يخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقصة أصحاب الفيل الذين قصدوا هدم بيت الله ، ويلفته إلى ما حوته القصة من عبرة دالة على عظم قدرته تعالى وانتقامه من المعتدين على حرماته . فقد سلط الله عليهم من جنوده ما قطع أوصالهم وأذهب ألبابهم ، ولم يبق منهم غير أثر كأنه غلاف بر ذهب لبه{[1]} .
1- قد علمت - يا محمد - علماً لا يخالطه شك فِعْل ربك بأصحاب الفيل ؛ الذين قصدوا الاعتداء على البيت الحرام .
{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }
أي : أما رأيت من قدرة الله وعظيم شأنه ، ورحمته بعباده ، وأدلة توحيده ، وصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ما فعله الله بأصحاب الفيل .
بسم الله الرحمن الرحيم { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الوقعة لكن شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر أخبارها ، فكأنه رآها . وإنما قال{ كيف } ولم يقل :ما ؛ لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله تعالى وقدرته ، وعزة بيته ، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنها من الإرهاصات ؛ إذ روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قصتها أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف الحاج إليها ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا فأغضبه ذلك ، فحلف ليهدمن الكعبة ، فخرج بجيشه ومعه فيل قوي اسمه محمود وفيلة أخرى ، فلما تهيأ للدخول وعبى جيشه قدم الفيل ، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا رجعوه إلى اليمن أو إلى جهة أخرى هرول ، فأرسل الله تعالى طيرا مع كل واحد في منقاره حجر وفي رجليه حجران أكبر من العدسه وأصغر من الحمصة ، فترميهم فيقع الحجر في رأس الرجل فيخرج من دبره ، فهلكوا جميعا . وقرئ ( ألم تر ) جدا في إظهار أثر الجازم ، وكيف نصب بفعل ، لا ب( تر ) ، لما فيه من معنى الاستفهام .
وردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة { ألم تر } . روى القرطبي في تفسير { سورة قريش } عن عمرو بن ميمون قال : صليت المغرب خلف عمر ابن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية { ألم تر } و{ لإيلاف قريش } . وكذلك عنونها البخاري . وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير { سورة الفيل } .
وقد عدت التاسعة عشرة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة { قل يا أيها الكافرون } وقبل { سورة الفلق } . وقيل قبل { سورة قريش } لقول الأخفش إن قوله تعالى { لإيلاف قريش } متعلق بقوله { فجعلهم كعصف مأكول } ، ولأن أبي بن كعب جعلها وسورة قريش سورة واحدة في مصحفه ولم يفصل بينهما بالبسملة ولخبر عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب المذكور آنفا روى أن عمر بن الخطاب قرأ مرة في المغرب في الركعة الثانية سورة الفيل وسورة قريش ، أي ولم يكن الصحابة يقرأون في الركعة من صلاة الفرض سورتين لأن السنة قراءة الفاتحة وسورة فدل أنهما عنده سورة واحدة . ويجوز أن تكون سورة قريش نزلت بعد سورة الفلق وألحقت بسورة الفيل فلا يتم الاحتجاج بما في مصحف أبي بن كعب ولا بما رواه عمرو بن ميمون .
وقد تضمنت التذكير بأن الكعبة حرم الله وأن الله حماه ممن أرادوا به سوءا أو أظهر غضبه عليهم فعذبهم لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم ، وذلك ما سماه الله كيدا ، وليكون ما حل بهم تذكرة لقريش بأن فاعل ذلك هو رب ذلك البيت وأن لا حظ فيه للأصنام التي نصبوها حوله .
وتنبيه قريش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته .
ومن وراء ذلك تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يدفع عنه كيد المشركين فإن الذي دفع كيد من يكيد لبيته لأحق بأن يدفع كيد من يكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم ودينه ويشعر بهذا قوله { ألم نجعل كيدهم في تضليل } .
