدم لقصد التأكيد والتقرير ، أو لزيادة التوبيخ والتقريع ، قال الضحاك : أي : يجعلون لي البنات ، ويكرهون ذلك لأنفسهم .

ثم ذكر الله سبحانه نوعا آخر من قبائحهم ، فقال : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ } ، والذي تصفه ألسنتهم من الكذب هو قولهم : { أَنَّ لَهُمُ } ، الخصلة أو العاقبة ، { الْحُسْنَى } ، قال الزجاج : يصفون أن لهم مع قبح قولهم من الله ، الجزاء الحسن ، أي : الجنة ، كقوله : " ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده الحسنى " ، وقرئ الكُذُب بضمتين ، على أنه صفة للألسن ، وهو جمع كذب ، فيكون المفعول على هذا : { أن لهم الحسنى } ، قال مجاهد : قول كفار قريش : لنا البنون وله البنات ، وعن قتادة نحوه .

ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله : { لاَ جَرَمَ } ، تركيب مزجي من لفظ " لا " ولفظ " جرم " ، معناه : الفعل ، أي : ثبت أو المصدر ، أي : حقا ، { أَنَّ لَهُمُ } ، مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى ، { الْنَّارَ } الموقدة ، والعذاب الدائم ، { وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ } ، بفتح الراء تخفيفا ، أي : مقدمون إلى النار .

قال ابن الأعرابي وأبو عبيدة : أي : متروكون منسيون في النار ، وبه قال مجاهد ، وعن سعيد بن جبير نحوه ، وبه قال الكسائي والفراء ، فيكون مشتقا من أفرطت فلانا خلفي ، إذا خلفته ونسيته . وقال قتادة والحسن : معجلون إليها ، مقدمون في دخولها ، من أفرطته ، أي : قدمته في طلب الماء . والفارط هو : الذي يتقدم إلى الماء ، والفراط المتقدمون في طلبه ، والوارد المتأخرون ، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنا فرطكم على الحوض ) ، {[1052]} أي : متقدمكم ، وقرئ " مفرطون " ، بكسر الراء وتخفيفها ، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس ، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعاصي ، يقال : أفرط فلان على فلان ، إذا أربى عليه ، وقال له أكثر مما قال من الشر .

وقرئ " مفرطون " ، بكسر الراء وتشديدها ، أي : مضيعون أمر الله ، فهو من التفريط في الواجب .


[1052]:مسلم 249.