29- وقل - أيها الرسول - : إن ما جئت به هو الحق من عند ربكم ، فمن شاء أن يؤمن به فليؤمن ، فذلك خير له ، ومن شاء أن يكفر فليكفر فإنه لم يظلم إلا نفسه . إننا أعددنا لمن ظلم نفسه بالكفر ناراً تحيط بهم كالسرادق . وإن يستغث الظالمون بطلب الماء وهم في جهنم ؛ يؤت لهم بماء كالزيت العكر الشديد الحرارة يحرق الوجوه بلهيبه . قَبُحَ هذا الشراب لهم ، وقبحت جهنم مكاناً لراحتهم .
{ 29-31 } { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا }
أي : قل للناس يا محمد : هو الحق من ربكم أي : قد تبين الهدى من الضلال ، والرشد من الغي ، وصفات أهل السعادة ، وصفات أهل الشقاوة ، وذلك بما بينه الله على لسان رسوله ، فإذا بان واتضح ، ولم يبق فيه شبهة .
{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } أي : لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين ، بحسب توفيق العبد ، وعدم توفيقه ، وقد أعطاه الله مشيئة بها يقدر على الإيمان والكفر ، والخير والشر ، فمن آمن فقد وفق للصواب ، ومن كفر فقد قامت عليه الحجة ، وليس بمكره على الإيمان ، كما قال تعالى { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } وليس في قوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } الإذن في كلا الأمرين ، وإنما ذلك تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام ، كما ليس فيها ترك قتال الكافرين . ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } بالكفر والفسوق والعصيان { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي : سورها المحيط بها ، فليس لهم منفذ ولا طريق ولا مخلص منها ، تصلاهم النار الحامية .
{ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا } أي : يطلبوا الشراب ، ليطفئ ما نزل بهم من العطش الشديد .
{ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ } أي : كالرصاص المذاب ، أو كعكر الزيت ، من شدة حرارته .
{ يَشْوِي الْوُجُوهَ } أي : فكيف بالأمعاء والبطون ، كما قال تعالى { يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد }
{ بِئْسَ الشَّرَابُ } الذي يراد ليطفئ العطش ، ويدفع بعض العذاب ، فيكون زيادة في عذابهم ، وشدة عقابهم .
{ وَسَاءَتْ } النار { مُرْتَفَقًا } وهذا ذم لحالة النار ، أنها ساءت المحل ، الذي يرتفق به ، فإنها ليست فيها ارتفاق ، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق ، الذي لا يفتر عنهم ساعة ، وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير ، ونسيهم الرحيم في العذاب ، كما نسوه .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بكلمة الحق فى وجوه المستكبرين ، فقال .
{ وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } .
أى : وقل : أيها الرسول - لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ، واتبعوا أهواءهم ، وكان أمرهم فرطا ، قل لهم : هذا الذى جئتكم به من قرآن هو الحق من ربكم وخالقكم . . فقوله : { الحق مِن رَّبِّكُمْ } خبر لمبتدأ محذوف .
أو أن لفظ { الحق } مبتدأ ، والجار والمجرور خبره . أى : الحق الذى جئتكم به فى هذا القرآن العظيم ، كائن مبدؤه من ربكم ، وليس من أحد سواه .
وليس المراد من قوله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } التخيير بين الإيمان والكفر ، بل المراد به التهديد والتخويف ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } . . إلخ .
أى : قل لهم جئتكم من ربكم بالحق الذى يجب اتباعه ، فمن شاء أن يؤمن به فليفعل فإن عاقبته الخير والثواب ، ومن شاء أن يكفر به فليكفر فإن عاقبته الخسران والعقاب ، كما بين - سبحانه - ذلك فى قوله : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } .
والسرادق : كل ما أحاط بغيره ، كالحائط أو السور الذى يحيط بالبناء ، فيمنع من الوصول إلى ما بداخله .
أى : إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بهذا الحق نارا مهولة عظيمة ، أحاط بهم سياجها إحاطة تامة ؛ بحيث لا يستطيعون الخروج منه ، وإنما هم محصورون بداخله . كما ينحصر الشئ بداخل ما يحدق به من كل جانب .
وقوله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } بيان لما ينزل بهم من عذاب عندما يطلبون الغوث مما هم فيه من كروب .
والمهل فى اللغة : يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض . كالحديد ، والرصاص ، والنحاس ، ونحو ذلك كما يطلق - أيضا - على الماء الغليظ كدردى الزيت أى : ما تعكر منه . وقيل . هو نوع من القطران أو السم .
والمرتفق : المتكأ ، من الارتفاق وهو الاتكاء على مرفق اليد .
أى : إن هؤلاء الكافرين ، إن يطلبوا الغوث عما هم فيه من كرب وعطش ، يغاثوا بماء كالمهل فى شدة حرارته ونتنه وسواده ، هذا الماء { يشوى الوجوه } أى : يحرقها .
{ بئس الشراب } ذلك الماء الذى يغاثون به { وساءت } النار منزلا ينزلون به ، ومتكأ يتكئون عليه .
فالآية الكريمة تصور ما ينزل بهؤلاء الظالمين من عذاب ، تصويرا ترتجف من هوله الأبدان ، ويدخل الرعب والفزع على النفوس .
قال بعضهم : " فإن قيل ، أى إغاثة لهم فى ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب ، وكيف قال - سبحانه - ، { يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل } ؟
فالجواب : إن هذا من أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ونظيره من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب .
وخيل قد دلفت لها بخيل . . . تحية بينهم ضرب وجيع
أى : لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع ، وإذا كان هؤلاء الظالمون لا يغاثون إلا بماء كالمهل ، علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم مطلقا " .
والمخصوص بالذم فى قوله : { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } محذوف ، بئس الشراب ذلك الماء الذى يغاثون به ، وساءت النار مكانا للارتفاق والاتكاء .
{ وقل الحق من ربكم } الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى ، ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف و{ من ربكم } حالا . { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر ، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله فإنه وان كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته . { إنا اعتدنا } هيأنا . { للظالمين نارا أحاط بهم سُرادقُها } فسطاطها ، شبه به ما يحيط بهم من النار . وقيل السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط . وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار { وإن يستغيثوا } من العطش . { يُغاثوا بما كالمهل } كالجسد المذاب . وقيل كدرديّ الزيت وهو على طريقة قوله : فاعتبوا بالصيلم . { يشوي الوجوه } إذا قدم ليشرب من فرط حرارته ، وهو صفة ثانية لماء أو حال من المهل أو الضمير في الكاف . { بئس الشراب } المهل . { وساءت } النار . { مرتفقاً } متكأ وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد ، وهو لمقابلة قوله وحسنت مرتفقا وألا فلا ارتفاق لأهل النار .
وقوله تعالى : { وقل الحق } الآية ، المعنى وقل لهم يا محمد هذا { الحق من ربكم } أي هذا القرآن ، أو هذا الإعراض عنكم ، وترك الطاعة لكم ، وصبر النفس مع المؤمنين ، وقرأ قعنب وأبو السمال{[7794]} «وقلَ » بفتح اللام قال أبو حاتم وذلك رديء في العربية ، وقوله { فمن شاء فليؤمن } الآية توعد وتهديد ، أي فليختر كل امرىء لنفسه ما يجده غداً عند الله عز وجل ، وتأولت فرقة { فمن شاء } الله إيمانه { فليؤمن ومن شاء } الله كفره { فليكفر } ، وهو متوجه ، أي فحقه الإيمان وحقه الكفر ، ثم عبر عن ذلك بلفظ الأمر إلزماً وتحريضاً ، ومن حيث للإنسان في ذلك التكسب الذي به يتعلق ثواب الإيمان وعقاب الكفر ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي «فلِيؤمن » «ولِيكفر » بكسر اللامين { وأعتدنا } مأخوذ من العتاد وهو الشيء المعد الحاضر و «السرادق » وهو الجدار المحيط كالحجرة التي تدور وتحيط الفسطاط ، وقد تكون من نوع الفسطاط أديماً أو ثوباً أو نحوه ، ومنه قول رؤبة : [ الرجز ]
يا حكم بن المنذر بن الجارود . . . سرادق والمجد عليك ممدود{[7795]}
ومنه قول سلامة بن جندل : [ الطويل ]
هو المولج النعمان بيتا سماؤه . . . صدور الفيول بعد بيت مسردق{[7796]}
وقال الزجاج «السرادق » كل ما أحاط بشيء .
قال القاضي أبو محمد : وهو عندي أخص مما قال الزجاج ، واختلف في «سرادق » النار فقال ابن عباس { سرادقها } حائط من نار وقالت فرقة { سرادقها } دخان يحيط بالكفار ، وقوله تعالى : { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب }{[7797]} [ المرسلات : 30 ] وقالت فرقة الإحاطة هي في الدنيا ، والسرادق البحر ، وروي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق يعلى بن أمية ، فيجيء قوله تعالى : { أحاط بهم } أي بالبشر ذكر الطبري الحديث عن يعلى قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البحر هي جهنم » وتلا هذه الآية : ثم قال «والله لا أدخله أبداً أو ما دمت حياً »{[7798]}
، وروي عنه أيضاً عليه السلام من طريق أبي سعيد الخدري أنه قال «سرادق النار أربعة جدور ، كتف عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة »{[7799]} ، وقوله عز وجل { يغاثوا } أي يكون لهم مقام الغوث وهذا نحو قول الشاعر : [ الوافر ]
تحية بينهم ضرب وجيع{[7800]} . . . أي القائم مقام التحية و «المهل » قال أبو سعيد عن النبي عليه السلام هو دردي{[7801]} الزيت إذا انتهى حده ، وقالت فرقة هو كل مائع سخن حتى انتهى حره ، وقال ابن مسعود وغيره هو كل ما أذيب من ذهب أو فضة أو رصاص أو نحو هذا من الفلز حتى يميع ، وروي أن عبد الله بن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب أو فضة فأمر بها فأذيبت حتى تميعت وتلونت ألواناً ثم دعا من ببابه من أهل الكوفة ، فقال ما رأيت في الدنيا شيئاً أدنى شبهاً «بالمهل » من هذا ، يريد أدنى شبهاً بشراب أهل النار ، وقالت فرقة «المهل » : الصديد والدم إذا اختلطا ، ومنه قول أبي بكر الصديق في الكفن : «إنما هو للمهلة » ، يريد لما يسيل من الميت في قبره ، ويقوى هذا بقوله { ويسقى من ماء صديد }{[7802]} [ إبراهيم : 16 ] الآية . وقوله { يشوي الوجوه } روي في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تقرب الشربة من الكافر ، فإذا دنت منه تكَّرهها ، فإذا دنت أكثر شوت وجهه ، وسقطت فيها فروة وجهه ، وإذا شرب تقطعت أمعاؤه »{[7803]} و «المرتفق » ، الشيء الذي يرتفق به أي يطلب رفقه ، و «المرتفق » الذي هو المتكأ أخص من هذا الذي في الآية ، لأنه في شيء واحد من معنى الرفق ، على أن الطبري قد فسر الآية به ، والأظهر عندي أن يكون «المرتفق » بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره ، وقال مجاهد «المرتفق » المجتمع كأنه ذهب بها إلى موضع الرفاقة ، ومنه الرفقة ، وهذا كله راجع إلى الرفق ، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى ، والقول بين الوجه ، والله المعين{[7804]} .