ومن وراء ذلك كله التذكير بأن الله غالب على أمره ، وأن لا تغر المشركين قوتهم ووفرة عددهم ولا يوهن النبي صلى الله عليه وسلم تألب قبائلهم عليه فقد أهلك الله من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعا .
ولم يتكرر في القرآن ذكر إهلاك أصحاب الفيل خلافا لقصص غيرهم من الأمم لوجهين : أحدهما أن هلاك أصحاب الفيل لم يكن لأجل تكذيب رسول من الله ، وثانيهما أن لا يتخذ من المشركين غرورا بمكانة لهم عند الله كغرورهم بقولهم المحكي في قوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } الآية وقوله { وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون } .
استفهام تقريري وقد بيّنّا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثيراً ما يكون على نفي المقرَّر بإثباته للثقة بأن المقرَّر لا يسعه إلا إثبات المنفي وانظر عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } في سورة البقرة ( 243 ) . والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته . وعليه فالتقرير مستعمل مجازاً في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصاً للنبيء فيكون من باب قوله : { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [ البلد : 1 ، 2 ] ، وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم إذ لم يزالوا يعبدون غيره .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه قوله : { ربك } . فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالى : { ألم يجدك يتيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] الآيات وقوله : { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [ البلد : 1 ، 2 ] على أحد الوجوه المتقدمة .
فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه . وقال أبو صالح : رأيت في بيت أم هاني بنت أبي طالب نحواً من قفيزين من تلك الحجارة سُوداً مخططة بحمرة . وقال عتاب بن أسِيدْ : أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مُقْعَدين يستطعمان الناس . وقالت عائشة : لقد رأيْتُ قائد الفيل وسائقه أعمَيين يستطعمان الناس . وفعل الرؤية معلق بالاستفهام .
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسبة لمن تجاوز سنهُ نيفاً وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلاماً أو فتى مثل أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف .
و { كيف } للاستفهام سَدّ مسدّ مفعوليْ أو مفعول { تَر } ، أي لم تر جواب هذا الاستفهام ، كما تقول : علمتُ هل زيد قائم ؟ وهو نصب على الحال من فاعل { تَر } . ويجوز أن يكون { كيف } مجرداً عن معنى الاستفهام مراداً منه مجرد الكيفية فيكون نصباً على المفعول به .
وإيثار { كيف } دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل : ألم تر ما فعل ربك ، أو الذي فعل ربك ، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة .
وأوثر لفظ { فعل ربك } دون غيره لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالاً كثيرة لا يدل عليها غيره .
وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف ( رب ) مضافاً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصاً لنبوءته إذ كان ذلك عام مولده .
وأصحاب الفيل : الحَبشة الذين جاءوا مكة غازين مضمِرين هدم الكعبة انتقاماً من العرب من أجل ما فعله أحد بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج .
وكان خبر ذلك وسببه أن الحبشة قد ملكوا اليمن بعد واقعة الأخدود التي عَذَّب فيها الملكُ ذو نواس النصارى ، وصار أمير الحبشة على اليمن رجلاً يقال له : ( أبرهة ) وأن أبرهة بنى كنيسة عظيمة في صنعاء دعاها القَلِيس ( بفتح القاف وكسر اللام بعدما تحتية ساكنة ، وبعضهم يقولها بضم القاف وفتح اللام وسكون التحتية ) . وفي « القاموس » بضم القاف وتشديد اللام مفتوحة وسكون الياء . وكتبه السهيلي بنون بعد اللام ولم يضبطه وزعم أنه اسم مأخوذ من معاني القَلْس للارتفاع . ومنه القلنسوة واقتصر على ذلك ولم أعرف أصل هذا اللفظ فإما أن يكون اسم جنس للكنيسة ولعل لفظ كنيسة في العربية معرّب منه ، وإما أن يكون علماً وضعوه لهذه الكنيسة الخاصة وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة فروي أن رجلاً من بني فُقَيم من بني كنانة وكانوا أهل النسيء للعرب كما تقدم عند قوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } في سورة براءة ( 37 ) ، قَصد الكنانيُّ صنعاء حتى جاء القليس فأحدث فيها تحقيراً لها ليتسامَعَ العربُ بذلك فغضب أبرهة وأزمع غزو مكة ليهدم الكعبة وسار حتى نزل خارج مكة ليلاً بمكان يقال له المُغَمَّس ( كمعظم موضع قرب مكة في طريق الطائف ) أو ذو الغميس ( لم أر ضبطه ) وأرسل إلى عبد المطلب ليحذره من أن يحاربوه وجرى بينهما كلام ، وأمر عبد المطلب آله وجميع أهل مكة بالخروج منها إلى الجبال المحيطة بها خشية من معرة الجيش إذا دخلوا مكة . فلما أصبح هيّأ جَيْشه لدخول مكة وكان أبرهة راكباً فيلاً وجيشه معه فبينا هو يَتهيّأ لذلك إذ أصاب جنده داء عضال هو الجُدريّ الفتاك يتساقط منه الأنامل ، ورأوا قبل ذلك طيراً ترميهم بحجارة لا تصيب أحداً إلا هلك وهي طير من جند الله فهلك معظم الجيش وأدبر بعضهم ومرض ( أبرهة ) فقفل راجعاً إلى صنعاء مريضاً ، فهلك في صنعاء وكفى الله أهل مكة أمر عدوّهم . وكان ذلك في شهر محرم الموافق لشهر شباط ( فبراير ) سنة 570 بعد ميلاد عيسى عليه السلام ، وبعد هذا الحادث بخمسين يوماً ولد النبي على أصح الأخبار وفيها اختلاف كثير .
والتعريف في { الفيل } للعهد ، وهو فيل أبرهة قائد الجيش كما قالوا للجيش الذي خرج مع عائشة أم المؤمنين أصحاب الجَمل يريدون الجمل الذي كانت عليه عائشة ، مع أن في الجيش جمالاً أخرى . وقد قيل : إن جيش أبرهة لم يكن فيه إلا فيل واحد ، وهو فيل أبرهة ، وكان اسمه محمود . وقيل : كان فيه فِيَلَة أخرى ، قيل ثمانية وقيل : اثنا عشر . وقال بعضٌ : ألف فيل . ووقع في رجز ينسب إلى عبد المطلب :
أنتَ منعتَ الحُبْشَ والأفْيالا
فيكون التعريف تعريف الجنس ويكون العهد مستفاداً من الإِضافة .
والفيل : حيوان عظيم من ذوات الأربع ذواتِ الخف ، من حيوان البلاد الحارة ذات الأنهار من الهند والصين والحبشة والسودان ، ولا يوجد في غير ذلك إلا مجلوباً ، وهو ذكي قابل للتأنس والتربية ، ضخم الجثة أضخم من البعير ، وأعلى منه بقليل وأكثر لحماً وأكبر بطناً .
وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جداً له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ويدافع به عن نفسه يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان ، ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه . وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان ، وذَنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة . ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخِذ الناس منها العاجَ . وجلده أجرد مثل جلد البقر ، أصهب اللون قاتم كلون الفار ويكون منه الأبيض الجلد . وهو مركوبٌ وحاملُ أثقال وأهل الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود . ولم يكن الفيل معروفاً عند العرب فلذلك قلّ أن يُذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة .
وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة . ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيماً قوياً ، قال لبيد :
ومقامٍ ضيِّق فرَّجْتُـه *** ببيـــانٍ ولسان وجَدل
لو يقومُ الفيلُ أوفَيَّالُه *** زل عن مثل مقامي ورحل
لقَدْ أقومُ مقاماً لو يقوم به *** أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظلَّ يَرْعد إلا أنْ يكون له *** من الرسول بإذن الله تنويل
وكنت رأيْتُ أنّ . . . . قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل بمكة حول الكعبة ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة .
وعن عائشة وعتاب بن أسيد : رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس .
والمعنى : ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل ، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده .