{ 30 - 32 } { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }
يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } أي : انصبه ووجهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك{[651]} إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها . وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة ، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
وخص اللّه إقامة الوجه لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب ويترتب على الأمرين سَعْيُ البدن ولهذا قال : { حَنِيفًا } أي : مقبلا على اللّه في ذلك معرضا عما سواه .
وهذا الأمر الذي أمرناك به هو { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها ، فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم ، الميل إليها ، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة .
ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "
{ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } أي : لا أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه اللّه ، { ذَلِكَ } الذي أمرنا به { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإلى كرامته ، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } فلا يتعرفون الدين القيم وإن عرفوه لم يسلكوه .
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يثبت على الحق الذى هداه - عز وجل - إليه فقال : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } والفاء هى الفصحية ، وقوله : { أَقِمْ } من الإِقامة على الشئ والثبات عليه ، وعدم التحول عنه .
قوله : { حَنِيفاً } من الحنف ، وهو الميل من الباطل إلى الحق ، وضده الجنف ، و { حَنِيفاً } حال من فاعل { أَقِمْ } .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لك - أيها الرسول الكريم - من بطلان الشكر فاثبت على ما أنت عليه من إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، وأقبل عى هذا الدين الذى أوحاه الله إليك ، بدون التفات عنه ، أو ميل إلى سواه .
قال صاحب الكشاف : قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أى : فقوم وجهك له وعدِّله ، غير ملتفت عنه يمينا أو شمالا ، وهو تمثيل لإِقباله على الدين واستقامته عليه وثباته ، واهتمامه بأسبابه ، فإن من اهتم بالشئ عقد عليه طرفه ، وسدد إليه نظره ، وقوم له وجهه ، مقبلا به عليه .
والمراد بالفطرة فى قوله - تعالى - : { فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس } الملة . أى : ملة الإِسلام والتوحيد .
أو المراد بها : قابلية الدين الحق ، والتهيؤ النفسى لادراكه . والأصل فيها أنها بمعنى الخلقة .
أى : اثبت - أيها الرسول الكريم - على هذا الدين الحق ، والزموا - أيها الناس - فطرة الله ، وهى ملة الحق ، التى فطر الناس عليها ، وخلقهم قابلين لها .
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يقول - تعالى - : فسدد وجهك واستمر على الدين الذى شرعه الله لك ، من الحنيفية ملة إبراهيم ، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة ، التى فطر الله الخلق عليها ، فإنه - تعالى - : فطر خلقه على معرفته وتوحيده .
وفى الحديث : " إنى خلقت عبادى حنفاء ، فاجتالتهم - أى حولتهم - الشياطين عن دينهم " .
وروى البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه يهودانه أن ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول : فطرة الله التى فطر الناس عليها " .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وحّد الخطاب أولا ، ثم جمع ؟ قلت : خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا ، وخطاب الرسول خطاب لأمته ، مع ما فيه من التعظيم للإِمام ، ثم جمع بد ذلك للبيان والتلخيص .
وقوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } تعليل لما قبله من الأمر بلزوم الفطرة التى فطر - سبحانه - الناس عليها .
أى : الزموا فطرة الله التى هى دين الإِسلام ، وقبول تعاليمه والعمل بها ، لأن هذا الدين قد ارتضاه الله - تعالى - لكم ، ولا تبديل ولا تغيير لما فطركم عليه وارتضاه لكم .
و { ذَلِكَ } الدين الذى اختاره - سبحانه - لكم ، هو { الدين القيم } أى : القويم المستقيم ، الذى لا اعوجاج فيه ولا انحراف .
فاسم الإِشارة يعود إلى الدين الذى أمرنا - سبحانه - بالثبات عليه ، فى قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } .
وقوله - تعالى - : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } استدراك لبيان موقف الناس من هذا الدين القيم .
أى : ذلك الدين الذى ارتضيته لكم هو الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة ، بسبب استحواذ الشيطان عليهم ، واتباعهم للأهواء الزائفة ، والتقاليد الفاسدة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربك يا محمد لطاعته ، وهي الدين ، حنيفا يقول : مستقيما لدينه وطاعته ، فطرة الله التي فطر الناس عليها يقول : صنعةَ الله التي خلق الناس عليها ونصبت فطرة على المصدر من معنى قوله فَأقِمْ وَجْهَكَ للدّينِ حَنِيفا وذلك أن معنى ذلك : فطر الله الناس على ذلك فطرة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فِطْرَةَ اللّهِ التي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها قال : الإسلام مذ خلقهم الله من آدم جميعا ، يقرّون بذلك ، وقرأ : وَإذْ أخَذَ رَبّكَ منْ بَنِي آدَمَ منْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ ، وأشْهَدَهُمْ على أنْفُسِهمْ ، ألَسْتُ برَبّكُمْ ؟ قالُوا بَلَى شَهِدْنا قال : فهذا قول الله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً ، فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ بعد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فِطْرَةَ اللّهِ قال : الإسلام .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس بن أبي صالح ، عن يزيد بن أبي مريم ، قال : مرّ عمر بمُعاذ بن جبل ، فقال : ما قِوام هذه الأمة ؟ قال مُعاذ : ثلاث ، وهنّ المنجيات : الإخلاص ، وهو الفطرة فِطْرَةَ اللّهِ التي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها . والصلاة وهي الملة والطاعة وهي العصمة ، فقال عمر : صدقت .
حدثني يعقوب ، قال : ثني ابن عُلَية ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قِلابة أن عمر قال لمعاذ : ما قِوام هذه الأمة ؟ ثم ذكر نحوه .
وقوله لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ يقول : لا تغيير لدين الله : أي لا يصلح ذلك ، ولا ينبغي أن يفعل .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ قال : لدينه .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، قال : أرسل مجاهد رجلاً يقال له قاسم إلى عكرِمة يسأله عن قول الله : لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ( قال ) : إنما هو الدين ، وقرأ لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن حسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرِمة فطْرَةَ اللّهِ التي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها قال : الإسلام .
قال : ثني أبي ، عن نضر بن عربي ، عن عكرمة لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ قال : لدين الله .
قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : لدين الله .
قال : ثنا أبي ، عن عبد الجبار بن الورد ، عن القاسم بن أبي بزّة ، قال : قال مجاهد ، فسل عنها عكرِمة ، فسألته ، فقال عكرمة : دين الله تعالى ماله أخزاه الله ؟ ألم يسمع إلى قوله فِطْرَةَ اللّهِ التي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ ؟ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ : أي لدين الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن عكرمة ، قال : لدين الله .
قال : ثنا ابن عيينة ، عن حميد الأعرج ، قال : قال سعيد بن جُبَير لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ قال : لدين الله .
قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ قال : لدين الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ الله قال : دين الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن مسعر وسفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن إبراهيم ، قال لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ قال : لدين الله .
قال : ثنا أبي عن جعفر الرازي ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : لدين الله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تغيير لخلق الله من البهائم بأن يخصى الفحول منها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن رجل ، سأل ابن عباس ، عن خصاء البهائم ، فكرهه ، وقال : لا تَبْدِيل لخَلْقِ اللّهِ .
قال : ثنا ابن عيينة ، عن حميد الأعرج ، قال : قال عكرمة : الإخصاء .
قال : ثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : الإخصاء .
وقوله : ذلكَ الدّينُ القَيّمُ يقول تعالى ذكره : إن إقامتك وجهك للدين حنيفا غير مغير ولا مبدّل هو الدين القيم ، يعني المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة من الحنيفية إلى اليهودية والنصرانية ، وغير ذلك من الضلالات والبدع المحدثة .
وقد وجّه بعضهم معنى الدين في هذا الموضع إلى الحساب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو ليلى ، عن بريدة ذلكَ الدّينُ القَيّمُ قال : الحساب القيم وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ يقول تعالى ذكره : ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الدين الذي أمرتك يا محمد به بقولي فأَقمِ وَجْهَكَ للدّينِ حَنِيفا هو الدين الحقّ دون سائر الأديان غيره .