المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

230- فإن طلق الزوج امرأته مرة ثالثة بعد التطليقتين السابقتين فلا تحل له حينئذ إلا بعد أن تتزوج زوجاً غيره ويدخل بها ، فإن طلقها من بعد ذلك الزوجُ الثاني وصارت أهلاً لأن يعقد عليها عقداً جديداً فلا إثم عليها ولا على زوجها الأول في أن يستأنفا حياة زوجية جديدة بعقد جديد ، وعليهما أن يعتزما إقامة حياة زوجية صالحة تراعى فيها كل الأحكام الشرعية التي حددها الله سبحانه وتعالى ، وقد بُيِّنَتْ هذه الحدود لمن يؤمن بالشرع الإسلامي ويريد العلم والعمل به .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

{ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

يقول تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي : الطلقة الثالثة { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي : نكاحا صحيحا ويطؤها ، لأن النكاح الشرعي لا يكون إلا صحيحا ، ويدخل فيه العقد والوطء ، وهذا بالاتفاق .

ويشترط{[143]}  أن يكون نكاح الثاني ، نكاح رغبة ، فإن قصد به تحليلها للأول ، فليس بنكاح ، ولا يفيد التحليل ، ولا يفيد وطء السيد ، لأنه ليس بزوج ، فإذا تزوجها الثاني راغبا ووطئها ، ثم فارقها وانقضت عدتها { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي : على الزوج الأول والزوجة { أَنْ يَتَرَاجَعَا } أي : يجددا عقدا جديدا بينهما ، لإضافته التراجع إليهما ، فدل على اعتبار التراضي .

ولكن يشترط في التراجع أن يظنا { أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } بأن يقوم كل منهما ، بحق صاحبه ، وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة للفراق ، وعزما أن يبدلاها بعشرة حسنة ، فهنا لا جناح عليهما في التراجع .

ومفهوم الآية الكريمة ، أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله ، بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية ، والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحا ، لأن جميع الأمور ، إن لم يقم فيها أمر الله ، ويسلك بها طاعته ، لم يحل الإقدام عليها .

وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للإنسان ، إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور ، خصوصا الولايات ، الصغار ، والكبار ، نظر في نفسه{[144]} ، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك ، ووثق بها ، أقدم ، وإلا أحجم .

ولما بين تعالى هذه الأحكام العظيمة قال : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي : شرائعه التي حددها وبينها ووضحها .

{ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } لأنهم هم المنتفعون بها ، النافعون لغيرهم .

وفي هذا من فضيلة أهل العلم ، ما لا يخفى ، لأن الله تعالى جعل تبيينه لحدوده ، خاصا بهم ، وأنهم المقصودون بذلك ، وفيه أن الله تعالى يحب من عباده ، معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها .


[143]:- في ب: ويتعين.
[144]:- في ب: أن ينظر.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 230 )

قال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي : هذا ابتداء الطلقة الثالثة .

قال القاضي أبو محمد : فيجيء التسريح المتقدم ترك المرأة تتم عدتها من الثانية ، ومن قول ابن عباس رضي الله عنه : «إن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق » ، واحتج من هذه الآية بذكر الله -تعالى - الطلاقين ثم ذكره الخلع ثم ذكره الثالثة بعد الطلاقين ولم يك للخلع حكم يعتد به ، ذكر هذا ابن المنذر في «الإشراف » عنه وعن وعكرمة( {[2189]} ) وطاوس وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وذكر عن الجمهور خلاف قولهم ، وقال مجاهد : «هذه الآية بيان ما يلزم المسرح ، والتسريح هو الطلقة الثالثة » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقوله تعالى : { أو تسريح } يحتمل الوجهين : إما تركها تتم العدة ، وإما إرداف الثالثة . ثم بين في هذه الآية حكم الاحتمال الواحد( {[2190]} ) ، إذ الاحتمال الثاني قد علم منه أنه لا حكم له عليها بعد انقضاء العدة . و { تنكح } في اللغة جار على حقيقته في الوطء ومجاز في العقد ، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح في بنت( {[2191]} ) سموأل امرأة رفاعه حين تزوجها عبد الرحمن بن الزبير( {[2192]} ) وكان رفاعة قد طلقها ثلاثاً ، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : «إني لا أريد البقاء مع عبد الرحمن ، ما معه إلا مثل الهدبة » ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لعلك أردت الرجوع إلى رفاعة ، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته »( {[2193]} ) ، فرأى العلماء أن النكاح المحل إنما هو الدخول والوطء ، وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قال : «لا يحل إلا الإنزال وهو ذوق العسيلة » ، وقال بعض الفقهاء : التقاء الختانين يحل .

قال القاضي أبو محمد والمعنى واحد ، إذ لا يلتقي الختانان إلا مع المغيب الذي عليه الجمهور ، وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد عليها يحلها للأول ، وخطىء هذا القول لخلافه الحديث الصحيح ، ويتأول على سعيد - رحمه الله - أن الحديث لم يبلغه ، ولما رأى العقد عاملاً في منع الرجل نكاح امرأة قد عقد عليها أبوه قاس عليه عمل العقد في تحليل المطلقة .

قال القاضي أبو محمد : وتحليل المطلقة ترخيص فلا يتم إلا بالأوفى ، ومنع الابن شدة تدخل بأرق الأسباب على أصلهم في البر والحنث( {[2194]} ) .

والذي يحل عند مالك - رحمه الله - النكاح الصحيح والوطء المباح ، والمحلل إذا وافق المرأة : فلم تنكح زوجاً( {[2195]} ) ، ولا يحل ذلك ، ولا أعلم في اتفاقه مع الزوجة خلافاً ، وقال عثمان بن عفان : «إذا قصد المحلل التحليل وحده لم يحل ، وكذلك إن قصدته المرأة وحدها » . ورخص فيه مع قصد المرأة وحدها إبراهيم والشعبي إذا لم يأمر به الزوج . وقال الحسن بن أبي الحسن : «إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل لم تحل للأول » ، وهذا شاذ ، وقال سالم والقاسم : لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان .

وقوله تعالى : { فإن طلقها فلا جناح عليهما } الآية ، المعنى إن طلقها المتزوج الثاني فلا جناح عليهما أي المرأة والزوج الأول ، قاله ابن عباس ، ولا خلاف فيه ، والظن هنا على بابه من تغليب أحد الجائزين ، وقال أبو عبيدة : «المعنى أيقنا » ، وقوله في ذلك ضعيف( {[2196]} ) ، و { حدود الله } الأمور التي أمر أن لا تتعدى ، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفاً لهم ، وإذ هم الذين ينتفعون بما بين . أي نصب للعبرة من قول أو صنعة ، وأما إذا أردنا بالتبيين خلق البيان في القلب فذلك يوجب تخصيص الذين يعلمون بالذكر ، لأن من طبع على قلبه لم يبين له شيء( {[2197]} ) ، وقرأ السبعة «يبينها » بالياء ، وقرأ عاصم روي عنه «نبينها » بالنون .


