المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

66- ولو أنهم حفظوا التوراة والإنجيل كما نزلا ، وعملوا بما فيهما . وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم ، وهو القرآن ، لوسَّع الله عليهم الرزق يأتيهم من كل جهة يلتمسونه منها . وهم ليسوا سواء في الضلال ، ومن هؤلاء جماعة عادلة عاقلة ، وهم الذين آمنوا بمحمد وبالقرآن ، وكثير منهم لبئس ما يعملونه ويقولونه معرضين عن الحق .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

قوله تعالى : { لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } ، يعني : أقاموا أحكامهما وحدودهما ، وعملوا بما فيهما .

قوله تعالى : { وما أنزل إليهم من ربهم } ، يعني : القرآن ، وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيل .

قوله تعالى : { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } ، قيل : من فوقهم هو المطر ، ومن تحت أرجلهم نبات الأرض . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأنزلت عليهم القطر ، وأخرجت لهم من نبات الأرض . قال الفراء : أراد به التوسعة في الرزق ، كما يقال : فلان في الخير من قرنه إلى قدمه ، نظيره قوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [ الأعراف :96 ] .

قوله تعالى : { منهم أمة مقتصدة } ، يعني : مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، ( مقتصدة ) أي عادلة غير غالية ، ولا مقصرة جافية ، ومعنى الاقتصاد في اللغة : الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير .

قوله تعالى : { وكثير منهم } ، كعب بن الأشرف وأصحابه .

قوله تعالى : { ساء ما يعملون } ، بئس ما يعملون ، بئس شيئاً عملهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

وأما سعادات الدنيا فقد ذكرها في قوله بعد ذلك : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة } .

وكرر - سبحانه - اللام في قوله : { لَكَفَّرْنَا } { وَلأَدْخَلْنَاهُمْ } لتأكيد الوعد . وفيه تنبيه إلى كثرة ذنوبهم ومعاصيهم وإلى أن الإِسلام يجب ما قبله من ذنوب مهما كثرت .

وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا .

وجمع - سبحانه - بين الإِيمان والتقوى ، للإِيذان بأن الإِيمان الذي ينجى صاحبه ، ويرفع درجاته ، هو ما كان نابعا عن يقين وإخلاص وخشية من الله ، لا إيمان المنافقين الذين يدعون الإِيمان وهو منهم برئ .

والضمير في قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } يعود إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين فتح الله لهم باب الإِيمان ليدخلوا فيه كي ينالوا رضاه .

والمراد بإقامة التوراة والإِنجيل : العمل بما فيهما من بشارات بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وحضهم على الإِيمان به عند ظهوره وتنفيذ ما اشتملا عليه من أحكام أيدتها تعاليم الإِسلام ، وأصل الإِقامة الثبات في المكان . ثم استعير في إقامة الشيء لتوفية حقه .

والمراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن الكريم ، لأنهم مخاطبون به ، وليسوا خارجين عن دائرة التكاليف التي دعا إليها .

قال - تعالى - { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } أي : لأنذركم به يا أهل مكة ، ولأنذر به أيضاً جميع من بلغه هذا الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم .

وقيل : المراد بما أنزل إليهم من ربهم . وكتب أنبيائهم السابقين مثل كتاب شعياء ، وكتاب حزقيل ، وكتاب دانيال . فإنها مشتملة أيضاً على البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم .

والمراد بقوله : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } المبالغة في شرح ما ينعم الله به عليهم من خيرات وأرزاق تعمهم من كل جهة من الجهات لا أن هناك فوقا وتحتا .

أي : لأكلوا أكلا متصلا وفيراً ، ولعمهم الخير والرزق من كل جهة بأن تعطيهم السماء مطرها وبركتها ، وتعطيهم الأرض نباتها وخيرها ، فيعيشوا في رغد من العيش ؛ وفي بسطة من الرزق .

وفي ذلك دلالة على أن الاستقامة على شرع الله ، تأتي بالرزق الرغيد ، ولقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في آيات كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - :

{ وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } وقال - تعالى - حكاية عن هود أنه قال لقومه : { وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } والمعنى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ } أي اليهود والنصارى { أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } بأن عملوا بما فيهما من أقوال تدعوهم إلى الإِيمان بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتركوا تحريف الكلم عن مواضعه .

ولو أنهم - أيضاً آمنوا بما { أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } من قرآن مجيد فيه هدايتهم وسعادتهم لو أنهم فعلوا ذلك لأتاهم الرزق الواسع من كل ناحية ولعمهم الخير من كل جهة ، ولعاشوا آمنين مطمئنين .

والمراد بالأكل الانتفاع مطلقاً ، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها .

ومفعول " كلوا " محذوف لقصد التعميم . أو القصد إلى نفس العفل كما في قولهم : فلان يعطي ويمنع .

وقوله : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } مدح للقلة التي تستحق المدح من أهل الكتاب وذم للكثيرين منهم الذين قبح عملهم وفسدت نفوسهم .

والأمة : الجماعة من الناس الذين يجمعهم دين واحد . أو جنس واحد . أو مكان واحد .

ومقتصدة من الاقتصاد وهو الاعتدال في كل شيء والمراد به هنا : السير على الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الحق والخير ، وهو طريق الإِسلام .

والمعنى : من أهل الكتاب جماعة مستقيمة على طريق الحق ، وهم قلة آمنت بالنبي - صلى الله عليه وسلم إلى جوار هذه الجماعة القليلة المستقيمة عدد كبير من أهل الكتاب ساء عملهم ، وأعوج سلوكهم ، وكان من حالهم ما يثير العجب والدهشة .

والمراد بهذه الأمة المقتصدة من أهل الكتاب من دخل منهم في الإِسلام واتبع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم .

وبذلك نرى هاتين الآيتين قد بشرت أهل الكتاب بالسعادة الدنيوية والأخروية متى آمنوا بالله تعالى - واتبعوا ما جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

51

وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج الله الممثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم - كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل - لصلحت حياتهم الدنيا ، ونمت وفاضت عليهم الأزراق ، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق ، ووفرة النتاج وحسن التوزيع ، وصلاح أمر الحياة . . ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا يقيمون منهج الله - إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها ( وكثير منهم ساء ما يعملون ) . وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا ، لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده - وإن كان هو المقدم وهو الأدوم - ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا ، ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة . . وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية . . يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله : ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) . .

وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة ؛ وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا . إنما هو طريق واحد ، تصلح به الدنيا والآخرة ، فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة . . هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا . .

وهذا المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب ، ولكنه كذلك - وتبعا لذلك - منهج حياة أنسانية واقعية ، يقام ، وتقام عليه الحياة . . وإقامته - مع الإيمان والتقوى - هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية ، وفيض الرزق ، ووفرة النتاج ، وحسن التوزيع ، حتى يأكل الناس جمعيا - في ظل هذا المنهج - من فوقهم ومن تحت أرجلهم .

إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا من الدنيا ؛ ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا من سعادة الدنيا ، ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا . . وهذه هي الحقيقة الغائمة اليوم في أفكار الناس وعقولهم وضمائرهم وأوضاعهم الواقعية .

لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير الناس وضميرهم وواقعهم ، بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة - لا يرى أن هنالك سبيلا للالتقاء بين الطريقين . ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه ؛ وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه ؛ ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع . . لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا . .

حقيقة : إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله ، وعن منهجه للحياة ، اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ، وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع ، والكسب في مضمار المنافع الدنيوية ، أن يتخلوا عن طريق الآخرة ؛ وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية ؛ والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف ، الذي يحض عليه الدين . كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة ، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع ، والكسب في مضمار المنافع ، لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق ، ولا مرضية لله سبحانه . .

ولكن . . تراها ضربة لازب ! ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس ؟ ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ؟

كلا . . إنها ليست ضربة لازب ! فالعداء بين الدنيا والآخرة ؛ والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ، ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل . . بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلا . إنما هي عارض ناشى ء من انحراف طارى ء !

إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة ؛ وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا . وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هوذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا ؛ وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي . .

هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية . . ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس . . فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة ، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة . والخلافة عمل وإنتاج ، ووفرة ونماء ، وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، كما يقول الله في كتابه الكريم .

إن التصور الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن الله ، بإذن الله ، وفق شرط الله . . ومن ثم يجعل العمل المنتج المثمر ، وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها - بل الخامات والموارد الكونية كذلك - هو الوفاء بوظيفة الخلافة . ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة - وفق منهج الله وشريعته حسب شرط الاستخلاف - طاعة لله ينال عليها العبد ثواب الآخرة ؛ بينما هو بقيامه بهذه الوظيفة على هذا النحو يظفر بخيرات الأرض التي سخرها الله له ؛ ويفيض عليه الرزق من فوقه ومن تحت رجليه ، كما يصور التعبير القرآني الجميل !

ووفق التصور الإسلامي يعتبر الإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض ، ولا يستغل طاقات الكون المسخرة له ، عاصيا لله ، ناكلا عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها ، وهو يقول للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) . وهو يقول كذلك للناس : ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) ، ومعطلا لرزق الله الموهوب للعباد . . وهكذا يخسر الآخرة لأنه خسر الدنيا !

والمنهج الإسلامي - بهذا - يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق . فلا يفوت على الإنسان دنياه لينال آخرته ، ولا يفوت عليه آخرته لينال دنياه . فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي .

هذا بالقياس إلى جنس الإنسان عامة ، وبالقياس إلى الجماعات الإنسانية التي تقوم في الأرض على منهج الله . . فأما بالقياس إلى الأفراد فإن الأمر لا يختلف . . إذ أن طريق الفرد وطريق الجماعة - في المنهج الإسلامي - لا يختلفان ولا يتصادمان ولا يتعارضان . . فالمنهج يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية والعقلية في العمل والإنتاج ؛ وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله ، فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون ، ولا يأكل من سحت ، ولا يحتجز دون أخيه المحتاج في الجماعة شيئا يملكه - مع الاعتراف الكامل له بملكيته الفردية لثمرة عمله والاعتراف للجماعة بحقها في ماله في حدود ما فرض الله وما شرع - والمنهج يسجل للفرد عمله - في هذه الحدود ووفق هذه الاعتبارات - عبادة لله يجزيه عليها بالبركة في الدنيا وبالجنة في الآخرة . . ويربط المنهج بين الفرد وربه رباطا أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها عليه ؛ ليستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته بالله في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة ، وفي العام الواحد ثلاثين يوما بصوم رمضان ، وفي العمر كله بحج بيت الله . وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة . .

ومن هنا قيمة هذه الفرائض التعبدية في المنهج الإسلامي . إنها تجديد للعهد مع الله على الارتباط بمنهجه الكلي للحياة . وهي قربى لله يتجدد معها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج ، الذي ينظم أمر الحياة كلها ، ويتولى شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم بين الناس في علاقاتهم وفي خلافاتهم . ويتجدد معها الشعور بعون الله ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل ، والتغلب على شهواتالناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق . . وليست هذه الشعائر التعبدية أمورا منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم والقضاء ، والجهاد لإقرار منهج الله في الأرض ، وتقرير سلطانه في حياة الناس . . إنما الإيمان والتقوى والشعائر التعبدية شطر المنهج ، المعين على أداء شطره الآخر . . وهكذا يكون الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة العملية سبيلا للوفرة والفيض . كما بعد الله الناس في هاتين الآيتين الكريمتين . .

إن التصور الإسلامي ، وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه ، لا يقدم الحياة الآخرة بديلا من الحياة الدنيا - ولا العكس - إنما يقدمهما معا في طريق واحد ، وبجهد واحد . ولكنهما لا يجتمعان كذلك في حياة الإنسان إلا إذا اتبع منهج الله وحده في الحياة - دون أن يدخل عليه تعديلات مأخوذة من أوضاع أخرى لم تنبثق من منهج الله ، أو مأخوذة من تصوراته الذاتية التي لم تضبط بهذا المنهج - ففي هذا المنهج وحده يتم ذلك التناسق الكامل .

والتصور الإسلامي - وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه - لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى ، بديلا من العمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة المادية . . وليس هو المنهج الذي يعد الناس فردوس الآخرة ويرسم لهم طريقه ؛ بينما يدع الناس أن يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا - كما يتصور بعض السطحيين في هذا الزمان ! - فالعمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة الدنيا تمثل في التصور الإسلامي - والمنهج الإسلامي - فريضة الخلافة في الأرض . والإيمان والعبادة والصلاح والتقوى ، تمثل الارتباطات والضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق المنهج في حياة الناس . . وهذه وتلك معا هي مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معا ؛ والطريق هو الطريق ، ولا فصام بين الدين والحياة الواقعية المادية كما هو واقع في الأوضاع الجاهلية القائمة في الأرض كلها اليوم . والتي منها يقوم في أوهام الواهمين أنه لا مفر من أن يختار الناس الدنيا أو يختاروا الآخرة ، ولا يجمعوا بينهما في تصور أو في واقع . . لأنهما لا تجتمعان . . !

إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس ، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة ، وبين العبادة الروحية والإبداع المادي ، وبين النجاح في الحياة الدنيا ، والنجاح في الحياة الأخرى . . إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية ! إنما هو ضريبة بائسه فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله ، وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها ، معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه . .

وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا ، فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى . .

إنهم يؤدونها قلقا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر ، من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه ، إذا هم آثروا اطراح الدين كله ، على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة ، والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي ! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم ، يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب ، ولا تطيق الفراغ والخواء . وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية ، أو فلسفية ، أو فنية . . على الإطلاق . . لأنها جوعة النزعة إلى إله . .

وهم يؤدونها كذلك قلقا وحيدة وشقاء قلب وبلبلة خاطر ، إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله ، وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعة وتقوم تصوراته ، وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله ، وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني ، والسلوك الديني ، مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود .

وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء ، سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية ، أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نطام الحياة العملية . . وتتصور - أو يصور لها أعداء البشرية - أن الدين لله ، وأن الحياة للناس ! وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق ، والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل !

وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة . . ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء . . لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع ؛ ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة ، بل ينسق . .

ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة ، في فترة موقوتة ، إذ نرى أمما لا تؤمن ولا تتقي ، ولا تقيم منهج الله في حياتها ، وهي موفورة الخيرات ، كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء . . .

إنه رخاء موقوت ، حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت . وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني . . والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى :

تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم ، مما يجعل المجتمع حافلا بالشقاء ، وحافلا بالأحقاد ، وحافلا بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة . . وهو بلاء على رغم الرخاء ! . .

وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعا من عدالة التوزيع واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر ، لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع . . وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام !

وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره - إن عاجلا أو آجلا - إلى تدمير الحياة المادية ذاتها . فالعمل والإنتاج والتوزيع ، كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق . والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان !

وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم - وبخاصة أشدها رخاء ماديا - مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال . ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج ، وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء ! وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحا كافيا يلفت الأنظار !

وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة ؛ في هذا العالم المضطرب ؛ الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة . . وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون ؛ فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية . . ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء !

وتظهر هذه الآثار كلها بصورة متقدمة واضحة في ميل بعض الشعوب إلى الاندثار والدمار - وأظهر الأمثلة الحاضرة تتجلى في الشعب الفرنسي - وليس هذا إلا مثلا للآخرين ، في فعل الافتراق بين النشاط المادي والمنهج الرباني ؛ وافتراق الدنيا والآخرة ، وافتراق الدين والحياة ؛ أو اتخاذ منهج للآخرة من عند الله ، واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس ؛ وإيقاع هذا الفصام النكد بين منهج الله وحياة الناس !

وقبل أن ننهي هذا التعليق على التقرير القرآني لتلك الحقيقة الكبيرة ، نحب أن نؤكد أهمية التناسق في منهج الله بين الإيمان والتقوى وإقامة المنهج في الحياة الواقعية للناس ، وبين العمل والإنتاج والنهوض بالخلافة في الأرض ، فهذا التناسق هو الذي يحقق شرط الله لأهل الكتاب - ولكل جماعة من الناس - أن يأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا ، وأن تكفر عنهم سيئاتهم ويدخلوا جنات النعيم في الآخرة ؛ وأن يجتمع لهم الفردوس الأرضي - بالوفرة والكفاية مع السلام والطمأنينة - وفردوس الآخرة بما فيه من نعيم ورضوان . .

ولكننا مع هذا التوكيد لا نحب أن ننسى أن القاعدة الأولى والركيزة الأساسية هي الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية . . فهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج والترقية والتطوير للحياة . . فضلا على أن للصلة بالله مذاقها الذي يغير كل طعوم الحياة ؛ ويرفع كل قيم الحياة ؛ ويقوم كل موازين الحياة . . فهذا هو الأصل في التصور الإسلامي وفي المنهج الإسلامي ، وكل شيء فيه يجيء تبعا له ، ومنبثقا منه ومعتمدا عليه . . ثم يتم تمام الأمر كله في الدنيا والآخرة في تناسق واتساق .

وينبغي أن نذكر أن الإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله وإقامة شريعة الله في الحياة . . كل أولئك ثمرته للإنسان ، وللحياة الإنسانية . فالله - سبحانه - غني عن العالمين . . وإذا شدد المنهج الإسلامي في هذه الأسس ، وجعلها مناط العمل والنشاط ؛ ورد كل عمل وكل نشاط لا يقوم عليها ، وعده باطلا لا يقبل ، وحابطا لا يعيش ، وذاهبا مع الريح . . فليس هذا لأن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له وتحقيق منهجه للحياة . . ولكن لأنه - سبحانه - يعلم أن لا صلاح لهم ولا فلاح إلا بهذا المنهاج . .

في الحديث القدسي : عن أبى ذر - رضي الله عنه - عن النبي [ ص ] فيما روى عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال :

" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا . . يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم . . يا عبادي ، كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم . . يا عبادي ، كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم . . يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم . . يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا . . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا . . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي ، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر . . يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا فليحمد الله ؛ ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " . . [ رواه مسلم ]

وعلى هذا الأساس ينبغي أن ندرك وظيفة الإيمان والتقوى والعبادة وإقامة منهج الله في الحياة والحكم بشريعة الله . . فهي كلها لحسابنا نحن . . لحساب هذه البشرية . . في الدنيا والآخرة جميعا . . وهي كلها ضروريات لصلاح هذه البشرية في الدنيا والآخرة جميعا . .

ونحسب أننا لسنا في حاجة لأن نقول : إن هذا الشرط الإلهي لأهل الكتاب غير خاص بأهل الكتاب . فالشرط لأهل الكتاب يتضمن الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله المتمثل في ما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل . وما أنزل إليهم من ربهم - وذلك بطبيعة الحال قبل البعثة الأخيرة - فأولى بالشرط الذين أنزل إليهم القرآن . .

أولى بالشرط الذين يقولون : إنهم مسلمون . . فهؤلاء هم الذين يتضمن دينهم بالنص : الإيمان بما أنزل إليهم وما أنزل من قبل ، والعمل بكل ما أنزل إليهم وما استبقاه الله في شرعهم من شرع من قبلهم . . وهم أصحاب الدين الذي لا يقبل الله غيره من أحد . . وقد انتهى إليه كل دين قبله ؛ ولم يعد هناك دين يقبله الله غيره . . أو يقبل من أحد غيره .

فهؤلاء أولى أن يكون شرط الله وعهده لهم . . وهؤلاء أولى أن يرتضوا ما ارتضاه الله منهم ، وأن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم من تكفير السيئات ودخول الجنة في الآخرة ؛ ومن الأكل من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا . .

إنهم أولى أن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم بدلا من الجوع والمرض والخوف والشظف الذي يعيشون فيه في كل أرجاء الوطن الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح - وشرط الله قائم ؛ والطريق إليه معروف . . لو كانوا يعقلون . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لاََكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } .

إقامة الشيء جعْله قائماً ، كما تقدّم في أول سورة البقرة . واستعيرت الإقامة لعدم الإضاعة لأنّ الشيء المضاع يكون مُلْقى ، ولذلك يقال له : شَيْء لَقًى ، ولأنّ الإنسان يكون في حال قيامه أقْدَر على الأشياء ، فلذا قالوا : قامتْ السوق . فيجوز أن يكون معنى إقامة التّوراة والإنجيل إقامة تشريعهما قبل الإسلام ، أي لو أطاعوا أوامر الله وعملوا بها سلموا من غَضَبه فلأغْدَق عليهم نعمَه ، فاليهود آمنوا بالتَّوراة ولم يقيموا أحكامها كما تقدّم آنفاً ، وكفروا بالإنجيل ورفضوه ، وذلك أشدّ في عدم إقامَته ، وبالقرآنِ . وقد أوْمأت الآية إلى أنّ سبب ضيق معاش اليهود هو من غضب الله تعالى عليهم لإضاعتهم التّوراة وكفرهم بالإنجيل وبالقرآن ، أي فتحتّمت عليهم النقمة بعد نزول القرآن .

ويحتمل أن يكون المراد : لو أقاموا هذه الكتب بعد مجيء الإسلام ، أي بالاعتراف بما في التّوراة والإنجيل من التبْشير ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم حتّى يؤمنوا به وبما جاء به ، فتكون الآية إشارة إلى ضيق معاشهم بعد هجرة الرسول إلى المدينة . ويؤيّده ما روي في سبب نزول قوله تعالى : { وقالت اليهود الله يد مغلولة } [ المائدة : 64 ] كما تقدّم .

ومعنى { لأكلوا مِن فوقهم ومن تحت أرجلهم } تعميم جهات الرزق ، أي لرُزقوا من كلّ سبيل ، فأكلوا بمعنى رزقوا ، كقوله : { وتأكلون التراث أكْلاً لَمَّا } [ الفجر : 19 ] . وقيل : المراد بالمأكول من فوق ثمارُ الشجر ، ومن تحت الحُبوبُ والمقاثي ، فيكون الأكل على حقيقته ، أي لاستمرّ الخصب فيهم .

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتَّقوا لفتحنا عليهم بَركَات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } في سورة الأعراف ( 96 ) .

واللام في قوله : { لأكلوا من فوقهم } إلخ مثل اللام في الآية قبلها .

{ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } .

إنصاف لفريق منهم بعد أن جرت تلك المذامّ على أكثرهم .

والمقتصد يطلق على المطيع ، أي غيرُ مسرف بارتكاب الذنوب ، واقف عند حدود كتابهم ، لأنّه يقتصد في سَرف نفسه ، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشقّ الآخر { ساء ما يعملون } . وقد علم من اصطلاح القرآن التعبير بالإسراف عن الاسترسال في الذنوب ، قال تعالى : { قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] ، ولذلك يقابل بالاقتصاد ، أي الحذر من الذنوب ، واختير المقتصد لأنّ المطيعين منهم قبل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة ، كقوله تعالى : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مُقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } [ فاطر : 32 ] .

فالمراد هنا تقسيم أهل الكتاب قبل الإسلام لأنّهم بعد الإسلام قسمان سيّء العمل ، وهو من لم يسلم ؛ وسابق في الخيرات ، وهم الّذين أسلموا مثل عبد الله بن سَلاَم ومخيريق .

وقيل : المراد بالمقتصد غير المُفْرطين في بغض المسلمين ، وهم الّذين لا آمنوا معهم ولا آذوْهم ، وضدّهم هم المسيئون بأعمالهم للمسلمين مثل كعب بن الأشرف . فالأوّلون بغضهم قلبي ، والآخرون بغضهم بالقلب والعمل السيّء . ويطلق المقتصد على المعتدل في الأمر ، لأنّه مشتقّ من القصد ، وهو الاعتدال وعدم الإفراط . والمعنى مقتصدة في المخالفة والتنكّر للمسلمين المأخوذ من قوله : { وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً } [ المائدة : 68 ] .

والأظهر أن يكون قوله : { ساء } فعلاً بمعنى كان سيّئاً ، و { ما يعملون } فاعله ، كما قدّره ابن عطية . وجعله في « الكشاف » بمعنى بِئْس ، فقدّر قولاً محذوفاً ليصحّ الإخبار به عن قوله : { وكثير منهم } ، بناء على التزام عدم صحّة عطف الإنشاء على الإخبار ، وهو محلّ جدال ، ويكون { ما يعملون } مخصوصاً بالذمّ ، والّذي دعاه إلى ذلك أنّه رأى حمله على معنى إنشاء الذمّ أبلغ في ذمّهم ، أي يقول فيهم ذلك كل قائل .