186- وإني مطلع على العباد ، عليم بما يأتون وما يذرون ، فإذا سألك - يا محمد - عبادي قائلين : هل الله قريب منا بحيث يعلم ما نخفي وما نعلن وما نترك ؟ فقل لهم : إني أقرب إليهم مما يظنون ، ودليل ذلك أن دعوة الداعي تصل في حينها ، وأنا الذي أجيبها في حينها كذلك ، وإذا كنت استجبت لها فليستجيبوا هم لي بالإيمان والطاعة فإن ذلك سبيل إرشادهم وسدادهم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أخبرنا جرير ، عن عبدة بن أبي برزة السِّجستاني{[3227]} عن الصُّلْب{[3228]} بن حَكيِم بن معاوية بن حيدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده ، أن أعرابيًا قال : يا رسول الله ، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }{[3229]} .
ورواه ابن مَرْدُويه ، وأبو الشيخ الأصبهاني ، من حديث محمد بن أبي حميد ، عن جرير ، به . وقال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ النبي صلى الله عليه وسلم ]{[3230]} : أين ربنا ؟ فأنزل الله عز وجل : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية{[3231]} .
وقال ابن جُرَيج عن عطاء : أنه بلغه لما نزلت : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] قال الناس : لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا ، ولا نعلو شَرَفًا ، ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير . قال : فدنا منا فقال : " يا أيها الناس ، أرْبعُوا على أنفسكم ؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا ، إنما تدعون سميعًا بصيرًا ، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته . يا عبد الله بن قيس ، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " .
أخرجاه في الصحيحين ، وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي ، واسمه عبد الرحمن بن مُل{[3232]} ، عنه ، بنحوه{[3233]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا شعبة ، حدثنا قتادة ، عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني " {[3234]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله ، عن كريمة بنت الخشخاش المزنية ، قالت : حدثنا أبو هريرة : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله : أنا مع عبدي ما ذكرني ، وتحركت بي شفتاه " {[3235]} .
قلت : وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] ، وكقوله لموسى وهارون ، عليهما السلام : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] . والمراد من هذا : أنه تعالى لا يخيب دعاء داع ، ولا يشغله عنه شيء ، بل هو سميع الدعاء . وفيه ترغيب في الدعاء ، وأنه لا يضيع لديه تعالى ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان - هو النهدي - يحدث عن سلمان - يعني الفارسي - رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردّهما خائبتين " .
قال يزيد : سموا لي هذا الرجل ، فقالوا : جعفر بن ميمون{[3236]} .
وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة من حديث جعفر بن ميمون ، صاحب الأنماط ، به{[3237]} . وقال الترمذي : حسن غريب . ورواه بعضهم ، ولم يرفعه .
وقال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المِزّي ، رحمه الله ، في أطرافه : وتابعه أبو همام محمد بن الزبرقان ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، به{[3238]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عَليّ بن دُؤاد أبو المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجِّل له دعوته ، وإما أن يَدّخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " قالوا : إذًا نكثر . قال : " الله أكثر{[3239]} " {[3240]} .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جُبَير بن نفير ، أن عُبَادة بن الصامت حدّثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما على ظهر الأرض من رجل مُسْلِم يدعو الله ، عز وجل ، بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو كف عنه من السوء مثلها ، ما لم يَدعُ بإثم أو قطيعة رحم " {[3241]} .
ورواه الترمذي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن محمد بن يوسف الفرْيابي ، عن ابن ثوبان - وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان - به{[3242]} . وقال : حسن صحيح غريب من هذا الوجه .
وقال الإمام مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي عبيد - مولى ابن أزهر - عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يُسْتَجَاب لأحدكم ما لم يَعْجل ، يقول : دعوتُ فلم يستجب لي " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، به{[3243]} . وهذا لفظ البخاري ، رحمه الله ، وأثابه الجنة .
وقال مسلم أيضًا{[3244]} : حدثني أبو الطاهر ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن ربيعة ابن يزيد ، عن أبي إدريس الخَوْلاني ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل " . قيل : يا رسول الله ، ما الاستعجال ؟ قال : " يقول : قد
دعوتُ ، وقد دَعَوتُ ، فلم أرَ يستجابُ لي ، فَيَسْتَحسر عند ذلك ، ويترك{[3245]} الدعاء " {[3246]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا ابن{[3247]} هلال ، عن قتادة ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل " . قالوا : وكيف يستعجل ؟ قال : " يقول : قد دعوتُ ربي فلم يَسُتَجبْ لي " {[3248]} .
وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر : أن يزيد بن عبد الله بن قسَيط حدثه ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : ما من عَبْد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب ، حتى تُعَجَّل له في الدنيا أو تُدّخر له في الآخرة ، إذا لم{[3249]} يعجل أو يقنط . قال عروة : قلت : يا أمَّاه{[3250]} كيف عجلته وقنوطه ؟ قالت : يقول : سألت فلم أعْطَ ، ودعوت فلم أجَبْ .
قال ابن قُسَيْط : وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا بكر بن عمرو ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " القلوب أوعية ، وبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل " {[3251]} .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبيَّ بن نافع ابن معد يكرب ببغداد ، حدثني أبي بن نافع ، حدثني أبي نافع بن معد يكرب ، قال : كنت أنا وعائشة سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الآية : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } قال : " يا رب ، مسألة عائشة " . فهبط جبريل فقال : الله يقرؤك السلام ، هذا عبدي الصالح{[3252]} بالنية الصادقة ، وقلبُه نقي{[3253]} يقول : يا رب ، فأقول : لبيك . فأقضي حاجته .
هذا حديث غريب من هذا الوجه{[3254]} .
وروى ابن مَرْدُويه من حديث الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : حدثني جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم أمرت بالدعاء ، وتوكَّلْتَ بالإجابة ، لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، لبيك إن الحمد والنعمة لك ، والملك لا شريك لك ، أشهد أنك فرد أحد صَمَد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحد ، وأشهد أن وعدك حق ، ولقاءك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنت تبعث من في القبور " {[3255]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسن بن يحيى الأرزي{[3256]} ومحمد بن يحيى القُطَعي{[3257]} قالا حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا صالح المُرِّي ، عن الحسن ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، واحدة لك وواحدة لي ، وواحدة فيما بيني وبينك ؛ فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا ، وأما التي لك فما عملتَ من شيء وَفَّيْتُكَه{[3258]} وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الإجابة " {[3259]} .
وفي ذكره تعالى{[3260]} هذه الآية الباعثة على الدعاء ، متخللة بين أحكام الصيام ، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العِدّة ، بل وعندَ كلّ فطر ، كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده :
حدثنا أبو محمد المليكي ، عن عَمْرو - هو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمرو ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة " . فكان عبد الله بن عمرو إذ أفطر دعا أهله ، وولده ودعا{[3261]} .
وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه : حدثنا هشام بن عمار ، أخبرنا الوليد بن مسلم ، عن إسحاق بن عبيد الله{[3262]} المدني ، عن عَبْد الله{[3263]} بن أبي مُلَيْكة ، عن{[3264]} عبد الله بن عَمْرو ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن للصائم عند فطره دَعْوةً ما تُرَدّ " . قال عَبْد الله{[3265]} بن أبي مُليَكة : سمعت عبد الله بن عَمْرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعَتْ كل شيء أن تغفر لي{[3266]} .
وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى{[3267]} يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون{[3268]} الغمام يوم القيامة ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين " {[3269]} .
{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } أي فقل لهم إني قريب ، وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم ، روي : أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت { أجيب دعوة الداع إذا دعان } تقرير للقرب . ووعد للداعي بالإجابة . { فليستجيبوا لي } إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم { وليؤمنوا بي } أمر بالثبات والمداومة عليه { لعلهم يرشدون } راجين إصابة الرشد وهو إصابة الحق . وقرئ بفتح الشين وكسرها . واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة ، وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر ، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم ، مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ، ثم بين أحكام الصوم فقال :
الجُملة معطوفة على الجمل السابقة المتعاطفة أي { لتكملوا العدة ولتكبروا . . . ولعلكم تشكرون } [ البقرة : 185 ] ، ثم التَفَت إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وحده لأنه في مقام تبليغ فقال : { وإذا سألك عبادي عني } ، أي العباد الذين كان الحديث معهم ، ومقتضى الظاهر أن يقال { ولعلكم تشكرون وتدعون فأستجيب لكم إلاّ أنه عدل عنه ليحصل في خلال ذلك تعظيمُ شأن النبي بأنه يسأله المسلمون عن أمر الله تعالى ، والإشارةُ إلى جواب من عسى أن يكونوا سألوا النبي عن كيفية الدعاء هل يكون جهراً أو سراً ، وليكون نظم الآية مؤذناً بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجب له عليهم أكرمهم فقال : وإذا سألوا عن حقهم عليَّ فإني قريب منهم أجيب دعوتهم ، وجُعل هذا الخير مرتباً على تقدير سؤالهم إشارة إلى أنهم يهجس هذا في نفوسهم بعد أن يسمعوا الأمر بالإكمال والتكبير والشكر أن يقولوا : هل لنا جزاء على ذلك ؟ وأنهم قد يحجمون عن سؤال النبي عن ذلك أدباً مع الله تعالى فلذلك قال تعالى : { وإذا سألك } الصريح بأن هذا سيقع في المستقبل . واستعمال مثل هذا الشرط مع مادة السؤال لقصد الاهتمام بما سيذكر بعده استعمال معروف عند البلغاء قال علقمة :
فَإنْ تسأَلوني بالنِّساءِ فإنّني *** خَبير بِأَدْواءِ النساءِ طَبِيبُ
والعلماء يفتتحون المسائل المهمة في كتبهم بكلمة ( فإن قلت ) وهو اصطلاح « الكشاف » . ويؤيد هذا تجريد الجواب من كلمة قل التي ذكرت في مواقع السؤال من القرآن نحو { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت } [ البقرة : 189 ] ، { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } [ البقرة : 220 ] ، مع ما في هذا النظم العجيب من زيادة إخراج الكلام في صورة الحكم الكلي إذ جاء بحكم عام في سياق الشرط فقال { سألك عبادي } وقال : { أجيب دعوة الداع } ولو قيل وليدعوني فأستجيب لهم لكان حكماً جزئياً خاصاً بهم ، فقد ظهر وجه اتصال الآية بالآيات قبلها ومناسبتها لهن وارتباطها بهن من غير أن يكون هنالك اعتراض جملة .
وقيل إنها جملة معترضة اقترنت بالواو بين أحكام الصيام للدلالة على أن الله تعالى مجازيهم على أعمالهم وأنه خبير بأحوالهم ، قيل إنه ذكر الدعاء هنا بعد ذكر الشكر للدلالة على أن الدعاء يجب أن يسبقه الثناء .
والعباد الذين أضيفوا إلى ضمير الجلالة هم المؤمنون لأن الآيات كلها في بيان أحكام الصوم ولوازمه وجزائه وهو من شعار المسلمين ، وكذلك اصطلاح القرآن غالباً في ذكر العباد مضافاً لضمير الجلالة ، وأما قوله تعالى : { ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } [ الفرقان : 17 ] بمعنى المشركين فاقتضاه أنه في مقام تنديمهم على استعبادهم للأصنام .
وإنما قال تعالى : { فإني قريب } ولم يقل : فقل لهم إني قريب إيجازاً لظهوره من قوله : { وإذا سألك عبادي عني } ، وتنبيهاً على أن السؤال مفروض غير واقع منهم بالفعل ، وفيه لطيفة قرآنية وهي إيهام أن الله تعالى تولَّى جوابهم عن سؤالهم بنفسه إذ حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء .
واحتيج للتأكيد بإنَّ ، لأن الخبر غريب وهو أن يكون تعالى قريباً مع كونهم لا يرونه . و { أجيبُ } خبر ثان لإنَّ وهو المقصود من الإخبار الذي قبله تمهيداً له لتسهيل قبوله .
وحذفت ياء المتكلم من قوله « دعان » في قراءة نافع وأبي عَمرو وحمزة والكسائي ؛ لأن حذفها في الوقف لغة جمهور العرب عدا أهل الحجاز ، ولا تحذف عندهم في الوصل لأن الأصل عدمه ولأن الرسم يبنى على حال الوقف ، وأثبت الياء ابن كثير وهشام ويعقوب في الوصل والوقف ، وقرأ ابن ذكوان وعاصم بحذف الياء في الوصل والوقف وهي لغة هذيل ، وقد تقدم أن الكلمة لو وقعت فاصلة لكان الحذف متفقاً عليه في قوله تعالى : { وإياي فارهبون } [ البقرة : 40 ] في هذه السورة .
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجوُّ الإجابة ، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته ، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان .
والآية دلت على أن إجابة دعاء الداعي تفضل من الله على عباده غير أن ذلك لا يقتضي التزام إجابة الدعوة من كل أحد وفي كل زمان ، لأن الخبر لا يقتضي العموم ، ولا يقال : إنه وقع في حيز الشرط فيفيد التلازم ، لأن الشرط هنا ربط الجواب بالسؤال وليس ربط للدعاء بالإجابة ، لأنه لم يقل : إن دعوني أجبتهم .
وقوله : { فليستجيبوا لي } تفريع على { أجيبُ } أي إذا كنت أجيب دعوة الداعي فليجيبوا أوامري ، واستجاب وأجاب بمعنى واحد . وأصل أجاب واستجاب أنه الإقبال على المنادي بالقدوم ، أو قولٌ يدل على الاستعداد للحضور نحو ( لَبيك ) ، ثم أطلق مجازاً مشهوراً على تحقيق ما يطلبه الطالب ، لأنه لما كان بتحقيقه يقطع مسألتَه فكأنَّه أجاب نداءه .
فيجوز أن يكون المراد بالاستجابة امتثال أمر الله فيكون { وليؤمنوا بي } عطفاً مغايراً والمقصود من الأمر الأول الفعل ومن الأمر الثاني الدوام ، ويجوز أن يراد بالاستجابة ما يشمل استجابة دعوة الإيمان ، فذِكْر { وليؤمنوا } عطف خاص على عام للاهتمام به .
وقوله : { لعلهم يرشدون } تقدم القول في مِثله . والرشد إصابة الحق وفعله كنصر وفَرِح وضَرب ، والأشهر الأول .