[2189]:- عطف على المجرور قبله.
[2190]:- وهو إرداف الثالثة، وقد بين حكمه في هذه الآية، والاحتمال الثاني هو إتمام عدتها من الطلقة الثانية، ومن المعلوم أنه بعد انقضاء العدة لا يبقى له حكم عليها.
[2191]:- لعل في الكلام تقديما وتأخيرا، والأًصل: اتباع الحديث الصحيح في امرأة رفاعة ابن سموأل حين تزوجها، قال الحافظ بن حجر: رفاعة بن سموأل القرظي، له ذكر في الصحيح من حديث عائشة. قالت: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إن رفاعة طلقني فبت طلاقي الحديث، وروى مالك عن المسور بن رفاعة، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته تميمة بنت وهب فذكر الحديث، وهو مرسل عند جمهور رواة الموطأ، ووصله ابن وهب، وإبراهيم بن طهمان، وأبو علي الحنفي ثلاثتهم عن مالك، فقالوا عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، عن أبيه. وروى ابن شاهين من طريق تفسير مقاتل بن حيان في قوله تعالى: [فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجا غيره] نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلقها طلاقا بائنا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير فذكر القصة مطولة، قال أبو موسى: الظاهر أن القصة واحدة، قال الحافظ بن حجر: وظاهر السياقين أنهما اثنتان. لكن المشكل اتحاد اسم الزوج الثاني عبد الرحمن ابن الزبير، وأما المرأة ففي اسمها اختلاف كثير. انتهى – فقيل: تميمة بنت وهب، كما في رواية الموطأ، وقيل: تميمة بنت أبي عبيد، وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن، وتميمة رويت بالتكبير والتصغير، والله أعلم.
[2192]:- الزَّبير كأمير.
[2193]:- العسيلة هي الوطء والجماع وإن لم يكن إنزال.
[2194]:- يشير بذلك إلى مناقشة القياس. وأن تحليل المطلقة ثلاثا من باب التسهيل والترخيص، وتحريم المرأة على الابن لعقد الأب من باب التشديد والتضييق، والأول يقع بأوفى الأشياء كالوطء، والثاني بأقل الأشياء كالعقد.
[2195]:- يريد أن المحلِّل إذا اتفق مع المرأة فكأنها لم تنكح زوجا غيره أي غير زوجها كما تنص. الآية، والحكم أنه إذا وقع التوافق بين المحلِّل والمحلَّل له أو الزوجة فإن ذلك النكاح لا يحل المطلقة ثلاثا لأنه ليس نكاحاً، وإنما هي حيلة، ولا فرق بين أن يكون التواطؤ بالقول أو بالقصد، فإن المقاصد معتبرة والأعمال بالنيات، والألفاظ لا تساق تعبداً، وإنما تساق للدلالة على المعاني، فإذا ظهرت هذه المعاني ترتب عليها أحكامها ولا عبرة بالألفاظ. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلَّل له، كما روى ذلك جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم، واللعن يدل على أن الفعل حرام، وإذا كان حراماً فليس هو النكاح الذي ذكره الله بقوله: [حتى تنكح زوجا غيره] فنكاح التحليل لا يفيد شرعا وإنما الذي يفيد نكاح الرغبة ثم الطلاق بعده، وللطلاق أسباب، وهناك من يقول بالتيسير في مسألة المطلقة ثلاثا، ويحمل النكاح في الآية على العقد، ويطعن في حديث العُسَيلة بأن المشتكى منه كان عنيناً، فكيف تكون له عُسَيلة، وباختلاف رواياته، وينكر لعن المحلل والمحلَّل له، ويرى أن الآية في نكاح التحليل. والمعروف ما عليه الجمهور، والله أعلم.
[2196]:- لأنه فسر الظن باليقين لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن، إلا الله تعالى، وإذا كان ذلك كذلك فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله، وإنما المعنى إن ظنّا أي: طمِعا ورجَوا ذلك.
[2197]:- والذين يعلمون يعرفون أنها من عند الله فيصدقون بها، ويعلمون بما أودعهم الله من علمه دون الذين قد طبع الله على قلوبهم، وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها ولا يصدقون أنها من عند الله، فهم يجهلون أنها من عند الله، ولذا خص القوم الذين يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

تفريع مرتب على قوله : { الطلاق مرتان } [ البقرة : 229 ] وما بينهما بمنزلة الاعتراض ، على أن تقديمه يكسبه تأثيراً في تفريع هذا على جميع ما تقدم ؛ لأنه قد علم من مجموع ذلك أن بعد المرتين تخييراً بني المراجعة وعدمها ، فرتب على تقدير المراجعة المعبر عنها بالإمساك { فإن طلقها } وهو يدل بطريق الاقتضاء على مقدر أي فإن راجعها فطلقها لبيان حكم الطلقة الثالثة . وقد تهيأ السامع لتلقي هذا الحكم من قوله : { الطلاق مرتان } [ البقرة : 229 ] إذ علم أن ذلك بيان لآخر عدد في الرجعي وأن ما بعده بتات ، فذكر قوله : { فإن طلقها } زيادة في البيان ، وتمهيد لقوله : { فلا تحل له من بعد } إلخ فالفاء إما عاطفة لجملة { فإن طلقها } على جملة { فإمساك } [ البقرة : 229 ] باعتبار ما فيها من قوله { فإمساك } ، إن كان المراد من الإمساك المراجعة ومن التسريح عدمها ، أي فإن أمسك المطلق أي راجع ثم طلقها ، فلا تحل له من بعد ، وهذا هو الظاهر ، وإما فصيحة لبيان قوله : { أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] ، إن كان المراد من التسريح إحداث الطلاق ، أي فإن ازداد بعد المراجعة فسرح فلا تحل له من بعد ، وإعادة هذا على هذا الوجه ليرتب عليه تحريم المراجعة إلا بعد زوج ، تصريحاً بما فهم من قوله : { الطلاق مرتان } ويكون التعبير بالطلاق هنا دون التسريح للبيان وللتفنن على الوجهين المتقدمين ، ولا يعوزك توزيعه عليهما ، والضمير المستتر راجع للمطلق المستفاد من قوله : { الطلاق مرتان } والضمير المنصوب راجع للمطلقة المستفادة من الطلاق أيضاً ، كما تقدم في قوله : { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } [ البقرة : 229 ] .

والآية بيان لنهاية حق المراجعة صراحة ، وهي إما إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية وتشريع إسلامي جديد ، وإما نسخ لما تقرر أول الإسلام إذا صح ما رواه أبو داود في « سننه » ، في باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ، عن ابن عباس « أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك ونزل { الطلاق مرتان } .

ولا يصح بحال عطف قوله : { فإن طلقها } على جملة { ولا يحل لكم أن تأخذوا } [ البقرة : 229 ] ، ولا صدق الضميرين على ما صدقت عليه ضمائر { إلا أن يخافا ألا يقيما } ، و { فلا جناح عليهما } لعدم صحة تعلق حكم قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد } بما تعلق به حكم قوله : { ولا يحل لكم أن تأخذوا } [ البقرة : 229 ] إلخ إذ لا يصح تفريع الطلاق الذي لا تحل بعده المرأة على وقوع الخلع ، إذ ليس ذلك من أحكام الإسلام في قول أحد ، فمن العجيب ما وقع في « شرح الخطابي على سنن أبي داود » : أن ابن عباس احتج لكون الخلع فسخاً بأن الله ذكر الخلع ثم أعقبه بقوله : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد } الآية قال :

" فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً " ولا أحسب هذا يصح عن ابن عباس لعدم جريه على معاني الاستعمال العربي .

وقوله : { فلا تحل له } أي تحرم عليه وذكر قوله : { من بعد } أي من بعد ثلاث تطليقات تسجيلاً على المطلق ، وإيماء إلى علة التحريم ، وهي تهاون المطلق بشأن امرأته ، واستخفافه بحق المعاشرة ، حتى جعلها لعبة تقلبها عواصف غضبه وحماقته ، فلما ذكر لهم قوله { من بعد } علم المطلقون أنهم لم يكونوا محقين في أحوالهم التي كانوا عليها في الجاهلية .

والمراد من قوله : { تنكح زوجاً غيره } أن تعقد على زوج آخر ، لأن لفظ النكاح في كلام العرب لا معنى له إلا العقد بين الزوجين ، ولم أر لهم إطلاقاً آخر فيه لا حقيقة ولا مجازاً ، وأياً ما كان إطلاقه في الكلام فالمراد في هاته الآية العقد بدليل إسناده إلى المرأة ، فإن المعنى الذي ادعى المدعون أنه من معاني النكاح بالاشتراك والمجاز أعني المسيس ، لا يسند في كلام العرب للمرأة أصلاً ، وهذه نكتة غفلوا عنها في المقام .

وحكمة هذا التشريع العظيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم ، وجعلهن لُعباً في بيوتهم ، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة ، والثانية تجربة ، والثالثة فراقاً ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى والخضر : « فكانت الأولى من موسى نسياناً والثانية شرطاً والثالثة عمداً فلذلك قال له الخضر في الثالث { هذا فراق بيني وبينك } [ الكهف : 78 ] .

وقد رتب الله على الطلقة الثالثة حكمين وهما سلب الزوج حق الرجعة ، بمجرد الطلاق ، وسلب المرأة حق الرضا بالرجوع إليه إلا بعد زوج ، واشتراط التزوج بزوج ثان بعد ذلك لقصد تحذير الأزواج من المسارعة بالطلقة الثالثة ، إلا بعد التأمل والتريث ، الذي لا يبقى بعده رجاء في حسن المعاشرة ، للعلم بحرمة العود إلا بعد زوج ، فهو عقاب للأزواج المستخفين بحقوق المرأة ، إذا تكرر منهم ذلك ثلاثاً ، بعقوبة ترجع إلى إيلام الوجدان ، لما ارتكز في النفوس من شدة النفرة من اقتران امرأته برجل آخر ، وينشده حال المرأة قول ابن الزَّبير :

وفي الناس إن رثَّتْ حِبالك وَاصل *** وفي الأرض عن دار القِلَى متحول

وفي الطيبي قال الزجاج : « إنما جعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل فحرم عليهما التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا وأن يثبتوا » وقد علم السامعون أن اشتراط نكاح زوج آخر هو تربية للمطلقين ، فلم يخطر ببال أحد إلا أن يكون المراد من النكاح في الآية حقيقته وهي العقد ، إلا أن العقد لما كان وسيلة لما يقصد له في غالب الأحوال من البناء وما بعده ، كان العقد الذي لا يعقبه وطء العاقد لزوجه غير معتد به فيما قصد منه ، ولا يعبأ المطلق الموقع الثلاث بمجرد عقد زوج آخر لم يمس فيه المرأة ، ولذلك لما طلق رفاعة بن سموأل القرظي زوجه تميمة ابنة وهب طلقة صادفت أخرى الثلاث ، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبير القرظي ، جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : « يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما معه مثل هدبة هذا الثوب » وأشارت إلى هدب ثوب لها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة " قالت « نعم » قال " لا ، حتى تذوقي عسيلته " الحديث ، فدل سؤالها على أنها تتوقع عدم الاعتداد بنكاح ابن الزبير في تحليل من بتها ، لعدم حصول المقصود من النكاية والتربية بالمطلق ، فاتفق علماء الإسلام على أن النكاح الذي يحل المبتوتة هو دخول الزوج الثاني بالمرأة ومسيسه لها ، ولا أحسب دليلهم في ذلك إلا الرجوع إلى مقصد الشريعة ، الذي علمه سائر من فهم هذا الكلام العربي الفصيح ، فلا حاجة بنا إلى متح دلاء الاستدلال بأن هذا من لفظ النكاح المراد به في خصوص هذه الآية المسيسُ أو هو من حديث رفاعة ، حتى يكون من تقييد الكتاب بخبر الواحد ، أو هو من الزيادة على النص حتى يجىء فيه الخلاف في أنها نسخ أم لا ، وفي أن نسخ الكتاب بخبر الواحد يجوز أم لا ، كل ذلك دخول فيما لا طائل تحت تطويل تقريره بل حسبنا إجماع الصحابة وأهل اللسان على فهم هذا المقصد من لفظ القرآن ، ولم يشذ عن ذلك إلا سعيد بن المسيب فإنه قال : يحل المبتوتة مجرد العقد على زوج ثان ، وهو شذوذ ينافي المقصود ؛ إذ أية فائدة تحصل من العقد ، إن هو إلا تعب للعاقدين ، والولي ، والشهود إلا أن يجعل الحكم منوطاً بالعقد ، باعتبار ما يحصل بعده غالباً ، فإذا تخلف ما يحصل بعده اغتفر ، من باب التعليل بالمظنة ، ولم يتابعه عليه أحد معروف ، ونسبه النحاس لسعيد بن جبير ، وأحسب ذلك سهواً منه واشتباهاً ، وقد أمر الله بهذا الحكم ، مرتباً على حصول الطلاق الثالث بعد طلقتين تقدمتاه فوجب امتثاله وعلمت حكمته فلا شك في أن يقتصر به على مورده ، ولا يتعدى حكمه ذلك إلى كل طلاق عبر فيه المطلق بلفظ الثلاث تغليظاً ، أو تأكيداً ، أو كذباً لأن ذلك ليس طلاقاً بعد طلاقين ، ولا تتحقق فيه حكمة التأديب على سوء الصنيع ، وما المتلفظ بالثلاث في طلاقه الأول إلا كغير المتلفظ بها في كون طلقته الأولى ، لا تصير ثانية ، وغاية ما اكتسبه مقاله أنه عد في الحمقى أو الكذابين ، فلا يعاقب على ذلك بالتفريق بينه وبين زوجه ، وعلى هذا الحكم استمر العمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وصدر من خلافة عمر ، كما ورد في كتب الصحيح : « الموطأ » وما بعده ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، وقد ورد في بعض الآثار رواية حديث ابن عمر حين طلق امرأته في الحيض أنه طلقها ثلاثاً في كلمة ، وورد حديث ركانة بن عبد يزيد المطلبي ، أنه طلق امرأته ثلاثاً في كلمة واحدة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إنما ملكك الله واحدة فأمره أن يراجعها .

ثم إن عمر بن الخطاب في السنة الثالثة من خلافته حدثت حوادث من الطلاق بلفظ الثلاث في كلمة واحدة فقال : أرى الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم .

وقد اختلف علماء الإسلام فيما يلزم من تلفظ بطلاق الثلاث في طلقة ليست ثالثة ، فقال الجمهور : يلزمه الثلاث أخذاً بما قضى به عمر بن الخطاب وتأيد قضاؤه بسكوت الصحابة لم يغيروا عليه فهو إجماع سكوتي ، وبناء على تشبيه الطلاق بالنذور والأيمان ، يلزم المكلف فيها ما التزمه ، ولا خلاف في أن عمر بن الخطاب قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد ، ولكنه قضى بذلك عن اجتهاد فهو مذهب له ، ومذهب الصحابي لا يقوم حجة على غيره ، وما أيدوه به من سكوت الصحابة لا دليل فيه ؛ لأن الإجماع السكوتي ليس بحجة عند النحارير من الأئمة مثل الشافعي والباقلاني والغزالي والإمام الرازي ، وخاصة أنه صدر من عمر بن الخطاب مصدر القضاء والزجر ، فهو قضاء في مجال الاجتهاد لا يجب على أحد تغييره ، ولكن القضاء جزئي لا يلزم اطراد العمل به ، وتصرف الإمام بتحجير المباح لمصلحة مجال للنظر ، فهذا ليس من الإجماع الذي لا تجوز مخالفته .

وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام ومحمد بن إسحاق وحجاج بن أرطاة وطاووس والظاهرية وجماعة من مالكية الأندلس : منهم محمد بن زنباع ، ومحمد بن بقي بن مخلد ، ومحمد بن عبد السلام الخشني ، فقيه عصره بقرطبة ، وأصبغ بن الحباب من فقهاء قرطبة ، وأحمد بن مغيث الطليطلي الفقيه الجليل ، وقال ابن تيمية من الحنابلة : إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة وهو الأرجح من جهة النظر والأثر .

