المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

تشتمل هذه السورة الكريمة على إحدى وعشرة آية ومائة ، وهي سورة مكية إلا الآيات 26 ، 32 ، 33 ، 57 ، ومن آية إلى 80 ، فمجوع الآيات المدنية اثنتا عشرة آية .

ابتدأت السورة بتسبيح الله تعالى ، ثم ذكرت الإسراء ، ثم رسالة موسى ، وما كان من بني إسرائيل . ثم أشارت إلى منزلة القرآن الكريم في الهداية ، وإلى الآيات الكونية في الليل والنهار ، وما يكون للناس يوم القيامة من جزاء على ما يقدمون من أعمال في الدنيا . وبين سبحانه أسباب فساد الأمم ، وحال الأفراد في مساعيهم ونتائج أعمالهم في الآخرة ، وجاءت الآيات من بعد ذلك بإكرام الوالدين ، وحال الناس بالنسبة لأموالهم ، وجاءت بأوامر عشرة . فيها بناء المجتمع الفاضل ، ثم رد سبحانه مفتريات المشركين بالنسبة للملائكة ، ثم بين القرآن تصريفه في الحجج .

ثم أشار سبحانه إلى ما يستحق من تحميد ، وإلى جحود المشركين ، وقدم سبحانه وصايا للمؤمنين ، وبين معاملته تعالى للكافرين في الدنيا وفي الآخرة . ثم بين سبحانه أصل الخليقة الإنسانية والشيطانية ، وهدد سبحانه المشركين بآياته ، وبين بعد هذا سبحانه الكرامة الإنسانية ، وذكر سبحانه بعذاب يوم القيامة ، ثم ذكر محاولة المشركين لصرف النبي عن دعوته ، وتثبيت الله تعالى له ، وقد أوصى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك النبي بعدة وصايا هادية ، وأدعية ضارعة ، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى منزلة القرآن الكريم ، وتكلم سبحانه عن الروح ، وأشار إلى أسرارها ، ثم ذكر سبحانه قدرته على أن يأتي بآيات أخرى ، ثم بين منزلة القرآن فيما اشتمل عليه من الحق ، وحال المؤمنين الصادقين في إيمانهم ، وما ينبغي من أن يحمدوا الله دائما ويكبروه .

1- تنزيهاً لله عما لا يليق به ، وهو الذي سار بعبده محمداً في جزء من الليل من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس ، الذي بارك الله حوله لسكانه في أقواتهم ، لِنُريَه من أدلتنا ما فيه البرهان الكافي على وحدانيتنا وعظم قدرتنا ، إن الله - وحده - هو السميع البصير .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة

هذه السورة - سورة الإسراء - مكية ، وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده ؛ وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة ؛ وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ؛ إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء . وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان .

ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه في مكة . وهو القرآن الذي جاء به ، وطبيعة هذا القرآن ، وما يهدي إليه ، واستقبال القوم له . واستطرادا بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل ، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها . وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي ، والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع . . كل ذلك بعد أن يعذر الله - سبحانه - إلى الناس ، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل ) وكل شيء فصلناه تفصيلا ) .

ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه . ففي مطلعها : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . . )وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح )إنه كان عبدا شكورا ) . . وعند ذكر دعاوي المشركين عن الآلهة يعقب بقوله : )سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن : )ويقولون : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) . . وتختم السورة بالآية )وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ، ولم يكن لهشريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا ) .

في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا ، يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة .

يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء : )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله )مع الكشف عن حكمة الإسراء )لنريه من آياتنا ) . . وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل ، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين ، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة )وإن عدتم عدنا ) . . ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم ، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته . ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال ، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك .

ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد ، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه ، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه .

ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله ، وعن البعث واستبعادهم لوقوعه ، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول [ ص ] ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر ، ويتكلموا بالتي هي أحسن .

وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا [ ص ] بالخوارق فقد كذب بها الأولون ، فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله ؛ كما يتناول موقف المشركين من إنذارهم لله في رؤيا الرسول [ ص ] وتكذيبهم وطغيانهم . ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس ، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين . ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله ، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان ، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم : فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .

ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول [ ص ] ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم . ويأمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته ، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل ، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين ، بينما الإنسان قليل العلم )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) .

ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه . بينما هم يطلبون خوارق مادية ، ويطلبون نزول الملائكة ، ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب ، يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه . . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة ، لا طلب الهدى والاقتناع . ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة ، ويكل الأمر إلى الله . ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوها خوفا من الإنفاق ! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله ، وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلىإيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض ، فأخذهم الله بالعذاب والنكال .

وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه . القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته ، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية . والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود . ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل . كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه .

وقصة الإسراء - ومعها قصة المعراج - إذ كانتا في ليلة واحدة - الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس . والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى ، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا . . هذه القصة جاءت فيها روايات شتى ؛ وثار حولها جدل كثير . ولا يزال إلى اليوم يثور .

وقد اختلف في المكان الذي أسرى منه ، فقيل هو المسجد الحرام بعينه - وهو الظاهر - وروى عن النبي [ ص ] " بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " . وقيل : أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد .

وروى أنه كان نائما في بيت أم هانيء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانى ء وقال : " مثل لي النبيون فصليت بهم " ثم قام ليخرج إلى المسجد ، فتشبثت أم هانى ء بثوبه ، فقال : " مالك ? " قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم . قال : " وإن كذبوني " . فخرج فجلس إليه أبو جهل ، فأخبره رسول الله [ ص ] بحديث الإسراء فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم . فحدثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ؛ وارتد ناس ممن كان آمن به ؛ وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال : أوقال ذلك ? قالوا نعم . قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ? قال : نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء ! فسمي الصديق . وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد ، فجلى له ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب . فقالوا : أخبرنا عن عيرنا . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ؛ وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت . فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق ، كما قال محمد . . ثم لم يؤمنوا ! . . وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس .

واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : والله ما فقد جسد رسول الله [ ص ] ولكن عرج بروحه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها . وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه ، وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه .

والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله [ ص ] ترك فراشه في بيت أم هانى ء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد .

على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول [ ص ] والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم ، وبين أن تكونرؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة . . المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ؛ ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول [ ص ] عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة . . والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعية شيئا . فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة ، حسب ما اعتاده وما رآه . والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله . أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد ، أو عالم بعيد ؛ والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه . وقد صدق أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول : إني لأصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخير السماء !

ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول [ ص ] لم يسمع لتخوف أم هانى ء - رضي الله عنها - من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة . فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به ، والحق الذي وقع له جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه . وقد ارتد بعضهم فعلا ، واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك . ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول [ ص ] عن الجهر بالحق الذي آمن به . . وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس ، ولا يتملقون به القوم ، ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان ، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال .

كذلك يلاحظ أن الرسول [ ص ] لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته ، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق - وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل - ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق ، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة ، المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها . فلم يكن جهر الرسول [ ص ] بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته . إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة :

والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) . .

تبدأ السورة بتسبيح الله ، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف ، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء .

وتذكر صفة العبودية : ( أسرى بعبده ) لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر ؛ وذلك كي لا تنسى هذه الصفة ، ولا يلتبس مقام العبودية ، بمقام الألوهية ، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام ، بسبب ما لابس مولده ووفاته ، وبسبب الآيات التي أعطيت له ، فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة ، من قريب أو من بعيد .

والإسراء من السرى : السير ليلا . فكلم ( أسرى ) تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكنالسياق ينص على الليل ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) للتظليل والتصوير - على طريقة القرآن الكريم - فيلقي ظل الليل الساكن ، ويخيم جوه الساجي على النفس ، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .

والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، إلى محمد خاتم النبيين [ ص ] وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعا . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ؛ وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .

ووصف المسجد الأقصى بأنه ( الذي باركنا حوله ) وصف يرسم البركة حافة بالمسجد ، فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل : باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .

والإسراء آية صاحبتها آيات : ( لنريه من آياتنا ) والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التى لم يبرد فيها فراش الرسول [ ص ] أيا كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله ، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود ؛ وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري ، والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس ، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه ، وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . ( إنه هو السميع البصير ) . . يسمع ويرى كل ما لطف ودق ، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .

والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا إلى صيغة التقرير من الله : ( لنريه من آياتنا ) إلى صيغة الوصف لله : ( إنه هو السميع البصير ) وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس . فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه . وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصا . والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية . وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

بِسمِ اللّهِ الرحمَن الرّحِيمِ .

القول في تأويل قوله تعالى :

{ سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ } .

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : يعني تعالى ذكره بقوله تعالى : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بعَبْدِه لَيْلاً تنزيها للذي أسرى بعبده وتبرئة له مما يقول فيه المشركون من أنّ له من خلقه شريكا ، وأن له صاحبة وولدا ، وعاوّا له وتعظيما عما أضافوه إليه ، ونسبوه من جهالاتهم وخطأ أقوالهم .

وقد بيّنت فيما مضى قبل ، أن قوله سبحان اسم وُضع موضع المصدر ، فنصب لوقوعه موقعه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد كان بعضهم يقول : نصب لأنه غير موصوف ، وللعرب في التسبيح أماكن تستعمله فيها . فمنها الصلاة ، كان كثير من أهل التأويل يتأوّلون قول الله : فَلَوْلا أنّهُ كانَ مِنَ المُسَبّحِينَ : فلولا أنه كان من المصلين . ومنها الاستثناء ، كان بعضهم يتأول قول الله تعالى : ألَمْ أقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبّحُونَ : لولا تستثنون ، وزعم أن ذلك لغة لبعض أهل اليمن ، ويستشهد لصحة تأويله ذلك بقوله : إذْ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ قال : قَال أوْسَطُهمْ ألَم أقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحونَ فذكرهم تركهم الاستثناء . ومنها النور ، وكان بعضهم يتأوّل في الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْلا ذلكَ لاَءَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما أدْرَكَتْ مِنْ شَيْء » أنه عنى بقوله : سبحات وجهه : نور وجهه .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن عثمان بن موهب ، عن موسى بن طلحة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن التسبيح أن يقول الإنسان : سُبْحانَ الله ، قال : «إنْزَاهُ اللّهِ عَنِ السّوءِ » .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن الحسن بن صالح ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : سبحان الله : قال : إنكاف لله . وقد ذكرنا من الاَثار في ذلك ما فيه الكفاية فيما مضى من كتابنا هذا قبل . والإسراء والسّرى : سير الليل . فمن قال : أَسْرى ، قال : يُسري إسراء ومن قال : سرى ، قال : يَسري سُرَىً ، كما قال الشاعر :

ولَيْلَةٍ ذَاتِ دُجّى سَرَيْتُ *** ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُراها لَيْتُ

ويروى : ذات ندى سَريْت .

ويعني بقوله : لَيْلاً من الليل . وكذلك كان حُذيفة بن اليمان يقرؤها .

حدثنا أبو كريب ، قال : سمعت أبا بكر بن عياش ورجل يحدّث عنده بحديث حين أُسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : لا تجيء بمثل عاصم ولا زر ، قال : قرأ حُذيفة : «سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللّيْلِ منَ المَسجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى » وكذا قرأ عبد الله .

وأما قوله : مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فإنه اختُلف فيه وفي معناه ، فقال بعضهم : يعني من الحرم ، وقال : الحرم كله مسجد . وقد بيّنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا . وقال : وقد ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ليلة أُسري به إلى المسجد الأقصى كان نائما في بيت أمّ هانىء ابنة أبي طالب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن السائب ، عن أبي صالح بن باذام عن أمّ هانىء بنت أبي طالب ، في مسرى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أنها كانت تقول : ما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة ، فصلى العشاء الاَخرة ، ثم نام ونمنا ، فلما كان قُبَيل الفجر ، أهبّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى الصبح وصلينا معه قال : «يا أُمّ هانِىءٍ لَقَدْ صَلّيْتُ مَعَكُمُ العِشاءَ الاَخِرَةِ كمَا رأيْتِ بهَذَا الوَادِي ، ثُمّ جِئْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ فَصَلّيْتُ فِيهِ ، ثُمّ صَلّيْتُ صَلاةَ الغَدَاةِ مَعَكُمُ الاَنَ كمَا تَرَيْنَ » .

وقال آخرون : بل أُسرى به من المسجد ، وفيه كان حين أسرى به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن عدي ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة ، وهو رجل من قومه قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «بَيْنا أنا عِنْدَ البَيْتِ بينَ النائمِ واليَقْظانِ ، إذْ سَمِعْتُ قائلاً يَقُولُ ، أحَدُ الثلاثَةِ ، فأتِيتُ بطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيها مِنْ ماءِ زَمْزَمَ ، فَشَرَحَ صَدْرِي إلى كَذَا وكَذَا » قال قتادة : قلت : ما يعني به ؟ قال : إلى أسفل بطنه قال : «فاسْتَخْرَجَ قَلْبِي فغُسلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمّ أُعِيدَ مَكانَهُ ، ثُمّ حُشِيَ إيمَانا وَحِكْمَةً ، ثُمّ أتِيتُ بِدَابّةٍ أبْيَض » ، وفي رواية أخرى : «بِدَابّة بَيْضَاءَ يُقالُ لَهُ البُرَاقُ ، فَوْقَ الحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ ، يَقَعُ خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ ، فحُمِلْتُ عَلَيْهِ ، ثُمّ انْطَلَقْنا حتى أتَيْنا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ فَصَلّيْتُ فِيِه بالنّبِيّينَ والمُرْسَلِينَ إماما ، ثُمّ عُرِجَ بِي إلى السّماءِ الدّنْيا » . . . فذكر الحديث .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك ، يعني ابن صعصعة رجل من قومه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة رجل من قومه ، قال : قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال محمد بن إسحاق : ثني عمرو بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَيْنا أنا نائمٌ في الحِجْرِ جاءَنِي جبْرِيلُ فَهَمَزَني بِقَدمِهِ ، فجَلَسْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئا ، فَعُدْتُ لِمَضْجَعي ، فجاءَنِي الثّانِيَةَ فَهَمَزَنِي بقَدَمِهِ ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئا ، فَعُدْتُ لِمَضْجَعي ، فجاءَني الثّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بقَدَمِهِ ، فَجَلَسْتُ ، فَأخَذَ بعَضُدِي فَقُمْتُ مَعَهُ ، فخَرَجَ بِي إلى بابِ المَسْجدِ ، فإذَا دَابّةٌ بَيْضَاءُ بينَ الحِمارِ والبَغْلِ ، لَهُ فِي فَخِذَيْهِ جَناحان يَحْفِزُ بِهما رِجْلَيْهِ ، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفهِ ، فحَمَلَني عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ مَعي ، لا يَفُوتُني وَلا أفُوتُهُ » .

حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن سليمان بن بلال ، عن شريك بن أبي نمر ، قال : سمعت أنسا يحدثنا عن ليلة المسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أوّلهم : أيهم هو ؟ قال أوسطهم : هو خيرهم ، فقال أحدهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتى جاءوا ليلة أخرى فيما يرى قلبه والنبيّ صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ، ولا ينام قلبه . وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ، ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبرئيل عليه السلام ، فشقّ ما بين نحره إلى لبّته ، حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم حتى أنقى جوفه ، ثم أُتي بطست من ذهب فيه تَوْرٌ محشوّ إيمانا وحكمة ، فحشا به جوفه وصدره ولغاديده ، ثم أطبقه ثم ركب البراق ، فسار حتى أتى به إلى بيت المقدس فصلى فيه بالنّبيين والمرسلين إماما ، ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب بابا من أبوابها ، فناداه أهل السماء : من هذا ؟ قال : هذا جبرائيل ، قيل : من معك ؟ قال : محمد ، قيل : أَوَ قَد بُعث إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحبا به وأهلاً ، فيستبشر به أهل السماء ، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله بأهل الأرض حتى يُعلمهم ، فوجد في السماء الدنيا آدم ، فقال له جبرائيل : هذا أبوك ، فسلّم عليه ، فردّ عليه ، فقال : مرحبا بك وأهلاً يا بني ، فنعم الابن أنت ، ثم مضى به إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها ، فقيل : من هذا ؟ فقال : جبرئيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قد أُرسل إليه ، فقيل : مرحبا به وأهلاً ، ففُتح لهما فلما صعد فيها فإذا هو بنهرين يجريان ، فقال : ما هذان النهران يا جبرائيل ؟ قال : هذا النيل والفرات عنصرهما ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرئيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : أَوَ قَد بُعث إليه ؟ قال : نعم قد بُعث إليه ، قيل : مرحبا به وأهلاً ، ففُتح له فإذا هو بنهر عليه قباب وقصور من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ، وغير ذلك مما لا يعلمه إلاّ الله ، فذهب يشمّ ترابه ، فإذا هو مسك أذفر ، فقال : يا جبرائيل ما هذا النهر ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك في الاَخرة ثم عرج به إلى الرابعة ، فقالوا به مثل ذلك ثم عرج به إلى الخامسة ، فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السادسة ، فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السابعة ، فقالوا له مثل ذلك ، وكلّ سماه فيها أنبياء قد سماهم أنس ، فوعيت منهم إدريس في الثانية ، وهارون في الرابعة ، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه ، وإبراهيم في السادسة ، وموسى في السابعة بتفضيل كلامه الله ، فقال موسى : رب لم أظنّ أن يرفع عليّ أحد ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلاّ الله ، حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا باب الجبّار ربّ العزّة ، فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما شاء ، وأوحى الله فيما أوحى خمسين صلاة على أمته كل يوم وليلة ، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه ، فقال : يا محمد ماذا عهد إليك ربك ؟ قال : «عهد إليّ خمسين صلاة على أمتي كل يوم وليلة » قال : إن أمتك لا تستطيع ذلك ، فارجع فليخفف عنك وعنهم ، فالتفتّ إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار إليه أن نعم ، فعاد به جبرائيل حتى أتى الجبّارَ عزّ وجلّ وهو مكانه ، فقال : «ربّ خفف عنا ، فإن أمتي لا تستطيع هذا » ، فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى عليه السلام فاحتبسه ، فلم يزل يردّده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ، ثم احتبسه عند الخمس ، فقال : يا محمد قد والله راودتُ بني إسرائيل على أدنى من هذه الخمس ، فضعفوا وتركوه ، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبصارا وأسماعا ، فارجع فليخفف عنك ربك ، كلّ ذلك يلتفت إلى جبرئيل ليشير عليه ، ولا يكره ذلك جبرئيل ، فرفعه عند الخمس ، فقال : «يا ربّ إن أمتي ضعاف أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ، فخفف عنا » ، قال الجبّار جلّ جلاله : يا محمد ، قال : «لبّيك وسعديك » ، فقال : إني لا يُبدّل القول لديّ كما كتبت عليك في أمّ الكتاب ، ولك بكلّ حسنة عشر أمثالها ، وهي خمسون في أمّ الكتاب ، وهي خمس عليك فرجع إلى موسى ، فقال : كيف فعلت ؟ فقال : «خفّف عني ، أعطانا بكلّ حسنة عشر أمثالها » ، قال : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من هذا فتركوه فارجع فليخفف عنك أيضا ، قال : «يا موسى قد والله استحييت من ربي مما أختلف إليه » ، قال : فاهبط باسم الله ، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أخبر أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام ، والمسجد الحرام هو الذي يتعارفه الناس بينهم إذا ذكروه ، وقوله : إلى المَسْجِدِ الأقْصَى يعني : مسجد بيت المقدس ، وقيل له : الأقصى ، لأنه أبعد المساجد التي تزار ، ويُبتَغى في زيارته الفضل بعد المسجد الحرام . فتأويل الكلام تنزيها لله ، وتبرئة له مما نحله المشركون من الإشراك والأنداد والصاحبة ، وما يجلّ عنه جلّ جلاله ، الذي سار بعبده ليلاً من بيته الحرام إلى بيته الأقصى .

ثم اختلف أهل العلم في صفة إسراء الله تبارك وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فقال بعضهم : أسرى الله بجسده ، فسار به ليلاً على البُراق من بيته الحرام إلى بيته الأقصى حتى أتاه ، فأراه ما شاء أن يريه من عجائب أمره وعبره وعظيم سُلطانه ، فجمعت له به الأنبياء ، فصلى بهم هُنالك ، وعَرج به إلى السماء حتى صعد به فوق السموات السبع ، وأوحى إليه هنالك ما شاء أن يوحي ثم رجع إلى المسجد الحرام من ليلته ، فصلى به صلاة الصبح . ذكر من قال ذلك ، وذكر بعض الروايات التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيحه :

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسري به على البُراق ، وهي دابّة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام ، يقع حافرها موضع طرفها ، قال : فمرّت بعير من عيرات قريش بواد من تلك الأودية ، فنفرت العير ، وفيها بعير عليه غرارتان : سوداء ، وزرقاء ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيلياء فأتى بقدحين : قدح خمر ، وقدح لبن ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدح اللبن ، فقال له جبرئيل : هُديت إلى الفطرة ، لو أخذت قدح الخمر غوت أمتك . قال ابن شهاب : فأخبرني ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي هناك إبراهيم وعيسى ، فنعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «فأمّا مُوسَى فَضَرْبٌ رَجْلُ الرأسِ كأنّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ ، وأمّا عِيسَى فَرَجْلٌ أحْمَرُ كأنّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ ، فأشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودِ الثّقَفِيّ وأمّا إبْرَاهِيمُ فأنا أشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ » فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حدّث قريشا أنه أُسري به . قال عبد الله : فارتدّ ناس كثير بعد ما أسلموا ، قال أبو سلمة : فأتى أبو بكر الصدّيق ، فقيل له : هل لك في صاحبك ، يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة واحدة ، قال أبو بكر : أَوَ قال ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : فأشهد إن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أفتشهد أنه جاء الشام في ليلة واحدة ؟ قال : إني أصدّقه بأبعد من ذلك ، أصدّقه بخبر السماء . قال أبو سلمة : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لَمّا كَذّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فَمَثّلَ اللّهُ لي بَيْتَ المَقْدِسِ ، فَطَفِقُت أُخْبرُهُمْ عَنْ آياتِه وأنا أنْظُرُ إلَيْهِ » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن أنس بن مالك ، قال : لما جاء جبرائيل عليه السلام بالبراق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنها ضربت بذنبها ، فقال لها جبرئيل : مه يا براق ، فوالله إن ركبك مثله فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بعجوز ناء عن الطريق : أي على جنب الطريق .

قال أو جعفر : ينبغي أن يقال : نائية ، ولكن أسقط منها التأنيث .

فقال : «ما هذه يا جبرائيل ؟ » قال : سر يا محمد ، فسار ما شاء الله أن يسير ، فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول : هلمّ يا محمد ، قال جبرائيل : سر يا محمد ، فسار ما شاء الله أن يسير قال : ثم لقيه خلق من الخلائق ، فقال أحدهم : السلام عليك يا أوّل ، والسلام عليك يا آخر ، والسلام عليك يا حاشر ، فقال له جبرائيل : اردد السلام يا محمد ، قال : فردّ السلام ثم لقيه الثاني ، فقال له مثل مقالة الأوّلين حتى انتهى إلى بيت المقدس ، فعرض عليه الماء واللبن والخمر ، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن ، فقال له جبرائيل : أصبت يا محمد الفطرة ، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك ، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك . ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء ، فأمّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، ثم قال له جبرائيل : أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق ، فلم يبق من الدنيا إلاّ بقدر ما بقي من عمر تلك العجوز ، وأما الذي أراد أن تميل إليه ، فذاك عدوّ الله إبليس ، أراد أن تميل إليه وأما الذين سلّموا عليك ، فذاك إبراهيم وموسى وعيسى .

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره شك أبو جعفر في قول الله عزّ وجلّ : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنّهُ هُوَ السّميع البَصِيرُ قال : جاء جبرائيل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل ، فقال جبرائيل لميكائيل : ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه ، وأشرح له صدره ، قال : فشقّ عن بطنه ، فغسله ثلاث مرّات ، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم ، فشرح صدره ، ونزع ما كان فيه من غلّ ، وملأه حلما وعلما وإيمانا ويقينا وإسلاما ، وختم بين كتفيه بخاتم النبوّة ، ثم أتاه بفرس فحمل عليه كلّ خطوة منه منتهى طرفه وأقصى بصره . قال : فسار وسار معه جبرائيل عليه السلام ، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم ، كلما حصدوا عاد كما كان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا جبْرائيلُ ما هَذَا ؟ » قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله ، تُضاعف لهم الحسنة بسبع مئة ضعف ، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ثم أتى على قوم تُرضخ رؤوسهم بالصخر ، كلما رضخت عادت كما كانت ، لا يفتر عنهم من ذلك شيء ، فقال : «ما هؤلاء يا جَبرائِيل ؟ » قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع ، وعلى أدبارهم رقاع ، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ، ويأكلون الضريع والزقّوم ورضف جهنم وحجارتها ، قال : «ما هَؤُلاء يا جَبْرِائيلُ ؟ » قال : هؤلاء الذين لا يؤدّون صدقات أموالهم ، وما ظلمهم الله شيئا ، وما الله بظلام للعبيد ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور ، ولحم آخر نيء قذر خبيث ، فجعلوا يأكلون من النيء ، ويدعَون النضيج الطيّب ، فقال : «ما هَؤُلاء يا جَبْرَئِيلُ ؟ » قال : هذا الرجل من أمتك ، تكون عنده المرأة الحلال الطيّب ، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح ، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيبا ، فتأتي رجلاً خبيثا ، فتبيت معه حتى تصبح . قال : ثم أتى على خشبة في الطريق لا يمرّ بها ثوب إلاّ شقّته ، ولا شيء إلاّ خرقته ، قال : «ما هَذَا يا جَبْرَئِيلُ ؟ » قال : هذا مثَل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه . ثم قرأ : وَلا تَقْعُدُوا بِكُلّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدّونَ . . . الاَية . ثم أتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها ، وهو يزيد عليها ، فقال : «ما هذا يا جَبْرائِيلُ ؟ » قال : هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ، وهو يزيد عليها ، ويريد أن يحملها ، فلا يستطيع ذلك ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد ، كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء ، قال : «ما هؤلاء يا جَبْرَئِيلُ ؟ » فقال : هؤلاء خطباء أمتك خطباء الفتنة يقولون ما لا يفعلون ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم ، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع ، فقال : «ما هَذَا يا جَبْرَئِيلُ ؟ » قال : هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ، ثم يندم عليها ، فلا يستطيع أن يردّها ثم أتى على واد ، فوجد ريحا طيبة باردة ، وفيه ريح المسك ، وسمع صوتا ، فقال : «يا جَبْرائِيلُ ما هَذِهِ الرّيحُ الطّيّبَةُ البارِدَةُ وَهذِهِ الرّائحَةُ الّتي كَرِيحِ المسْكِ ، وَما هَذَا الصّوْتُ ؟ » قال : هذا صوت الجنة تقول : يا ربّ آتني ما وعدتني ، فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ، ولؤلؤي ومرجاني ، وفضتي وذهبي ، وأكوابي وصحافي وأباريقي ، وفواكهي ونخلي ورماني ، ولبني وخمري ، فآتني ما وعدتني ، فقال : لكِ كلّ مسلم ومسلمة ، ومؤمن ومؤمنة ، ومن آمن بي وبرسلي ، وعمل صالحا ولم يُشرك بي ، ولم يتخذ من دوني أندادا ، ومن خشيني فهو آمن ، ومن سألني أعطيته ، ومن أقرضني جزيته ، ومن توكّل عليّ كفيته ، إني أنا الله لا إله إلاّ أنا لا أخلف الميعاد ، وقد أفلح المؤمنون ، وتبارك الله أحسن الخالقين ، قالت : قد رضيت ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا ، ووجد ريحا منتنة ، فقال : «ما هَذِهِ الرّيحُ يا جَبْرَئيلُ وَما هَذَا الصّوْتُ ؟ » قال : هذا صوت جهنم ، تقول : يا ربّ آتني ما وعدتني ، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي ، وسعيري وجحيمي ، وضريعي وغسّاقي ، وعذابي وعقابي ، وقد بعُد قعري واشتدّ حرّي ، فآتني ما وعدتني ، قال : لك كلّ مشرك ومشركة ، وكافر وكافرة ، وكلّ خبيث وخبيثة ، وكلّ جبّار لا يؤمن بيوم الحساب ، قالت : قد رضيت قال : ثم سار حتى أتى بيت المقدس ، فنزل فربط فرسه إلى صخرة ، ثم دخل فصلى مع الملائكة فلما قُضيت الصلاة . قالوا : يا جبرئيل من هذا معك ؟ قال : محمد ، فقالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء قال : ثم لقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم ، فقال إبراهيم : الحمد لله الذي اتخذني خليلاً وأعطاني ملكا عظيما ، وجعلني أمّة قانتا لله يؤتمّ بي ، وأنقذني من النار ، وجعلها عليّ بردا وسلاما ثم إن موسى أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي كلّمني تكليما ، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي ، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحقّ وبه يعدلون ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلّمني الزّبور ، وألان لي الحديد ، وسخّر لي الجبال يسبحن والطير ، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب ثم إن سليمان أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي سخّر لي الرياح ، وسخّر لي الشياطين ، يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب ، وقدور راسيات ، وعلّمني منطق الطير ، وآتاني من كلّ شيء فضلاً ، وسخّر لي جنود الشياطين والإنس والطير ، وفضّلني على كثير من عباده المؤمنين ، وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي ، وجعل ملكي ملكا طيبا ليس عليّ فيه حساب ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له : كن فيكون ، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير ، فأنفخ فيه ، فيكون طيرا بإذن الله ، وجعلني أبرىء الأكنه والأبرص ، وأحيي الموتى بإذن الله ، ورفعني وطهرني ، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان علينا سبيل قال : ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه ، فقال : «كُلّكُمْ أثْنَى عَلى رَبّهِ ، وأنا مُثْنٍ عَلى رَبّي » ، فقال : «الحَمْدُ لِلّهِ الذِي أرْسَلَنِي رَحْمَةً للعالَمِينَ ، وكافةً للناس بَشِيرا وَنَذِيرا ، وأنْزَلَ عَليّ الفُرقَانَ فِيه تِبْيانُ كُلّ شَيْءٍ ، وَجَعَلَ أُمّتي خَيْرَ أُمةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ ، وَجَعَلَ أُمّتِي وَسَطا ، وَجَعَلَ أُمّتِي هُمُ الأوّلُونَ وَهُمُ الاَخِرُونَ ، وَشَرَحَ لي صَدْري ، وَوَضَعَ عَني وِزْرِي وَرَفَعَ لي ذِكْرِي ، وَجَعَلَني فاتحا خاتِما » قال إبراهيم : بهذا فضلكم محمد . قال : أبو جعفر : وهو الرازي : خاتم النبوّة ، وفاتح بالشفاعة يوم القيامة ثم أتى إليه بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها ، فأتى بإناء منها فيه ماء ، فقيل : اشرب ، فشرب منه يسيرا ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن ، فقيل له : اشرب ، فشرب منه حتى روى ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر ، فقيل له : اشرب ، فقال : «لا أريده قد رويت » فقال له جبرئيل صلى الله عليه وسلم : أما إنها سَتُحَرّم على أمتك ، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلاّ القليل ، ثم عَرَج به إلى سماء الدنيا ، فاستفتح جبرائيل بابا من أبوابها ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قيل : ومن معك ؟ فقال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ، قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء فدخل فإذا هو برجل تامّ الخلق لم ينقص من خلقه شيء ، كما ينقص من خلق الناس ، على يمينه باب يخرج منه ريح طيبة ، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة ، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر ، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن ، فقلت : «يا جَبْرَئِيلَ مَنْ هَذَا الشّيْخُ التّامُ الخَلْقِ الّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ ، وَما هَذَانِ البابانِ ؟ » قال : هذا أبوك آدم ، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة ، إذا نظر إلى من يدخله من ذرّيته ضحك واستبشر ، والباب الذي عن شماله باب جهنم ، إذا نظر إلى من يدخله من ذرّيته بكى وحزن ثم صعد به جبرئيل صلى الله عليه وسلم إلى السماء الثانية فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد رسول الله ، فقالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فإذا هو بشابين ، فقال : «يا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَذَانِ الشابّانِ ؟ » قال : هذا عيسى ابن مريم ، ويحيى بن زكريا ابنا الخالة ، قال : فصعد به إلى السماء الثالثة ، فاستفتح ، فقالوا : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل فإذا هو برجل قد فَضَل على الناس كلهم في الحُسن ، كما فُضّل القمرُ ليلة البدر على سائر الكواكب ، قال : «مَنْ هَذَا يا جِبْرائِيلُ الّذِي فَضَلَ على النّاسِ في الحُسْنِ ؟ » قال : هذا أخوك يوسف ثم صعد به إلى السماء الرابعة ، فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء قال : فدخل ، فإذا هو برجل ، قال : «مَنْ هَذَا يا جَبْرَئيلُ ؟ » قال : هذا إدريس رفعه الله مكانا عليّا . ثم صعد به إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبرائيل ، فقالوا : من هذا ؟ فقال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ثم دخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقصّ عليهم ، قال : «مَنْ هَذَا يا جَبْرَئِيلُ وَمَنْ هَؤُلاءِ الّذِينَ حَوْلَهُ ؟ » قال : هذا هارون المحبب في قومه ، وهؤلاء بنو إسرائيل ثم صعد به إلى السماء السادسة ، فاستفتح جبرائيل ، فقيل له : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء فإذا هو برجل جالس ، فجاوزه ، فبكى الرجل ، فقال : «يا جَبْرائِيلُ مَنْ هَذَا ؟ » قال : موسى ، قال : «فَمَا بالُهُ يَبْكي ؟ » قال : تزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله ، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا ، وأنا في أخرى ، فلو أنه بنفسه لم أبال ، ولكن مع كلّ نبيّ أمته ثم صَعَد به إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبرائيل ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَد أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي ، وعنده قوم جلوسٍ بيض الوجوه ، أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ، ثم دخلوا نهرا آخر ، فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلو فيه ، فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ، فصارت مثل ألوان أصحابهم ، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم ، فقال : «يا جَبْرَئِيلُ مَنْ هَذَا الأشْمَطُ ، ثُمّ مَنْ هَؤُلاءِ البِيضُ وُجُوهُهُمْ ، وَمَنْ هَؤُلاءِ الّذِينَ في ألْوَانِهِمْ شَيْءٌ ، وَما هَذِهِ الأنهَارُ الّتي دَخَلُوا ، فَجَاءُوا وَقَدْ صَفَتْ ألْوَانُهُمْ ؟ » قال : هذا أبوك إبراهيم أوّل من شَمِط على الأرض ، وأما هؤلاء البيض الوجوه : فقوم لم يُلْبِسوا إيمانهم بظلم ، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، فقوم خلطوا عملاً صالحا وآخر شيئا ، فتابوا ، فتاب الله عليهم ، وأما الأنهار : فأولها رحمة الله ، وثانيها : نعمة الله ، والثالث : سقاهم ربهم شرابا طهورا قال : ثم انتهى إلى السّدرة ، فقيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كلّ أحد خلا من أمتك على سنتك ، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفّى ، وهي شجرة يسير الراكب في ظلّها سبعين عاما لا يقطعها ، والورقة منها مغطية للأمة كلها ، قال : فغشيها نور الخلاّق عزّ وجلّ ، وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة ، قال : فكلمه عند ذلك ، فقال له : سل ، فقال : «اتخذتَ إبراهيم خليلاً ، وأعطيته مُلكا عظيما ، وكلمت موسى تكليما ، وأعطيت داود ملكا عظيما ، وألنت له الحديد ، وسخرت له الجبال ، وأعطيت سليمان ملكا عظيما ، وسخرت له الجنّ والإنس والشياطين ، وسخرت له الرياح ، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وعلّمت عيسى التوراة والإنجيل ، وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل » . فقال له ربه : قد اتخذتك حبيبا وخليلاً ، وهو مكتوب في التوراة : حبيب الله وأرسلتك إلى الناس كافّة بشيرا ونذيرا ، وشرحت لك صدرك ، ووضعت عنك وزرك ، ورفعت لك ذكرك ، فلا أذكر إلاّ ذكرت معي ، وجعلت أمتك أمة وسطا ، وجعلت أمتك هم الأوّلون والاَخرون ، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة ، حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم ، وجعلتك أوّل النّبيين خَلْقا ، وآخرهم بَعْثا ، وأوّلَهم يُقْضَى له ، وأعطيتك سبعا من المثاني ، لم يُعطها نبيّ قبلك ، وأعطيتك الكوثر ، وأعطيتك ثمانية أسهم الإسلام والهجرة ، والجهاد ، والصدقة ، والصلاة ، وصوم رمضان ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وجعلتك فاتحا وخاتما ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فضّلَنِي رَبّي بسِتّ : أعْطانِي فَوَاتِحَ الكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ ، وَجَوَامِعَ الحَدِيثِ ، وأرْسَلَنِي إلى النّاسِ كافّةً بَشِيرا وَنَذِيرا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِ عَدُوّي الرُعْبَ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ ، وأُحِلّتْ ليَ الغَنائمُ ولَمْ تَحِلّ لأَحَدٍ قَبْلِي ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ كُلّها طَهُورا وَمَسْجِدا ، قال : وَفَرَضَ عَليّ خَمْسِينَ صَلاةٍ » فلما رجع إلى موسى ، قال : بِم أُمرت يا محمد ، قال : «بخَمْسِينَ صَلاةً » ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التّخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، فقد لقيت من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، ثم رجع إلى موسى ، فقال : بكم أُمرت ؟ قال : «بأرْبَعِينَ » ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيتُ من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع إلى ربه ، فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى ، فقال : بكم أُمرت ؟ قال : «أُمِرْتُ بِثَلاثِينَ » ، فقال له موسى : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى فقال : بكم أمرت ؟ قال : «بعشرين » ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى ، فقال : لكم أمرت ؟ قال : قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدّة ، قال : فرجع على حياء إلى ربه فسأله التخفيف ، فوضع عنه خمسا ، فرجع إلى موسى ، فقال : بكم أمرت ؟ قال : «بخمس » ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيتُ من بني إسرائيل شدّة ، قال : «قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبّي حتى اسْتَحْيَيْت فَمَا أنا رَاجِعٌ إلَيْهِ » ، فقيل له : أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات فإنهنّ يجزين عنك خمسين صلاة ، فإن كلّ حسنة بعشر أمثالها ، قال : فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كلّ الرضا ، فكان موسى أشدّهم عليه حين مرّ به ، وخيرهم له حين رجع إليه .

حدثني محمد بن عبيد الله ، قال : أخبرنا أبو النضر هاشم بن القاسم ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أو غيره شكّ أبو جعفر عن أبي هريرة في قوله : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِه . . . إلى قوله : إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ قال : جاء جبرائيل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو حديث عليّ بن سهل ، عن حجاج ، إلا أنه قال : جاء جبرائيل ومعه مكائيل ، وقال فيه : وإذا بقوم يسرحون كما تسرح الأنعام يأكلون الضريع والزقوم ، وقال في كل موضع قال عليّ : «ما هؤلاء » ، «من هؤلاء يا جبرئيل » ، وقال في موضع «تقرض ألسنتهم » «تقص ألسنتهم » ، وقال أيضا في موضع قال عليّ فيه : «ونعم الخليفة » . قال في ذكر الخمر ، فقال : «لا أريده قد رويت » ، قال جبرئيل : قد أصبت الفطرة يا محمد ، إنها ستحرم على أمتك ، وقال في سدرة المنتهى أيضا : هذه السدرة المنتهى ، إليها ينتهي كلّ أحد خلا على سبيلك من أمتك وقال أيضا في الورقة منها : «تظلّ الخلق كلهم ، تغشاها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجرة ، من حُبّ الله عزّ وجلّ » وسائر الحديث مثل حديث عليّ .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، قال : أخبرنا أبو هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، واللفظ لحديث الحسن بن يحيى ، في قوله : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِد الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى قال : حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة أُسري به فقال نبيّ الله : «أُتِيتُ بِدَابّةٍ هِيَ أشْبَهُ الدّوَابّ بالبَغْلِ ، لَهُ أذُنانِ مُضْطَرِبَتان وَهُوَ البُرَاقُ ، وَهُوَ الّذِي كانَ تَرْكَبُهُ الأنْبِياءُ قَبْلِي ، فَرَكِبْتُهُ ، فانْطَلَقَ بِي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ ، فَسَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي : يا مُحَمّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أعَرّجْ عَلَيْهِ ثُمّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ شِمالي : يا مُحَمّدُ عَلى رِسُلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ وَلمْ أعَرّجْ عَلَيْهِ ثُمّ اسْتَقْبَلْتُ امْرأةً فِي الطّرِيقِ ، فَرأيْتُ عَلَيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدّنيْا رَافِعَةً يَدَها ، تَقُولُ : يا مُحَمّدُ على رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضْيتُ وَلَمْ أعَرّجْ عَلَيْها ، ثُمّ أتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ ، أوْ قالَ المَسْجِدَ الأقْصَى ، فَنَزَلْتُ عَنِ الدّابَةِ فَأوْثْقْتُها بالحَلْقَةِ التي كانَنِ الأنْبِياءُ تُوثِقُ بِها ، ثُمّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَصَلّيْتُ فِيهِ ، فقالَ لِي جَبْرَئِيل : ماذَا رأيْتَ فِي وَجْهِكَ ، فَقُلْتُ : سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَمِينِي أنْ يا مُحَمّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أعَرّجْ عَلَيْهِ ، قالَ : ذَاكَ داعِيَ اليَهُودِ ، أمَا لَوَ أنّكَ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتهَوّدَتْ أُمّتُكَ ، قال : ثُمّ سَمِعْتُ نِدَاءً عَنْ يَسارِي أنْ يا مُحَمّدُ عَلى رِسْلِكَ أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أعَرّجْ عَلَيْهِ ، قال : ذَاكَ داعي النّصَارَى ، أمَا إنّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصّرَتْ أُمّتُكَ ، قُلْتُ : ثُمّ استْقَبَلَتَنِي امْرأةٌ عَلَيْها مِنْ كُلّ زِينَةٍ مِنْ زِينَةِ الدّنيْا رَافِعَةً يَدَها تَقُولُ عَلى رِسْلِكَ ، أسألْكَ ، فَمَضَيْتُ ولَمْ أُعَرّجْ عَلَيْها ، قال : تِلْكَ الدّنيْا تَزَيّنَتْ لَكَ ، أمَا إنّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْها لاخْتارَتْ أُمّتُكَ الدّنْيا على الاَخِرَةِ ، ثُمّ أُتِيتُ بإناءَيْنِ أحَدُهُما فِيهِ لَبنٌ ، والاَخَرُ فِيهِ خَمْرٌ ، فَقِيلَ لِي : اشْرَبْ أيّهُما شِئْتَ ، فَأخَذْتُ اللّبَنَ فَشَرِبْتُهُ ، قال : أصَبْتَ الفِطْرَةَ أوْ قالَ : أخَذْتَ الفِطْرَةَ » .

قال معمر : وأخبرني الزهري ، عن ابن المسيب أنه قيل له : أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك .

قال أبو هارون في حديث أبي سعيد : «ثُمّ جِيءَ بالمِعْرَاجِ الّذِي تَعْرُجُ فِيهِ أرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فإذَا هُوَ أحْسَنُ ما رأيْتُ ألَمْ تَرَ إلى المَيّتِ كَيْفَ يُحِدّ بَصَرَهُ إلَيْهِ فَعُرِجَ بِنا فِيهِ حتى انْتَهَيْنا إلى بابِ السّماءِ الدّنيْا ، فاسْتَفْتَحَ جَبْرَائِيلُ ، فَقيلَ مَنْ هَذا ؟ قال : جَبْرَئِيلُ ؟ قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قال : مُحَمّدٌ ، قِيلَ : أوَ قَدْ أُرْسِلَ إلَيْهِ ؟ قال : نَعَمْ ، فَفَتَحُوا وَسَلّمُوا عَلَيّ ، وَإذَا مَلَكٌ مُوَكّلٌ يَحْرُسُ السّماءَ يُقال لَهُ إسْماعِيلُ ، مَعَهُ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ مَعَ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ مِئَةُ ألْفٍ ، ثم قرأ : وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ وَإذَا أنا بِرَجُلٍ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَهُ اللّهُ لَمْ يَتَغَيّرْ مِنْهُ شَيْءٌ ، فإذَا هُوَ تُعْرَض عَلَيْهِ أرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ ، فإذَا كانَتْ رُوح مُؤْمِنٍ ، قالَ : رُوحٌ طَيّبَةٌ ، وَرِيحٌ طَيّبَةٌ ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِي عِلّيِينَ وَإذَا كانَ رُوحَ كافِرٍ قالَ : رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَرِيحٌ خَبِيثَةٌ ، اجْعَلُوا كِتابَهُ فِي سِجيّلٍ ، فَقُلْتُ : يا جَبْرَائِيلُ مَنْ هَذَا ؟ قال : أبُوكَ آدَمُ ، فَسَلّمَ عَليّ وَرَحّبَ بِي وَدَعا لِي بِخَيرٍ وَقال : مَرْحَبا بالنّبِيّ الصّالِحِ والوَلَدِ الصّالِحِ ، ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بقَوْمٍ لَهُمْ مَشافِرُ كمَشافِرِ الإبلِ ، وَقَدْ وُكّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ ، ثُمّ يُجْعَلُ في أفْوَاهِهِمْ صَخْرا مِنْ نارٍ يَخْرُجُ مِنْ أسافِلِهِمْ ، قُلْتُ : يا جَبرْئِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ ؟ قال : هَؤُلاءِ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْما . ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بَقَوْمٍ يُحْذَي مِنْ جُلُودِهِمْ ويُرَدّ فِي أفْوَاهِهِمْ ، ثُمّ يُقال : كُلُوا كمَا أكَلْتُمْ ، فإذَا أكْرَهُ ما خَلَقَ اللّهُ لَهُمْ ذلكَ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يا جَبْرَائِيلُ ؟ قال : هَؤُلاءِ الهَمّازُونَ اللّمازُونَ الذِينَ يأكُلُونَ لُحُومَ النّاسِ ، وَيَقَعُونَ فِي أعْرَاضِهِمْ بالسّبّ ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بِقَوْمٍ عَلى مائِدَةٍ عَلَيْها لَحْمٌ مَشْوِيّ كأحْسَنِ ما رأيْتُ مِنَ اللحْمِ ، وَإذَا حَوْلَهُمْ جِيَفٌ ، فَجعلُوا يَمِيلُونَ عَلى الجِيفِ يَأكُلُونَ مِنْها وَيَدَعُونَ ذلكَ اللحْمَ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤلاءِ يا جَبْرَائِيَلُ ؟ قالَ : هَؤُلاءِ الزّناةُ عَمَدُوا إلى مَا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ، وَتَرَكُوا ما أحَلّ اللّهُ لَهُمْ ثمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بِقَوْمٍ لَهُمْ بُطونٌ كأنّها البُيُوتُ وَهِيَ على سابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ ، فإذَا مَرّ بِهِمْ آلُ فِرْعَوْنَ ثارُوا ، فَيَمِيلُ بأحَدِهِمْ بَطْنُهُ فَيَقَعُ ، فَيَتَوَطئُوهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ بأرْجُلِهِمْ ، وَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلى النارِ غُدُوّا وَعَشِيّا قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاء يا جَبْرَائِيلُ ؟ قال : هَؤُلاءِ أكَلَةُ الرّبا ، رَبا فِي بُطُونِهِمْ ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطانُ مِن المَسّ ثُمّ نَظَرْتُ ، فإذَا أنا بِنِساءٍ مُعَلّقاتٍ بِثُدُيّهِنّ ، وَنِساءٌ مُنَكّساتٌ بأرْجُلِهِنّ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يا جِبْرَئِيلُ ؟ قال : هنّ اللاتي يَزْنِينَ وَيَقْتُلْنَ أوْلادَهُنّ قالَ : ثُمّ صَعَدْنا إلى السّماءِ الثّانِيَةِ ، فإذَا أنا بِيُوسُف وحَوْلهُ تَبَعٌ مِنْ أُمّتِهِ ، وَوَجْهُهُ كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ ، فَسَلّمَ عَليّ وَرَحّبَ بِي ، ثُمّ مَضَيْنا إلى السّماءِ الثّالِثَةِ ، فإذا أنا بابْنِيَ الخالَةِ يَحيَى وَعِيَسى ، يُشْبِهُ أحَدُهُما صَاحِبَهُ ، ثِيابُهما وَشَعْرُهُما ، فَسَلّما عَليّ ، وَرَحبّابِي ثُمّ مَضَيْنَا إلى السّماءِ الرّابِعَةِ ، فإذا أنا بإدْرِيَس ، فَسَلّمَ عَليّ وَرَحّب وَقَدْ قالَ اللّهُ : وَرَفَعْناه مَكانا عَلِيّا ثُمّ مَضَيْنا إلى السّماءِ الخامِسَةِ ، فإذَا أنا بِهارُونَ المُحَبّبِ فِي قَوْمِهِ ، حَوْلَهُ تَبَعٌ كَثِيرٌ مِنْ أُمّتِهِ » فَوَصَفَهُ النّبِي صلى الله عليه وسلم : «طَوِيلُ اللّحْيَةِ تَكادُ لِحْيَتُهُ تَمَسّ سُرّتَهُ ، فَسلّمَ عليّ وَرَحَبَ ثُمّ مَضَيْنا إلى السّماءِ السّادِسَةِ فإذَا أنا بمُوسَى بْنِ عِمْرانَ » فَوَصَفَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقالَ : «كَثِيرُ الشّعْرِ لَوْ كانَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ خَرَجَ شَعْرُهُ مِنْهُمَا قالَ مُوسَى : تَزْعَمُ النّاسُ أنّي أكْرَمُ الخَلْقِ عَلى اللّهِ ، فَهَذَا أكْرَمُ عَلى اللّهِ مِنّي ، وَلَوْ كانَ وَحْدَهُ لَمْ أكُنْ أُبالي ، وَلَكِنْ كُلّ نَبِيّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أُمّتِهِ ثُمّ مَضَيْنا إلى السّماءِ السّابِعَةِ ، فإذَا أنا بإبْرَاهِيمَ وَهُوَ جالِس مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورَ فَسَلّمَ عَليّ وَقال : مَرْحبا بالنّبِيّ الصّالِحِ وَالَوَلَدِ الصّالِحِ ، فَقِيلَ : هذَا مَكانُكَ وَمَكانُ أُمّتِك ، ثُمّ تَلا : إنّ أوْلَى النّاسِ بابْرَاهِيمَ للّذِينَ اتّبَعُوا وَهَذا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا ، وَاللّهُ وَلِيّ المُؤْمِنِينَ ثُمّ دَخَلْتُ البَيْتَ المَعْمُورَ فَصَلّيْتُ فِيهِ ، وَإذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ثُمّ نَظَرْتُ فإذَا أنا بشَجَرَةٍ إنْ كانَتْ الوَرَقَةُ مِنْها لُمغَطّيَةٌ هَذِهِ الأُمّةَ ، فإذَا فِي أصْلِها عَيْنٌ تَجْرِي قَدْ تَشَعّبَتْ شُعْبَتَيْنِ ، فَقُلْتُ : ما هذَا يا جَبْرَائِيلُ ؟ قال : أمّا هَذَا : فَهُوَ نَهْرُ الرّحْمَةِ ، وأمّا هذَا : فَهُوَ الكَوْثَرُ الذِي أعْطاكَهُ اللّهُ ، فاغْتَسَلْتُ فِي نَهْرِ الرّحمَةِ فَغُفِرَ لِي ما تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِي وَما تَأخّرَ ، ثُمّ أَخَذْتُ عَلى الكَوْثَرِ حتى دَخَلْتُ الجَنّة ، فإذَا فِيها ما لا عَيْنٌ رأتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمَعَتْ ، وَلا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ ، وَإذَا فِيها رُمّانٌ كأنّهُ جُلُودُ الإبِلِ المُقَتّبَةُ ، وإذَا فِيها طَيْرٌ كأنّها البُخْتُ » فقالَ أبُو بَكْرِ : إنّ تِلكَ الطّيْرَ لَناعِمَةٌ ، قالَ : «أكَلَتْها أنْعَمُ مِنْها يا أبا بَكْرٍ ، وإنّي لأَرْجُو أنْ تَأكُلَ مِنْها ، ورأيْتُ فِيها جارِيَةً ، فَسألْتُها : لَمَنْ أنْتِ ؟ فَقالَتْ : لزَيْدِ بْنِ حارِثَة » فَبَشّرَ بِها رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدا قالَ : «ثُمّ إنّ اللّهَ أمَرَنِي بأمْرِهِ ، وَفَرَض عَليّ خَمْسِينَ صَلاةً ، فَمَرَرْتُ عَلى مُوسَى ، فقالَ : بِمَ أمَرَكَ رَبّكَ ؟ قُلْتُ : فَرَضَ عَليّ خَمْسِينَ صَلاةَ ، قالَ : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فأسألْهُ التّخْفِيفَ ، فإنّ أُمّتَكَ لَنْ يَقُومُوا بِهذَا ، فَرَجَعْتُ إلى رَبّي فَسألْتُهُ فَوَضَعَ عَنّي عَشْرا ، ثُمّ رَجَعْتُ إلى مُوسَى ، فَلَمْ أزَلْ أرْجِعُ إلى رَبّي إذَا مَرَرْتُ بِمُوسَى حتى فَرَض عَلَيّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ ، فَقالَ مُوسَى : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ التّخْفِيفَ ، فَقُلْتُ : قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبّي حتى اسْتَحْيَيْتُ » أوْ قالَ : «قُلْت : ما أنا بِرَاجِعٍ ، فَقيلَ لي : إنّ لَكَ بِهذِهِ الخَمْسِ صَلَوَاتِ خَمْسِينَ صَلاةً ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا ، وَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها كُتِبتْ لَهُ حَسَنَة ، وَمَنْ عَمِلَها كُتِبَتْ لَهُ عَشْرا ، وَمَنْ هَمّ بِسيَئَةٍ فَلَم يَعْمَلْها لَمْ تُكْتَبْ شَيْئا ، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ وَاحِدَةً » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني روح بن القاسم ، عن أبي هارون عمارة بن جوين العبدي ، عن أبي سعيد الخدري وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : وثني أبو جعفر ، عن أبي هارون ، عن أبي سعيد ، قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «لَمّا فَرَغْتُ مِمّا كانَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ ، أُتِيَ بالمِعْرَاجِ ، ولَمْ أرَ شَيْئا قَطّ أحْسَنَ مِنْهُ ، وَهُوَ الّذِي يَمُدّ إلَيْهِ مَيّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إذا حَضَرَ ، فَأصْعَدَنِي صَاحِبي فِيهِ حتى انْتَهَى إلى بابٍ مِنَ الأبْوَابِ يُقالُ لَهُ بابُ الحَفَظَةِ ، عَلَيْهِ مَلَكٌ يُقالُ لَهُ إسْماعِيلُ ، تَحْتَ يَدَيهِ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ ، تَحْت يَدَيْ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلَكٍ » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدّث هذا الحديث : «ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ » ثم ذكر نحو حديث معمر ، عن أبي هارون إلا أنه قال في حديثه : قال : «ثُمّ دَخَلَ بِيَ الجَنّةَ فَرأيْتُ فِيها جارِيَةً ، فسألتُها لِمَنْ أنْتِ ؟ وَقَدْ أعْجَبَتْنِي حينَ رأيْتُها ، فَقالَتْ : لِزَيْدِ بْنِ حارِثَةَ » فبشّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ، ثم انتهى حديث ابن حميد عن سلمة إلى ههنا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لأصحابه ليلة أُسري به إبراهيمَ وموسى وعيسى فقال : «أمّا إبْرَاهِيمُ فَلَمْ أرَ رَجُلاً أشْبَهً بِصَاحِبِكُمْ مِنْهُ . وأمّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمٌ طِوَالٌ جَعْدٌ أقْنَى ، كأنّه مِنْ رِجالِ شُنُوءَةَ . وأمّا عِيسَى فَرجُلٌ أحْمَرُ بينَ القَصِيرِ والطّوِيلِ سَبطُ الشّعْرِ كَثِيرُ خِيلانِ الوَجْهِ ، كأنّه خَرَجَ مِنْ دِيماَسٍ كأنّ رأسَهُ يَقْطُرُ ماءً ، وَما بِهِ ماءٌ ، أشْبَهُ مِنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ولم يقل عن أبي هريرة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِي بالبراق ليلة أُسري به مسرجا ملجما ليركبه ، فاستصعب عليه ، فقال له جبرئيل : ما يحملك على هذا ، فوالله ما ركبك أحد قطّ أكرم على الله منه قال : فارفض عرقا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ أسري بِنَبِيّ الله عشاء من مكة إلى بيت المقدس ، فصلى نبيّ الله فيه ، فأراه الله من آياته وأمره بما شاء ليلة أسري به ، ثم أصبح بمكة . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «حُمِلْتُ عَلى دَابّةٍ يُقالُ لَهَا البُرَاقُ ، فَوْقَ الحِمارِ وَدُونَ البَغْلِ ، يَضَعُ حافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ » فحدث نبيّ الله بذلك أهل مكة ، فكذب به المشركون وأنكروه وقالوا : يا محمد تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس ، وأقبلت من ليلتك ، ثم أصبحت عندنا بمكة ، فما كنت تجيئنا به ، وتأتي به قبل هذا اليوم مع هذا فصدقه أبو بكر ، فسمّي أبو بكر الصدّيق من أجل ذلك .

حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا سليمان الشيباني ، عن عبد الله بن شدّاد ، قال : لما كان ليلة أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بدابة يقال لها البراق ، دون البغل وفوق الحمار ، تضع حافرها عند منتهى ظفرها فلما أتى بيت المقدس أُتِيَ بإناءين : إناء من لبن ، وإناء من خمر ، فشرب اللبن . قال : فقال له جبرائيل : هديت وهديت أمتك .

وقال آخرون ممن قال : أسرى بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى بنفسه وجسمه أسرى به عليه السلام ، غير أنه لم يدخل بيت المقدس ، ولم يصلّ فيه ، ولم ينزل عن البراق حتى رجع إلى مكة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني عاصم بن بهدلة عن زرّ بن حبيش ، عن حُذيفة بن اليمان ، أنه قال في هذه الاَية : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى قال : لم يصلّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو صلى فيه لكتب عليكم ألصلاة فيه ، كا كتب عليكم الصلاة عند الكعبة .

حدثنا أبو كريب ، قال : سمعا أبا بكر بن عياش ، ورجل يحدّث عنده بحديث حين أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : لا تجِيء بمثل عاصم ولا زرّ قال : قال حُذيفة لزرّ بن حبيش قال : وكان زِرّ رجلاً شريفا من أشراف العرب ، قال : قرأ حُذيفة سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ اللّيْلِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إنّهُ هُوَ السّميعُ البَصِيرُ وكذا قرأ عبد الله ، قال : وهذا كما يقولون : إنه دخل المسجد فصلى فيه ، ثم دخل فربط دابته ، قال : قلت : والله قد دخله ، قال : من أنت فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك ، قال : قلت : زر بن حبيش ، قال : ما عملك هذا ؟ قال : قلت : من قبَل القرآن ، قال : من أخذ بالقرآن أفلح ، قال : فقلت : سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ قال : فنظر إليّ فقال : يا أصلع ، هل ترى دخله ؟ قال : قلت : لا والله ، قال حُذيفة : أجل والله الذي لا إله إلا هو ما دخله ، ولو دخله لوجبت عليكم صلاة فيه ، لا والله ما نزل عن البراق حتى رأى الجنة والنار ، وما أعدّ الله في الاَخرة أجمع وقال : تدري ما البراق ؟ قال : دابة دون البغل وفوق الحمار ، خطوه مدّ البصر .

وقال آخرون : بل أسري بروحه ، ولم يسر بجسده . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان ، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد ، قال : ثني بعض آل أبي بكر ، أن عائشة كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أسرى بروحه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال ابن إسحاق : فلم يُنكر ذلك من قولها الحسن أن هذه الاَية نزلت وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ ولقول الله في الخبر عن إبراهيم ، إذ قال لابنه : يا بنيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ فانْظُرْ ماذَا تَرَى ثم مضى على ذلك ، فعرفت أن الوحي يأتي بالأنبياء من الله أيقاظا ونياما ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «تَنامُ عَيْسَى وَقَلْبِي يَقْظانُ » فالله أعلم أيّ ذلك كان قد جاءه ؤعاين فيه من أمر الله ما عاين على أيّ حالاته كان نائما أو يقظانا كلّ ذلك حقّ وصدق .

والصواب من القؤل في ذلك عندنا أن يقال : إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، كما أخبر الله عباده ، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الله حمله على البراق حين أتاه به ، وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل ، فأراه ما أراه من الاَيات ولا معنى لقول من قال : أسرى بروحه دون جسده ، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون ذلك دليلاً على نبوّته ، ولا حجة له على رسالته ، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك ، وكانوا يدفعون به عن صدقه فيه ، إذ لم يكن منكرا عندهم ، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة ، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقلّ ؟ وبعد ، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده ، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده ، وليس جائزا لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره . فإن ظنّ ظانّ أن ذلك جائز ، إذ كانت العرب تفعل ذلك في كلامها ، كما قال قائلهم :

حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عَناقا *** وَما هِيَ وَيْبَ غيرِكِ بالْعَناقِ

يعني : حسبت بغام راحلتي صوت عناق ، فحذف الصوت واكتفى منه بالعناق ، فإن العرب تفعل ذلك فيما كان مفهوما مراد المتكلم منهم به من الكلام . فأما فيما لا دلالة عليه إلا بظهوره ، ولا يوصل إلى معرفة مراد المتكلّم إلا ببيانه ، فإنها لا تحذف ذلك ولا دلالة تدلّ على أن مراد الله من قوله : أسْرَى بِعَبْدِهِ أسرى بروح عبده ، بل الأدلة الواضحة ، والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به على دابة يُقال لها البراق ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق ، إذ كانت الدوابّ لا تحمل إلا الأجسام . إلا أن يقول قائل : إن معنى قولنا : أسرى بروحه : رأى في المنام أنه أسرى بجسده على البراق ، فيكذب حينئذٍ بمعنى الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن جبرئيل حمله على البراق ، لأن ذلك إذا كان مناما على قول قائل هذا القول ، ولم تكن الروح عنده مما تركب الدوابّ ، ولم يحمل على البراق جسم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم على قوله حُمل على البراق لا جسمه ، ولا شيء منه ، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين ، وذلك دفع لظاهر التنزيل ، وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاءت به الاَثار عن الأئمة من الصحابة والتابعين .

وقوله : الّذِي باركْنا حَوْلَهُ يقول تعالى ذكره : الذي جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم . وقوله : لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يقول تعالى ذكره : كي نرى عبدنا محمدا من آياتنا ، يقول : من عبرنا وأدلتنا وحججنا ، وذلك هو ما قد ذكرت في الأخبار التي رويتها آنفا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريه في طريقه إلى بيت المقدس ، وبعد مصيره إليه من عجائب العبر والمواعظ . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ما أراه الله من الاَيات والعبر في طريق بيت المقدس .

وقوله : إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول تعالى ذكره : إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في مسرى محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ، ولغير ذلك من قولهم وقول غيرهم ، البصير بما يعملون من الأعمال ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ولا يعزب عنه علم شيء منه ، بل هو محيط بجميعه علما ، ومحصيه عددا ، وهو لهم بالمرصاد ، ليجزى جميعهم بما هم أهله .

وكان بعض البصريين يقول : كسرت «إن » من قوله : إنّهُ هَوَ السّمِيعُ البَصِيرُ لأن معنى الكلام : قل يا محمد : سبحان الذي أسرى بعبده ، وقل : إنه هو السميع البصير .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإسراء ، وقيل : إلا قوله تعالى : { وإن كادوا ليفتنونك } إلى آخر ثمان آيات . وهي مائة وإحدى عشرة آية .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } سبحان اسم بمعنى التسبيح { الذي } هو التنزيه يستعمل علما له فيقطع عن الإضافة ويمنع عن الصرف قال :

قد قلت لمّا جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر

وانتصابه بفعل متروك إظهاره ، وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد . و{ أسرى } وسرى بمعنى ، و{ ليلا } نصب على الظرف . وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء ، ولذلك قرئ : من " الليل " . أي بعضه كقوله : { ومن الليل فتهجد به } . { من المسجد الحرام } بعينه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " . أو " من الحرم " وسماه المسجد الحرام لأنه كله مسجد أو لأنه محيط به ، أو ليطابق المبدأ المنتهى . لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة عليها وقال : " مثل لي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصليت بهم " ، ثم خرج إلى المسجد الحرام وأخبر به قريشا فتعجبوا منه استحالة ، وارتد ناس ممن آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : إن كان قال لقد صدق ، فقالوا : أتصدقه على ذلك ، قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق ، واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون إلى الثنية فصادفوا العير كما أخبر ، ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين وكان ذلك قبل الهجرة بسنة . واختلف في أنه كان في المنام أو في اليقظة بروحه أو بجسده ، والأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس ، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، ولذلك تعجب قريش واستحالوه ، والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية ، وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على كل الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فيما يحمله ، والتعجب من لوازم المعجزات . { إلى المسجد الأقصى } بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد . { الذي باركنا حوله } ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن موسى عليه الصلاة والسلام ، ومحفوف بالأنهار والأشجار . { لنُريه من آياتنا } كذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ومشاهدته بيت المقدس وتمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له ، ووقوفه على مقاماتهم ، وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات . وقرئ " ليريه " بالياء . { إنه هو السميع } لأقوال محمد صلى الله عليه وسلم . { البصير } بأفعاله فيكرمه ويقربه على حسب ذلك .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سميت في كثير من المصاحف سورة الإسراء . وصرح الآلوسي بأنها سميت بذلك ، إذ قد ذكر في أولها الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم واختصت بذكره .

وتسمى في عهد الصحابة سورة بني إسرائيل . ففي جامع الترمذي في أبواب الدعاء عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل .

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم : إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي . وبذلك ترجم لها البخاري في كتاب التفسير ، والترمذي في أبواب التفسير . ووجه ذلك أنها ذكر فيها من أحوال بني إسرائيل ما لم يذكر في غيرها . وهو استيلاء قوم أولى بأس الآشوريين عليهم ثم استيلاء قوم آخرين وهم الروم عليهم .

وتسمى أيضا سورة { سبحان } ، لأنها افتتحت بهذه الكلمة . قال في بصائر ذوي التمييز .

وهي مكية عند الجمهور . قيل : إلا آتين منها ، وهما { وإن كادوا ليفتنونك إلى قوله قليلا } . وقيل : إلا أربعا ، هاتين الآيتين ، وقوله { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } ، وقوله { وقل رب أدخلني مدخل صدق } الآية . وقيل : إلا خمسا ، هاته الأربع ، وقوله { إن الذين أوتوا العلم من قبله } إلى آخر السورة . وقيل : إلا خمس آيات غير ما تقدم ، وهي المبتدأة بقوله { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } الآية ، وقوله { ولا تقربوا الزنى } الآية ، وقوله { أولئك الذين يدعون } الآية ، وقوله { أقم الصلاة } الآية ، وقوله { وآت ذا القربى حقه } الآية . وقيل إلا ثمانيا من قوله { وإن كادوا ليفتنونك } إلى قوله { سلطانا نصيرا } .

وأحسب أن منشأ هاته الأقوال أن ظاهر الأحكام التي اشتملت عليها تلك الأقوال يقتضي أن تلك الآي لا تناسب حالة المسلمين فيما قبل الهجرة فغلبت على ظن أصحاب تلك الأقوال مدنية . وسيأتي بيان أن ذلك غير متجه عند التعرض لتفسيرها .

ويظهر أنها نزلت في زمن فيه جماعة المسلمين بمكة ، وأخذ التشريع المتعلق بمعاملات جماعتهم يتطرق إلى نفوسهم ، فقد ذكرت فيها أحكام متتالية لم تذكر أمثال عددها في سورة مكية غيرها عدا سورة الأنعام ، وذلك من قوله { وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه } إلى قوله { كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها } .

وقد اختلف في وقت الإسراء . والأصح أنه كان قبل الهجرة بنحو سنة وخمسة أشهر ، فإذا كانت قد نزلت عقب وقوع الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم تكون قد نزلت في حدود سنة اثنتي عشرة بعد البعثة ، وهي سنة اثنتين قبل الهجرة في منتصف السنة .

وليس افتتاحها بذكر الإسراء مقتضيا أنها نزلت عقب وقوع الإسراء . بل يجوز أنها نزلت بعد الإسراء بمدة .

وذكر فيها الإسراء إلى المسجد الأقصى تنويها بالمسجد الأقصى وتذكيرا بحرمته .

نزلت هذه السورة بعد سورة القصص وقبل سورة يونس .

وعدت السورة الخمسين في تعداد نزول سورة القرآن .

وعدد آيها مائة وعشر في عد أهل المدينة ، ومكة ، والشام ، والبصرة . ومائة وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة .

أغراضها

العماد الذي أقيمت عليه أغراض هذه السورة إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات أن القرآن وحي من الله .

وإثبات فضله وفضل من أنزله .

وذكر أنه معجز .

ورد مطاعن المشركين فيه وفيمن جاء به ، وأنهم لم يفقهوه فلذلك أعرضوا عنه .

وإبطال إحالتهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى المسجد الأقصى . فافتتحت بمعجزة الإسراء توطئة للتنظير بين شريعة الإسلام وشريعة موسى عليه السلام على عادة القرآن في ذكر المثل والنظائر الدينية ، ورمزا إلهيا إلى أن الله أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم من الفضائل أفضل مما أعطى من قبله .

وأنه أكمل له الفضائل فلم يفته منها فائت ، فمن أجل ذلك أحله بالمكان المقدس الذي تداولته الرسل من قبل ، فلم يستأثرهم بالحلول بذلك المكان هو مهبط الشريعة الموسوية ، ورمز أطوار تأريخ بني إسرائيل وأسلافهم ، والذي هو نظير المسجد الحرام في أن أصل تأسيسه في عهد إبراهيم كما سننبه عليه عند تفسير قوله تعالى { إلى المسجد الأقصى } ، فأحل الله به محمدا عليه الصلاة والسلام بعد أن هجر وخرب إيماء إلى أن أمته تجدد مجده .

وأن الله مكنه من حرمي النبوة والشريعة ، فالمسجد الأقصى لم يكن معمورا حين نزول هذه السورة وإنما عمرت كنائس حوله ، وأن بني إسرائيل لم يحفظوا حرمة المسجد الأقصى ، فكان إفسادهم سببا في تسلط أعدائهم عليهم وخراب المسجد الأقصى . وفي ذلك رمز إلى أن إعادة المسجد الأقصى ستكون على يد أمة هذا الرسول الذي أنكروا رسالته .

ثم إثبات دلائل تفرد الله بالإلهية ، والاستدلال بآية الليل والنهار وما فيهما من المنن على إثبات الوحدانية .

والتذكير بالنعم التي سخرها الله للناس ، وما فيها من الدلائل على تفرده بتدبير الخلق ، وما تقتضيه من شكر المنعم وترك شكر غيره ، وتنزيهه عن اتخاذ بنات له .

وإظهار فضائل من شريعة الإسلام وحكمته ، وما علمه الله المسلمين من آداب المعاملة نحو ربهم سبحانه ، ومعاملة بعضهم مع بعض ، والحكمة في سيرتهم وأقوالهم ، ومراقبة الله في ظاهرهم وباطنهم .

وعن ابن عباس أنه قال : التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل . وفي رواية عنه : ثمان عشرة آية منها كانت في ألواح موسى ، أي من قوله تعالى { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } إلى قوله { ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا } .

ويعني بالتوراة الألواح المشتملة على الوصايا العشر ، وليس مراده أن القرآن حكى ما في التوراة ولكنها أحكام قرآنية موافقة لما في التوراة .

على أن كلام ابن عباس معناه : أن ما في الألواح مذكور في تلك الآي ، ولا يريد أنهما سواء ، لأن تلك الآيات تزيد بأحكام ، منها قوله { ربكم أعلم بما في نفوسكم } إلى قوله { لربه كفورا } ، وقوله { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ، وقوله { ولا تقربوا مال اليتيم } إلى قوله { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } ، مع ما تخلل ذلك كله من تفصيل وتبيين عريت عنه الوصايا العشر التي كتبت في الألواح .

وإثبات البعث والجزاء .

والحث على إقامة الصلوات في أوقاتها .

والتحذير من نزغ الشيطان وعداوته لآدم وذريته ، وقصة إبايته من السجود .

والإنذار بعذاب الآخرة .

وذكر ما عرض للأمم من أسباب الاستئصال والهلاك .

وتهديد المشركين بأن الله يوشك أن ينصر الإسلام على باطلهم .

وما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين واستعانتهم باليهود . واقتراحهم الآيات ، وتحميقهم في جهلهم بآية القرآن وأنه الحق .

وتخلل ذلك من المستطردات والنذر والعظات ما فيه شفاء ورحمة ، ومن الأمثال ما هو علم وحكمة .

الافتتاح بكلمة التسبيح من دون سبق كلام مُتضمّنٍ ما يَجب تنزيه الله عنه يؤذن بأن خبراً عجيباً يستقبله السامعون دالاً على عظيم القدرة من المتكلم ورفيع منزلة المتحدث عنه .

فإن جملة التسبيح في الكلام الذي لم يقع فيه ما يوهم تشبيهاً أو تنقيصاً لا يليقان بجلال الله تعالى مثل { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافّات : 180 ] يتعين أن تكون مستعملة في أكثر من التنزيه ، وذلك هو التعجيب من الخبر المتحدث به كقوله { قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } [ النور : 16 ] ، وقول الأعشى :

قد قلتُ لما جاءني فخرُه *** سُبْحَان من علقمَةَ الفاخِرِ

ولما كان هذا الكلام من جانب الله تعالى والتسبيح صادراً منه كان المعنى تعجيب السامعين ، لأن التعجب مستحيلة حقيقته على الله لا لأن ذلك لا يلتفت إليه في محامل الكلام البليغ لإمكان الرجوع إلى التمثيل ، مثل مجيء الرجاء في كلامه تعالى نحو { لعلكم تفلحون } [ البقرة : 189 ] ، بل لأنه لا يستقيم تعجب المتكلم من فعل نفسه ، فيكون معنى التعجيب فيه من قبيل قولهم أتعجب من قول فلان كيْت وكيْت .

ووجه هذا الاستعمال أن الأصل أن يكون التسبيح عند ظهور ما يدل على إبطال ما لا يليق بالله تعالى . ولما كان ظهور ما يدل على عظيم القدرة مزيلاً للشك في قدرة الله وللإشراك به كان من شأنه أن يُنطق المتأمل بتسبيح الله تعالى ، أي تنزيهه عن العجز .

وأصل صيغ التسبيح هو كلمة { سبحان الله } التي نُحت منها السبحلة . ووقع التصرف في صيغها بالإضمار نحو سبحانَك وسبحانه ، وبالموصول نحو { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } [ يس : 36 ] ومنه هذه الآية .

والتعبير عن الذات العلية بطريق الموصول دون الاسم العلم للتنبيه على ما تفيده صلة الموصول من الإيماء إلى وجه هذا التعجيب والتنويه وسببه ، وهو ذلك الحادث العظيم والعناية الكبرى . ويفيد أن حديث الإسراء أمر فَشا بين القوم ، فقد آمن به المسلمون وأكبَره المشركون .

وفي ذلك إدماج لرفعة قدر محمد وإثباتُ أنه رسول من الله ، وأنه أوتي من دلائل صدق دعوته ما لا قِبل لهم بإنكاره ، فقد كان إسراؤه إطلاعاً له على غائب من الأرض ، وهو أفضل مكان بعد المسجد الحرام .

و{ أسرى } لغة في سَرَى ، بمعنى سار في الليل ، فالهمزة هنا ليست للتعدية لأن التعدية حاصلة بالباء ، بل أسرى فعل مفتح بالهمزة مرادف سَرى ، وهو مثل أبان المرادف بَان ، ومثل أنهج الثوبُ بمعنى نَهَجَ أي بلِيَ ، ف { أسرى بعبده } بمنزلة { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] .

وللمبرد والسهيلي نكتة في التفرقة بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء بأن الثانية أبلغ لأنها في أصل الوضع تقتضي مشاركة الفاعل المفعولَ في الفعل ، فأصل ( ذهب به ) أنه استصحبه ، كما قال تعالى : { وسار بأهله } [ القصص : 29 ] . وقالت العرب أشبعهم شتماً ، ورَاحوا بالإبل . وفي هذا لطيفة تناسب المقام هنا إذ قال { أسرى بعبده } دون سرّى بعبْدَه ، وهي التلويح إلى أن الله تعالى كان مع رسوله في إسرائه بعنايتهِ وتوفيقه ، كما قال تعالى { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] ، وقال : إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [ التوبة : 40 ] .

فالمعنى : الذي جعل عبده مُسرياً ، أي سارياً ، وهو كقوله تعالى : { فأسر بأهلك بقطع من الليل } [ هود : 81 ] .

وإذ قد كان السُرى خاصاً بسير الليل كان قوله : { ليلاً } إشارة إلى أن السير به إلى المسجد الأقصى كان في جُزء ليلة ، وإلا لم يَكن ذكره إلا تأكيداً ، على أن الإفادة كما يقولون خير من الإعادة .

وفي ذلك إيماء إلى أنه أسراء خارق للعادة لقطع المسافة التي بين مبدأ السير ونهايته في بعض ليلة ، وأيضاً ليتوسل بذكر الليل إلى تنكيره المفيد للتعظيم .

فتنكير { ليلاً } للتعظيم ، بقرينة الاعتناء بذكره مع علمه من فعل { أسرى } ، وبقرينة عدم تعريفه ، أي هو ليل عظيم باعتبار جعله زمناً لذلك السرى العظيم ، فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم . ألا ترى كيف احْتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغة خاصة في قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر } [ القدر : 1 2 ] إذ وقعت ليلة القدر غير منكرة{[263]} .

و ( عَبْد ) المضاف إلى ضمير الجلالة هنا هو محمد كما هو مصطلح القرآن ، فإنه لم يقع فيه لفظ العبد مضافاً إلى ضمير الغيبة الراجع إلى الله تعالى إلا مراداً به النبي ؛ ولأن خبر الإسراء به إلى بيت المقدس قد شاع بين المسلمين وشاع إنكاره بين المشركين ، فصار المراد { بعبده } معلوماً .

والإضافة إضافة تشريف لا إضافة تعريف لأن وصف العبودية لله متحقق لسائر المخلوقات فلا تفيد إضافته تعريفاً .

والمسجد الحرام هو الكعبة والفِناء المحيط بالكعبة بمكة المتخذ للعبادة المتعلقة بالكعبة من طواف بها واعتكاف عندها وصلاة .

وأصل المسجد : أنه اسم مكان السجود . وأصل الحرام : الأمر الممنوع ، لأنه مشتق من الحَرْم بفتح فسكون وهو المنع ، وهو يرادف الحرم . فوصف الشيء بالحرام يكون بمعنى أنه ممنوع استعماله استعمالاً يناسبه ، نحو { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أي أكل الميتة ، وقول عنترة :

حُرمت علي وليتها لم تَحرم

أي ممنوع قربانها لأنها زوجة أبيه وذلك مذموم بينهم .

ويكون بمعنى الممنوع من أن يعمل فيه عمل ما . ويبين بذكر المتعلق الذي يتعلق به . وقد لا يذكر متعلّقة إذا دل عليه العرف ، ومنه قولهم : { الشهر الحرام } [ البقرة : 194 ] أي الحرام فيه القتال في عرفهم . وقد يحذف المتعلق لقصد التكثير ، فهو من الحذف للتعميم فيَرجع إلى العموم العرفي ، ففي نحو { البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] يراد الممنوع من عُدوان المعتدين ، وغزوِ الملوك والفاتحين ، وعملِ الظلم والسوءِ فيه .

والحرام : فَعال بمعنى مفعول ، كقولهم : امرأة حَصان ، أي ممنوعة بعفافها عن الناس .

فالمسجد الحرام هو المكان المعد للسجود ، أي للصلاة ، وهو الكعبة والفناء المجعول حرماً لها . وهو يختلف سعة وضيقاً باختلاف العصور من كثرة الناس فيه للطواف والاعتكاف والصلاة .

وقد بنى قريش في زمن الجاهلية بيوتهم حول المسجد الحرام . وجعل قُصي بقربه دارَ الندوة لقريش وكانوا يجلسون فيها حول الكعبة ، فانحصر لما أحاطت به بيوت عشائر قريش . وكانت كل عشيرة تتخذ بيوتها متجاورة . ومجموع البيوت يسمى شِعباً بكسر الشين . وكانت كل عشيرة تسلك إلى المسجد الحرام من منفذ دُورها ، ولم يكن للمسجد الحرام جدار يُحفظ به . وكانت المسالك التي بين دُور العشائر تسمى أبواباً لأنها يسلك منها إلى المسجد الحرام ، مثل باب بني شيبة ، وباب بني هاشم ، وباب بني مخزوم وهو باب الصفا ، وباب بني سهم ، وباب بني تيم . وربما عُرِف بعض الأبواب بجهة تقرب منه مثل بَاب الصفا ويسمى باب بني مخزوم . وباب الحزورة سمي بمكان كانت به سوق لأهل مكة تسمى الحَزْورة . ولا أدري هل كانت أبواباً تغلق أم كانت منافذ في الفضاء فإن الباب يطلق على ما بين حاجزين .

وأول من جعل للمسجد الحرام جداراً يُحفظ به هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبعَ عشرة من الهجرة .

ولُقب بالمسجد لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعله لإقامة الصلاة في الكعبة كما حكى الله عنه { ربنا ليقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 37 ] . ولما انقرضت الحنيفية وترك أهل الجاهلية الصلاة تناسوا وصفهُ بالمسجد الحرام فصاروا يقولون : البيت الحرام . وأما قول عمر : إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فإنه عبر عنه باسمه في الإسلام .

فغلبَ عليه هذا التعريف التوصيفي فصار له علماً بالغلبة في اصطلاح القرآن . ولا أعرف أنه كان يعرف في الجاهلية بهذا الاسم ، ولا على مسجد بيت المقدس في عصر تحريمه عند بَني إسرائيل . وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } في [ البقرة : 144 ] ، وعند قوله تعالى : { أن صدوكم عن المسجد الحرام } في أول العقود [ المائدة : 2 ] .

وعلميته بمجموع الوصف والموصوف وكلاهما معَرّف باللام . فالجزء الأول مثل النجم والجزء الثاني مثل الصعِق ، فحصل التعريف بمجموعهما ، ولم يعد النحاةُ هذا النوع في أقسام العلم بالغلبة . ولعلهم اعتبروه راجعاً إلى المعرف باللام . ولا بد من عده لأن علميته صارت بالأمرين .

والمسجد الأقصى هو المسجد المعروف ببيتِ المقدِس الكائن بإيلياء ، وهو المسجد الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام .

والأقصى ، أي الأبعد . والمراد بعده عن مكة ، بقرينة جعله نهاية الإسراء من المسجد الحرام ، وهو وصف كاشف اقتضاه هنا زيادة التنبيه على معجزة هذا الإسراء وكونه خارقاً للعادة لكونه قطْعَ مسافة طويلة في بعض ليلة .

وبهذا الوصف الوارد له في القرآن صار مجموع الوصف والموصوف علماً بالغلبة على مسجد بيت المقدس كما كان المسجد الحرام علماً بالغلبة على مسجد مكة . وأحسب أن هذا العلم له من مبتكرات القرآن فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المراد منه أنه مسجد إيلياء . ولم يكن مسجد لدين إلهي غيرهما يومئذٍ .

وفي هذا الوصف بصيغة التفضيل باعتبار أصل وضعها معجزةٌ خفية من معجزات القرآن إيماء إلى أنه سيكون بين المسجدين مسجد عظيم هو مسجد طيبة الذي هو قَصِيٌ عن المسجد الحرام ، فيكون مسجد بيت المقدس أقصى منه حينئذٍ .

فتكون الآية مشيرة إلى جميع المساجد الثلاثة المفضلة في الإسلام على جميع المساجد الإسلامية ، والتي بينها قول النبي : " لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ، ومسجد الأقصى ، ومسجدي " .

وفائدة ذكر مبدأ الإسراء ونهايته بقوله : { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا } أمران :

أحدهما : التنصيص على قطع المسافة العظمية في جزء ليلة ، لأن كلا من الظرف وهو { ليلاً } ومن المجرورين { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا } قد تعلق بفعل { أسرى } ، فهو تعلق يقتضي المقارنة ، ليعلم أنه من قبيل المعجزات .

وثانيهما : الإيماء إلى أن الله تعالى يجعل هذا الإسراء رمزاً إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الصادر من المسجد الحرام إلى ما تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة أيضاً ؛ فقد صدرت الحنيفية من المسجد الحرام وتفرعت في المسجد الأقصى . ثم عادت إلى المسجد الحرام كما عاد الإسراء إلى مكة لأن كل سُرى يعقبه تأويب . وبذلك حصل رد العجز على الصدر .

ومن هنا يظهر مناسبة نزول التشريع الاجماعي في هذه السورة في الآيات المفتتحة بقوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } ، ففيها : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ، { وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم } [ الإسراء : 23 35 ] إيماء إلى أن هذا الدين سيكون ديناً يحكم في الناس وتنفذ أحكامه .

والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد بناه إبراهيم عليه السلام كما ورد ذلك عن النبي . ففي « الصحيحين » عن أبي ذر قال : قلتُ يا رسول الله أي مسجد وُضع في الأرض أولُ ؟ قال المسجدُ الحرام . قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى . قلت كمْ بينهما ؟ قال أربعون سنة » .

فهذا الخبر قد بين أن المسجد الأقصى من بناء إبراهيم لأنه حُدد بمدة هي من مدة حياة إبراهيم عليه السلام . وقد قُرن ذكره بذكر المسجد الحرام .

وهذا مما أهملَ أهل الكتاب ذكره .

وهو مما خَصّ الله نبيئه بمعرفته . والتوراة تشهد له ، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر : أن إبراهيم لما دخل أرض كنعان ( وهي بلاد فلسطين ) نصب خيمته في الجبل شرقي بيت إيل ( بيت إيل مدينة على بعد أحد عشر ميلاً من أورشليم إلى الشمال وهو بلد كان اسمه عند الفلسطينيين ( لوزا ) فسماه يعقوب : بيت إيل ، كما في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين ) وغربي بلاد عاي ( مدينة عبرانية تعرف الآن « الطيبة » ) وبنى هنالك مذبحاً للرب .

وهم يطلقون المذبح على المسجد لأنهم يذبحون القرابين في مساجدهم . قال عمر بن أبي ربيعة :

دُميةٌ عند راهب قسيس *** صوروها في مذبح المحراب

أي مَكانَ المذبح من المسجد ، لأن المحراب هو محل التعبد ، قال تعالى : { وهو قائم يصلي في المحراب } [ آل عمران : 39 ] .

ولا شك أن مسجد إبراهيم هو الموضع الذي توخى داود عليه السلام أن يضع عليه الخيمة وأن يبني عليه محرابه أو أوحى الله إليه بذلك ، وهو الذي أوصى ابنَه سليمان عليه السلام أن يبني عليه المسجدَ ، أي الهيكل . وقد ذكر مؤرخو العبرانيين ومنهم ( يوسيفوس ) أن الجبل الذي سكنه إبراهيم بأرض كنعان اسمه ( نَابو ) وأنه هو الجبل الذي ابتنى عليه سليمان الهيكل وهو المسجد الذي به الصخرة .

وقصة بناء سليمان إياه مفصلة في سفر الملوك الأول من أسفار التوراة .

وقد انتابه التخريب ثلاث مرات :

أولاها : حين خربه بختَنَصّر ملكُ بابل سنة 578 قبل المسيح ثم جدده اليهود تحت حكم الفُرس .

الثانية : خربه الرومان في مدة طيطوس بعد حروب طويلة بينه وبين اليهود وأعيد بناؤه ، فأكمل تخريبَه أدريانوس سنة 135 للمسيح وعفى آثاره فلم تبق منه إلا أطلال .

الثالثة لما تنصرت الملكة هيلانة أم الأنبراطور قسطنطين ملكِ الروم ( بيزنطة ) وصارت متصلبة في النصرانية ، وأشرب قلبُها بُغْض اليهود بما تعتقده من قتلهم المسيح كان مما اعتدت عليه حين زارت أورشليم أن أمرت بتعفية أطلال هيكل سليمان وأن ينقل ما بقي من الأساطين ونحوها فتبني بها كنيسة على قبر المسيح المزعوم عندهم في موضع توسموا أن يكون هو موضع القبر ( والمؤرخون من النصارى يشكون في كون ذلك المكان هو المكان الذي يُدَّعَى أن المسيح دفن فيه ) وأن تسميها كنيسة القيامة ، وأمَرَت بأن يجعل موضعُ المسجد الأقصى مرمَى أزبال البلد وقُماماته فصار موضعُ الصخرة مَزْبلة تراكمت عليها الأزبال فغطتها وانحدرت على درجها .

ولما فتح المسلمون بقية أرض الشام في زمن عمر وجاء عمر بن الخطاب ليشهد فتح مدينة إيلياء{[264]} وهي المعروفة من قبلُ ( أورشليم ) وصارت تسمى إيلياء بكسر الهمزة وكسر اللام وكذلك كان اسمها المعروف عند العرب عندما فتح المسلمون فلسطين . وإيلياء اسم نبيء من بني إسرائيل كان في أوائل القرن التاسع قبل المسيح .

قال الفرزدق :

وبيتان بيتُ الله نحن ولاته *** وبيتٌ بأعلى إيلياء مشرَّف

وانعقد الصلح بين عُمر وأهل تلك المدينة وهم نصارى . قال عمر لبطريق لهم اسمه ( صفرونيوس ) « دُلني على مسجد داوود » ، فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب وقد انحدر الزبل على دَرَج الباب فتجشم عمر حتى دخَل ونظر فقال : الله أكبر ، هذا والذي نفسي بيده مسجدُ داوود الذي أخبرنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أُسري به إليه » . ثم أخذ عمر والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها ، ومضى عمر إلى جهة محراب داوود فصلى فيه ، ثم ارتحل من بلد القدس إلى فلسطين .

ولم يَبن هنالك مسجداً إلى أن كان في زمن عبد الملك بن مروان أمر بابتداء بناء القبة على الصخرة وعمارة المسجد الأقصى . ووكل على بنائها رَجاء بن حَيْوَة الكِندي أحد علماء الإسلام ، فابتدأ ذلك سنة ست وستين وكان الفراغ من ذلك في سنة ثلاث وسبعين .

كان عمر أول من صلى فيه من المسلمين وجعل له حرمة المساجد .

ولهذا فتسمية ذلك المكان بالمسجد الأقصى في القرآن تسمية قرآنية اعتبر فيها ما كان عليه من قبل لأن ، حكم المسجدية لا ينقطع عن أرض المسجد . فالتسمية باعتبار ما كان ، وهي إشارة خفية إلى أنه سيكون مسجداً بأكمل حقيقة المساجد .

واستقبله المسلمون في الصلاة من وقت وجوبها المقارن ليلة الإسراء إلى ما بعد الهجرة بستة عشر شهراً . ثم نسخ استقباله وصارت الكعبة هي القبلة الإسلامية .

وقد رأيت أن سائحاً نصرانياً اسمه ( اركولف ) زار القدس سنة 670 م ، أي بعد خلافة عمر بأربع وثلاثين سنة ، وزعم أنه رأى مسجداً بناه عمر على شكل مربع من ألواح وجذوع أشجار ضخمة وأنه يسع نحو ثلاثة آلاف{[265]} .

والظاهر أن نسبة المسجد الأقصى إلى عمر بن الخطاب وهَم من أوهام النصارى اختلط عليهم كشف عمر موضع المسجد فظنوه بناءً . وإذا صدق اركولف فيما ذكر من أنه رأى مكاناً مربعاً من ألواح وعمد أشجار كان ذلك شيئاً أحدثه مسلمو البلاد لصيانة ذلك المكان عن الامتهان .

وقوله { الذي باركنا حوله } صفة للمسجد الأقصى . وجيء في الصفة بالموصولية لقصد تشهير الموصوف بمضمون الصلة حتى كأن الموصوف مشتهر بالصلة عند السامعين . والمقصود إفادة أنه مبارك حوله .

وصيغة المفاعلة هنا للمبالغة في تكثير الفعل ، مثل عافاك الله .

والبركة : نماء الخير والفضل في الدنيا والآخرة بوفرة الثواب للمصلين فيه وبإجابة دعاء الداعين فيه . وقد تقدم ذكر البركة عند قوله تعالى : { مباركاً وهدى للعالمين } في [ آل عمران : 96 ] .

وقد وصف المسجد الحرام بمثل هذا في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين } [ آل عمران : 96 ] .

ووجه الاقتصار على وصف المسجد الأقصى في هذه الآية بذكر هذا التبريك أن شهرة المسجد الحرام بالبركة وبكونه مقام إبراهيم معلومة للعرب ؛ وأما المسجد الأقصى فقد تناسى الناس ذلك كله ، فالعرب لا علم لهم به والنصارى عفوا أثره من كراهيتهم لليهود ، واليهود قد ابتعدوا عنه وأيسوا من عوده إليهم ، فاحتيج إلى الإعلام ببركته .

و حولَ يدل على مكان قريب من مكان اسم ما أضيف ( حولَ ) إليه .

وكونُ البركة حولَه كنايةٌ عن حصول البركة فيه بالأوْلى ، لأنها إذا حصلت حوله فقد تجاوزت ما فيه ؛ ففيه لطيفة التلازم ، ولطيفة فحوَى الخطاب ، ولطيفة المبالغة بالتكثير . وقريب منه قول زياد الأعجم :

إنّ السماحةَ والمروءة والندى *** في قبةٍ ضُربت على ابن الحشرج

ولكلمة { حوله } في هذه الآية من حسن الموقع ما ليس لكلمة ( في ) في بيت زياد ، ذلك أن ظرفية ( في ) أعم . فقوله : ( في قبة ) كناية عن كونها في ساكن القبة لكن لا تفيد انتشارها وتجاوزها منه إلى ما حوله .

وأسباب بركة المسجد الأقصى كثيرة كما أشارت إليه كلمة { حوله } . منها أن واضعه إبراهيم عليه السلام ، ومنها ما لحقه من البركة بمن صلى به من الأنبياء من داوود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل ، ثم بحلول الرسول عيسى عليه السلام وإعلانه الدعوة إلى الله فيه وفيما حوله ، ومنها بركة من دُفن حوله من الأنبياء ، فقد ثبت أن قبري داوود وسليمان حول المسجد الأقصى . وأعظم تلك البركات حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذلك الحلول الخارق للعادة ، وصلاته فيه بالأنبياء كلهم .

وقوله : { لنريه من آياتنا } تعليل الإسراء بإرادة إراءة الآيات الربانية ، تعليلٌ ببعض الحِكَم التي لأجلها منح الله نبيئه منحة الإسراء ، فإن للإسراء حِكماً جمة تتضح من حديث الإسراء المروي في « الصحيح » . وأهمها وأجمعها إراءته من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ورحمته ، أي لنريه من الآيات فيخبرهم بما سألوه عن وصف المسجد الأقصى .

ولام التعليل لا تفيد حصر الغرض من متعلقها في مدخولها .

وإنما اقتُصر في التعليل على إراءة الآيات لأن تلك العلة أعلق بتكريم المُسرَى به والعناية بشأنه ، لأن إراءة الآيات تزيد يقين الرائي بوجودها الحاصل من قبل الرؤية . قال تعالى : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] .

فإن فطرة الله جعلت إدراك المحسوسات أثبت من إدراك المدلولات البرهانية . قال تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] ، ولذلك لم يقل الله بعد هذا التعليل أو لم يطمئن قلبك ، لأن اطمئنان القلب مُتَّسِعُ المدى لا حد له فقد أنطق الله إبراهيم عن حكمة نبوءة ، وقد بادر محمداً بإراءة الآيات قبل أن يسأله إياها توفيراً في الفضل .

قال علي بن حزم الظاهري وأجاد :

ولكن للعيان لطيفُ معنى *** له سأل المعايَنة الكليمُ

واعلم أن تقوية يقين الأنبياء من الحكم الإلهية لأنهم بمقدار قوة اليقين يزيدون ارتقاء على درجة مستوى البشر والتحاقاً بعلوم عالم الحقائق ومساواة في هذا المضمار لمراتب الملائكة .

وفي تغيير الأسلوب من الغيبة التي في اسم الموصول وضميريه إلى التكلم في قوله : باركنا . . . ولنُريه من آياتنا سلوكٌ لطريقة الالتفات المتبعة كثيراً في كلام البلغاء . وقد مضى الكلام على ذلك في قوله تعالى : { إياك نعبد } في [ الفاتحة : 5 ] .

والالتفات هنا امتاز بلطائف :

منها : أنه لما استُحضرت الذات العلية بجملة التسبيح وجملة الموصولية صار مقام الغيبة مقام مشاهدة فناسب أن يغير الإضمار إلى ضمائر المشاهدة وهو مقام التكلم .

ومنها : الإيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام عند حلوله بالمسجد الأقصى قد انتقل من مقام الاستدلال على عالم الغيب إلى مقام مصيره في عالم المشاهدة .

ومنها : التوطئة والتمهيد إلى محمل معاد الضمير في قوله : { إنه هو السميع البصير } ، فيتبادر عود ذلك الضمير إلى غير من عاد إليه ضمير { نريه } لأن الشأن تناسق الضمائر ، ولأن العود إلى الالتفات بالقرب ليس من الأحسن .

فقوله : { إنه هو السميع البصير } الأظهرُ أن الضميرين عائدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقاله بعض المفسرين ، واستقرَبَه الطيبي ، ولكن جمهرة المفسرين على أنه عائد إلى الله تعالى . ولعل احتماله للمعنيين مقصود .

وقد تجيء الآيات محتملة عدّةَ معانٍ . واحتمالها مقصود تكثيراً لمعاني القرآن ، ليأخذ كل منه على مقدار فهمه كما ذكرنا في المقدمة التاسعة . وأياما كان فموقع ( إنّ ) التوكيد والتعليل كما يؤذن به فصل الجملة عما قبلها .

وهي إما تعليل لإسناد فعل { نريه إلى فاعله ؛ وإما تعليل لتعليقه بمفعوله ، فيفيد أن تلك الإراءة من باب الحكمة ، وهي إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ، فهو من إيتاء الحكمة من هو أهلها .

والتعليل على اعتبار مرجع الضمير إلى النبي أوقع ، إذ لا حاجة إلى تعليل إسناد فعل الله تعالى لأنه محقق معلوم . وإنما المحتاج للتعليل هو إعطاء تلك الإراءة العجيبة لمن شك المشركون في حصولها له ومن يحسبون أنه لا يطيقها مثله .

على أن الجملة مشتملة على صيغة قصر بتعريف المسند باللام وبضمير الفصل قصراً مؤكداً ، وهو قصر موصوف على صفة قصراً إضافياً للقلب ، أي هو المدرك لما سمعه وأبصرهُ لا الكاذِبُ ولا المتوهمُ كما زعم المشركون . وهذا القصر يؤيد عود الضمير إلى النبي لأنه المناسب للرد . ولا ينازع المشركون في أن الله سميع وبصير إلا على تأويل ذلك بأنه المُسمع والمبصِر لرسوله الذي كذبتموه ، فيؤول إلى تنزيه الرسول عن الكذب والتوهم .

ثم إن الصفتين على تقدير كونهما للنبيء هما على أصل اشتقاقهما للمبالغة في قوة سمعه وبصره وقبولهما لتلقي تلك المشاهدات المدهشة ، على حد قوله تعالى : { ما زاغ البصر وما طغى }

[ النجم : 17 ] ، وقوله : { أفتمارونه على ما يرى } [ النجم : 12 ] .

وأما على تقدير كونهما صفتين لله تعالى فالمناسب أن تؤولا بمعنى المسمع المبصر ، أي القادر على إسماع عبده وإبصاره ، كما في قول عمرو بن معد يكرب :

أمن ريحانة الداعي السميع

أي المُسمع .

وقد اختلف السلف في الإسراء أكان بجسد رسول الله من مكة إلى بيت المقدس أم كان بروحه في رؤيا هي مشاهدة رُوحانية كاملة ورؤيا الأنبياء حق . والجمهور قالوا : هو إسراء بالجسد في اليقظة ، وقالت عائشة ومعاوية والحسن البصري وابن إسحاق رضي الله عنهم أنه إسراء بروحه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي .

واستدل الجمهور بأن الامتنان في الآية وتكذيبَ قريش بذلك دليلان على أنه ما كان الإخبار به إلا على أنه بالجسد . واتفق الجميع على أن قريشاً استوصفوا من النبي علامات في بيت المقدس وفي طريقه فوصفها لهم كما هي ، ووصف لهم عيراً لقريش قافلة في طريق معين ويوم معين فوجدوه كما وصف لهم .

ففي « صحيح البخاري » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما أنا في المسجد الحرام بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل . . . " إلى آخر الحديث . وهذا أصح وأوضح مما روي في حديث آخر أن الإسراء كان من بيته أو كان من بيت أم هاني بنت أبي طالب أو من شعب أبي طالب .

والتحقيق حمل ذلك على أنه إسراء آخر ، وهو الوارد في حديث المعراج إلى السماوات وهو غير المراد في هذه الآية . فللنبيء صلى الله عليه وسلم كرامتان : أولاهما الإسراء وهو المذكور هنا ، والأخرى المعراج وهو المذكور في حديث « الصحيحين » مطولاً وأحاديث غيرِه . وقد قيل : إنه هو المشار إليه في سورة النجم .


[263]:- وأما قوله { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} فذلك توكيد لأن المتحدث عنهم ينكرونه ولا يعبأون بما أعد لهم فيه من الأهوال.
[264]:- انظر « الإنس الجليل في تاريخ القدس والخليل» في ذكر خراب المسجد الأقصى ولم أقف على وجه تسمية أورشليم باسم إيلياء المذكور، ولعله هو، سمى باسم المدينة المقدسة عندهم.
[265]:- مقال حرره عارف في الجملة المسماة رسالة العلم بالمملكة الأردنية في عدد 2 من السنة 12 كانون الأول سنة 1968.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الإسراء، سورة بني إسرائيل، مكية كلها إلا هذه الآيات، فإنهن مدنيات، وهي قوله تعالى: {وقل رب أدخلني مدخل صدق...} [آية:80] الآية. وقوله تعالى: {إن الذين أوتوا العلم من قبله...} إلى قوله: {...خشوعا} [آية:107-109]. وقوله تعالى: {إن ربك أحاط بالناس...} [آية:60] الآية. وقوله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك...} [آية:73] الآية. وقوله تعالى: {ولولا أن ثبتناك...} [آية:75،74] الآيتين. وقوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض...} [آية:76].

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

سورة بني إسرائيل مكية.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

مكية في قول الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثماني آيات من قوله تعالى:"وإن كادوا ليفتنونك" إلى قوله: "سلطانا نصيرا".

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات: قوله عز وجل:"وإن كادوا ليفتنونك"، وقوله: "وإن كادوا ليستفزونك"، نزلت حين جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفدُ ثقيف، وحين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء، وقوله عز وجل: "وقل رب أدخلني مدخل صدق"، وقوله عز وجل:"إن ربك أحاط بالناس "وقال مقاتل: وقوله عز وجل:"إن الذين أوتوا العلم من قبله". قال ابن مسعود في بني إسرائيل والكهف: "إنهن من العِتاق الأُوَل، وهن في تِلاَدِي"، يريد أنهن من قديم كسبه.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

عن أبي لبابة، سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ كل ليلة "بني إسرائيل"، و "الزمر".

السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :

وتسمى:"سبحان"...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة -سورة الإسراء- مكية، وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده؛ وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة؛ وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة؛ إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء. وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان.

ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول [صلى الله عليه وسلم] وموقف القوم منه في مكة. وهو القرآن الذي جاء به، وطبيعة هذا القرآن، وما يهدي إليه، واستقبال القوم له. واستطرادا بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها. وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي، والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع.. كل ذلك بعد أن يعذر الله -سبحانه- إلى الناس، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل) وكل شيء فصلناه تفصيلا).

ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه. ففي مطلعها: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى...) وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح) إنه كان عبدا شكورا).. وعند ذكر دعاوي المشركين عن الآلهة يعقب بقوله:) سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).. وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن:) ويقولون: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا).. وتختم السورة بالآية) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا).

في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا، يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة.

يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) مع الكشف عن حكمة الإسراء) لنريه من آياتنا).. وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة) وإن عدتم عدنا).. ثم يقرر أن الكتاب الأخير -القرآن- يهدي للتي هي أقوم، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته. ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك.

ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه.

ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله، وعن البعث واستبعادهم لوقوعه، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر، ويتكلموا بالتي هي أحسن.

وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا [صلى الله عليه وسلم] بالخوارق فقد كذب بها الأولون، فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله؛ كما يتناول موقف المشركين من إنذارهم لله في رؤيا الرسول [صلى الله عليه وسلم] وتكذيبهم وطغيانهم. ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم. يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين. ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم: فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.

ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول [صلى الله عليه وسلم] ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة. ولو أخرجوه قسرا -ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله- لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم. ويأمر الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين، بينما الإنسان قليل العلم) وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).

ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه. بينما هم يطلبون خوارق مادية، ويطلبون نزول الملائكة، ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب، يفجر الأنهار خلالها تفجيرا! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا. أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه... إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة، لا طلب الهدى والاقتناع. ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة، ويكل الأمر إلى الله. ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله -على سعتها وعدم نفادها- لأمسكوها خوفا من الإنفاق! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله، وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلى إيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض، فأخذهم الله بالعذاب والنكال.

وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه. القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية. والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود. ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل. كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت في كثير من المصاحف سورة الإسراء... إذ قد ذكر في أولها الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم واختصت بذكره.

وتسمى في عهد الصحابة سورة بني إسرائيل. ففي جامع الترمذي في أبواب الدعاء عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل.

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي. وبذلك ترجم لها البخاري في كتاب التفسير، والترمذي في أبواب التفسير. ووجه ذلك أنها ذكر فيها من أحوال بني إسرائيل ما لم يذكر في غيرها. وهو استيلاء قوم أولى بأس الآشوريين عليهم ثم استيلاء قوم آخرين وهم الروم عليهم.

وتسمى أيضا سورة {سبحان}، لأنها افتتحت بهذه الكلمة. قال في بصائر ذوي التمييز.

وهي مكية عند الجمهور. قيل: إلا آتين منها، وهما {وإن كادوا ليفتنونك إلى قوله قليلا}. وقيل: إلا أربعا، هاتين الآيتين، وقوله {وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس}، وقوله {وقل رب أدخلني مدخل صدق} الآية. وقيل: إلا خمسا، هاته الأربع، وقوله {إن الذين أوتوا العلم من قبله} إلى آخر السورة. وقيل: إلا خمس آيات غير ما تقدم، وهي المبتدأة بقوله {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} الآية، وقوله {ولا تقربوا الزنى} الآية، وقوله {أولئك الذين يدعون} الآية، وقوله {أقم الصلاة} الآية، وقوله {وآت ذا القربى حقه} الآية. وقيل إلا ثمانيا من قوله {وإن كادوا ليفتنونك} إلى قوله {سلطانا نصيرا}.

وأحسب أن منشأ هاته الأقوال أن ظاهر الأحكام التي اشتملت عليها تلك الأقوال يقتضي أن تلك الآي لا تناسب حالة المسلمين فيما قبل الهجرة فغلبت على ظن أصحاب تلك الأقوال مدنية. وسيأتي بيان أن ذلك غير متجه عند التعرض لتفسيرها.

ويظهر أنها نزلت في زمن فيه جماعة المسلمين بمكة، وأخذ التشريع المتعلق بمعاملات جماعتهم يتطرق إلى نفوسهم، فقد ذكرت فيها أحكام متتالية لم تذكر أمثال عددها في سورة مكية غيرها عدا سورة الأنعام، وذلك من قوله {وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه} إلى قوله {كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها}.

وقد اختلف في وقت الإسراء. والأصح أنه كان قبل الهجرة بنحو سنة وخمسة أشهر، فإذا كانت قد نزلت عقب وقوع الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم تكون قد نزلت في حدود سنة اثنتي عشرة بعد البعثة، وهي سنة اثنتين قبل الهجرة في منتصف السنة.

وليس افتتاحها بذكر الإسراء مقتضيا أنها نزلت عقب وقوع الإسراء. بل يجوز أنها نزلت بعد الإسراء بمدة.

وذكر فيها الإسراء إلى المسجد الأقصى تنويها بالمسجد الأقصى وتذكيرا بحرمته...

أغراضها:

العماد الذي أقيمت عليه أغراض هذه السورة إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات أن القرآن وحي من الله.

وإثبات فضله وفضل من أنزله.

وذكر أنه معجز.

ورد مطاعن المشركين فيه وفي من جاء به، وأنهم لم يفقهوه فلذلك أعرضوا عنه.

وإبطال إحالتهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى المسجد الأقصى. فافتتحت بمعجزة الإسراء توطئة للتنظير بين شريعة الإسلام وشريعة موسى عليه السلام على عادة القرآن في ذكر المثل والنظائر الدينية، ورمزا إلهيا إلى أن الله أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم من الفضائل أفضل مما أعطى من قبله.

وأنه أكمل له الفضائل فلم يفته منها فائت، فمن أجل ذلك أحله بالمكان المقدس الذي تداولته الرسل من قبل، فلم يستأثرهم بالحلول بذلك المكان هو مهبط الشريعة الموسوية، ورمز أطوار تأريخ بني إسرائيل وأسلافهم، والذي هو نظير المسجد الحرام في أن أصل تأسيسه في عهد إبراهيم كما سننبه عليه عند تفسير قوله تعالى {إلى المسجد الأقصى}، فأحل الله به محمدا عليه الصلاة والسلام بعد أن هجر وخرب إيماء إلى أن أمته تجدد مجده.

وأن الله مكنه من حرمي النبوة والشريعة، فالمسجد الأقصى لم يكن معمورا حين نزول هذه السورة وإنما عمرت كنائس حوله، وأن بني إسرائيل لم يحفظوا حرمة المسجد الأقصى، فكان إفسادهم سببا في تسلط أعدائهم عليهم وخراب المسجد الأقصى. وفي ذلك رمز إلى أن إعادة المسجد الأقصى ستكون على يد أمة هذا الرسول الذي أنكروا رسالته.

ثم إثبات دلائل تفرد الله بالإلهية، والاستدلال بآية الليل والنهار وما فيهما من المنن على إثبات الوحدانية.

والتذكير بالنعم التي سخرها الله للناس، وما فيها من الدلائل على تفرده بتدبير الخلق، وما تقتضيه من شكر المنعم وترك شكر غيره، وتنزيهه عن اتخاذ بنات له.

وإظهار فضائل من شريعة الإسلام وحكمته، وما علمه الله المسلمين من آداب المعاملة نحو ربهم سبحانه، ومعاملة بعضهم مع بعض، والحكمة في سيرتهم وأقوالهم، ومراقبة الله في ظاهرهم وباطنهم...

وإثبات البعث والجزاء.

والحث على إقامة الصلوات في أوقاتها.

والتحذير من نزغ الشيطان وعداوته لآدم وذريته، وقصة إبايته من السجود.

والإنذار بعذاب الآخرة.

وذكر ما عرض للأمم من أسباب الاستئصال والهلاك.

وتهديد المشركين بأن الله يوشك أن ينصر الإسلام على باطلهم.

وما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين واستعانتهم باليهود. واقتراحهم الآيات، وتحميقهم في جهلهم بآية القرآن وأنه الحق.

وتخلل ذلك من المستطردات والنذر والعظات ما فيه شفاء ورحمة، ومن الأمثال ما هو علم وحكمة.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

وفصولها مترابطة، وآياتها متوازنة ومتساوقة، مما يمكن أن يلهم أن فصولها نزلت متلاحقة إلى أن تمت... وقد روي أن الآيات [26 و32 و 33 و 57 و 73 80] مدنيات، وليست الروايات وثيقة السند من جهة، وسياقُ الآيات ومضامينها وتوازنها وانسجامها مع ما سبقها ولحق بها يسوغ الشك في الرواية، ويرجّح مكية الآيات...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

... وبالإمكان فرز المحاور المهمّة الآتية التي يدور حولها مضمون السورة:

أوّلاً: الإِشارة إلى أدلة النّبوة الخاتمة وبراهينها، وفي مقدمتها معجزة القرآن وقضية المعراج.

ثانياً: ثمّة بحوث في السورة ترتبط بقضية المعاد وما يرتبط به من حديث عن صحيفة الأعمال، وقضية الثواب والعقاب المترتب على نتيجة الجزاء.

ثالثاً: تتحدَّث السورة في بدايتها ونهايتها عن قسم من تاريخ بني إِسرائيل المليء بالأحداث.

رابعاً: تتعرض السورة إلى حرية الاختيار لدى الإِنسان، وأنَّ الإِنسان غير مجبر في أعماله، وبالتالي فإِنّ على الإِنسان أن يتحمل مسؤولية تلك الحرية من خلال تحمله لمسؤولية أعماله، سواء كانت حسنة أم سيئة.

خامساً: تبحث السورة قضية الحساب والكتاب في هذه الدنيا، لكي يعي الإِنسان قضية الحساب والكتاب على أعماله وأقواله في اليوم الآخر.

سادساً: تشير إلى الحقوق في المستويات المختلفة، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الأقرباء، وبالأخص منهم الأم والأب!

سابعاً: تتعرض السورة إلى حرمة «الإِسراف»، و«التبذير»، و«البخل»، و«قتل الأبناء»، و«الزنا»، و«أكل مال اليتيم»، و«البخس في المكيال»، و«التكبُّر»، و«إِراقة الدماء».

ثامناً: في السورة بحوث حول التوحيد ومعرفة اللّه تعالى.

تاسعاً: تواجه السورة مواقف العناد المكابرة إزاء الحق، وأنّ الذنوب تتحوَّل إلى حُجُب تمنع الإِنسان من رؤية الحق.

عاشراً: تركز السورة على أفضلية الإِنسان على سائر الموجودات.

أحد عشر: تؤكّد السورة على تأثير القرآن الكريم في معالجة الأشكال المختلفة من الأمراض الأخلاقية والاجتماعية.

ثاني عشر: تبحث السّورة في المعجزة القرآنية، وعدم تمكن الخصوم وعجزهم عن مواجهة هذه المعجزة.

ثالث عشر: تحذّر السورة المؤمنين مِن وساوس الشيطان وإِغواءاته، وتنبههم إلى المسالك التي ينفذ من خلالها إلى شخصية المؤمن.

رابع عشر: تتعرض السورة إلى مجموعة مختلفة من القضايا والمفاهيم والتعاليم الأخلاقية.

خامس عشر: أخيراً تتعرض السورة إلى مقاطع من قصص الأنبياء (عليهم السلام) ليتسنى للإِنسان استكناه الدروس والعبر من هذه القصص.

في كل الأحوال تعكس سورة الإِسراء في مضمونها ومحتواها العقائدي والأخلاقي والاجتماعي، لوحة متكاملة ومتناسقة لسمو وتكامل البشر في المجالات المختلفة...

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{سبحان}، يعني: عجب،

{الذي أسرى بعبده} يعني: النبي صلى الله عليه وسلم،

{ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، يعني: بيت المقدس، قبل الهجرة بسنة...

{الذي باركنا حوله}، يعني: بالبركة الماء، والشجر، والخير،

{لنريه من ءاياتنا}، فكان مما رأى من الآيات: البُراق، والرجال، والملائكة، وصلى بالنبيين تلك.

{إنه هو السميع البصير}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله تعالى:"سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بعَبْدِه لَيْلاً" تنزيها للذي أسرى بعبده وتبرئة له مما يقول فيه المشركون من أنّ له من خلقه شريكا، وأن له صاحبة وولدا، وعلوّا له وتعظيما عما أضافوه إليه، ونسبوه من جهالاتهم وخطأ أقوالهم...

وللعرب في التسبيح أماكن تستعمله فيها. فمنها الصلاة، كان كثير من أهل التأويل يتأوّلون قول الله: "فَلَوْلا أنّهُ كانَ مِنَ المُسَبّحِينَ": فلولا أنه كان من المصلين. ومنها الاستثناء، كان بعضهم يتأول قول الله تعالى: "ألَمْ أقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبّحُونَ": لولا تستثنون... ومنها النور، وكان بعضهم يتأوّل في الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلا ذلكَ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما أدْرَكَتْ مِنْ شَيْء» أنه عنى بقوله: سبحات وجهه: نور وجهه...

والإسراء والسّرى: سير الليل. فمن قال: أَسْرى، قال: يُسري إسراء ومن قال: سرى، قال: يَسري سُرَىً...

ويعني بقوله: "لَيْلاً": من الليل. وكذلك كان حُذيفة بن اليمان يقرأها...

وأما قوله: "مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ "فإنه اختُلف فيه وفي معناه؛ فقال بعضهم: يعني من الحرم، وقال: الحرم كله مسجد. وقد بيّنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا. وقال: وقد ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ليلة أُسري به إلى المسجد الأقصى كان نائما في بيت أمّ هانىء ابنة أبي طالب...

وقال آخرون: بل أُسرى به من المسجد، وفيه كان حين أسرى به...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام، والمسجد الحرام هو الذي يتعارفه الناس بينهم إذا ذكروه. وقوله: "إلى المَسْجِدِ الأقْصَى" يعني: مسجد بيت المقدس، وقيل له: الأقصى، لأنه أبعد المساجد التي تزار، ويُبتَغى في زيارته الفضل بعد المسجد الحرام. فتأويل الكلام: تنزيها لله، وتبرئة له مما نحله المشركون من الإشراك والأنداد والصاحبة، وما يجلّ عنه جلّ جلاله، الذي سار بعبده ليلاً من بيته الحرام إلى بيته الأقصى.

ثم اختلف أهل العلم في صفة إسراء الله تبارك وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛

فقال بعضهم: أسرى الله بجسده، فسار به ليلاً على البُراق من بيته الحرام إلى بيته الأقصى حتى أتاه، فأراه ما شاء أن يريه من عجائب أمره وعبره وعظيم سُلطانه، فجمعت له به الأنبياء، فصلى بهم هُنالك، وعَرج به إلى السماء حتى صعد به فوق السموات السبع، وأوحى إليه هنالك ما شاء أن يوحي ثم رجع إلى المسجد الحرام من ليلته، فصلى به صلاة الصبح....

وقال آخرون: بل أسري بروحه، ولم يسر بجسده... والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله حمله على البراق حين أتاه به، وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات، ولا معنى لقول من قال: أسرى بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون ذلك دليلاً على نبوّته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك، وكانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكرا عندهم، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقلّ؟ وبعد، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، وليس جائزا لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره. فإن ظنّ ظانّ أن ذلك جائز، إذ كانت العرب تفعل ذلك في كلامها... فإن العرب تفعل ذلك فيما كان مفهوما مراد المتكلم منهم به من الكلام. فأما فيما لا دلالة عليه إلا بظهوره، ولا يوصل إلى معرفة مراد المتكلّم إلا ببيانه، فإنها لا تحذف ذلك ولا دلالة تدلّ على أن مراد الله من قوله: أسْرَى بِعَبْدِهِ أسرى بروح عبده، بل الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به على دابة يُقال لها البراق ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدوابّ لا تحمل إلا الأجسام. إلا أن يقول قائل: إن معنى قولنا: أسرى بروحه: رأى في المنام أنه أسرى بجسده على البراق، فيكذب حينئذٍ بمعنى الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن جبرئيل حمله على البراق، لأن ذلك إذا كان مناما على قول قائل هذا القول، ولم تكن الروح عنده مما تركب الدوابّ، ولم يحمل على البراق جسم النبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم على قوله حُمل على البراق لا جسمه، ولا شيء منه، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين، وذلك دفع لظاهر التنزيل، وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الآثار عن الأئمة من الصحابة والتابعين.

وقوله: "الّذِي باركْنا حَوْلَهُ" يقول تعالى ذكره: الذي جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم.

وقوله: "لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا" يقول تعالى ذكره: كي نري عبدنا محمدا من آياتنا، يقول: من عبرنا وأدلتنا وحججنا، وذلك هو ما قد ذكرت في الأخبار التي رويتها آنفا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريه في طريقه إلى بيت المقدس، وبعد مصيره إليه من عجائب العبر والمواعظ...

وقوله: "إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ" يقول تعالى ذكره: إن الذي أسرى بعبده هو "السميع" لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في مسرى محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ولغير ذلك من قولهم وقول غيرهم، "البصير" بما يعملون من الأعمال، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولا يعزب عنه علم شيء منه، بل هو محيط بجميعه علما، ومحصيه عددا، وهو لهم بالمرصاد، ليجزي جميعهم بما هم أهله.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} سبحان كلمة إجلال الله عن الأكفاء وتنزيهه عن الشركاء وتبرئته عما قالت المعطلة فيه، وظنت الملاحدة به من الولد والحاجات والآفات وجميع معاني الخلق...

ومعنى قوله: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} هو، والله أعلم، كأنه ذكر أن من قدر على أن يسري بعبده ليلا مسيرة شهر يقدر على إحياء الموتى بعد الموت، ويملك حفظ رسوله والنصر له وإظهار آيات نبوته ورسالته وقطع حيل المكذبين له والمخالفين...

{الذي باركنا حوله} قيل: سماه مباركا لكثرة أنزاله وخيراته وسعته. وقيل: سماه مباركا لأنه مكان الأنبياء ومقامهم، فبورك فيه ببركتهم ويمنهم، والله أعلم...

{لنريه من آياتنا} أي لنريه من آياتنا الحسية بعد ما أريناه الآيات العقلية؛ لأن الآيات الحسية أكبر في قطع الشبهة ورفع الوساوس من العقلية، إذ لا يشك أحد في ما كان سبيل معرفته الحس والعيان، وقد تعترض الشبه والوساوس في العقليات لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو، فأحب عز وجل أن يري رسوله آيات حسية تضطر المتعنتين إلى قبولها والإيمان والإقرار له أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما يعلمون أن ما كان يخبرهم من أخبار حين قال: إنه رأى عير فلان وأمورا يعلمون أنه لا يقول إلا عن مشاهدة وعيان،...

{إنه هو السميع البصير} أي من قدر على ما ذكر لا يحتمل أن يخفى عليه شيء من قول أو عمل. ثم روي من الأخبار، وأنه عرج إلى السماء حتى رأى إخوانه الأنبياء الماضين قبله وما ذكر فيها. فنحن نقول ما قال الصديق، رضوان الله تعالى عليه، إن كان قال ذلك فأنا أشهد على ذلك، وإلا نقول على مقدار ما في الآية: إنه أسري به إلى البيت المقدس المسجد الأقصى، ولا نزيد عليه، لأنه من أخبار الآحاد فلا تسع الشهادة له...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

فكان ذلك معجزة له باهرة، ودلالة واضحة لولا العناد، وكان نفس الإسراء حجة له صلى الله عليه وسلم لا أنه يحتاج إلى دلالة كغيره، ولذلك قال تعالى "لنريه من آياتنا "فكان الإسراء من جملة الآيات التي تأكد بها يقينه وازدادت به بصيرته، لأنه كان قد علم نبوته بما تقدم له من الآيات، فكان هذا على وجه التأكيد لذلك.

وكان ذلك في يقظته دون منامه، والذي يشهد به القرآن الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والباقي يعلم بالخبر.

"الذي باركنا حوله" يعني بالثمار ومجاري الأنهار، وقيل "باركنا" حوله بمن جعلنا حوله من الانبياء والصالحين، ولذلك جعله مقدسا. "لنريه من آياتنا" من العجائب التي فيها اعتبار. وروي أنه كان رأى الأنبياء حتى وصفهم واحدا واحدا.

"إنه هو السميع البصير"...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

افتتح السورةَ بِذِكْرِ الثناء على نَفْسه فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي} [الإسراء:1]: الحقُّ سبَّحَ نَفْسَه بعزيزِ خطابِه، وأخبر عن استحقاقه لجلال قَدْرِه، وعن توحُّده بعلوِّ نُعُوتِه. ولمَّا أراد أَنْ يَعْرفَ العبِادُ [لعله سقط هنا الاسم الموصول "ما"] خَصَّ به رسولَه -صلى الله عليه وسلم- ليلةَ المعراجِ من عُلوٍّ ما رقَّاه إليه، وعِظَمِ ما لَقَّاه به أَزالَ الأعُجوبةَ بقوله: {أَسْرَى}، ونفى عن نبيِّه خَطَرَ الإعجاب بقوله: {بِعَبْدِهِ}؛ لأَنَّ مَنْ عَرَفَ ألوهيته، واستحقاقَه لكمالِ العِزِّ فلا يُتَعَجَّبُ منه أن يفعل ما يفعل، ومَنْ عرف عبوديةَ نَفْسِه، وأَنَّه لا يَمْلِكُ شيئاً من أمره فلا يُعْجَبُ بحاله. فالآية أوضحت شيئين اثنين: نَفي التعجَّبِ من إظهارِ فِعْلِ اللَّهِ عزَّ وجل، ونفي الإعجاب في وصف رسول الله عليه السلام...

ويقال أخبر عن موسى عليه السلام -حين أكرمه بإسماعه كلامه من غير واسطة- فقال: {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:143]، وأخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وليس مَنْ جاءَ بنفْسِه كمنْ أَسْرَى به ربُّه، فهذا مُحتَمَلٌ وهذا محمول... هذا مُرِيدٌ وهذا مُرَادٌ. ويقال جعل المعراجَ بالليل عند غَفْلَةِ الرُّقَبَاءِ وغَيْبَةِ الأجانب، ومن غير ميعاد، ومن غير تقديم أُهْبَةٍ واستعداد، كما قيل: ويقال جعل المعراجَ بالليل ليُظْهرَ تصديقَ مَنْ صَدَّقَ، وتكذيبَ مَنْ تعجَّب وكَذّبَ أو أنكر وجحد. ويقال لما كان تعبُّدهُ صلى الله عليه وسلم وتهجُّدُه بالليل جَعَلَ الحقُّ سبحانه المعراجَ بالليلِ...

{لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَآتِنَا}:... ويقال من الآيات التي أراها له تلك الليلة أنه ليس كمثله -سبحانه- شيءٌ في جلالهِ وجماله، وعِزِّه وكبريائه، ومجده وسنائه. ثم أراه من آياته تلك الليلة ما عَرَفَ به صلوات الله عليه -أنه ليس أحدٌ من الخلائق مثْلَه في نبوته ورسالته وعلوِّ حالته وجلال رتبته...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{سُبْحَانَ} علم للتسبيح... دل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله...

فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل؟ قلت: أراد بقوله {لَيْلاً} بلفظ التنكير: تقليل مدّة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشأم مسيرة أربعين ليلة، وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية. ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة: «من الليل»، أي بعض الليل، كقوله {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [الإسراء: 79] يعني الأمر بالقيام في بعض الليل. واختلف في المكان الذي أسرى منه فقيل: هو المسجد الحرام بعينه، وهو الظاهر... والمسجد الأقصى: بيت المقدس، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد. {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} يريد بركات الدين والدنيا، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده، وهو محمد عليه السلام... ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النقاش عمن رواه عشرين صحابياً، فروى جمهور الصحابة وتلقى جل العلماء منهم أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه... وقالت عائشة ومعاوية إنما أسري بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارق شخصه مضجعه وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق من ربه عز وجل، وجوزه الحسن وابن إسحاق، والحديث... مطول في البخاري ومسلم وغيرهما، فلذلك اختصرنا نصه في هذا الباب، وركوب البراق على قول هؤلاء يكون من جملة ما رأى في النوم، قال ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن في كتاب الطبري: البراق هو دابة إبراهيم الذي كان يزور عليه البيت الحرام.

يريد أن يجيء من يومه ويرجع وذلك من مسكنه بالشام، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع ولا فضل أبو بكر بالتصديق، ولا قالت له أم هاني: لا تحدث الناس بهذا فيكذبوك إلى غير هذا من الدلائل، واحتج لقول عائشة بقوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} [الإسراء: 60]، ويحتمل القول الآخر لأنه يقال لرؤية العين رؤيا، واحتج أيضاً بأن في بعض الأحاديث: فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وهذا محتمل أن يريد من الإسراء إلى نوم، واعترض قول عائشة بأنها كانت صغيرة لم تشاهد ولا حدثت عن النبي عليه السلام، وأما معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال صغيراً، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

{أَسْرَى بِعَبْدِهِ}: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ كَانَ لِلنَّبِيِّ اسْمٌ أَشْرَفَ مِنْهُ لَسَمَّاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَلِيَّةِ بِهِ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ: لَمَّا رَفَعَهُ إلَى حَضْرَتِهِ السَّنِيَّةِ، وَأَرْقَاهُ فَوْقَ الْكَوَاكِبِ الْعُلْوِيَّةِ، أَلْزَمهُ اسْمَ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ، تَوَاضُعًا لِلْإِلَهِيَّةِ.

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

... وفائدة ذكر المسجد الأقصى فقط أنه صلى الله عليه وسلم لو أخبر بصعوده إلى السماء أولاً لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسرى به إلى بيت المقدس، وبان لهم صدقه فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بعروجه إلى السماء، فجعل الإسراء إلى المسجد الأقصى كالتوطئة لمعراجه إلى السماء كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة يقال كانت في رجب ويقال في رمضان

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

وكان الإسراء فيما قال مقاتِلٌ وقتادةُ: قبل الهجرة بعامٍ، وقيل: بعام ونصفٍ، والمتحقِّق أن ذلك كان بَعْدَ شَقِّ الصحيفة، وقبل بيعة العقبة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وقصة الإسراء -ومعها قصة المعراج- إذ كانتا في ليلة واحدة -الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس. والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا.. هذه القصة جاءت فيها روايات شتى؛ وثار حولها جدل كثير. ولا يزال إلى اليوم يثور...

والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ترك فراشه في بيت أم هانى ء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج. ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد.

على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم] والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم، وبين أن تكون رؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة.. المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة؛ ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول [صلى الله عليه وسلم] عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة.. والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعية شيئا. فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة، حسب ما اعتاده وما رآه. والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله. أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى- على غير قياس أو عادة لبقية البشر -وهذه التجلية لمكان بعيد، أو عالم بعيد؛ والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه. وقد صدق أبو بكر- رضي الله عنه -وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول: إني لأصدقه بأبعد من ذلك. أصدقه بخير السماء!

ومما يلاحظ- بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] لم يسمع لتخوف أم هانى ء -رضي الله عنها- من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة. فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به، والحق الذي وقع له جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه. وقد ارتد بعضهم فعلا، واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك. ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول [صلى الله عليه وسلم] عن الجهر بالحق الذي آمن به.. وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس، ولا يتملقون به القوم، ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال.

كذلك يلاحظ أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق -وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل- ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة، المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها. فلم يكن جهر الرسول [صلى الله عليه وسلم] بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته. إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة:

والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)..

تبدأ السورة بتسبيح الله، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء.

وتذكر صفة العبودية: (أسرى بعبده) لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر؛ وذلك كي لا تنسى هذه الصفة، ولا يلتبس مقام العبودية، بمقام الألوهية، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام، بسبب ما لابس مولده ووفاته، وبسبب الآيات التي أعطيت له، فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية.. وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة، من قريب أو من بعيد.

والإسراء من السرى: السير ليلا. فكلم (أسرى) تحمل معها زمانها. ولا تحتاج إلى ذكره. ولكن السياق ينص على الليل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) للتظليل والتصوير -على طريقة القرآن الكريم- فيلقي ظل الليل الساكن، ويخيم جوه الساجي على النفس، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها.

والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا. وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعا. فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان؛ وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى.

ووصف المسجد الأقصى بأنه (الذي باركنا حوله) وصف يرسم البركة حافة بالمسجد، فائضة عليه. وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل: باركناه. أو باركنا فيه. وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب.

والإسراء آية صاحبتها آيات: (لنريه من آياتنا) والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التي لم يبرد فيها فراش الرسول [صلى الله عليه وسلم] أيا كانت صورتها وكيفيتها.. آية من آيات الله، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود؛ وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري، والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه، وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة.. (إنه هو السميع البصير).. يسمع ويرى كل ما لطف ودق، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار.

والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا إلى صيغة التقرير من الله: (لنريه من آياتنا) إلى صيغة الوصف لله: (إنه هو السميع البصير) وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس. فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه. وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصا. والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية. وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الافتتاح بكلمة التسبيح من دون سبق كلام مُتضمّنٍ ما يَجب تنزيه الله عنه يؤذن بأن خبراً عجيباً يستقبله السامعون دالاً على عظيم القدرة من المتكلم ورفيع منزلة المتحدث عنه.

فإن جملة التسبيح في الكلام الذي لم يقع فيه ما يوهم تشبيهاً أو تنقيصاً لا يليقان بجلال الله تعالى مثل {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافّات: 180] يتعين أن تكون مستعملة في أكثر من التنزيه، وذلك هو التعجيب من الخبر المتحدث به كقوله {قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور: 16]...

ولما كان هذا الكلام من جانب الله تعالى والتسبيح صادراً منه كان المعنى تعجيب السامعين، لأن التعجب مستحيلة حقيقته على الله لا لأن ذلك لا يلتفت إليه في محامل الكلام البليغ لإمكان الرجوع إلى التمثيل، مثل مجيء الرجاء في كلامه تعالى نحو {لعلكم تفلحون} [البقرة: 189]، بل لأنه لا يستقيم تعجب المتكلم من فعل نفسه، فيكون معنى التعجيب فيه من قبيل قولهم أتعجب من قول فلان كيْت وكيْت.

ووجه هذا الاستعمال أن الأصل أن يكون التسبيح عند ظهور ما يدل على إبطال ما لا يليق بالله تعالى. ولما كان ظهور ما يدل على عظيم القدرة مزيلاً للشك في قدرة الله وللإشراك به كان من شأنه أن يُنطق المتأمل بتسبيح الله تعالى، أي تنزيهه عن العجز.

وأصل صيغ التسبيح هو كلمة {سبحان الله} التي نُحت منها السبحلة. ووقع التصرف في صيغها بالإضمار نحو سبحانَك وسبحانه، وبالموصول نحو {سبحان الذي خلق الأزواج كلها} [يس: 36] ومنه هذه الآية.

والتعبير عن الذات العلية بطريق الموصول دون الاسم العلم للتنبيه على ما تفيده صلة الموصول من الإيماء إلى وجه هذا التعجيب والتنويه وسببه، وهو ذلك الحادث العظيم والعناية الكبرى. ويفيد أن حديث الإسراء أمر فَشا بين القوم، فقد آمن به المسلمون وأكبَره المشركون.

وفي ذلك إدماج لرفعة قدر محمد وإثباتُ أنه رسول من الله، وأنه أوتي من دلائل صدق دعوته ما لا قِبل لهم بإنكاره، فقد كان إسراءه إطلاعاً له على غائب من الأرض، وهو أفضل مكان بعد المسجد الحرام.

و {أسرى} لغة في سَرَى، بمعنى سار في الليل، فالهمزة هنا ليست للتعدية لأن التعدية حاصلة بالباء، بل أسرى فعل مفتح بالهمزة مرادف سَرى، وهو مثل أبان المرادف بَان، ومثل أنهج الثوبُ بمعنى نَهَجَ أي بلِيَ، ف {أسرى بعبده} بمنزلة {ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17].

وللمبرد والسهيلي نكتة في التفرقة بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء بأن الثانية أبلغ لأنها في أصل الوضع تقتضي مشاركة الفاعل المفعولَ في الفعل، فأصل (ذهب به) أنه استصحبه، كما قال تعالى: {وسار بأهله} [القصص: 29]. وقالت العرب: أشبعهم شتماً، ورَاحوا بالإبل. وفي هذا لطيفة تناسب المقام هنا إذ قال {أسرى بعبده} دون سرى بعبْدَه، وهي التلويح إلى أن الله تعالى كان مع رسوله في إسرائه بعنايتهِ وتوفيقه، كما قال تعالى {فإنك بأعيننا} [الطور: 48]، وقال: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة: 40].

فالمعنى: الذي جعل عبده مُسرياً، أي سارياً، وهو كقوله تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} [هود: 81].

وإذ قد كان السُرى خاصاً بسير الليل كان قوله: {ليلاً} إشارة إلى أن السير به إلى المسجد الأقصى كان في جُزء ليلة، وإلا لم يَكن ذكره إلا تأكيداً، على أن الإفادة كما يقولون خير من الإعادة.

وفي ذلك إيماء إلى أنه أسراء خارق للعادة لقطع المسافة التي بين مبدأ السير ونهايته في بعض ليلة، وأيضاً ليتوسل بذكر الليل إلى تنكيره المفيد للتعظيم.

فتنكير {ليلاً} للتعظيم، بقرينة الاعتناء بذكره مع علمه من فعل {أسرى}، وبقرينة عدم تعريفه، أي هو ليل عظيم باعتبار جعله زمناً لذلك السرى العظيم، فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم. ألا ترى كيف احْتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغة خاصة في قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 1 2] إذ وقعت ليلة القدر غير منكرة.

و (عَبْد) المضاف إلى ضمير الجلالة هنا هو محمد كما هو مصطلح القرآن، فإنه لم يقع فيه لفظ العبد مضافاً إلى ضمير الغيبة الراجع إلى الله تعالى إلا مراداً به النبي؛ ولأن خبر الإسراء به إلى بيت المقدس قد شاع بين المسلمين وشاع إنكاره بين المشركين، فصار المراد {بعبده} معلوماً.

والإضافة إضافة تشريف لا إضافة تعريف لأن وصف العبودية لله متحقق لسائر المخلوقات فلا تفيد إضافته تعريفاً.

والمسجد الحرام هو الكعبة والفِناء المحيط بالكعبة بمكة المتخذ للعبادة المتعلقة بالكعبة من طواف بها واعتكاف عندها وصلاة.

وأصل المسجد: أنه اسم مكان السجود. وأصل الحرام: الأمر الممنوع، لأنه مشتق من الحَرْم بفتح فسكون وهو المنع، وهو يرادف الحرم. فوصف الشيء بالحرام يكون بمعنى أنه ممنوع استعماله استعمالاً يناسبه، نحو {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] أي أكل الميتة...

ويكون بمعنى الممنوع من أن يعمل فيه عمل ما. ويبين بذكر المتعلق الذي يتعلق به. وقد لا يذكر متعلّقة إذا دل عليه العرف، ومنه قولهم: {الشهر الحرام} [البقرة: 194] أي الحرام فيه القتال في عرفهم. وقد يحذف المتعلق لقصد التكثير، فهو من الحذف للتعميم فيَرجع إلى العموم العرفي، ففي نحو {البيت الحرام} [المائدة: 2] يراد الممنوع من عُدوان المعتدين، وغزوِ الملوك والفاتحين، وعملِ الظلم والسوءِ فيه.

والحرام: فَعال بمعنى مفعول، كقولهم: امرأة حَصان، أي ممنوعة بعفافها عن الناس.

فالمسجد الحرام هو المكان المعد للسجود، أي للصلاة، وهو الكعبة والفناء المجعول حرماً لها. وهو يختلف سعة وضيقاً باختلاف العصور من كثرة الناس فيه للطواف والاعتكاف والصلاة.

وقد بنى قريش في زمن الجاهلية بيوتهم حول المسجد الحرام. وجعل قُصي بقربه دارَ الندوة لقريش وكانوا يجلسون فيها حول الكعبة، فانحصر لما أحاطت به بيوت عشائر قريش. وكانت كل عشيرة تتخذ بيوتها متجاورة. ومجموع البيوت يسمى شِعباً بكسر الشين. وكانت كل عشيرة تسلك إلى المسجد الحرام من منفذ دُورها، ولم يكن للمسجد الحرام جدار يُحفظ به. وكانت المسالك التي بين دُور العشائر تسمى أبواباً لأنها يسلك منها إلى المسجد الحرام، مثل باب بني شيبة، وباب بني هاشم، وباب بني مخزوم وهو باب الصفا، وباب بني سهم، وباب بني تيم. وربما عُرِف بعض الأبواب بجهة تقرب منه مثل بَاب الصفا ويسمى باب بني مخزوم. وباب الحزورة سمي بمكان كانت به سوق لأهل مكة تسمى الحَزْورة. ولا أدري هل كانت أبواباً تغلق أم كانت منافذ في الفضاء فإن الباب يطلق على ما بين حاجزين.

وأول من جعل للمسجد الحرام جداراً يُحفظ به هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبعَ عشرة من الهجرة.

ولُقب بالمسجد لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعله لإقامة الصلاة في الكعبة كما حكى الله عنه {ربنا ليقيموا الصلاة} [إبراهيم: 37]. ولما انقرضت الحنيفية وترك أهل الجاهلية الصلاة تناسوا وصفهُ بالمسجد الحرام فصاروا يقولون: البيت الحرام. وأما قول عمر: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فإنه عبر عنه باسمه في الإسلام.

فغلبَ عليه هذا التعريف التوصيفي فصار له علماً بالغلبة في اصطلاح القرآن. ولا أعرف أنه كان يعرف في الجاهلية بهذا الاسم، ولا على مسجد بيت المقدس في عصر تحريمه عند بَني إسرائيل. وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} في [البقرة: 144]، وعند قوله تعالى: {أن صدوكم عن المسجد الحرام} في أول العقود [المائدة: 2].

وعلميته بمجموع الوصف والموصوف وكلاهما معَرّف باللام. فالجزء الأول مثل النجم والجزء الثاني مثل الصعِق، فحصل التعريف بمجموعهما، ولم يعد النحاةُ هذا النوع في أقسام العلم بالغلبة. ولعلهم اعتبروه راجعاً إلى المعرف باللام. ولا بد من عده لأن علميته صارت بالأمرين.

والمسجد الأقصى هو المسجد المعروف ببيتِ المقدِس الكائن بإيلياء، وهو المسجد الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام.

والأقصى، أي الأبعد. والمراد بعده عن مكة، بقرينة جعله نهاية الإسراء من المسجد الحرام، وهو وصف كاشف اقتضاه هنا زيادة التنبيه على معجزة هذا الإسراء وكونه خارقاً للعادة لكونه قطْعَ مسافة طويلة في بعض ليلة.

وبهذا الوصف الوارد له في القرآن صار مجموع الوصف والموصوف علماً بالغلبة على مسجد بيت المقدس كما كان المسجد الحرام علماً بالغلبة على مسجد مكة. وأحسب أن هذا العلم له من مبتكرات القرآن فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المراد منه أنه مسجد إيلياء. ولم يكن مسجد لدين إلهي غيرهما يومئذٍ.

وفي هذا الوصف بصيغة التفضيل باعتبار أصل وضعها معجزةٌ خفية من معجزات القرآن إيماء إلى أنه سيكون بين المسجدين مسجد عظيم هو مسجد طيبة الذي هو قَصِيٌ عن المسجد الحرام، فيكون مسجد بيت المقدس أقصى منه حينئذٍ.

فتكون الآية مشيرة إلى جميع المساجد الثلاثة المفضلة في الإسلام على جميع المساجد الإسلامية، والتي بينها قول النبي:"لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي".

وفائدة ذكر مبدأ الإسراء ونهايته بقوله: {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} أمران:

أحدهما: التنصيص على قطع المسافة العظمية في جزء ليلة، لأن كلا من الظرف وهو {ليلاً} ومن المجرورين {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} قد تعلق بفعل {أسرى}، فهو تعلق يقتضي المقارنة، ليعلم أنه من قبيل المعجزات.

وثانيهما: الإيماء إلى أن الله تعالى يجعل هذا الإسراء رمزاً إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الصادر من المسجد الحرام إلى ما تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة أيضاً؛ فقد صدرت الحنيفية من المسجد الحرام وتفرعت في المسجد الأقصى. ثم عادت إلى المسجد الحرام كما عاد الإسراء إلى مكة لأن كل سُرى يعقبه تأويب. وبذلك حصل رد العجز على الصدر.

ومن هنا يظهر مناسبة نزول التشريع الاجماعي في هذه السورة في الآيات المفتتحة بقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، ففيها: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}، {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}، {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم} [الإسراء: 23 35] إيماء إلى أن هذا الدين سيكون ديناً يحكم في الناس وتنفذ أحكامه.

والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد بناه إبراهيم عليه السلام كما ورد ذلك عن النبي. ففي « الصحيحين» عن أبي ذر قال: قلتُ يا رسول الله أي مسجد وُضع في الأرض أولُ؟ قال المسجدُ الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت كمْ بينهما؟ قال أربعون سنة».

فهذا الخبر قد بين أن المسجد الأقصى من بناء إبراهيم لأنه حُدد بمدة هي من مدة حياة إبراهيم عليه السلام. وقد قُرن ذكره بذكر المسجد الحرام.

وهذا مما أهملَ أهل الكتاب ذكره.

وهو مما خَصّ الله نبيئه بمعرفته...

فتسمية ذلك المكان بالمسجد الأقصى في القرآن تسمية قرآنية اعتبر فيها ما كان عليه من قبل لأن، حكم المسجدية لا ينقطع عن أرض المسجد. فالتسمية باعتبار ما كان، وهي إشارة خفية إلى أنه سيكون مسجداً بأكمل حقيقة المساجد.

واستقبله المسلمون في الصلاة من وقت وجوبها المقارن ليلة الإسراء إلى ما بعد الهجرة بستة عشر شهراً. ثم نسخ استقباله وصارت الكعبة هي القبلة الإسلامية...

وقوله {الذي باركنا حوله} صفة للمسجد الأقصى. وجيء في الصفة بالموصولية لقصد تشهير الموصوف بمضمون الصلة حتى كأن الموصوف مشتهر بالصلة عند السامعين. والمقصود إفادة أنه مبارك حوله.

وصيغة المفاعلة هنا للمبالغة في تكثير الفعل، مثل عافاك الله.

والبركة: نماء الخير والفضل في الدنيا والآخرة بوفرة الثواب للمصلين فيه وبإجابة دعاء الداعين فيه. وقد تقدم ذكر البركة عند قوله تعالى: {مباركاً وهدى للعالمين} في [آل عمران: 96].

وقد وصف المسجد الحرام بمثل هذا في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين} [آل عمران: 96].

ووجه الاقتصار على وصف المسجد الأقصى في هذه الآية بذكر هذا التبريك أن شهرة المسجد الحرام بالبركة وبكونه مقام إبراهيم معلومة للعرب؛ وأما المسجد الأقصى فقد تناسى الناس ذلك كله، فالعرب لا علم لهم به والنصارى عفوا أثره من كراهيتهم لليهود، واليهود قد ابتعدوا عنه وأيسوا من عوده إليهم، فاحتيج إلى الإعلام ببركته.

و حولَ يدل على مكان قريب من مكان اسم ما أضيف (حولَ) إليه.

وكونُ البركة حولَه كنايةٌ عن حصول البركة فيه بالأوْلى، لأنها إذا حصلت حوله فقد تجاوزت ما فيه؛ ففيه لطيفة التلازم، ولطيفة فحوَى الخطاب، ولطيفة المبالغة بالتكثير...

وأسباب بركة المسجد الأقصى كثيرة كما أشارت إليه كلمة {حوله}. منها أن واضعه إبراهيم عليه السلام، ومنها ما لحقه من البركة بمن صلى به من الأنبياء من داوود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل، ثم بحلول الرسول عيسى عليه السلام وإعلانه الدعوة إلى الله فيه وفيما حوله، ومنها بركة من دُفن حوله من الأنبياء، فقد ثبت أن قبري داوود وسليمان حول المسجد الأقصى. وأعظم تلك البركات حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذلك الحلول الخارق للعادة، وصلاته فيه بالأنبياء كلهم.

وقوله: {لنريه من آياتنا} تعليل الإسراء بإرادة إراءة الآيات الربانية، تعليلٌ ببعض الحِكَم التي لأجلها منح الله نبيئه منحة الإسراء، فإن للإسراء حِكماً جمة تتضح من حديث الإسراء المروي في « الصحيح». وأهمها وأجمعها إراءته من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ورحمته، أي لنريه من الآيات فيخبرهم بما سألوه عن وصف المسجد الأقصى.

ولام التعليل لا تفيد حصر الغرض من متعلقها في مدخولها.

وإنما اقتُصر في التعليل على إراءة الآيات لأن تلك العلة أعلق بتكريم المُسرَى به والعناية بشأنه، لأن إراءة الآيات تزيد يقين الرائي بوجودها الحاصل من قبل الرؤية. قال تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} [الأنعام: 75].

فإن فطرة الله جعلت إدراك المحسوسات أثبت من إدراك المدلولات البرهانية. قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]، ولذلك لم يقل الله بعد هذا التعليل أو لم يطمئن قلبك، لأن اطمئنان القلب مُتَّسِعُ المدى لا حد له فقد أنطق الله إبراهيم عن حكمة نبوءة، وقد بادر محمداً بإراءة الآيات قبل أن يسأله إياها توفيراً في الفضل...

واعلم أن تقوية يقين الأنبياء من الحكم الإلهية لأنهم بمقدار قوة اليقين يزيدون ارتقاء على درجة مستوى البشر والتحاقاً بعلوم عالم الحقائق ومساواة في هذا المضمار لمراتب الملائكة.

وفي تغيير الأسلوب من الغيبة التي في اسم الموصول وضميريه إلى التكلم في قوله: باركنا... ولنُريه من آياتنا سلوكٌ لطريقة الالتفات المتبعة كثيراً في كلام البلغاء. وقد مضى الكلام على ذلك في قوله تعالى: {إياك نعبد} في [الفاتحة: 5].

والالتفات هنا امتاز بلطائف:

منها: أنه لما استُحضرت الذات العلية بجملة التسبيح وجملة الموصولية صار مقام الغيبة مقام مشاهدة فناسب أن يغير الإضمار إلى ضمائر المشاهدة وهو مقام التكلم.

ومنها: الإيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام عند حلوله بالمسجد الأقصى قد انتقل من مقام الاستدلال على عالم الغيب إلى مقام مصيره في عالم المشاهدة.

ومنها: التوطئة والتمهيد إلى محمل معاد الضمير في قوله: {إنه هو السميع البصير}، فيتبادر عود ذلك الضمير إلى غير من عاد إليه ضمير {نريه} لأن الشأن تناسق الضمائر، ولأن العود إلى الالتفات بالقرب ليس من الأحسن.

فقوله: {إنه هو السميع البصير}...