عدد آيات هذه السورة سبع وسبعون آية ، كلها مكية إلا الآيات رقم 68 ، 69 ، 70 .
بدأت السورة ببيان منزلة القرآن وسعة ملك منزله ، الذي له ملك السماوات والأرض ، ومع عظيم سلطانه يتخذ المشركون من دونه الأوثان ، ويكذبون بالقرآن ، وينكرون رسالة الرسول صلي الله عليه وسلم بحجة أنه بشر ، يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، ويطلبون تعنتا ملائكة تبلغهم الرسالة ، ولو جعلهم ملائكة لجعلهم رجالا يمكنهم التفاهم مع البشر فيبقى الالتباس . وقد اعترضوا على نزول القرآن منجما ، فأجيبوا بحكمة ذلك ، وأتبع هذا العناد بأمثلة معبرة عن الأنبياء وأقوامهم . لكن القوم اتبعوا أهواءهم ، فصاروا كالأنعام أو أضل سبيلا . وجاءت الآيات الكونية الدالة على كمال قدرته تعالي ، الموجهة إلي النظر والمعرفة . وختمت السورة بأوصاف المؤمنين الذي يرثون غرف الجنة العالية ، ويلقون فيها تحية وسلاما .
1- تعالي أمر الله وتزايد خيره ، هو الذي نزل القرآن فارقاً بين الحق والباطل على عبده محمد - صلي الله عليه وسلم - ليكون نذيراً به مبلغاً إياه إلي العالمين .
{ 1 - 2 ْ } { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ْ }
هذا بيان لعظمته الكاملة وتفرده [ بالوحدانية ]{[574]} من كل وجه وكثرة خيراته وإحسانه فقال : { تَبَارَكَ ْ } أي : تعاظم وكملت أوصافه وكثرت خيراته الذي من أعظم خيراته ونعمه أن نزل هذا القرآن الفارق بين الحلال والحرام والهدى والضلال وأهل السعادة من أهل الشقاوة ، { عَلَى عَبْدِهِ ْ } محمد صلى الله عليه وسلم الذي كمل مراتب العبودية وفاق جميع المرسلين ، { لِيَكُونَ ْ } ذلك الإنزال للفرقان على عبده { لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ْ } ينذرهم بأس الله ونقمه ويبين لهم مواقع رضا الله من سخطه ، حتى إن من قبل نذارته وعمل بها كان من الناجين في الدنيا والآخرة الذين حصلت لهم السعادة الأبدية والملك السرمدي ، فهل فوق هذه النعمة وهذا الفضل والإحسان شيء ؟ فتبارك الذي هذا من بعض إحسانه وبركاته .
1- سورة الفرقان من السور المكية ، وعدد آياتها سبع وسبعون آية ، وكان نزولها بعد سورة " يس " . أما ترتيبها في المصحف فهي السورة الخامسة والعشرون .
ومن المفسرين الذين لم يذكروا خلافا في كونها مكية ، الإمام ابن كثير والإمام الرازي .
وقال القرطبي : هي مكية كلها في قول الجمهور . وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة ، وهي : [ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ] إلى قوله –تعالى- : [ وكان الله غفورا رحيما ] .
2- وقد افتتحت هذه السورة الكريمة بالثناء على الله –تعالى- الذي نزل الفرقان على عبده محمد صلى الله عليه وسلم والذي له ملك السموات والأرض . . . والذي خلق كل شيء فقدره تقديرا .
قال –تعالى- : [ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا . الذي له ملك السموات والأرض . ولم يتخذ ولدا . ولم يكن له شريك في الملك . وخلق كل شيء فقدره تقديرا ] .
3- ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى حكاية بعض أقوال المشركين الذين أثاروا الشبهات حول الرسول صلى الله عليه وسلم وحول دعوته ، وردت عليهم بما يمحق باطلهم ، وقارنت بين مصيرهم السيئ ، وبين ما أعده الله –تعالى- للمؤمنين من جنات .
قال –تعالى- : [ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا* أو يلقي إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ] .
4- وبعد أن يصور القرآن حسراتهم يوم الحشر ، وعجزهم عن التناصر ، يعود فيحكي جانبا من تطاولهم وعنادهم ، ويرد عليهم بما يكبتهم ، وبما يزيد المؤمنين ثباتا على ثباتهم .
قال –تعالى- : [ وقال الذين لا يرجون لقاءنا ، لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ، لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا* يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا* وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا* أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقبلا ] .
5- ثم تحكي السورة جانبا من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم . فيقول : [ ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا* فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا للظالمين عذابا أليما . . ] .
6- ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن تطاول هؤلاء الجاحدين على رسولهم صلى الله عليه وسلم وتعقب على ذلك بتسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم فتقول : [ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا . أهذا الذي بعث الله رسولا* إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صيرنا عليها ، وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا* أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا* أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ؟ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ] .
7- ثم تنتقل السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله –تعالى- فتسوق لنا مظاهر قدرته في مد الظل ، وفي تعاقب الليل والنهار ، وفي الرياح التي يرسلها –سبحانه- لتكون بشارة لنزول المطر ، وفي وجود برزخ بين البحرين ، وفي خلق البشر من الماء . . . ثم يعقب على ذلك بالتعجب من حال الكافرين ، الذين يعبدون من دونه –سبحانه- مالا ينفعهم ولا يضرهم . .
قال –تعالى- : [ ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكنا ، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا* ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا* وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ] .
8- ثم تسوق السورة في أواخرها صورة مشرقة لعباد الرحمن ، الذين من صفاتهم التواضع ، والعفو عن الجاهل . وكثرة العبادة لله –تعالى- والتضرع إليه بأن يصرف عنهم عذاب جهنم ، وسلوكهم المسلك الوسط في إنفاقهم ، وإخلاصهم الطاعة لله –تعالى- وحده . واجتنابهم للرذائل التي نهى الله –عز وجل- عنها .
قال –تعالى- : [ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما* والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما* والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما* إنها ساءت مستقرا ومقاما ] .
9- ومن هذا العرض المختصر لأبرز القضايا التي اهتمت بالحديث عنها السورة الكريمة ، نرى ما يأتي .
( أ ) أن السورة الكريمة قد ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة الله –تعالى- وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وعلى الثناء عليه –سبحانه- بما هو أهله .
نرى ذلك في مثل قوله –تعالى- : [ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده . . . ] [ تبارك الذي جعل في السماء بروجا . . . ] [ تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار . . . ] . وفي مثل قوله –تعالى- : [ وهو الذي مرج البحرين هذا عذاب فرات ، وهذا ملح أجاج ، وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا* وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا* ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم ، وكان الكافر على ربه ظهيرا ] .
( ب ) أن السورة الكريمة زاخرة بالآيات التي تدخل الأنس والتسرية والتسلية والتثبيت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن اتهمه المشركون بما هو برئ منه ، وسخروا منه ومن دعوته ، ووصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين ، واستنكروا أن يكون النبي من البشر .
نرى هذه التهم الباطلة فيما حكاه الله عنهم في قوله –تعالى- : [ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ، فقد جاءوا ظلما وزورا* وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا ] . [ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ] . [ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ] .
وترى التسلية والتسرية والتثبيت في قوله –تعالى- : [ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا* تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ] .
[ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضهم لبعض فتنة ، أتصبرون ، وكان ربك بصيرا ] .
[ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا* ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ] .
وهكذا نرى السورة الكريمة زاخرة بالحديث عن الشبهات التي أثارها المشركون حول النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ، وزاخرة –أيضا- بالرد عليها ردا يبطلها . ويزهقها . ويسلي النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم .
( ج ) أن السورة الكريمة مشتملة على آيات كثيرة ، تبين ما سيكون عليه المشركون يوم القيامة من هم وغم وكرب وحسرة وندامة وسوء مصير ، كما تبين ما أعده الله –تعالى- لعباده المؤمنين من عاقبة حسنة ، ومن جنات تجري من تحتها الأنهار .
فبالنسبة لسوء عاقبة المشركين نرى قوله –تعالى- : [ بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا* إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنا لك ثبورا* لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ] .
ونرى قوله –تعالى- : [ ويوم بعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا* يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا* لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ، وكان الشيطان للإنسان خذولا ] .
وبالنسبة للمؤمنين نرى قوله –تعالى- : [ قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا* لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا ] .
ونرى قوله –سبحانه- : [ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ] . إلى قوله –تعالى- : [ خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ] .
وهكذا نرى السورة تسوق آيات كثيرة في المقارنة بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين . . وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة . . .
هذه بعض الموضوعات التي اهتمت السورة الكريمة بتفصيل الحديث عنها ، وهناك موضوعات أخرى سنتحدث عنها –بإذن الله- عند تفسيرنا لآياتها .
وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله - تعالى - ثناء يليق بجلاله وكماله .
ولفظ " تبارك " فعل ماض لا يتصرف . أى : لم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل : وهو مأخوذ من البركة بمعنى الكثرة من كل خير . وأصلها النماء والزيادة . أى : كثرة خيره وإحسانه ، وتزايدت بركاته .
أو مأخوذ من البَرْكَة بمعنى الثبوت . يقال : برك البعير ، إذا أناخ فى موضعه فلزمه وثبت فيه . وكل شىء ثبت ودام فقد برك . أى : ثبت ودام خيره على خلقه .
والفرقان : القرآن . وسمى بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل .
ونذيرا : من الإنذار ، وهو الإعلام المقترن بتهديد وتخويف .
أى : جل شأن الله - تعالى - وتكاثرت ودامت خيراته وبركاته ، لأنه - سبحانه - هو الذى نزل القرآن الكريم على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليكون " للعالمين " أى : للإنس وللجن " نذيرا " أى : منذرا إياهم بسوء المصير إن هم استمروا على كفرهم وشركهم .
وفى التعبير بقوله - تعالى - { تَبَارَكَ } إشعار بكثرة ما يفيضه - سبحانه - من خيرات وبركات على عباده ، وأن هذا العطاء ثابت مستقر ، وذلك يستلزم عظمته وتقدسه عن كل ما لا يليق بجلاله - عز وجل - .
ولم يذكر - سبحانه - لفظ الجلالة ، واكتفى بالاسم الموصول الذى نزل الفرقان ، لإبراز صلته - سبحانه - وإظهارها فى هذا المقام ، الذى هو مقام إثبات صدق رسالته التى أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم .
وعبر - سبحانه - ب { نَزَّلَ } بالتضعيف ، لنزول القرآن الكريم مفرقا فى أوقات متعددة ، لتثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم .
ووصف الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية ، وأضافها لذاته ، للتشريف والتكريم والتعظيم . وأن هذه العبودية لله - تعالى - هى ما يتطلع إليه البشر .
واختير الإنذار على التبشير . لأن المقام يقتضى ذلك ، إذ أن المشركين قد لجوا فى طغيانهم وتمادوا فى كفرهم وضلالهم ، فكان من المناسب تخويفهم من سوء عاقبة ما هم عليه من عناد .
وهذه الآية الكريمة تدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس جميعا . حيث قال - سبحانه - : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } أى : لعالم الإنس وعالم الجن ، وشيه بها قوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقوله - سبحانه - : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً . . }
سورة الفرقان مكية وآياتها سبع وسبعون
هذه السورة المكية تبدو كلها وكأنها إيناس لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتسرية ، وتطمين له وتقوية وهو يواجه مشركي قريش ، وعنادهم له ، وتطاولهم عليه ، وتعنتهم معه ، وجدالهم بالباطل ، ووقوفهم في وجه الهدي وصدهم عنه .
فهي في لمحة منها تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله ؛ وكأنما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا ؛ ويهدهد قلبه ، ويفيض عليه من الثقة والطمأنينة ، وينسم عليه من أنسام الرعاية واللطف والمودة .
وهي في اللمحة الأخرى تصور المعركة العنيفة مع البشرية الضالة الجاحدة المشاقة لله ورسوله ، وهي تجادل في عنف ، وتشرد في جموح ، وتتطاول في قحة ، وتتعنت في عناد ، وتجنح عن الهدى الواضح الناطق المبين .
إنها البشرية التي تقول عن هذا القرآن العظيم : ( إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) . . أو تقول : ( أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا )والتي تقول عن محمد رسول الله الكريم : ( إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) . . أو تقول في استهزاء : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ? ) . . والتي لا تكتفي بهذا الضلال ، فإذا هي تتطاول في فجور على ربها الكبير : ( وإذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن ? أنسجد لما تأمرنا ? وزادهم نفورا ) . أو تتعنت فتقول : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ? .
وهي هي من قديم كما يرسمها سياق السورة من عهد نوح إلى موقفها هذا الأخير مع رسولها الأخير . . لقد اعترض القوم على بشرية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فقالوا : ( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ? لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ! ) .
واعترضوا على حظه من المال ، فقالوا : ( أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ) .
واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن فقالوا : ( لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ! ) .
وذلك فوق التكذيب والاستهزاء والقحة والافتراء الأثيم .