واحتجوا بحجج كثيرة أولاها وأعظمها هذه الآية فإن الله تعالى جعل الطلاق مرتين ثم ثالثة ، ورتب حرمة العود على حصول الثالثة بالفعل لا بالقول ، فإذا قال الرجل لامرأته : هي طالق طلاقاً ولم تكن تلك الطلقة ثالثة بالفعل والتكرر كذب في وصفها بأنها ثلاث ، وإنما هي واحدة أو ثانية فكيف يقدم على تحريم عودها إليه والله تعالى لم يحرم عليه ذلك ، قال ابن عباس : « وهل هو إلا كمن قال : قرأت سورة البقرة ثلاث مرات وقد قرأها واحدة فإن قوله ثلاث مرات يكون كاذباً » .

الثانية أن الله تعالى قصد من تعدد الطلاق التوسعة على الناس ؛ لأن المعاشر لا يدري تأثير مفارقة عشيره إياه ، فإذا طلق الزوج امرأته يظهر له الندم وعدم الصبر على مفارقتها ، فيختار الرجوع فلو جعل الطلقة الواحدة مانعة بمجرد اللفظ من الرجعة ، تعطل المقصد الشرعي من إثبات حق الرجعة ، قال ابن رشد الحفيد في « البداية » « وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سداً للذريعة ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود من قوله تعالى : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } [ الطلاق : 1 ] .

الثالثة قال ابن مغيث : إن الله تعالى يقول : { أو تسريح بإحسان } وموقع الثلاث غير محسن ، لأن فيها ترك توسعة الله تعالى ، وقد يخرَّج هذا بقياس على غير مسألة في « المدونة » : من ذلك قول الإنسان : { مالي صدقة في المساكين } قال مالك يجزئه الثلث .

الرابعة احتجوا بحديث ابن عباس في « الصحيحين » " كان طلاق الثلاث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلقة واحدة " .

وأجاب عنه الجمهور بأن راويه طاووس وقد روى بقية أصحاب ابن عباس عنه أنه قال من طلق امرأته ثلاثاً فقد عصى ربه وبانت منه زوجه ، وهذا يوهن رواية طاووس ، فإن ابن عباس لا يخالف الصحابة إلى رأي نفسه ، حتى قال ابن عبد البر رواية طاووس وهم وغلط ، وعلى فرض صحتها ، فالمراد أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث تطليقات وهو معنى قول عمر « إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة » فلو كان ذلك واقعاً في زمن الرسول وأبي بكر لما قال عمر إنهم استعجلوا ولا عابه عليهم ، وهذا جواب ضعيف ، قال أبو الوليد الباجي : الرواية عن طاووس بذلك صحيحة . وأقول : أما مخالفة ابن عباس لما رواه فلا يوهن الرواية كما تقرر في الأصول ، ونحن نأخذ بروايته وليس علينا أن نأخذ برأيه ، وأما ما تأولوه من أن المراد من الحديث أن الناس كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الثلاث فهو تأويل غير صحيح ومناف لألفاظ الرواية ولقول عمر « فلو أمضيناه عليهم » فإن كان إمضاؤه عليهم سابقاً من عهد الرسول لم يبق معنى لقوله : « فلو أمضيناه عليهم » وإن لم يكن إمضاؤه سابقاً بل كان غير ماض حصل المقصود من الاستدلال .

الخامسة ما رواه الدارقطني أن ركانة بن عبد يزيد المطلبي طلق زوجه ثلاثاً في كلمة واحدة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : إنما هي واحدة أو إنما تلك واحدة فارتجعها . وأجاب عنه أنصار الجمهور بأنه حديث مضطرب ؛ لأنه روي أن ركانة طلق ، وفي رواية أن يزيد بن ركانة طلق وفي رواية طلق زوجه ثلاثاً وزاد في بعض الروايات أنه طلقها ثلاثاً وقال : أردت واحدة فاستحلفه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك .

وهو جواب واهٍ لأنه سواء صحت الزيادة أم لم تصح فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالواحدة فيما فيه لفظ الثلاث ، ولا قائل من الجمهور بالتوهية فالحديث حجة عليهم لا محالة إلا أن روايته ليست في مرتبة معتبرة من الصحة .

السادسة ما رواه الدارقطني في حديث تطليق ابن عمر زوجه حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنه زاد فيه أنه طلقها ثلاثاً ولا شك أن معناه ثلاثاً في كلمة ، لأنها لو كانت طلقة صادفت آخر الثلاث لما جاز إرجاعها إليه ، ووجه الدليل أنه لما أمره أن يردها فقد عدها عليه واحدة فقط ، وهذا دليل ضعيف جداً لضعف الرواية ولكون مثل هذه الزيادة مما لا يغفل عنها رواة الحديث في كتب الصحيح ك« الموطأ » و« صحيح البخاري » و« مسلم » . والحق أنه لا يقع إلا طلقة واحدة ولا يعتد بقول المطلق ثلاثاً .

وذهب مقاتل وداود الظاهري في رواية عنه أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع طلاقاً بالمرة ، واحتج بأن القرآن ذكر الطلاق المفرَّق ولم يذكر المجموع فلا يلزم لأنه غير مذكور في القرآن . ولو احتج لهما بأنه منهي عنه والمنهي عنه فاسد لكان قريباً ، لولا أن الفساد لا يعتري الفسوخ ، وهذا مذهب شاذ وباطل ، وقد أجمع المسلمون على عدم العمل به ، وكيف لا يقع طلاقاً وفيه لفظ الطلاق .

وذهب ابن جبير وعطاء وابن دينار وجابر بن زيد إلى أن طلاق البكر ثلاثاً في كلمة يقع طلقة واحدة ، لأنه قبل البناء بخلاف طلاق بالمبني بها وكأنَّ وجه قولهم فيه : وأن معنى الثلاث فيه كناية عن البينونة والمطلقة قبل البناء تبينها الواحدة .

ووصف { زوجاً غيره } تحذير للأزواج من الطلقة الثالثة ، لأنه بذكر المغايرة يتذكر أن زوجته ستصير لغيره كحديث الواعظ الذي اتعظ بقول الشاعر :

اليومَ عندك دَلُّها وحديثُها *** وغداً لغيرك زندها والمعصم

وأسند الرجعة إلى المتفارقين بصيغة المفاعلة لتوقفها على رضا الزوجة بعد البينونة ثم علق ذلك بقوله : { إن ظنا أن يقيما حدود الله } أي أن يسيرا في المستقبل على حسن المعاشرة وإلا فلا فائدة في إعادة الخصومات .

و { حدود الله } هي أحكامه وشرائعه ، شبهت بالحدود لأن المكلف لا يتجاوزها فكأنه يقف عندها . وحقيقة الحدود هي الفواصل بين الأرضين ونحوها وقد تقدم في قوله : { إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } [ البقرة : 229 ] والإقامة استعارة لحفظ الأحكام تبعاً لاستعارة الحدود إلى الأحكام كقولهم : نَقَض فلان غزله ، وأما قوله : { وتلك حدود الله يبينها } فالبيان صالح لمناسبة المعنى الحقيقي والمجازي ؛ لأنّ إقامة الحدّ الفاصل فيه بيان للناظرين .

والمراد { بقوم يعلمون } ، الذين يفهمون الأحكام فهماً يهيئهم للعمل بها ، وبإدراك مصالحها ، ولا يتحيلون في فهمها .

{ وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

الواو اعتراضية ، والجملة معترضة بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى ، وموقع هذه الجملة كموقع جملة { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] المتقدمة آنفاً .

و { وتلك حدود الله } تقدم الكلام عليها قريباً .

وتبيين الحدود ذكرها للناس موضحة مفصلة معللة ، ويتعلق قوله { لقوم يعلمون } بفعل { يبينها } ، ووصف القوم بأنهم يعلمون صريح في التنويه بالذين يدركون ما في أحكام الله من المصالح ، وهو تعريض بالمشركين الذين يعرضون عن اتّباع الإسلام .

وإقحام كلمة ( لقوم ) للإِيذان بأن صفة العلم سجيتهم وملكة فيهم ، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله لأيات لقوم يعقلون } [ البقرة : 164 ] .