تشتمل هذه السورة الكريمة على إحدى وعشرة آية ومائة ، وهي سورة مكية إلا الآيات 26 ، 32 ، 33 ، 57 ، ومن آية إلى 80 ، فمجوع الآيات المدنية اثنتا عشرة آية .
ابتدأت السورة بتسبيح الله تعالى ، ثم ذكرت الإسراء ، ثم رسالة موسى ، وما كان من بني إسرائيل . ثم أشارت إلى منزلة القرآن الكريم في الهداية ، وإلى الآيات الكونية في الليل والنهار ، وما يكون للناس يوم القيامة من جزاء على ما يقدمون من أعمال في الدنيا . وبين سبحانه أسباب فساد الأمم ، وحال الأفراد في مساعيهم ونتائج أعمالهم في الآخرة ، وجاءت الآيات من بعد ذلك بإكرام الوالدين ، وحال الناس بالنسبة لأموالهم ، وجاءت بأوامر عشرة . فيها بناء المجتمع الفاضل ، ثم رد سبحانه مفتريات المشركين بالنسبة للملائكة ، ثم بين القرآن تصريفه في الحجج .
ثم أشار سبحانه إلى ما يستحق من تحميد ، وإلى جحود المشركين ، وقدم سبحانه وصايا للمؤمنين ، وبين معاملته تعالى للكافرين في الدنيا وفي الآخرة . ثم بين سبحانه أصل الخليقة الإنسانية والشيطانية ، وهدد سبحانه المشركين بآياته ، وبين بعد هذا سبحانه الكرامة الإنسانية ، وذكر سبحانه بعذاب يوم القيامة ، ثم ذكر محاولة المشركين لصرف النبي عن دعوته ، وتثبيت الله تعالى له ، وقد أوصى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك النبي بعدة وصايا هادية ، وأدعية ضارعة ، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى منزلة القرآن الكريم ، وتكلم سبحانه عن الروح ، وأشار إلى أسرارها ، ثم ذكر سبحانه قدرته على أن يأتي بآيات أخرى ، ثم بين منزلة القرآن فيما اشتمل عليه من الحق ، وحال المؤمنين الصادقين في إيمانهم ، وما ينبغي من أن يحمدوا الله دائما ويكبروه .
1- تنزيهاً لله عما لا يليق به ، وهو الذي سار بعبده محمداً في جزء من الليل من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس ، الذي بارك الله حوله لسكانه في أقواتهم ، لِنُريَه من أدلتنا ما فيه البرهان الكافي على وحدانيتنا وعظم قدرتنا ، إن الله - وحده - هو السميع البصير .
{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
ينزه تعالى نفسه المقدسة ويعظمها لأن له الأفعال العظيمة والمنن الجسيمة التي من جملتها أن { أَسْرَى بِعَبْدِهِ } ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } الذي هو أجل المساجد على الإطلاق { إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } الذي هو من المساجد الفاضلة وهو محل الأنبياء .
فأسري به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدا ورجع في ليلته ، وأراه الله من آياته ما ازداد به هدى وبصيرة وثباتا وفرقانا ، وهذا من اعتنائه تعالى به ولطفه حيث يسره لليسرى في جميع أموره وخوله نعما فاق بها الأولين والآخرين ، وظاهر الآية أن الإسراء كان في أول الليل وأنه من نفس المسجد الحرام ، لكن ثبت في الصحيح أنه أسري به من بيت أم هانئ ، فعلى هذا تكون الفضيلة في المسجد الحرام لسائر الحرم ، فكله تضاعف فيه العبادة كتضاعفها في نفس المسجد ، وأن الإسراء بروحه وجسده معا وإلا لم يكن في ذلك آية كبرى ومنقبة عظيمة .
وقد تكاثرت الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء ، وذكر تفاصيل ما رأى وأنه أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به من هناك إلى السماوات حتى وصل إلى ما فوق السماوات العلى ورأى الجنة والنار ، والأنبياء على مراتبهم وفرض عليه الصلوات خمسين ، ثم ما زال يراجع ربه بإشارة موسى الكليم حتى صارت خمسا بالفعل ، وخمسين بالأجر والثواب ، وحاز من المفاخر تلك الليلة هو وأمته ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل .
وذكره هنا وفي مقام الإنزال للقرآن ومقام التحدي بصفة العبودية لأنه نال هذه المقامات الكبار بتكميله لعبودية ربه .
وقوله : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } أي : بكثرة الأشجار والأنهار والخصب الدائم .
ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة ، وأنه يطلب شد الرحل إليه للعبادة والصلاة فيه وأن الله اختصه محلا لكثير من أنبيائه وأصفيائه .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا تفسير لسورة الإسراء ، أسأل الله عز وجل أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، إنه سميع مجيب .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المدينة المنورة في : 5/1/1404ه/ الموافق : 10/10/1983م .
المؤلف : د . محمد سيد طنطاوي .
1- سورة الإسراء هي السورة السابعة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سورة : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء . . . الخ .
أما ترتيبها في النزول ، فقد ذكر السيوطي في الإتقان أنها السورة التاسعة والأربعون ، وأن نزولها كان بعد سورة القصص( {[1]} ) .
2- وتسمى أيضا بسورة " بني إسرائيل " ، وبسورة " سبحان " . وعدد آياتها عند الجمهور إحدى عشرة آية ومائة ، وعند الكوفيين عشر آيات ومائة آية .
3- ومن الأحاديث التي وردت في فضلها ، ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود –رضي الله عنه- أنه قال في بني إسرائيل ، والكهف ومريم : إنهن من العِتَاق الأول ، وهنّ من تِلادي( {[2]} ) .
والعِتاق : جمع عتيق وهو القديم ، وكذلك التالد بمعنى القديم . ومراده –رضي الله عنه- أن هذه السور من أول ما حفظه من القرآن .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد ، عن مروان عن أبي لبابة ، قال : سمعت عائشة –رضي الله عنها- تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم ، وكان يقرأ كل ليلة : " بني إسرائيل " و " الزمر " ( {[3]} ) .
4- ومن وجوه مناسبة هذه السورة لما قبلها ، ما ذكره أبو حيان بقوله : " ومناسبة هذه لما قبلها ، أنه –تعالى- لما أمره –في آخر النحل- بالصبر ، ونهاه عن الحزن عليهم ، وعن أن يضيق صدره من مكرهم ، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والشعر ، وغير ذلك بما رموه به ، أعقب –تعالى- ذلك بذكر شرفه ، وفضله ، واحتفائه به ، وعلو منزلته عنده " ( {[4]} ) .
5- وسورة الإسراء من السور المكية ، ومن المفسرين الذي صرحوا بذلك دون أن يذكروا خلافا في كونها مكية : الزمخشري ، وابن كثير ، والبيضاوي ، وأبو حيان .
وقال الألوسي : وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور .
وقيل : هي مكية إلا آيتين : [ وإن كادوا ليفتنونك . . . وإن كادوا ليستفزونك ] .
وقيل : إلا أربعا ، هاتان الآيتان ، وقوله –تعالى- : [ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس . . . ] .
وقوله –سبحانه- : [ وقل رب أدخلني مدخل صدق . . . ]( {[5]} ) .
والذي تطمئن إليه النفس أن سورة الإسراء بتمامها مكية –كما قال جمهور المفسرين- ، لأن الروايات التي ذكرت في كون بعض آياتها مدنية ، لا تنهض دليلا على ذلك لضعفها . . .
والذي يغلب على الظن أن نزول هذه السورة الكريمة ، أو نزول معظمها ، كان في أعقاب حادث الإسراء والمعراج .
وذلك لأن السورة تحدثت عن هذا الحدث ، كما تحدثت عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا مستفيضا ، وحكت إيذاء المشركين له ، وتطاولهم عليه ، وتعنتهم معه ، كمطالبتهم إياه بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . . .
وقد ردت السورة الكريمة على كل ذلك ، بما يسلي الرسول صلى الله عليه وسلم ويثبته ، ويرفع منزلته ، ويعلي قدره . . . في تلك الفترة الحرجة من حياته صلى الله عليه وسلم وهي الفترة التي أعقبت موت زوجه السيدة خديجة –رضي الله عنها- وموت عمه أبي طالب . . .
6- ( أ ) وعندما نقرأ سورة الإسراء ، نراها في مطلعها تحدثنا عن إسراء الله –تعالى- بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وعن الكتاب الذي آتاه الله –تعالى- لموسى –عليه السلام- ليكون هداية لقومه ، وعن قضاء الله في بني إسرائيل . .
قال –تعالى- : [ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، الذي باركنا حوله ، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير . وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، ألا تتخذوا من دوني وكيلا . ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا . وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ] . .
( ب ) ثم يبين –سبحانه- بعد ذلك أن هذا القرآن قد أنزله –سبحانه- على نبيه صلى الله عليه وسلم ليهدي الناس إلى الطريق الأقوم ، وليبشر المؤمنين بالأجر الكبير ، وأن كل إنسان مسئول عن عمله ، وسيحاسب عليه يوم القيامة ، دون أن تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى . . .
قال –تعالى- : [ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، أن لهم أجرا كبيرا . . . ] .
إلى أن يقول –سبحانه- : [ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ] .
( ج ) ثم تسوق السورة الكريمة سنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن عاقبة الترف والفسق ، الدمار والهلاك ، وأن من يريد العاجلة كانت نهايته إلى جهنم ، ومن يريد الآخرة ويقدم لها العمل الصالح كانت نهايته إلى الجنة .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البليغ فيقول : [ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها . فحق عليها القول فدمرناها تدميرا . وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح . وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا . ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ] .
( د ) وبعد أن بين –سبحانه- أن سعادة الآخرة منوطة بإرادتها ، وبأن يسعى الإنسان لها وهو مؤمن ، عقب ذلك بذكر بضع وعشرين نوعا من أنواع التكاليف ، التي متى نفذها المسلم ظفر برضى الله –تعالى- ومثوبته ، ومن تلك التكاليف قوله –تعالى- : [ لا تجعل مع الله إلها آخر ] .
[ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ] . . .
[ وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا . . . ] .
[ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم . . . ] .
[ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ] .
[ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ] .
[ ولاتقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ] .
[ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ] .
[ ولا تقف ما ليس لك به علم . . ] .
[ ولا تمش في الأرض مرحا . . ] .
( ه ) وبعد أن ساقت السورة الكريمة تلك التكاليف المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ أوالنقض ، في ثماني عشرة آية ، أتبعت ذلك بالثناء على القرآن الكريم ، وبتنزيه الله –تعالى- عن الشريك ، وببيان أن كل شيء يسبح بحمده –عز وجل- .
قال –تعالى- : [ ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفوراً . قل لو كان معه آلهة كما يقولون ، إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا . سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا . تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، إنه كان حليما غفورا ] .
( و ) ثم تحكي السورة الكريمة جانبا من أقوال المشركين ، وترد عليها بما يدحضها ، وتأمر المؤمنين بأن يقولوا الكلمة التي هي أحسن . . فتقول :
[ وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا . قل كونوا حجارة أو حديدا . أو خلقا مما يكبر في صدوركم ، فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ، فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو ، قل عسى أن يكون قريبا . يوم يدعوكم فتسجيبون بحمده ، وتظنون إن لبثتم إلا قليلا . وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ، إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ] .
( ز ) وبعد أن تقرر السورة الكريمة شمول علم الله –تعالى- لكل شيء ، وقدرته على كل شيء ، بعد أن تقرر ذلك ، تحكي لنا جانبا من قصة آدم وإبليس فتقول :
[ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا . قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ، لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ] .
( ح ) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألوانا من نعم الله على عباده في البر والبحر ، وألوانا من تكريمه لبني آدم ، كما تصور أحوال الناس يوم القيامة ، وعدالة الله –تعالى- في حكمه عليهم فتقول :
[ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا . أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ، أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا . . . ] .
ثم يقول –سبحانه- : [ ولقد كرمنا بني آدم ، وحملناهم في البر والبحر ، ورزقناهم من الطيبات ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا . يوم ندعو كل أناس بإمامهم ، فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . . . ] .
( ط ) ثم تحكي السورة جانبا من نعم الله –تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم ، حيث ثبته –سبحانه- أمام مكر أعدائه ، وأمره بالمداومة على الصلاة وعلى قراءة القرآن ، لأن ذلك يزيده ثباتا على ثباته ، وتكريما على تكريمه .
قال –تعالى- : [ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره ، وإذا لاتخذوك خليلا . ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ] .
( ي ) ثم يقول –سبحانه- : [ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا . وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا . . ] .
( ك ) وبعد أن تقرر السورة الكريمة طبيعة الإنسان ، وتقرر أن الروح من أمر الله –تعالى- تتبع ذلك بالثناء على القرآن الكريم ، وببيان أنه المعجزة الخالدة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبإيراد المطالب المتعنتة التي طالب المشركون بها النبي صلى الله عليه وسلم .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يقرر كل ذلك بأسلوبه البليغ فيقول : [ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أوتكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ] .
( ل ) ثم تسوق السورة الكريمة في أواخرها الدلائل الدالة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته ، وتحكي جانبا من قصة موسى –عليه السلام- مع فرعون وتؤكد أن هذا القرآن أنزله الله –تعالى- بالحق ، وبالحق نزل ، وأنه نزله مفرقا ليقرأه الناس على تؤدة وتدبر .
وكما افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله –تعالى- ، فقد اختتمت بحمد الله –تعالى- وتكبيره . قال –تعالى- :
[ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ] .
( م ) وبعد فهذا عرض إجمالي لأهم الموضوعات والمقاصد التي اشتملت عليها سورة الإسراء . ومن هذا العرض يتبين لنا ما يلي :
1- أن سورة الإسراء –كغيرها من السور المكية- قد اهتمت اهتماما بارزا بتنقية العقيدة من كل ما يشوبها من شرك ، أو انحراف عن الطريق المستقيم .
وقد ساقت السورة في هذا المجال أنواعا متعددة من البراهين على وحدانية الله –تعالى- وعلمه وقدرته ، ووجوب إخلاص العبادة له ، وعلى تنزيهه –سبحانه- عن الشريك ، ومن ذلك قوله –تعالى- : [ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما . ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا . قل لو كان معه آلهة كما يقولون ، إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا . سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ] .
2- كذلك على رأس الموضوعات التي فصلت السورة الحديث عنها ، شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقد ابتدأت بإسراء الله –تعالى- به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، حيث أراه –سبحانه- من آياته ما أراه ، ثم تحدثت عن طبيعة رسالته ، وعن مزاياها ، وعن موقف المشركين منه ، وعن المطالب المتعنتة التي طلبوها منه ، وعن تثبيت الله –تعالى- له ، وعن تبشيره بحسن العاقبة . قال –تعالى- : [ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ] .
3- من الواضح –أيضا- أن سورة الإسراء اعتنت بالحديث عن القرآن الكريم ، من حيث هدايته ، وإعجازه ، ومنع الذين لا يؤمنون به عن فقهه ، واشتماله على ما يشفي الصدور ، وتكراره للبينات والعبر بأساليب مختلفة ، ونزوله مفرقا ليقرأه الناس على مكث . .
ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله –تعالى- :
[ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . . ] .
[ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . . ] .
[ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين . . ] .
[ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ، وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا . وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ، ونزلناه تنزيلا . . ] .
4_ اهتمت السورة الكريمة اهتماما بينا ، بالحديث عن التكاليف الشرعية ، المتضمنة لقواعد السلوك الفردي والجماعي .
وقد ذكرت السورة أكثر من عشرين تكليفا ، في آيات متتالية ، بدأت بقوله –تعالى- : [ ولا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ] الآية 22 ، وانتهت بقوله –تعالى- : [ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ] الآية 38 .
وبجانب حديثها المستفيض عن التكاليف الشرعية ، تحدثت –أيضا- عن طبيعة الإنسان في حالتي العسر واليسر ، وعن بخله الشديد بما يملكه . .
قال –تعالى- : [ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ، وإذا مسه الشر كان يئوسا ] .
وقال –سبحانه- : [ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي ، إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ] .
1- ومن الجوانب التي حرصت السورة الكريمة على تجليتها والكشف عنها : بيان سنن الله التي لا تتخلف في الهداية والإضلال ، وفي الثواب والعقاب ، وفي النصر والخذلان ، وفي الرحمة والإهلاك ، ومن ذلك قوله –تعالى- :
[ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ] .
[ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ] .
[ يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ] .
[ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها . . ] .
هذه بعض المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها سورة الإسراء ، وهناك مقاصد أخرى يراها المتأمل فيها ، والمتدبر لآياتها ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق .
افتتحت سورة الإسراء بتنزيه الله - تعالى - عن كل ما لا يليق بجلاله ، كما يدل على ذلك لفظ " سبحان " الذى من أحسن وجوه إعرابه ، أنه اسم مصدر منصوب - على أنه مفعول مطلق - بفعل محذوف ، والتقدير : سبحت الله - تعالى - سبحانا أى تسبيحا ، بمعنى نزهته تنزيها عن كل سوء .
قال القرطبى : " وقد روى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة - أى المبشرين بالجنة - أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم : ما معنى سبحان الله ؟ فقال : " تنزيه الله من كل سوء " " .
وقوله { أسرى } من الإِسراء ، وهو السير بالليل خاصة .
قال الجمل : يقال أسرى وسرى ، بمعنى سار فى الليل ، وهما لازمان ، لكن مصدر الأول الإِسراء ومصدر الثانى السرى - بضم السين كالهدى - فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول ، وإنما جاءت التعدية هنا من الباء . ومعنى أسرى به ، صيره ساريا فى الليل .
والمراد { بعبده } خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم ، والإِضافة للتشريف والتكريم .
وأوثر التعبير بلفظ العبد ، للدلالة على أن مقام العبودية لله - تعالى - هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها ، إذ لو كان هناك وصف أعظم منه فى هذا المقام لعبر به ، وللإِشارة - أيضا - إلى تقرير هذه العبودية لله - تعالى - وتأكيدها ، حتى لا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية ، كما التبسا فى العقائد المسيحية ، حيث ألهوا عيسى - عليه السلام - ، وألهوا أمه مريم ، مع أنهما بريئان من ذلك . . .
قال الشيخ القاسمى نقلا عن الإِمام ابن القيم فى كتاب " طريق الهجرتين " : أكمل الخلق أكملهم عبودية لله - تعالى - ، ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم أقرب الخلق إلى الله - تعالى - وأعظمهم عنده جاها ، وأرفعهم عنده منزلة ، لكماله فى مقام العبودية . وكان صلى الله عليه وسلم يقول : " أيها الناس ما أحب أن ترفعونى فوق منزلتى . إنما أنا عبد " وكان يقول : " لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله " .
وذكره - سبحانه - بسمة العبودية فى أشرف مقاماته : فى مقام الإِسراء حيث قال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } .
وفى مقام الدعوة حيث قال : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ } وفى مقام التحدى حيث قال : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } وقوله : { ليلا } ظرف زمان لأسرى .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : الإِسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل ؟ .
قلت : أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير ، تقليل مدة الإِسراء ، وأنه أسرى به بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية .
وقوله : { مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } بيان لابتداء الإِسراء وانتهائه .
أى : جل شأن الله - عز وجل - وتنزه عن كل نقص ، حيث أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم فى جزء من الليل ، من المسجد الحرام الذى بمكة إلى المسجد الأقصى الذى بفلسطين .
ووصف مسجد مكة بالحرام ، لأنه لا يحل انتهاكه بقتال فيه ، ولا بصيد صيده ، ولا بقطع شجره .
ووصف مسجد فلسطين بالأقصى ، لبعده عن المسجد الحرام ، إذ المسافة بينهما كان يقطعها الراكب للإِبل فى مدة شهر أو أكثر .
قال الآلوسى : ووصفه بالأقصى - أى الأبعد - بالنسبة إلى من بالحجاز . وقال غير واحد : إنه سمى به لأنه أبعد المساجد التى تزار من المسجد الحرام وبينهما زهاء أربعين ليلة . وقيل - وصف بذلك - : لأنه ليس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها . . .
وظاهر الآية يفيد أن الإِسراء كان من المسجد الحرام ، فقد أخرج الشيخان والترمذى والنسائى من حديث أنس بن مالك - رضى الله عنه - " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا أنا فى الحجر - وفى رواية - فى الحطيم ، بين النائم واليقظان ، إذ أتانى آت فشق ما بين هذه إلى هذه ، فاستخرج قلبى فغسله ثم أعيد ، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه " " .
وقيل أُسرِى به من بيت أم هانئ بنت أبى طالب ، فيكون المراد بالمسجد الحرام : الحرم لإِحاطته بالمسجد والتباسه به . فعن ابن عباس - رضى الله عنهما - : الحرم كله مسجد .
ويمكن الجمع بين هذه الروايات ، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بقى فى بيت أم هانئ لفترة من الليل ، ثم ترك فراشه عندها وذهب إلى المسجد ، فلما كان فى الحِجْر أو فى الحطيم بين النائم واليقظان ، أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عرج به إلى السموات العلا . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد - كما جاء فى بعض الروايات .
وبذلك يترجح لدينا أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم فى تلك الليلة فى بيت أم هانئ ، لا ينفى أن الإِسراء بدأ من المسجد الحرام ، كما تقرر الآية الكريمة .
وقوله { الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } صفة مدح للمسجد الأقصى .
أى : جل شأن الله الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، الذى أحطنا جوانبه بالبركات الدينية والدنيوية .
أما البركات الدينية فمن مظاهرها : أن هذه الأرض التى حوله ، جعلها الله - تَعالى - مقرا لكثير من الأنبياء ، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وداود وسليمان ، وزكريا ويحيى وعيسى .
قال - تعالى - : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا . . } وقال - سبحانه - فى شأن إبراهيم : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } والمقصود بهذه الأرض : أرض الشام ، التى منها فلسطين .
وأما البركات الدنيوية فمن مظاهرها : كثرة الأنهار والأشجار والثمار والزروع فى تلك الأماكن .
قال بعض العلماء : وقد قيل فى خصائص المسجد الأقصى : أنه متعبد الأنبياء السابقين ، ومسرى خاتم النبيين ، ومعراجه إلى السموات العلا . . وأولى القبلتين وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه .
وقوله - سبحانه - : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } إشارة الى الحكمة التى من أجلها أسرى الله - تعالى - بنبيه صلى الله عليه وسلم فقوله { لنريه } متعلق بأسرى .
و " من " للتبعيض لأن ما رآه النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان عظيما إلا أنه مع عظمته بعض آيات الله بالنسبة لما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب .
أى : أسرينا بعبدنا محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله ، ثم عرجنا به إلى السموات العلا ، لنطلعه على آياتنا ، وعلى عجائب قدرتنا ، والتى من بينها : مشاهدته لأنبيائنا الكرام ، ورؤيته لما نريد أن يراه من عجائب وغرائب هذا الكون .
ولقد وردت أحاديث متعددة فى بيان ما أراه الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم فى تلك الليلة المباركة ، ومن ذلك ما رواه البخارى عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " . . . ووجدت فى السماء الدنيا آدم فقال لى جبريل : هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه ورد على آدم السلام فقال : مرحبا وأهلا بابنى ، فنعم الابن أنت . . " .
وفى رواية للإِمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما عرج بى ربى - عز وجل - مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون فى أعراضهم . . " .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على سعة علمه ، ومزيد فضله فقال - تعالى - : { إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } .
أى : إنه - سبحانه - هو السميع لأقوال عباده : مؤمنهم وكافرهم ، مصدقهم ومكذبهم . بصير بما يسرونه ويعلنونه ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب ، بدون ظلم أو محاباة .
هذا وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية جملة من المسائل منها :
1- أن هذه الآية دلت على ثبوت الإِسراء للنبى صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وأما العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلا فقد استدل عليه بعضهم بآيات سورة النجم ، وهى قوله - تعالى - :
{ والنجم إِذَا هوى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى ذُو مِرَّةٍ فاستوى وَهُوَ بالأفق الأعلى ثُمَّ دَنَا فتدلى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى } وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية أحاديث كثيرة بأسانيدها ومتونها ، وقال فى أعقاب ذكر بعضها :
قال البيهقى : وفى هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسرى به - عليه الصلاة والسلام - من مكة إلى بيت المقدس ، وهذا الذى قاله هو الحق الذى لاشك فيه ولا مرية .
وقال القرطبى : ثبت الإِسراء فى جميع مصنفات الحديث ، وروى عن الصحابة فى كل أقطار الإِسلام ، فهو من المتواتر بهذا الوجه ، وذكر النقاش ممن رواه عشرين صحابيا .
2- قال بعض العلماء ما ملخصه : ذهب الاكثرون إلى أن الإِسراء كان بعد المبعث ، وأنه قبل الهجرة بسنة . قاله الزهرى وابن سعد وغيرهما . وبه جزم النووى ، وبالغ ابن حزم فنقل الإِجماع فيه . وقال : كان فى رجب سنة اثنتى عشرة من النبوة .
وإختار الحافظ المقدسى أنه كان فى ليلة السابع والعشرين من شهر رجب .
والذى تطمئن إليه النفس أن حادث الإِسراء والمعراج ، كان بعد وفاة أبى طالب والسيدة خديجة - رضى الله عنها - .
ووفاتهما كانت قبل الهجرة بسنتين أو ثلاثة . وفى هذه الفترات التى أعقبت وفاتهما اشتد أذى المشركين بالنبى صلى الله عليه وسلم فكان هذا الحادث لتسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم ، ولتشريفه وتكريمه . .
3- من المسائل التى ثار الجدل حولها ، مسألة : أكان الإِسراء والمعراج فى اليقظة أم فى المنام ؟ وبالروح والجسد أم بالروح فقط ؟ .
وقد لخص بعض المفسرين أقوال اللعماء فى هذه المسألة فقال : اعلم أن هذا الإِسراء به صلى الله عليه وسلم المذكور فى هذه الآية الكريمة زعم بعض أهل العلم أنه بروحه دون جسده ، زاعما أنه فى المنام لا فى اليقظة ، لأن رؤيا الأنبياء وحى .
وزعم بعضهم أن الإِسراء بالجسد ، والمعراج بالروح دون الجسد .
ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما ، لأنه قال : { بعبده } والعبد مجموع الروح والجسد .
ولأنه قال : { سبحان } والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام ، فلو كان مناما لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه .
ولأنه لو كان رؤيا منام لما كان فتنة ، ولا سببا لتكذيب قريش له صلى الله عليه وسلم لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح .
ولأنه - سبحانه - قال { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } والظاهر أن ما أراه الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم إنما كان رؤيا عن طريق العين ويؤيده قوله - تعالى - : { مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } ولأنه ثبت فى الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل فى رحلته البراق ، واستعماله البراق يدل على أن هذا الحادث كان بالروح والجسد وفى اليقظة لا فى المنام .
سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة
هذه السورة - سورة الإسراء - مكية ، وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده ؛ وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة ؛ وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ؛ إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء . وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان .
ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه في مكة . وهو القرآن الذي جاء به ، وطبيعة هذا القرآن ، وما يهدي إليه ، واستقبال القوم له . واستطرادا بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل ، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها . وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي ، والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع . . كل ذلك بعد أن يعذر الله - سبحانه - إلى الناس ، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل ) وكل شيء فصلناه تفصيلا ) .
ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه . ففي مطلعها : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . . )وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح )إنه كان عبدا شكورا ) . . وعند ذكر دعاوي المشركين عن الآلهة يعقب بقوله : )سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن : )ويقولون : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) . . وتختم السورة بالآية )وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ، ولم يكن لهشريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا ) .
في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا ، يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة .
يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء : )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله )مع الكشف عن حكمة الإسراء )لنريه من آياتنا ) . . وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل ، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين ، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة )وإن عدتم عدنا ) . . ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم ، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته . ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال ، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك .
ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد ، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه ، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه .
ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله ، وعن البعث واستبعادهم لوقوعه ، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول [ ص ] ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر ، ويتكلموا بالتي هي أحسن .
وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا [ ص ] بالخوارق فقد كذب بها الأولون ، فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله ؛ كما يتناول موقف المشركين من إنذارهم لله في رؤيا الرسول [ ص ] وتكذيبهم وطغيانهم . ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس ، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين . ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله ، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان ، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم : فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول [ ص ] ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم . ويأمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته ، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل ، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين ، بينما الإنسان قليل العلم )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) .
ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه . بينما هم يطلبون خوارق مادية ، ويطلبون نزول الملائكة ، ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب ، يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه . . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة ، لا طلب الهدى والاقتناع . ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة ، ويكل الأمر إلى الله . ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوها خوفا من الإنفاق ! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله ، وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلىإيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض ، فأخذهم الله بالعذاب والنكال .
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه . القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته ، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية . والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود . ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل . كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه .
وقصة الإسراء - ومعها قصة المعراج - إذ كانتا في ليلة واحدة - الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس . والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى ، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا . . هذه القصة جاءت فيها روايات شتى ؛ وثار حولها جدل كثير . ولا يزال إلى اليوم يثور .
وقد اختلف في المكان الذي أسرى منه ، فقيل هو المسجد الحرام بعينه - وهو الظاهر - وروى عن النبي [ ص ] " بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " . وقيل : أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد .
وروى أنه كان نائما في بيت أم هانيء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانى ء وقال : " مثل لي النبيون فصليت بهم " ثم قام ليخرج إلى المسجد ، فتشبثت أم هانى ء بثوبه ، فقال : " مالك ? " قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم . قال : " وإن كذبوني " . فخرج فجلس إليه أبو جهل ، فأخبره رسول الله [ ص ] بحديث الإسراء فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم . فحدثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ؛ وارتد ناس ممن كان آمن به ؛ وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال : أوقال ذلك ? قالوا نعم . قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ? قال : نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء ! فسمي الصديق . وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد ، فجلى له ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب . فقالوا : أخبرنا عن عيرنا . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ؛ وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت . فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق ، كما قال محمد . . ثم لم يؤمنوا ! . . وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس .
واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : والله ما فقد جسد رسول الله [ ص ] ولكن عرج بروحه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها . وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه ، وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه .
والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله [ ص ] ترك فراشه في بيت أم هانى ء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد .
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول [ ص ] والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم ، وبين أن تكونرؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة . . المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ؛ ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول [ ص ] عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة . . والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعية شيئا . فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة ، حسب ما اعتاده وما رآه . والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله . أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد ، أو عالم بعيد ؛ والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه . وقد صدق أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول : إني لأصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخير السماء !
ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول [ ص ] لم يسمع لتخوف أم هانى ء - رضي الله عنها - من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة . فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به ، والحق الذي وقع له جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه . وقد ارتد بعضهم فعلا ، واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك . ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول [ ص ] عن الجهر بالحق الذي آمن به . . وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس ، ولا يتملقون به القوم ، ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان ، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال .
كذلك يلاحظ أن الرسول [ ص ] لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته ، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق - وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل - ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق ، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة ، المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها . فلم يكن جهر الرسول [ ص ] بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته . إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة :
والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) . .
تبدأ السورة بتسبيح الله ، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف ، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء .
وتذكر صفة العبودية : ( أسرى بعبده ) لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر ؛ وذلك كي لا تنسى هذه الصفة ، ولا يلتبس مقام العبودية ، بمقام الألوهية ، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام ، بسبب ما لابس مولده ووفاته ، وبسبب الآيات التي أعطيت له ، فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة ، من قريب أو من بعيد .
والإسراء من السرى : السير ليلا . فكلم ( أسرى ) تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكنالسياق ينص على الليل ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) للتظليل والتصوير - على طريقة القرآن الكريم - فيلقي ظل الليل الساكن ، ويخيم جوه الساجي على النفس ، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، إلى محمد خاتم النبيين [ ص ] وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعا . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ؛ وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .
ووصف المسجد الأقصى بأنه ( الذي باركنا حوله ) وصف يرسم البركة حافة بالمسجد ، فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل : باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .
والإسراء آية صاحبتها آيات : ( لنريه من آياتنا ) والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التى لم يبرد فيها فراش الرسول [ ص ] أيا كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله ، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود ؛ وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري ، والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس ، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه ، وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . ( إنه هو السميع البصير ) . . يسمع ويرى كل ما لطف ودق ، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .
والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا إلى صيغة التقرير من الله : ( لنريه من آياتنا ) إلى صيغة الوصف لله : ( إنه هو السميع البصير ) وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس . فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه . وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصا . والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية . وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة .
سورة الإسراء ، وقيل : إلا قوله تعالى : { وإن كادوا ليفتنونك } إلى آخر ثمان آيات . وهي مائة وإحدى عشرة آية .
{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } سبحان اسم بمعنى التسبيح { الذي } هو التنزيه يستعمل علما له فيقطع عن الإضافة ويمنع عن الصرف قال :
قد قلت لمّا جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر
وانتصابه بفعل متروك إظهاره ، وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد . و{ أسرى } وسرى بمعنى ، و{ ليلا } نصب على الظرف . وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء ، ولذلك قرئ : من " الليل " . أي بعضه كقوله : { ومن الليل فتهجد به } . { من المسجد الحرام } بعينه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " . أو " من الحرم " وسماه المسجد الحرام لأنه كله مسجد أو لأنه محيط به ، أو ليطابق المبدأ المنتهى . لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة عليها وقال : " مثل لي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصليت بهم " ، ثم خرج إلى المسجد الحرام وأخبر به قريشا فتعجبوا منه استحالة ، وارتد ناس ممن آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : إن كان قال لقد صدق ، فقالوا : أتصدقه على ذلك ، قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق ، واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون إلى الثنية فصادفوا العير كما أخبر ، ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين وكان ذلك قبل الهجرة بسنة . واختلف في أنه كان في المنام أو في اليقظة بروحه أو بجسده ، والأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس ، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، ولذلك تعجب قريش واستحالوه ، والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية ، وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على كل الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فيما يحمله ، والتعجب من لوازم المعجزات . { إلى المسجد الأقصى } بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد . { الذي باركنا حوله } ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن موسى عليه الصلاة والسلام ، ومحفوف بالأنهار والأشجار . { لنُريه من آياتنا } كذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ومشاهدته بيت المقدس وتمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له ، ووقوفه على مقاماتهم ، وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات . وقرئ " ليريه " بالياء . { إنه هو السميع } لأقوال محمد صلى الله عليه وسلم . { البصير } بأفعاله فيكرمه ويقربه على حسب ذلك .