ووقف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يواجه هذا كله ، وهو وحيد فريد مجرد من الجاه والمال ، ملتزم حده مع ربه لا يقترح عليه شيئا ، ولا يزيد على أن يتوجه إليه مبتغيا رضاه ، ولا يحفل بشيء سواه : " رب إلا يكن بك علي غضب فلا أبالي . لك العتبى حتى ترضى " . .
فهنا في هذه السورة يؤويه ربه إلى كنفه ، ويمسح على آلامه ومتاعبه ، ويهدهده ويسري عنه ، ويهون عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم وسوء أدبهم وتطاولهم عليه ، بأنهم يتطاولون على خالقهم ورازقهم ، وخالق هذا الكون كله ومقدره ومدبره . . فلا عليه أن ينالوه بشيء من ذاك ! ( ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ) . . ( واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ) . . ( وإذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن ? ) . .
ويعزيه عن استهزائهم به بتصوير المستوى الهابط الذي يتمرغون فيه : ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ? إن هم إلا كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا ! ) .
ويعده العون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجة : ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) . . وفي نهاية المعركة كلها يعرض عليه مصارع المكذبين من قبل : قوم موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بين ذلك من قرون .
ويعرض عليه نهايتهم التعيسة في سلسلة من مشاهد القيامة : ( الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ) . . ( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا . إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا . وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا . لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ادعوا ثبورا كثيرا ) ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتا ! ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ) . .
ويسليه بأن مثله مثل الرسل كلهم قبله : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) . . ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين . وكفى بربك هاديا ونصيرا ) .
ويكلفه أن يصبر ويصابر ، ويجاهد الكافرين بما معه من قرآن ، واضح الحجة قوي البرهان عميق الأثر في الوجدان : ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) . .
ويغريه على مشاق الجهاد بالتوكل على مولاه ( وتوكل علي الحي الذي لا يموت وسبح بحمده ، وكفى به بذنوب عباده خبيرا . .
وهكذا تمضي السورة : في لمحة منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله . وفي لمحة منها مشاقة وعنت من المشركين لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتتبير ونكال من الله الكبير المتعال . حتى تقرب من نهايتها ، فإذا ريح رخاء وروح وريحان ، وطمأنينة وسلام . . وإذا صورة ( عباد الرحمن ) . . ( الذين يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . . . )وكأنما تتمخض عنهم معركة الجهادالشاقة مع البشرية الجاحدة الضالة المعاندة المشاقة ؛ وكأنما هم الثمرة الحلوة الجنية الممثلة للخير الكامن في شجرة البشرية ذات الأشواك .
وتختم السورة بتصوير هوآن البشرية على الله ، لولا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجىء إليه وتدعوه : ( قل : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم . فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ) . .
هذه هي ظلال السورة ؛ وذلك هو محورها الذي تدور عليه ، وموضوعها الذي تعالجه . وهي وحدة متصلة ، يصعب فصل بعضها عن بعض . ولكن يمكن تقسيمها إلى أربعة أشواط في علاج هذا الموضوع .
يبدأ الشوط الأول منها بتسبيح الله وحمده على تنزيل هذا القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا . وبتوحيد الله المالك لما في السماوات والأرض ، المدبر للكون بحكمة وتقدير ، ونفي الولد والشريك . ثم يذكر اتخاذ المشركين مع ذلك آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون . . كل أولئك قبل أن يحكي مقولاتهم المؤذية عن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من تكذيبه فيما جاءهم به ، وادعائهم أنه إفك افتراه ، وأنه أساطير الأولين اكتتبها . وقبل أن يحكي اعتراضاتهم على بشرية الرسول وحاجته للطعام والمشي في الأسواق ، واقتراحاتهم أن ينزل عليه ملك أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها . وقحتهم في وصفه [ صلى الله عليه وسلم ] بأنه رجل مسحور . . وكأنما يسبق بمقولاتهم الجاحده لربهم كي يهون على نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] مقولاتهم عنه وعن رسالته . . ومن ثم يعلن ضلالهم وتكذيبهم بالساعة ، ويتوعدهم بما أعده الله لهم من سعير ، يلقون فيها مكانا ضيقا مقرنين . ويعرض في الصفحة المقابلة صورة المؤمنين في الجنة . ( لهم فيها ما يشاءون خالدين ) . . ويستمر في عرض مشهدهم يوم الحشر ، ومواجهتهم بما كانوا يعبدون من دون الله ، وتكذيب هؤلاء لهم فيما كانوا يدعون على الله من شرك . . وينتهي هذا الشوط بتسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بأن الرسل جميعا كانوا بشرا مثله ، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق .
ويبدأ الشوط الثاني بتطاول المكذبين بلقاء الله على الله ، وقولهم : ( لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ) . ويعاجلهم بمشهد اليوم الذي يرون فيه الملائكة . . ( وكان يوما على الكافرين عسيرا ) . . ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ) . . ليكون في ذلك تأسية للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهم يهجرون القرآن ، وهو يشكو لربه هذا الهجران . وهم يعترضون على طريقة تنزيله ويقولون ( لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) . ويعقب على هذا الاعتراض بمشهدهم يوم القيامة يحشرون على وجوههم ، وهم المكذبون بيوم القيامة ، وبتصوير عاقبة المكذبين قبلهم من قوم موسى وقوم نوح ، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك ، ويعجب من أمرهم وهم يمرون على قرية لوط المدمرة ولا يعتبرون . فيهون بذلك كله من وقع تطاولهم على الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقولهم : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ? )ثم يعقب على هذا الاستهزاء بتحقيرهم ووضعهم في صف الأنعام بل دون ذلك : ( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) .
والشوط الثالث جولة في مشاهد الكون تبدأ بمشهد الظل ، وتستطرد إلى تعاقب الليل والنهار ، والرياح المبشرة بالماء المحيي ، وخلقة البشر من الماء . ومع هذا فهم يعبدون من دون الله ما لاينفعهم ولا يضرهم ، ويتظاهرون على ربهم وخالقهم ، ويتطاولون في قحة إذا دعوا إلى عبادة الله الحق . . ( وإذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن ? ) . . وهو الذي( جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرامنيرا . وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) . . ولكنهم هم لا يتذكرون ولا يشكرون . .
ثم يجيء الشوط الأخير يصور ( عباد الرحمن )الذين يسجدون له ويعبدونه ، ويسجل مقوماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة . ويفتح باب التوبة لمن يرغب في أن يسلك طريقة عباد الرحمن . ويصور جزاءهم على صبرهم على تكاليف الإيمان والعبادة : ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما ) .
وتختم السورة بتقرير هوان البشرية على الله لولا هذه القلوب الطائعة المستجيبة العارفة بالله في هذا القطيع الشارد الضال من المكذبين والجاحدين . .
وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه منهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فهو يتفق مع ظل السورة وجوها ، ويتفق مع موضوعها وأهدافها ، على طريقة التناسق الفني في القرآن .
والآن نبدأ الشوط الأول بالتفصيل :
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا . الذي له ملك السماوات والأرض ، ولم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا . واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا . .
إنه البدء الموحي بموضوع السورة الرئيسى : تنزيل القرآن من عند الله ، وعموم الرسالة إلى البشر جميعا . ووحدانية الله المطلقة ، تنزيهه عن الولد والشريك ، وملكيته لهذا الكون كله ، وتدبيره بحكمة وتقدير . . وبعد ذلك كله يشرك المشركون ، ويفتري المفترون ، ويجادل المجادلون ، ويتطاول المتطاولون !
( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) . .
والتبارك تفاعل من البركة ، يوحي بالزيادة فيها والفيض والرفعة جميعا . ولم يذكر لفظ الجلالة واكتفى بالاسم الموصول ( الذي نزل الفرقان )لإبراز صلته وإظهارها في هذا المقام ، لأن موضوع الجدل في السورة هو صدق الرسالة وتنزيل القرآن .
وسماه الفرقان . بما فيه من فارق بين الحق والباطل ، والهدي والضلال . بل بما فيه من تفرقة بين نهج في الحياة ونهج ، وبين عهد للبشرية وعهد . فالقرآن يرسم منهجا واضحا للحياة كلها في صورتها المستقرة في الضمير ، وصورتها الممثلة في الواقع . منهجا لا يختلط بأي منهج آخر مما عرفته البشرية قبله . ويمثل عهدا جديدا للبشرية في مشاعرها وفي واقعها لا يختلط كذلك بكل ما كان قبله . فهو فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير . فرقان ينتهي به عهد الطفولة ويبدأ به عهد الرشد . وينتهي به عهد الخوارق المادية ويبدأ به عهد المعجزات العقلية . وينتهي به عهد الرسالات المحلية الموقوتة ويبدأ به عهد الرسالة العامة الشاملة : ( ليكون للعالمين نذيرا ) .
وفي موضع التكريم لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي مقام التعظيم يصفه بالعبودية : على عبده . . كذلك وصفه في مقام الإسراء والمعراج في سورة الإسراء : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) . وكذلك وصفه في مقام دعائه ومناجاته في سورة الجن : ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه . . . )وكذلك يصفه هنا في مقام تنزيل الفرقان عليه كما وصفه في مثل هذا المقام في مطلع سورة الكهف :
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . . . )والوصف بالعبودية في هذه المواضع له دلالته على رفعة هذا المقام ، وأنه أرفع ما يرتفع إليه بشر من بني الإنسان . كما أن فيه تذكيرا خفيا بأن مقام البشرية حين يبلغ مداه لا يزيد على أن يكون مقام العبودية لله . ويبقى مقام الألوهية متفردا بالجلالة ، متجردا من كل شبهة شرك أو مشابهة . ذلك أن مثل مقام الإسراء والمعراج ، أو مقام الدعاء والمناجاة ، أو مقام الوحي والتلقي ، كان مزلة لبعض أتباع الرسل من قبل ، منها نشأت أساطير البنوة لله ، أو الصلة القائمة على غير الألوهية والعبودية . ومن ثم يحرص القرآن على توكيد صفة العبودية في هذه المقام ، بوصفها أعلى أفق يرتفع إليه المختارون من بني الإنسان .
ويرسم الغاية من تنزيل الفرقان على عبده . . ( ليكون للعالمين نذيرا ) . . وهذا النص مكي ، وله دلالته على إثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى . لا كما يدعي بعض ؛ المؤرخين غير المسلمين ، أن الدعوة الإسلامية نشأت محلية ، ثم طمحت بعد اتساع رقعة الفتوح أن تكون عالمية . فهي منذ نشأتها رسالة للعالمين . طبيعتها طبيعة عالمية شاملة ، ووسائلها وسائل إنسانية كاملة ؛ وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد ، ومن نهج إلى نهج . عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، فهي عالمية للعالمين والرسول يواجه في مكة بالتكذيب والمقاومة والجحود . .
يقول تعالى حامدا نفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم ، كما قال تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ]{[21393]} } [ الكهف : 1 - 3 ] وقال هاهنا : { تَبَارَكَ } وهو تفاعَلَ من البركة المستقرة الدائمة الثابتة { الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ } نزل : فَعَّل ، من التكرر ، والتكثر ، كما قال : { وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } [ النساء : 136 ] ؛ لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة ، والقرآن نزل{[21394]} مُنَجَّماً مُفَرَّقاً مُفَصَّلا آيات بعد آيات ، وأحكاما بعد أحكام ، وسوراً بعد سُوَر ، وهذا أشد وأبلغ ، وأشد اعتناءً بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا . وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 32 ، 33 ] . ولهذا سماه هاهنا الفرقان ؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والحلال والحرام .
وقوله : { عَلَى عَبْدِهِ } : هذه صفة مدح وثناء ؛ لأنه أضافه إلى عبوديته ، كما وصفه بها في أشرف أحواله ، وهي ليلة الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا } [ الإسراء : 1 ] ، وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [ الجن : 19 ] ، وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه ، فقال { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } .
وقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } أي : إنما خصَّه بهذا الكتاب العظيم المبين المفصل المحكم الذي : { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، الذي جعله فرقانا عظيما - إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ، ويستقل على الغبراء ، كما قال - صلوات الله وسلامه عليه - " بعثت إلى الأحمر والأسود " {[21395]} . وقال : " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي " ، فذكر منهن : أنه " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة " ، وقال الله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ [ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ] {[21396]} يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ الأعراف : 158 ]
{ بسم الله الرحمن الرحيم } { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } تكاثر خيره من البركة وهي كثرة الخير ، أو تزايد على كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله فإن البركة تتضمن معنى الزيادة ، وترتيبه عن إنزاله { الفرقان } لما فيه من كثرة الخير أو لدلالته على تعاليه . وقيل دام من بروك الطير على الماء ومنه البركة لدوام الماء فيها ، وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا لله تعالى و{ الفرقان } مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقريره أو المحق والمبطل بإعجازه أو لكونه مفصولا بعضه عن بعض في الإنزال ، وقرئ " على عباده " وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته كقوله تعالى : { وقد أنزلنا إليكم آيات } أو الأنبياء على أن { الفرقان } اسم جنس للكتب السماوية . { ليكون } العبد أو الفرقان . { للعالمين } للجن والإنس . { نذيرا } منذرا أو إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار ، هذه الجملة وإن لم تكن معلومة لكنها لقوة دليلها أجريت مجرى العلوم وجعلت صلة .
سميت هذه السورة سورة الفرقان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه . ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبيته بردائه فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها . . الحديث .
ولا يعرف لهذه السورة اسم غير هذا . والمؤدبون من أهل تونس يسمونها { تبارك الفرقان } كما يسمون { سورة الملك } تبارك ، وتبارك الملك .
ووجه تسميتها { سورة الفرقان } لوقوع لفظ الفرقان فيها . ثلاث مرات في أولها ووسطها وآخرها .
وهي مكية عند الجمهور . وروي عن ابن عباس أنه استثنى منها ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } إلى قوله { وكان الله غفورا رحيما } . والصحيح عنه أن هذه الآيات الثلاث مكية كما في صحيح البخاري في تفسير الفرقان : { عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جيبر : هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة? فقرأت عليه { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } . فقال سعيد : قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي? فقال : هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء . يريد قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الآية } . وعن الضحاك : أنها مدنية إلا الآيات الثلاث من أولها إلى قوله { ولا نشورا } .
وأسلوب السورة وأغراضها شاهدة بأنها مكية .
وهي السورة الثانية والأربعون في ترتيب النزول ، نزلت بعد سورة يس وقبل سورة فاطر ، وعدد آياتها سبع وسبعون باتفاق أهل العدد .
واشتملت هذه السورة على الابتداء بتحميد الله تعالى وإنشاء الثناء عليه ، ووصفه بصفات الإلهية والوحدانية فيها .
وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن ، وجلال منزله ، وما فيه من الهدى ، وتعريض بالامتنان على الناس بهديه وإرشاده إلى اتقاء المهالك ، والتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأقيمت هذه السورة على ثلاث دعائم : الأولى : إثبات القرآن منزل من عند الله ، والتنويه بالرسول المنزل عليه صلى الله عليه وسلم ، ودلائل صدقه ، ورفعة شأنه عن أن تكون له حظوظ الدنيا ، وأنه على طريقة غيره من الرسل ، ومن ذلك تلقى قومه دعوته بالتكذيب .
الدعامة الثانية : إثبات البعث والجزاء ، والإنذار بالجزاء في الآخرة ، والتبشير بالثواب فيها للصالحين ، وإنذار المشركين بسوء حظهم يومئذ ، وتكون لهم الندامة على تكذيبهم الرسول وعلى إشراكهم واتباع أئمة كفرهم .
الدعامة الثالثة : الاستدلال على وحدانية الله ، وتفرده بالخلق ، وتنزيهه عن أن يكون له ولد أو شريك ، وإبطال إلهية الأصنام ، وإبطال ما زعموه من بنوة الملائكة لله تعالى .
وافتتحت في آيات كل دعامة من هذه الثلاث بجملة { تبارك الذي } الخ .
قال الطيبي : مدار هذه السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } وذكر بدائع من صنعه تعالى جميعا بين الاستدلال والتذكير .
وأعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوته ومقاومته الكافرين .
وضرب الأمثال للحالين ببعثة الرسل السابقين وما لقوا من أقوامهم مثل قوم موسى وقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط .
والتوكل على الله ، والثناء على المؤمنين به ، ومدح خصالهم ومزايا أخلاقهم ، والإشارة إلى عذاب قريب يحل بالمكذبين .
افتتاح بديع لندرة أمثاله في كلام بلغاء العرب لأن غالب فواتحهم أن تكون بالأسماء مجردة أو مقترنة بحرف غير منفصل ، مثل قول طرفة :
أو بأفعال المضارعة ونحوها كقول امرىء القيس :
أو بحروف التأكيد أو الاستفهام أو التنبيه مثل ( إن ) و ( قد ) والهمزة و ( هل ) . ومن قبيل هذا الافتتاح قول الحارث بن حلَّزة :
كتمتُكَ ليلا بالجمومين ساهراً *** وهَمَّيْن هَمّاً مستكنّاً وظاهرا
وبهذه الندرة يكون في طالع هذه السورة براعة المطلع لأن الندرة من العزة ، والعزّةُ من محاسن الألفاظ وضدها الابتذال .
وتبارك : تعاظم خيره وتوفر ، والمراد بخيره كمالاته وتنزهاته . وتقدم في قوله تعالى : { تبارك الله رب العالمين } في سورة الأعراف ( 54 ) .
والبركة : الخير ، وتقدم عند قوله تعالى : { اهبط بسلام مِنَّا وبركاتٍ عليك } في سورة هود ( 48 ) وعند قوله : { تحية من عند الله مباركة طيبة } في سورة النور ( 61 ) .
وظاهر قوله : { تبارك الذي نزل الفرقان } أنه إخبار عن عظمة الله وتوفر كمالاته فيكون المقصود به التعليم والإيقاظ ، ويجوز مع ذلك أن يكون كناية عن إنشاء ثناء على الله تعالى أنشأ الله به ثناء على نفسه كقوله : { سبحان الذي أسرى بعبده } [ الإسراء : 1 ] على طريقة الكلام العربي في إنشاء التعجب من صفات المتكلم في مقام الفخر والعظمة ، أو إظهار غرايب صدرت ، كقول امرىء القيس :
ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي *** فيا عجباً من كوْرها المتحمَّلِ
وإنما يتعجب من إقدامه على أن جَعَل كور المطية يحمله هو بعد عَقرها . ومنه قول الفِند الزِّمَّاني :
أيا طعنةَ ما شيخٍ *** كبيرٍ يفن بَالِي
والذي نزل الفرقان هو الله تعالى . وإذ قد كانت الصلة من خصائص الله تعالى كان الفعل كالمسند إلى ضمير المتكلم فكأنه قيل : تباركتُ .
والموصول يومىء إلى علة ما قَبله فهو كناية عن تعظيم شأن الفرقان وبركته على الناس من قوله : { ليكون للعالمين نذيراً } . فتلك منة عظيمة توجب الثناء على الله . وهو أيضاً كناية عن تعظيم شأن الرسول عليه الصلاة السلام .
والتعريف بالموصول هنا لكون الصلة من صفات الله في نفس الأمر وعند المؤمنين وإن كان الكفار ينكرونها لكنهم يعرفون أن الرسول أعلنَها فالله معروف بذلك عندهم معرفة بالوجه لا بالكُنه الذي ينكرونه .
والفرقان : القرآن وهو في الأصل مصدر فرق ، كما في قوله : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } [ الأنفال : 41 ] وقوله : { يَجعَلْ لكم فُرقاناً } [ الأنفال : 29 ] . وجعل علماً بالغلبة على القرآن لأنه فرّق بين الحق والباطل لما بيَّن من دلائل الحق ودحض الباطل . وقد تقدم في قوله تعالى : { وأنزل الفرقان } في سورة آل عمران ( 4 ) .
وإيثار اسم الفرقان بالذكر هنا للإيماء إلى أن ما سيذكر من الدلائل على الوحدانيَّة وإنزال القرآن دلائل قيمة تفرّق بين الحق والباطل .
ووصفُ النبي ب { عبده } تقريب له وتمهيد لإبطال طلبهم منه في قوله :
{ وقالوا مالِ هذا الرسول يأكل الطعام } [ الفرقان : 7 ] الآية .
والمراد ب { للعالمين } جميع الأمم من البشر لأن العالم يطلق على الجنس وعلى النوع وعلى الصنف بحسب ما يسمح به المقام ، والنذارة لا تكون إلا للعقلاء ممن قُصدوا بالتكليف . وقد مضى الكلام على لفظ { العالمين } في سورة الفاتحة ( 2 ) .
والنذير : المخبِر بسوء يقع ، وهو فَعيل بمعنى مُفْعِل بصيغة اسم الفاعل مثل الحَكيم . والاقتصار في وصف الرسول هنا على النذير دون البشير كما في قوله : { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً } [ سبأ : 28 ] لأن المقام هنا لتهديد المشركين إذ كذبوا بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام . فكان مقتضياً لذكر النذارة دون البشارة ، وفي ذلك اكتفاء لأن البشارة تخطر ببال السامع عند ذكر النذارة . وسيجيء : { وما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً } في هذه السورة ( 56 ) .
وفي هذه الآية جمع بين التنويه بشأن القرآن وأنه منزل من الله وتنويه بشأن النبي عليه الصلاة والسلام ورفعة منزلته عند الله وعموم رسالته .