الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ} (62)

قوله تعالى : { أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ } : العامَّةُ على أنَّ " الكذبَ " ، مفعولٌ به ، و { أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، بدلٌ منه ، بدلُ كلٍ مِنْ كل ، أو على إسقاط الخافض ، أي : بأنَّ لهم الحسنى .

وقرأ الحسن " أَلْسِنَتْهُمْ " ، بسكونِ التاءِ تخفيفاً ، وهي تُشْبه تسكينَ لامِ

{ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، وهمزة " بارِئْكم " ونحوه .

والأَلْسِنَةُ جمع " لِسان " مراداً به التذكير ، فجُمِع كما يُجْمَعُ فِعال ، المذكر نحو : حِمار وأَحْمِرة ، وإذا أُريد به التأنيثُ جُمِعَ جمعَ أفْعُل ، كذِراع وأَذْرُع .

وقرأ معاذ بن جبل " الكُذُبُ " ، بضمِّ الكاف والذال ورفعِ الباء ، على أنه جَمْعُ كَذُوب ، كصَبُور وصُبُر ، وهو مقيسٌ ، وقيل : جمع كاذِب نحو : شارِف وشُرُف ، كقولها :

ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ *** ……… . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لكنه غيرُ مقيسٍ ، وهو حينئذٍ صفةٌ ل " ألسنتهم " ، وحينئذٍ يكون { أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ، مفعولاً به . وقد تقدَّم الكلامُ في " لا جَرَمَ " ، مستوفى في هود .

قوله : { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } ، قرأ نافع بكسرِ الراءِ ، اسمَ فاعلٍ مِنْ أَفْرَطَ إذا تجاوَزَ ، فالمعنى : أنهم يتجاوزون الحَدَّ في معاصي الله تعالى . فأفْعَلَ هنا قاصرٌ . والباقون بفتحها ، اسمَ مفعولٍ مِنْ أَفْرَطْتُه ، وفيه معنيان ، أحدُهما : أنَّه مِنْ أَفْرطته خلفي ، أي : تركتُه ونَسِيْتُه ، حكى الفراء أنَّ العرب تقول : أَفْرِطْتُ منهم ناساً ، أي : خَلَّفْتُهم ، والمعنى : أنهم مَنْسِيًّون متروكون في النار . والثاني : أنه مِنْ أَفْرَطْتُه ، أي : قَدَّمْتُه إلى كذا ، وهو منقولٌ بالهمزة مِنْ فَرَط إلى كذا ، أي : تقدَّم إليه ، كذا قال الشيخ ، وأنشد للقطامي :

واسْتَعْجَلُونْا وكانوا مِنْ صحابَتِنا *** كما تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ

فَجَعَلَ " فَرَط " قاصراً و " أفرط " منقولاً . وقال الزمخشري : " بمعنى يتقدَّمون إلى النار ، ويتعجَّلون إليها ، مِنْ أَفْرَطْتُ فلاناً وفَرَطْتُه إذا قدَّمته إلى الماء " ، فجعل فَعَل وأفْعَل بمعنى : لا أن أَفْعل ، منقولٌ مِنْ فَعَل ، والقولان محتملان ، ومنه " الفَرَطُ " ، أي : المتقدم . قال عليه السلام : " أنا فَرَطُكم على الحوض " ، أي : سابِقُكم . ومنه " واجعله فَرَطاً وذُخْراً " ، أي : متقدِّماً بالشفاعةِ وتثقيلِ الموازين .

وقرأ أبو جعفر - في روايةٍ - " مُفَرِّطون " بتشديدِ الراءِ مكسورةً مِنْ فَرَّط في كذا : أي : قَصَّر ، وفي روايةٍ ، مفتوحةً ، مِنْ فَرَّطته مُعَدَّى بالتضعيفِ مِنْ فَرَط بالتخفيف ، أي : تَقَدَّم وسَبَقَ .

وقرأ عيسى بن عمر والحسن " لا جَرَمَ إنَّ لهم النارَ وإنهم " بكسرِ " إنَّ " فيهما على أنَّها جوابُ قسمٍ أَغْنَتْ عنه " لا جَرَمَ " .