يخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقصة أصحاب الفيل الذين قصدوا هدم بيت الله ، ويلفته إلى ما حوته القصة من عبرة دالة على عظم قدرته تعالى وانتقامه من المعتدين على حرماته . فقد سلط الله عليهم من جنوده ما قطع أوصالهم وأذهب ألبابهم ، ولم يبق منهم غير أثر كأنه غلاف بر ذهب لبه{[1]} .
1- قد علمت - يا محمد - علماً لا يخالطه شك فِعْل ربك بأصحاب الفيل ؛ الذين قصدوا الاعتداء على البيت الحرام .
{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }
أي : أما رأيت من قدرة الله وعظيم شأنه ، ورحمته بعباده ، وأدلة توحيده ، وصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ما فعله الله بأصحاب الفيل .
1- سورة " الفيل " وسماها بعضهم سورة " ألم تر . . . " من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها خمس آيات ، وكان نزولها بعد سورة " قل يأيها الكافرون " ، وقبل سورة " القيامة " ، فهي السورة التاسعة عشرة في ترتيب النزول من بين السور المكية .
2- ومن أهم مقاصدها تذكير أهل مكة بفضل الله –تعالى- عليهم ، حيث منع كيد أعدائهم عنهم ، وعن بيته الحرام ، وبيان أن هذا البيت له مكانته السامية عنده –تعالى- ، وأن من أراده بسوء قصمه الله –تعالى- ، وتبشير النبي صلى الله عليه وسلم بأنه –سبحانه- كفيل برعايته ونصره على أعدائه ، كما نصر أهل مكة على أبرهة وجيشه ، وتثبيت المؤمنين على الحق ، لكي يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، وبيان أن الله –سبحانه- غالب على أمره .
3- وقصة أصحاب الفيل من القصص المشهورة عند العرب ، وملخصها : أن أبرهة الأشرم الحبشي أمير اليمن من قبل النجاشي ملك الحبشة ، بنى كنيسة بصنعاء لم ير مثلها في زمانها . . وأراد أن يصرف الناس من الحج إلى بيت الله الحرام ، إلى الحج إليها . . ثم جمع جيشا عظيما قدم به لهدم الكعبة . . فأهلكه الله –تعالى- وأهلك من معه من رجال وأفيال . .
وكانت ولادته صلى الله عليه وسلم في هذا العام . . ( {[1]} ) .
الاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ . . . } للتقرير بما تواتر نقله وعمله صلى الله عليه وسلم وعلمه غيره علما مستفيضا . . حتى إن العرب كانوا يؤرخون بتلك الحادثة ، فيقولون : هذا الأمر حدث فى عام الفيل ، أو بعده أو قبله . . والمراد بالرؤية هنا : العلم المحقق .
وعبر - سبحانه - عن العلم بالرؤية ؛ لأن خبر هذه القصة - كما أشرنا -كان من الشهرة بمكان ، فالعلم الحاصل بها مساو فى قوة الثبوت للرؤية والمشاهدة .
والمعنى : لقد علمت - أيها الرسول الكريم - علما لا يخالطه ريب أو لبس ، ما فعله ربك بأصحاب الفيل ، الذين جاءوا لهدم الكعبة ، حيث أهلكناهم إهلاكا شنيعا ، كانت في العبرة والعظة ، والدلالة الواضحة على قدرتنا ، وعلى حمايتنا لبيتنا الحرام .
وأوقع - سبحانه - الاستفهام عن كيفية ما أنزله بهم ، لا عن الفعل ذاته ؛ لأن الكيفية أكثر دلالة على قدرته - تعالى - ، وعلى أنه - سبحانه - لا يعجزه شيء .
وفى التعبير بقوله : { فَعَلَ رَبُّكَ . . . } إشارة إلى أن هذا الفعل لا يقدر عليه أحد سواه - سبحانه - ، فهو الذى ربى نبيه صلى الله عليه وسلم وتعهده بالرعاية ، وهو الكفيل بنصره على أعدائه ، كما نصر أهل مكة على جيوش الحبشة . . وهم أصحاب الفيل .
ووصفوا بأنهم " أصحاب الفيل " ؛ لأنهم أحضروا معهم الفيلة ، ليستعينوا بها على هدم الكعبة ، وعلى إذلال أهل مكة .
هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش ، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل ، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود ، فأبادهم الله ، وأرغم آنافهم ، وخيب سعيهم ، وأضل عملهم ، وَرَدهم بشر خيبة . وكانوا قوما نصارى ، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان . ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ، ولسان حال القدر يقول : لم ننصركم - يا معشر قريش - على الحبشة لخيريتكم عليهم ، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد ، صلوات الله وسلامه عليه{[30514]} خاتم الأنبياء .
وهذه قصة أصحاب الفيل على وجه الإيجاز والاختصار والتقريب : قد تقدم في قصة أصحاب الأخدود{[30515]} أن ذا نُوَاس - وكان آخر ملوك حمير ، وكان مشركًا - هو الذي قتل أصحاب الأخدود ، وكانوا نصارى ، وكانوا قريبًا من عشرين ألفًا ، فلم يفلت منهم إلا دَوس ذو ثعلبان ، فذهب فاستغاث بقيصر ملك الشام - وكان نصرانيًا - فكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة ؛ لكونه أقرب إليهم ، فبعث معه أميرين : أرياط وأبرهة بن الصباح أبا يكسوم{[30516]} في جيش كثيف ، فدخلوا اليمن فجاسوا خلال الديار ، واستلبوا الملك من حمير ، وهلك ذو نواس غريقا في البحر . واستقل الحبشة بملك اليمن وعليهم هذان الأميران : أرياط وأبرهة ، فاختلفا في أمرهما وتصاولا وتقاتلا وتصافا ، فقال أحدهما للآخر : إنه لا حاجة بنا إلى اصطدام الجيشين بيننا ، ولكن ابرز إلي وأبرز إليك ، فأينا قتل الآخر ، استقل بعده بالملك . فأجابه إلى ذلك فتبارزا ، وخَلَفَ كل واحد منهما قناة ، فحمل أرياط على أبرهة فضربه بالسيف ، فشرم أنفه وفمه وشق وجهه ، وحمل عَتَوْدَة مولى أبرهة على أرياط فقتله ، ورجع أبرهة جريحًا ، فداوى جرحه فَبَرأ ، واستقل بتدبير جيش الحبشة باليمن . فكتب{[30517]} إليه النجاشي يلومه على ما كان منه ، ويتوعده ويحلف ليطأن بلاده ويجزن ناصيته . فأرسل إليه أبرهة يترقق له ويصانعه ، وبعث مع رسوله بهدايا وتحف ، وبجراب فيها من تراب اليمن ، وجز ناصيته فأرسلها معه ، ويقول في كتابه : ليطأ الملك على هذا الجراب فيبر قسمه ، وهذه ناصيتي قد بعثت بها إليك . فلما وصل ذلك إليه أعجبه منه ، ورضي عنه ، وأقره على عمله . وأرسل أبرهة يقول للنجاشي : إني سأبني لك كنيسة بأرض اليمن لم يُبْنَ قبلها مثلها . فشرع في بناء كنيسة هائلة بصنعاء ، رفيعة البناء ، عالية الفناء ، مزخرفة الأرجاء . سمتها العرب القُلَّيس ؛ لارتفاعها ؛ لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها . وعزم أبرهة الأشرمُ على أن يصرف حَجّ العرب إليها كما يُحَج إلى الكعبة بمكة ، ونادى بذلك في مملكته ، فكرهت العرب العدنانية والقحطانية ذلك ، وغضبت قريش لذلك غضبًا شديدًا ، حتى قصدها بعضهم ، وتوصل إلى أن دخلها ليلا ، فأحدث فيها وكرّ راجعًا . فلما رأى السدنة ذلك الحدث ، رفعوا أمرهم إلى ملكهم أبرهة ، وقالوا له : إنما صنع هذا بعض قريش غضبًا لبيتهم الذي ضاهيت هذا به ، فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة ، وليخربنه حجرًا حجرًا .
وذكر مقاتل بن سليمان أن فتية من قريش دخلوها فأججوا فيها نارًا ، وكان يومًا فيه هواء شديد فأحرقته ، وسقطت إلى الأرض .
فتأهب أبرهة لذلك ، وصار في جيش كثيف عَرَمرم ؛ لئلا يصده أحد عنه ، واستصحب معه فيلا عظيما كبير الجثة لم ير مثله ، يقال له : محمود ، وكان قد بعثه إليه النجاشي ملك الحبشة لذلك . ويقال : كان معه أيضًا ثمانية أفيال . وقيل : اثنا عشر فيلا . وقيل غيره ، والله أعلم . يعني ليهدم به الكعبة ، بأن يجعل السلاسل في الأركان ، وتوضع في عُنُق الفيل ، ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة . فلما سمعت العرب بمسيره أعظموا ذلك جدًا ، ورأوا أن حقًا عليهم المحاجبة{[30518]} دون البيت ، وَرَد من أراده بكيد . فخرج إليه رجل [ كان ]{[30519]} من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، يقال له " ذو نَفْر " فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله ، وما يريد من هدمه وخرابه . فأجابوه وقاتلوا أبرهة ، فهزمهم لما يريده الله ، عز وجل ، من كرامة البيت وتعظيمه ، وأسر " ذو نُفْر " فاستصحبه معه . ثم مضى لوجهه حتى إذا كان بأرض خثعم ، عَرَض له نُفَيل بن حَبيب الخَشْعمي في قومه : شهران وناهس ، فقاتلوه ، فهزمهم أبرهة ، وأسر نُفَيل بن حبيب ، فأراد قتله ثم عفا عنه ، واستصحبه معه ليدله في بلاد الحجاز . فلما اقترب من أرض الطائف ، خرج إليه أهلها ثقيف وصانعوه خيفة على بيتهم الذي عندهم الذي يسمونه اللات . فأكرمهم وبعثوا معه " أبا رغَال " دليلا . فلما انتهى أبرهة إلى المُغَمْس - وهو قريب من مكة - نزل به وأغار جيشه على سَرْح أهل مكة من الإبل وغيرها ، فأخذوه . وكان في السرح{[30520]} مائتا بعير لعبد المطلب . وكان الذي أغار على السرح بأمر أبرهة أمير المقدمة ، وكان يقال له : " الأسود بن مفصود " فهجاه بعض العرب - فيما ذكره ابن إسحاق{[30521]} - وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وأمره أن يأتيه بأشرف قريش ، وأن يخبره أن الملك لم يجئ لقتالكم إلا أن تَصُدوه عن البيت . فجاء حناطة فَدُل على عبد المطلب بن هاشم وبلغه عن أبرهة ما قال ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلى بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دَفْع عنه . فقال له حناطة : فاذهب معي إليه . فذهب معه ، فلما رآه أبرهة أجله ، وكان عبد المطلب رجلا جميلا حسن المنظر ، ونزل أبرهة عن سريره ، وجلس معه على البساط ، وقال لترجمانه : قل له : حاجتك ؟ فقال للترجمان : إن حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فقال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زَهِدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه ، لا تكلمني فيه ؟ ! فقال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني ! قال : أنت وذاك .
ويقال : إنه ذهب مع عبد المطلب جماعة من أشراف العرب فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت ، فأبى عليهم ، ورد أبرهة على عبد المطلب إبله ، ورجع عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة ، والتحصن في رءوس الجبال ، تخوفا عليهم من معرة الجيش . ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لاهُمَّ{[30522]} إنَّ المرء يم *** نَعُ رَحْلَه فامْنع حِلالَك
لا يغلبنَّ صَلِيبُهم *** ومحَالُهم غدوًا مِحَالك
قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حَلْقة الباب ، ثم خرجوا إلى رءوس الجبال{[30523]} .
وذكر مقاتل بن سليمان أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مُقَلَّدة ، لعل بعض الجيش{[30524]} ينال منها شيئا بغير حق ، فينتقم الله منه .
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله - وكان اسمه محمودًا - وعبأ جيشه ، فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه ثم أخذ بأذنه وقال : ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام " . ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل . وخرج نفيل بن حبيب يَشتد حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم فأبى . فضربوا في رأسه بالطْبرزين{[30525]} وأدخلوا محاجن لهم في مَرَاقه فبزغوه بها ليقوم ، فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول . ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك . ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك . وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان .
مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت . وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق ، ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق هذا . ونفيل على رأس الجبل مع قريش وعرب الحجاز ، ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة ، وجعل نفيل يقول :
أينَ المَفَرُّ? والإلهُ الطَّالب{[30526]} *** والأشرمُ المغلوبُ غير الغالب{[30527]}
قال ابن إسحاق : وقال نُفَيل في ذلك أيضًا :
ألا حُييت عَنا يا رُدَينا *** نَعمْناكُم مَعَ الأصبَاح عَينَا
رُدَينةُ لو رأيت - ولا تَرَيْه *** لَدَى جَنْب المحصّب - ما رَأينَا
إذا لَعَذَرتني وَحَمَدت أمْري *** وَلَم تأسى عَلَى مَا فات بَيْنَا
حَمِدتُ الله إذ أبصَرتُ طيرًا *** وَخفْتُ حَجارة تُلقَى عَلَينا
فَكُلّ القوم يَسألُ عَن نُفَيل *** كَأنَّ عليَ للحُبْشَان دَينَا !
وذكر الواقدي بأسانيده أنهم لما تعبئوا لدخول الحرم وهيئوا الفيل ، جعلوا لا يصرفونه إلى جهة من سائر الجهات إلا ذهب [ فيها ]{[30528]} فإذا وجهوه إلى الحرم رَبَض وصاح . وجعل أبرهة يحمل على سائس الفيل وينهره ويضربه ، ليقهر الفيل على دخول الحرم . وطال الفصل في ذلك . هذا وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة ، منهم{[30529]} المطعم بن عدي ، وعمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، ومسعود [ بن عمرو ]{[30530]} الثقفي ، على حراء ينظرون إلى ما الحبشة يصنعون ، وماذا يلقون من أمر الفيل ، وهو العجب العجاب . فبينما هم كذلك ، إذ بعث الله عليهم طيرًا أبابيل ، أي قطَعًا قِطَعًا صفرا دون الحمام ، وأرجلها حمر ، ومع كل طائر ثلاث أحجار ، وجاءت فحلقت عليهم ، وأرسلت تلك الأحجار عليهم فهلكوا .
وقال محمد بن كعب : جاءوا بفيلين : فأما محمود فَرَبض ، وأما الآخر فَشَجُع{[30531]} فحُصِب .
وقال وهب بن مُنَبِّه : كان معهم فيلة ، فأما محمود - وهو فيل الملك - فربض ، ليقتدي به بقية الفيلة ، وكان فيها فيل تَشَجَّع فحصب ، فهربت بقية الفيلة .
وقال عطاء بن يَسَار ، وغيره : ليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة ؛ بل منهم من هلك سريعًا ، ومنهم من جعل يتساقط عضوًا عضوًا وهم هاربون ، وكان أبرهة ممن يتساقط عضوًا عضوًا ، حتى مات ببلاد خثعم .
قال ابن إسحاق : فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل{[30532]} وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنْمُلة أنْمُلة ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن{[30533]} قلبه فيما يزعمون .
وذكر مقاتل بن سليمان : أن قريشًا أصابوا مالا جزيلا من أسلابهم ، وما كان معهم ، وأن عبد المطلب أصاب يومئذ من الذهب ما ملأ حفرة .
وقال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عُتْبَة : أنه حدث{[30534]} أن أول ما رئيت الحَصبة والجُدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول ما رئي به مَرائر الشجر الحَرْمل ، والحنظل والعُشر ، ذلك العام{[30535]} .
وهكذا روي عن عكرمة ، من طريق جيد .
قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان فيما يَعُد به على قريش من نعْمتَه{[30536]} عليهم وفضله ، ما رَدَّ عنهم من أمر الحبشة ، لبقاء أمرهم ومدتهم ، فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } { لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [ سورة قريش ] أي : لئلا يغير شيئا من حالهم التي كانوا عليها ، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مّأْكُولِ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تنظر يا محمد بعين قلبك ، فترى بها { كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحَابِ الْفِيلِ } الذين قَدِموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحَبَشة ورئيسهم أبرهة الحبشيّ الأشرم . { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } يقول : ألم يجعل سعي الحبشة أصحاب الفيل في تخريب الكعبة فِي تَضْلِيلٍ يعني : في تضليلهم عما أرادوا وحاولوا من تخريبها .
بسم الله الرحمن الرحيم { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الوقعة لكن شاهد آثارها ، وسمع بالتواتر أخبارها ، فكأنه رآها . وإنما قال{ كيف } ولم يقل :ما ؛ لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله تعالى وقدرته ، وعزة بيته ، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنها من الإرهاصات ؛ إذ روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قصتها أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف الحاج إليها ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا فأغضبه ذلك ، فحلف ليهدمن الكعبة ، فخرج بجيشه ومعه فيل قوي اسمه محمود وفيلة أخرى ، فلما تهيأ للدخول وعبى جيشه قدم الفيل ، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا رجعوه إلى اليمن أو إلى جهة أخرى هرول ، فأرسل الله تعالى طيرا مع كل واحد في منقاره حجر وفي رجليه حجران أكبر من العدسه وأصغر من الحمصة ، فترميهم فيقع الحجر في رأس الرجل فيخرج من دبره ، فهلكوا جميعا . وقرئ ( ألم تر ) جدا في إظهار أثر الجازم ، وكيف نصب بفعل ، لا ب( تر ) ، لما فيه من معنى الاستفهام .
{ كيف } نصب بفعل ، والجمهور على أنه فيل واحد ، وقال الضحاك : ثمانية ، فهو اسم الجنس ، وقوله مردود ، وحكى النقاش : ثلاثة عشر . وهذه السورة تنبيه على الاعتبار في أخذ الله تعالى لأبرهة ملك الحبشة ولجيشه حين أم به الكعبة ليهدمها ، وكان صاحب فيل يركبه ، وقصته مشروحة في السير الطويلة ، واختصاره أنه بنى في اليمن بيتاً وأراد أن يرد إليه حج العرب ، فذهب أعرابي فأحدث في البيت الذي بنى أبرهة ، فغضب لذلك ، واحتفل في جموعه ، وركب الفيل وقصد مكة ، وغلب من تعرضه في طريقه من قبائل العرب ، فلما وصل ظاهر مكة وفر عبد المطلب وقريش إلى الجبال والشعاب ، وأسلموا له البلد ، وغلب طغيانه ، ولم يكن للبيت من البشر من يعصمه ويقوم دونه ، جاءت قدرة الواحد القهار وأخذ العزيز المقتدر ، فأصبح أبرهة ليدخل مكة ويهدم الكعبة فبرك فيله بذي المغمس{[11985]} ولم يتوجه قبل مكة فبضعوه بالحديد{[11986]} فلم يمش إلى ناحية مكة ، وكان إذا وجهوه إلى غيرها هرول ، فبينا هم كذلك في أمر الفيل بعث الله { عليهم طيراً } جماعات جماعات سوداً من البحر وقيل : خضراً ، عند كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه ، وكل حجر فوق العدسة ودون الحمصة ، فرمتهم بتلك الحجارة ، فكان الحجر منها يقتل المرمي وتتهرى لحومهم جذرياً ، وأسقاماً ، فانصرف أبرهة بمن معه يريد اليمن فماتوا في طريقهم متفرقين في كل مرحلة ، وتقطع أبرهة أنملة أنملة حتى مات وحمى الله بيته المرفع ، فنزلت الآية منبهة على الاعتبار بهذه القصة ، ليعلم الكل أن الأمر كله لله ، ويستسلموا للإله الذي ظهرت في ذلك قدرته ، حين لم تغن الأصنام شيئاً ف { أصحاب الفيل } : أبرهة الملك ورجاله ، وقرأ أبو عبد الرحمن : «ألم ترْ » بسكون الراء .
وردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة { ألم تر } . روى القرطبي في تفسير { سورة قريش } عن عمرو بن ميمون قال : صليت المغرب خلف عمر ابن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية { ألم تر } و{ لإيلاف قريش } . وكذلك عنونها البخاري . وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير { سورة الفيل } .
وقد عدت التاسعة عشرة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة { قل يا أيها الكافرون } وقبل { سورة الفلق } . وقيل قبل { سورة قريش } لقول الأخفش إن قوله تعالى { لإيلاف قريش } متعلق بقوله { فجعلهم كعصف مأكول } ، ولأن أبي بن كعب جعلها وسورة قريش سورة واحدة في مصحفه ولم يفصل بينهما بالبسملة ولخبر عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب المذكور آنفا روى أن عمر بن الخطاب قرأ مرة في المغرب في الركعة الثانية سورة الفيل وسورة قريش ، أي ولم يكن الصحابة يقرأون في الركعة من صلاة الفرض سورتين لأن السنة قراءة الفاتحة وسورة فدل أنهما عنده سورة واحدة . ويجوز أن تكون سورة قريش نزلت بعد سورة الفلق وألحقت بسورة الفيل فلا يتم الاحتجاج بما في مصحف أبي بن كعب ولا بما رواه عمرو بن ميمون .
وقد تضمنت التذكير بأن الكعبة حرم الله وأن الله حماه ممن أرادوا به سوءا أو أظهر غضبه عليهم فعذبهم لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم ، وذلك ما سماه الله كيدا ، وليكون ما حل بهم تذكرة لقريش بأن فاعل ذلك هو رب ذلك البيت وأن لا حظ فيه للأصنام التي نصبوها حوله .
وتنبيه قريش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته .
ومن وراء ذلك تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يدفع عنه كيد المشركين فإن الذي دفع كيد من يكيد لبيته لأحق بأن يدفع كيد من يكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم ودينه ويشعر بهذا قوله { ألم نجعل كيدهم في تضليل } .
ومن وراء ذلك كله التذكير بأن الله غالب على أمره ، وأن لا تغر المشركين قوتهم ووفرة عددهم ولا يوهن النبي صلى الله عليه وسلم تألب قبائلهم عليه فقد أهلك الله من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعا .
ولم يتكرر في القرآن ذكر إهلاك أصحاب الفيل خلافا لقصص غيرهم من الأمم لوجهين : أحدهما أن هلاك أصحاب الفيل لم يكن لأجل تكذيب رسول من الله ، وثانيهما أن لا يتخذ من المشركين غرورا بمكانة لهم عند الله كغرورهم بقولهم المحكي في قوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } الآية وقوله { وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون } .
استفهام تقريري وقد بيّنّا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثيراً ما يكون على نفي المقرَّر بإثباته للثقة بأن المقرَّر لا يسعه إلا إثبات المنفي وانظر عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } في سورة البقرة ( 243 ) . والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته . وعليه فالتقرير مستعمل مجازاً في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصاً للنبيء فيكون من باب قوله : { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [ البلد : 1 ، 2 ] ، وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم إذ لم يزالوا يعبدون غيره .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه قوله : { ربك } . فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالى : { ألم يجدك يتيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] الآيات وقوله : { لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد } [ البلد : 1 ، 2 ] على أحد الوجوه المتقدمة .
فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه . وقال أبو صالح : رأيت في بيت أم هاني بنت أبي طالب نحواً من قفيزين من تلك الحجارة سُوداً مخططة بحمرة . وقال عتاب بن أسِيدْ : أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مُقْعَدين يستطعمان الناس . وقالت عائشة : لقد رأيْتُ قائد الفيل وسائقه أعمَيين يستطعمان الناس . وفعل الرؤية معلق بالاستفهام .
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسبة لمن تجاوز سنهُ نيفاً وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلاماً أو فتى مثل أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف .
و { كيف } للاستفهام سَدّ مسدّ مفعوليْ أو مفعول { تَر } ، أي لم تر جواب هذا الاستفهام ، كما تقول : علمتُ هل زيد قائم ؟ وهو نصب على الحال من فاعل { تَر } . ويجوز أن يكون { كيف } مجرداً عن معنى الاستفهام مراداً منه مجرد الكيفية فيكون نصباً على المفعول به .
وإيثار { كيف } دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل : ألم تر ما فعل ربك ، أو الذي فعل ربك ، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة .
وأوثر لفظ { فعل ربك } دون غيره لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالاً كثيرة لا يدل عليها غيره .
وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف ( رب ) مضافاً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصاً لنبوءته إذ كان ذلك عام مولده .
وأصحاب الفيل : الحَبشة الذين جاءوا مكة غازين مضمِرين هدم الكعبة انتقاماً من العرب من أجل ما فعله أحد بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج .
وكان خبر ذلك وسببه أن الحبشة قد ملكوا اليمن بعد واقعة الأخدود التي عَذَّب فيها الملكُ ذو نواس النصارى ، وصار أمير الحبشة على اليمن رجلاً يقال له : ( أبرهة ) وأن أبرهة بنى كنيسة عظيمة في صنعاء دعاها القَلِيس ( بفتح القاف وكسر اللام بعدما تحتية ساكنة ، وبعضهم يقولها بضم القاف وفتح اللام وسكون التحتية ) . وفي « القاموس » بضم القاف وتشديد اللام مفتوحة وسكون الياء . وكتبه السهيلي بنون بعد اللام ولم يضبطه وزعم أنه اسم مأخوذ من معاني القَلْس للارتفاع . ومنه القلنسوة واقتصر على ذلك ولم أعرف أصل هذا اللفظ فإما أن يكون اسم جنس للكنيسة ولعل لفظ كنيسة في العربية معرّب منه ، وإما أن يكون علماً وضعوه لهذه الكنيسة الخاصة وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة فروي أن رجلاً من بني فُقَيم من بني كنانة وكانوا أهل النسيء للعرب كما تقدم عند قوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } في سورة براءة ( 37 ) ، قَصد الكنانيُّ صنعاء حتى جاء القليس فأحدث فيها تحقيراً لها ليتسامَعَ العربُ بذلك فغضب أبرهة وأزمع غزو مكة ليهدم الكعبة وسار حتى نزل خارج مكة ليلاً بمكان يقال له المُغَمَّس ( كمعظم موضع قرب مكة في طريق الطائف ) أو ذو الغميس ( لم أر ضبطه ) وأرسل إلى عبد المطلب ليحذره من أن يحاربوه وجرى بينهما كلام ، وأمر عبد المطلب آله وجميع أهل مكة بالخروج منها إلى الجبال المحيطة بها خشية من معرة الجيش إذا دخلوا مكة . فلما أصبح هيّأ جَيْشه لدخول مكة وكان أبرهة راكباً فيلاً وجيشه معه فبينا هو يَتهيّأ لذلك إذ أصاب جنده داء عضال هو الجُدريّ الفتاك يتساقط منه الأنامل ، ورأوا قبل ذلك طيراً ترميهم بحجارة لا تصيب أحداً إلا هلك وهي طير من جند الله فهلك معظم الجيش وأدبر بعضهم ومرض ( أبرهة ) فقفل راجعاً إلى صنعاء مريضاً ، فهلك في صنعاء وكفى الله أهل مكة أمر عدوّهم . وكان ذلك في شهر محرم الموافق لشهر شباط ( فبراير ) سنة 570 بعد ميلاد عيسى عليه السلام ، وبعد هذا الحادث بخمسين يوماً ولد النبي على أصح الأخبار وفيها اختلاف كثير .
والتعريف في { الفيل } للعهد ، وهو فيل أبرهة قائد الجيش كما قالوا للجيش الذي خرج مع عائشة أم المؤمنين أصحاب الجَمل يريدون الجمل الذي كانت عليه عائشة ، مع أن في الجيش جمالاً أخرى . وقد قيل : إن جيش أبرهة لم يكن فيه إلا فيل واحد ، وهو فيل أبرهة ، وكان اسمه محمود . وقيل : كان فيه فِيَلَة أخرى ، قيل ثمانية وقيل : اثنا عشر . وقال بعضٌ : ألف فيل . ووقع في رجز ينسب إلى عبد المطلب :
أنتَ منعتَ الحُبْشَ والأفْيالا
فيكون التعريف تعريف الجنس ويكون العهد مستفاداً من الإِضافة .
والفيل : حيوان عظيم من ذوات الأربع ذواتِ الخف ، من حيوان البلاد الحارة ذات الأنهار من الهند والصين والحبشة والسودان ، ولا يوجد في غير ذلك إلا مجلوباً ، وهو ذكي قابل للتأنس والتربية ، ضخم الجثة أضخم من البعير ، وأعلى منه بقليل وأكثر لحماً وأكبر بطناً .
وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جداً له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ويدافع به عن نفسه يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان ، ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه . وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان ، وذَنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة . ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخِذ الناس منها العاجَ . وجلده أجرد مثل جلد البقر ، أصهب اللون قاتم كلون الفار ويكون منه الأبيض الجلد . وهو مركوبٌ وحاملُ أثقال وأهل الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود . ولم يكن الفيل معروفاً عند العرب فلذلك قلّ أن يُذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة .
وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة . ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيماً قوياً ، قال لبيد :
ومقامٍ ضيِّق فرَّجْتُـه *** ببيـــانٍ ولسان وجَدل
لو يقومُ الفيلُ أوفَيَّالُه *** زل عن مثل مقامي ورحل
لقَدْ أقومُ مقاماً لو يقوم به *** أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظلَّ يَرْعد إلا أنْ يكون له *** من الرسول بإذن الله تنويل
وكنت رأيْتُ أنّ . . . . قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل بمكة حول الكعبة ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة .
وعن عائشة وعتاب بن أسيد : رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس .
والمعنى : ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل ، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده .