71- فقال لهم : إن الله يقول إنها بقرة لم تذلل بالعمل في حرث الأرض وقلبها للزراعة ، ولا في سقي الأرض المهيأة للزراعة أو ما فيها من نبات ، وهى بريئة من العيوب ، سالمة من الآفات ، لا لون فيها يخالف سائر جسدها ، فقالوا له : الآن جئت بالبيان الواضح ، وبحثوا عن البقرة المتصفة بهذه الأوصاف فذبحوها ، وقد قاربوا ألا يفعلوا ذلك لكثرة أسئلتهم وطول لجاجهم .
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ } أي : مذللة بالعمل ، { تُثِيرُ الْأَرْضَ } بالحراثة { وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ } أي : ليست بساقية ، { مُسَلَّمَةٌ } من العيوب أو من العمل { لَا شِيَةَ فِيهَا } أي : لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم .
{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } أي : بالبيان الواضح ، وهذا من جهلهم ، وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة ، فلو أنهم اعترضوا أي : بقرة لحصل المقصود ، ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم ، ولو لم يقولوا " إن شاء الله " لم يهتدوا أيضا إليها ، { فَذَبَحُوهَا } أي : البقرة التي وصفت بتلك الصفات ، { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } بسبب التعنت الذي جرى منهم .
وفي قوله تعالى : { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } إضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة ، كانوا في غنى عنها لو أطاعوا نبيهم من أول الأمر ، ولكنهم للجاجتهم ، وسوء اختيارهم ، وبعد أفهامهم عن مقاصد الشريعة ، ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار ، فأصبحوا مكلفين بالبحث عن بقرة موصوفة بأنها متوسطة السن ، لونها أصفر فاقع ، تبهج الناظرين إليها ، وهي ، بعد ذلك ، سائمة نفيسة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقيى الزرع ، سليمة من العيوب ، ليس فيها لون يخالف لونها الذي هو في الصفرة الفاقعة .
وقوله تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ } صفة لبقرة ، يقال : بقرة ذلول ، أي : ريضة زالت صعوبتها ، وإثارة الأرض : تحريكها وقلبها بالحرث والزراعة والحرث : شقها لإِلقاء البذور فيها .
والمراد : نفي التذليل ونفى إثارة الأرض وسقى الزرع عن البقرة المطلوبة .
أي : هي بقرة صعبة لم يذللها العمل في حراثة الأرض ، ولا في سقي الزرع ، فهي معفاة من العمل في هذه الأشياء .
{ لاَّ } في قوله تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ } للنفي ، وفي قوله تعالى : { وَلاَ تَسْقِي الحرث } مزيدة لتوكيد الأولى ، لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقى ، وأعيد في قوله تعالى { وَلاَ تَسْقِي الحرث } مراعاة للاستعمال الفصيح .
وقوله - تعالى - : { مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } صفتان للبقرة ، ومسلمة مفعلة من السلامة .
والشية : اللون المخالف لبقية لون الشيء ، وأصله من وشى الشيء ، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته .
والمعنى : إن هذه البقرة سليمة من العيوب المختلفة ، وليس فيها لون يخالف لون جلدها من بياض أو سواد أو غيرهما ، بل هي صفراء كلها .
وأرادوا بالحق في قوله تعالى : { قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق } الوصف الواضح الذي لا اشتباه فيه ولا احتمال ، فكأنهم يقولون له : الآن - فقط - جئتنا بحقيقة وصف البقرة ، فقد ميزتها عن جميع ما عداها ، من جهة اللون وكونهها من السوائم لا العوامل ، وبذلك لم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلا .
والفاء في قوله تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } قد عطفت ما بعدها على محذوف يدل عليه المقام ، والتقدير فظفروا بها فذبحوها ، أي : فذبح قوم موسى البقرة التي وصفها الله - تعالى - لهم ، بعد ما قاربوا أن يتركوا ذبحها ، ويدعوا ما أمروا به ، لتشككهم في صحة ما يوجه إليهم من إرشادات ولكثرة مما طلتهم .
قال صاحب الكشاف : وقوله تعالى : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } استثقال لاستقصائهم ، وأنهم لتطويلهم المفرط . وثكرة استكشافهم ، ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم ، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم ، وقيل : ما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها ، وقيل لخوف الفضيحة في ظهور القاتل " .
{ قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلّمَةٌ لاّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الاَنَ جِئْتَ بِالْحَقّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }
وتأويل ذلك ، قال موسى : إن الله يقول : إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول . ويعني بقوله : لا ذَلُولٌ : أي لم يذللها العمل . فمعنى الآية : أنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض بأظلافها ، ولا سُنِيَ عليها الماء فيسقى عليها الزرع ، كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل : دابة ذلول بينة الذّل ، بكسر الذال ، ويقال في مثله من بني آدم : رجل ذليل بين الذلّ والذلة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إِنّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ يقول : صعبة لم يذلها عمل ، تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إِنّها بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ يقول : بقرة ليست بذلول يزرع عليها ، وليست تسقي الحرث .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : إِنّها بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ أي لم يذللها العمل ، تُثِيرُ الأرْضَ يعني ليست بذلول فتثير الأرض ، وَلا تَسْقِي الحَرْثَ يقول : ولا تعمل في الحرث .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : إِنّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ يقول : لم يذلها العمل ، تُثِيرُ الأرْضَ يقول : تثير الأرض بأظلافها ، وَلا تَسْقِي الحَرْثَ يقول : لا تعمل في الحرث .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال : الأعرج : قال مجاهد : قوله : لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الحَرْثَ يقول : ليست بذلول فتفعل ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : ليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث .
ويعني بقوله : تُثِيرُ الأرْضَ : تقلب الأرض للحرث ، يقال منه : أثرت الأرض أثيرها إثارة : إذا قلبتها للزرع . وإنما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة لأنها كانت فيما قيل وحشية .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن كثير بن زياد ، عن الحسن قال : كانت وحشية .
القول في تأويل قوله تعالى : مُسَلّمَةٌ .
ومعنى مُسَلّمَةٌ مفعلة من السلامة ، يقال منه : سلمت تسلم فهي مسلمة .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه ، فوصفها الله بالسلامة منه . فقال مجاهد بما :
حدثنا به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مُسَلّمَةٌ يقول : مسلمة من الشية ، ولاشِيَة فِيها لا بياض فيها ولا سواد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : لاشِيَةَ فِيها قال : مسلمة من الشية لاشِيَةَ فِيها لا بياض فيها ولا سواد .
وقال آخرون : مسلمة من العيوب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : مُسَلّمَة لاشِيَة فِيها أي مسلمة من العيوب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : مُسَلّمَةٌ يقول : لا عيب فيها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : مُسَلّمَةٌ يعني مسلمة من العيوب .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس قوله : مُسَلّمَةٌ لا عَوَار فيها .
والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها ، لكان في قوله : مُسَلّمَة مكتفًى عن قوله : لاشِيَةَ فِيها . وفي قوله : لاشِيَةَ فِيها ما يوضح عن أن معنى قوله : مُسَلّمَة غير معنى قوله : لاشِيَةَ فِيها . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام أنه يقول : إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض وقلبها للحراثة ولا السّنُوّ عليها للمزارع ، وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب .
القول في تأويل قوله تعالى : لاشِيَةَ فِيها .
يعني بقوله : لاشِيَةَ فِيها : لا لون فيها يخالف لون جلدها . وأصله من وَشْي الثوب ، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه بضروب مختلفة من ألوان سَداه ولُحمته ، يقال منه : وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا . ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره : واشٍ ، لكذبه عليه عنده وتحسينه كذبه بالأباطيل ، يقال منه : وشيت به إلى السلطان وشاية ، ومنه قول كعب بن زهير :
تَسْعَى الوُشَاةُ جَنابَيْها وَقَوْلُهُم *** إنّكَ يا ابْنَ أبي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
والوشاة جمع واش : يعني أنهم يتقوّلون بالأباطيل ، ويخبرونه أنه إن لحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم قتله .
وقد زعم بعض أهل العربية أن الوشي : العلامة . وذلك لا معنى له إلا أن يكون أراد بذلك تحسين الثوب بالأعلام ، لأنه معلوم أن القائل : وشيت بفلان إلى فلان غير جائز أن يتوهم عليه أنه أراد : جعلت له عنده علامة . وإنما قيل : لاشِيةَ فِيها وهي من وشيت ، لأن الواو لما أسقطت من أولها أبدلت مكانها الهاء في آخرها ، كما قيل : وزنته زنة ، ووسيته سية ، ووعدته عدة ، ووديته دية . وبمثل الذي قلنا في معنى قوله : لاشِيَةَ فِيها قال أهل التأويل .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لاشِيَةَ فِيها أي لا بياض فيها .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : لاشِيَةَ فِيها يقول : لا بياض فيها .
حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لاشِيَةَ فِيها أي لا بياض فيها ولا سواد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية : لاشِيَةَ فِيها قال : لونها واحد ليس فيها لون سوى لونها .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لاشِيَةَ فِيها من بياض ولا سواد ولا حمرة .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لاشِيَةَ فِيها هي صفراء ليس فيها بياض ولا سواد .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : لاشِيَةَ فِيها يقول : لا بياض فيها .
القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا الآن جِئْتَ بِالحقّ .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : قَالُوا الآن جِئْتَ بِالحَقّ فقال بعضهم : معنى ذلك : الآن بينت لنا الحقّ فتبيناه ، وعرفنا أية بقرة عينت . وممن قال ذلك قتادة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قَالُوا الآن جِئْتَ بِالحَقّ أي الآن بينت لنا .
وقال بعضهم : ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبيّ الله موسى صلوات الله عليه إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحقّ في أمر البقرة قبل ذلك . وممن رُوي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : اضطروا إلى بقرة لا يعلمون على صفتها غيرها ، وهي صفراء ليس فيها سواد ولا بياض ، فقالوا : هذه بقرة فلان الآن جِئْتَ بالحَقّ وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق .
وأولى التأويلين عندنا بقوله : قالُوا الآن جِئْتَ بالحَقّ قول قتادة وهو أن تأويله : الآن بينت لنا الحق في أمر البقرة ، فعرفنا أنها الواجب علينا ذبحها منها لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها بعد قيلهم هذا مع غلظ مؤنة ذبحها عليهم وثقل أمرها ، فقال : فَذَبحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ وإن كانوا قد قالوا بقولهم : الاَن بينت لنا الحق ، هراء من القول ، وأتوا خطأ وجهلاً من الأمر . وذلك أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبينا لهم في كل مسألة سألوها إياه ، وردّ رادّوه في أمر البقرة الحق . وإنما يقال : الاَن بينت لنا الحق لمن لم يكن مبينا قبل ذلك ، فأما من كان كل قيله فيما أبان عن الله تعالى ذكره حقا وبيانا ، فغير جائز أن يقال له في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه وأدّى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم : الاَنَ جِئْتَ بِالحَقّ كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك .
وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم ، وكفروا بقولهم لموسى : الاَنَ جِئْتَ بِالحَقّ ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك ، وأن ذلك من فعلهم وقيلهم كفر . وليس الذي قال من ذلك عندنا كما قال لأنهم أذعنوا بالطاعة بذبحها ، وإن كان قيلهم الذي قالوه لموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : فَذَبحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ .
يعني بقوله : فَذَبحُوها فذبح قوم موسى البقرة التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها . ويعني بقوله : وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ أي قاربوا أن يدعوا ذبحها ، ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك .
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك . فقال بعضهم : ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها وبينت لهم صفتها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا أبو معشر المدني ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله : فَذَبحُوهَا ومَا كادُوا يَفْعَلُونَ قال : لغلاء ثمنها .
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد الهلالي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن الخطاب ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي : فَذَبحُوهَا وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قال : من كثرة قيمتها .
حدثنا القاسم ، قال : أخبرنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وحجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس في حديث فيه طول ، ذكر أن حديث بعضهم دخل في حديث بعض ، قوله : فَذَبحُوهَا وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ لكثرة الثمن ، أخذوها بملء مَسْكها ذهبا من مال المقتول ، فكان سواء لم يكن فيه فضل فذبحوها .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : فَذَبحُوهَا وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ يقول : كادوا لا يفعلون . ولم يكن الذي أرادوا لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها ، وكل شيء في القرآن «كاد » أو «كادوا » أو «لو » فإنه لا يكون ، وهو مثل قوله : أكادُ أُخْفِيها .
وقال آخرون : لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن أطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى .
والصواب من التأويل عندنا ، أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة للخلّتين كلتيهما إحداهما غلاء ثمنها مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها . والأخرى خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه على قاتله .
فأما غلاء ثمنها فإنه قد روى لنا فيه ضروب من الروايات .
فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : اشتروها بوزنها عشر مرّات ذهبا ، فباعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : اشتروها بملء جلدها دنانير .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كانت البقرة لرجل يبرّ أمه ، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له ، فباعها بملء جلدها ذهبا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : حدثني خالد بن يزيد ، عن مجاهد ، قال : أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبا فباعها منهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول : اشتروها منه على أن يملئوا له جلدها دنانير ، ثم ذبحوها فعمدوا إلى جلد البقرة فملئوه دنانير ، ثم دفعوها إليه .
حدثني محمد بن سعيد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني يحيى ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : وجدوها عند رجل يزعم أنه ليس بائعها بمال أبدا ، فلم يزالوا به حتى جعلوا له أن يسلخوا له مسكها فيملئوه له دنانير ، فرضي به فأعطاهم إياها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : لم يجدوها إلا عند عجوز ، وإنها سألتهم أضعاف ثمنها ، فقال لهم موسى : أعطوها رضاها وحكمها . ففعلوا ، واشتروها فذبحوها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : لم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد ، فباعها بوزنها ذهبا ، أو ملء مسكها ذهبا ، فذبحوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، قال : وجدوا البقرة عند رجل ، فقال : إني لا أبيعها إلا بملء جلدها ذهبا ، فاشتروها بملء جلدها ذهبا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : جعلوا يزيدون صاحبها حتى ملئوا له مسكها وهو جلدها ذهبا .
وأما صغر خطرها وقلة قيمتها ، فإن :
الحسن بن يحيى حدثنا ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، قال : حدثني محمد بن سوقة ، عن عكرمة ، قال : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير .
وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة على أنفسهم ، فإن وهب بن منبه كان يقول : إن القوم إذْ أُمروا بذبح البقرة إنما قالوا لموسى : أتَتّخِذُونا هُزُوا لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت فحادوا عن ذبحها .
حدثت بذلك عن إسماعيل بن عبد الكريم ، عن عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه .
وكان ابن عباس يقول : إن القوم بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله ، أنكرت قتلته قتله ، فقالوا : والله ما قتلناه ، بعد أن رأوا الآية والحقّ .
حدثني بذلك محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس .
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ( 71 )
{ ذلول } : مذللة بالعمل والرياضة ، تقول بقرة مذللة بيِّنة الذِّل بكسر الذال ، ورجل ذلول بين الذُّل بضم الذال( {[782]} ) ، و { ذلول } نعت ل { بقرة } ، أو على إضمار هي ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : «لا ذلولَ » بنصب اللام( {[783]} ) .
و { تثير الأرض } ، معناه بالحراثة ، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة ، أي لا ذلول مثيرة ، وقال قوم { تثير } فعل مستأنف ، والمعنى إيجاب الحرث وأنها كانت تحرث ولا تسقي( {[784]} ) ، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ، لأنها من نكرة( {[785]} ) ، و { تسقي الحرث } معناه بالسانية( {[786]} ) أو غيرها من الآلات ، و { الحرث } ما حرث وزرع .
و { مسلمة } بناء مبالغة( {[787]} ) من السلامة ، قال ابن عباس وقتادة وأبو العالية : معناه من العيوب( {[788]} ) ، وقال مجاهد : معناه من الشيات والألوان ، وقال قوم : معناه من العمل .
و { لا شية فيها } : أي لا خلاف في لونها هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد قاله ابن زيد وغيره ، والموشي المختلط الألوان ، ومنه وشي الثوب ، تزيينه بالألوان ، ومنه الواشي لأنه يزين كذبه بالألوان من القول ، والثور الأشيه الذي فيه بلقة ، يقال فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وكلب أبقع ، وثور أشيه ، كل ذلك بمعنى البلقة( {[789]} ) .
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم ، ودين الله يُسْرٌ ، والتعمق في سؤال الأنبياء عليهم السلام مذموم( {[790]} ) .
وقصة( {[791]} ) وجود هذه البقرة على ما روي ، أن رجلاً من بني إسرائيل ولد له ابن ، وكانت له عجلة ، فأرسلها في غيضة ، وقال : اللهم إني قد استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي ، ومات الرجل ، فلما كبر الصبي قالت له أمه : إن أباك قد استودع الله عجلةً لك ، فاذهب فخذها ، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها ، وكانت مستوحشة ، فجعل يقودها نحو أمه ، فلقيه بنو إسرائيل ، ووجدوا بقرته على الصفة التي أمروا بها ، وروت طائفة أنه كان رجل من بني إسرائيل براً بأبيه فنام أبوه يوماً وتحت رأسه مفاتيح مسكنهما ، فمر به بائع جوهر فسامه فيه بستين ألفاً ، فقال له ابن النائم : اصبر حتى ينتبه أبي ، وأنا آخذه منك بسبعين ألفاً ، فقال له صاحب الجوهر : نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفاً ، فداما كذلك حتى بلغه مائة ألف ، وانحط صاحب الجوهر إلى ثلاثين ألفاً ، فقال له ابن النائم : والله لا اشتريته منك بشيء براً بأبيه ، فعوضه الله منه أن وجدت البقرة عنده ، وقال قوم : وجدت عند عجوز تعول يتامى كانت البقرة لهم ، إلى غير ذلك من اختلاف في قصتها ، هذا معناه ، فلما وجدت البقرة ساموا صاحبها ، فاشتط عليهم ، وكانت قيمتها - على ما روي عن عكرمة - ثلاثة دنانير ، فأتوا به موسى عليه السلام ، وقالوا : إن هذا اشتط علينا ، فقال لهم : أرضوه في ملكه ، فاشتروها منه بوزنها مرة ، قاله عبيدة السلماني( {[792]} ) ، وقيل بوزنها مرتين ، وقال السدي : بوزنها عشر مرات ، وقال مجاهد : كانت لرجل يبر أمه ، وأخذت منه بملء جلدها دنانير ، وحكى مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ، ولم تكن من بقر الأرض ، وحكى الطبري عن الحسن أنها كانت وحشية .
و { الآن } مبنيٌّ على الفتح ولم يتعرف بهذه الألف واللام ، ألا ترى أنها لا تفارقه في الاستعمال ، وإنما بني لأنه ضمن معنى حرف التعريف ، ولأنه واقع موقع المبهم( {[793]} ) ، إذ معناه هذا الوقت ، هو عبارة عما بين الماضي والمستقبل ، وقرىء «قالوا الآن » بسكون اللام وهمزة بعدها ، «وقالوا الان » بمدة على الواو وفتح اللام دون همز ، «وقالوا الآن » بحذف الواو من اللفظ دون همز ، «وقالوا ألآن » بقطع الألف الأولى وإن كانت ألف وصل ، كما تقول «يا الله » .
و { جئت بالحق } معناه - عند من جعلهم عصاة( {[794]} )- بينت لنا غاية البيان ، و { جئت بالحق } الذي طلبناه ، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق ، ومعناه عند ابن زيد - الذي حمل محاورتهم على الكفر- : الآن صدقت . وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة ، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف ، وقالوا : هذه بقرة فلان ، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر ، وإن نحرت أجزت( {[795]} ) .
وقوله تعالى : { وما كادوا( {[796]} ) يفعلون } عبارة عن تثبطهم في ذبحها ، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى ، وقال محمد بن كعب القرظي : كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها ، وقال غيره : كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القتال ، وقيل : كان ذلك للمعهود من قلة( {[797]} ) انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء .