29- وقل - أيها الرسول - : إن ما جئت به هو الحق من عند ربكم ، فمن شاء أن يؤمن به فليؤمن ، فذلك خير له ، ومن شاء أن يكفر فليكفر فإنه لم يظلم إلا نفسه . إننا أعددنا لمن ظلم نفسه بالكفر ناراً تحيط بهم كالسرادق . وإن يستغث الظالمون بطلب الماء وهم في جهنم ؛ يؤت لهم بماء كالزيت العكر الشديد الحرارة يحرق الوجوه بلهيبه . قَبُحَ هذا الشراب لهم ، وقبحت جهنم مكاناً لراحتهم .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بكلمة الحق فى وجوه المستكبرين ، فقال .
{ وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } .
أى : وقل : أيها الرسول - لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ، واتبعوا أهواءهم ، وكان أمرهم فرطا ، قل لهم : هذا الذى جئتكم به من قرآن هو الحق من ربكم وخالقكم . . فقوله : { الحق مِن رَّبِّكُمْ } خبر لمبتدأ محذوف .
أو أن لفظ { الحق } مبتدأ ، والجار والمجرور خبره . أى : الحق الذى جئتكم به فى هذا القرآن العظيم ، كائن مبدؤه من ربكم ، وليس من أحد سواه .
وليس المراد من قوله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } التخيير بين الإيمان والكفر ، بل المراد به التهديد والتخويف ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } . . إلخ .
أى : قل لهم جئتكم من ربكم بالحق الذى يجب اتباعه ، فمن شاء أن يؤمن به فليفعل فإن عاقبته الخير والثواب ، ومن شاء أن يكفر به فليكفر فإن عاقبته الخسران والعقاب ، كما بين - سبحانه - ذلك فى قوله : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } .
والسرادق : كل ما أحاط بغيره ، كالحائط أو السور الذى يحيط بالبناء ، فيمنع من الوصول إلى ما بداخله .
أى : إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بهذا الحق نارا مهولة عظيمة ، أحاط بهم سياجها إحاطة تامة ؛ بحيث لا يستطيعون الخروج منه ، وإنما هم محصورون بداخله . كما ينحصر الشئ بداخل ما يحدق به من كل جانب .
وقوله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } بيان لما ينزل بهم من عذاب عندما يطلبون الغوث مما هم فيه من كروب .
والمهل فى اللغة : يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض . كالحديد ، والرصاص ، والنحاس ، ونحو ذلك كما يطلق - أيضا - على الماء الغليظ كدردى الزيت أى : ما تعكر منه . وقيل . هو نوع من القطران أو السم .
والمرتفق : المتكأ ، من الارتفاق وهو الاتكاء على مرفق اليد .
أى : إن هؤلاء الكافرين ، إن يطلبوا الغوث عما هم فيه من كرب وعطش ، يغاثوا بماء كالمهل فى شدة حرارته ونتنه وسواده ، هذا الماء { يشوى الوجوه } أى : يحرقها .
{ بئس الشراب } ذلك الماء الذى يغاثون به { وساءت } النار منزلا ينزلون به ، ومتكأ يتكئون عليه .
فالآية الكريمة تصور ما ينزل بهؤلاء الظالمين من عذاب ، تصويرا ترتجف من هوله الأبدان ، ويدخل الرعب والفزع على النفوس .
قال بعضهم : " فإن قيل ، أى إغاثة لهم فى ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب ، وكيف قال - سبحانه - ، { يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل } ؟
فالجواب : إن هذا من أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ونظيره من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب .
وخيل قد دلفت لها بخيل . . . تحية بينهم ضرب وجيع
أى : لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع ، وإذا كان هؤلاء الظالمون لا يغاثون إلا بماء كالمهل ، علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم مطلقا " .
والمخصوص بالذم فى قوله : { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } محذوف ، بئس الشراب ذلك الماء الذى يغاثون به ، وساءت النار مكانا للارتفاق والاتكاء .
( وقل : الحق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) . .
بهذه العزة ، وبهذه الصراحة ، وبهذه الصرامة ، فالحق لا ينثني ولا ينحني ، إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه ، قويا لا ضعف فيه ، صريحا لا مداورة فيه . فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن لم يعجبه الحق فليذهب ، ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة ؛ ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه .
إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها . إنما هي ملك لله ، والله غني عن العالمين . والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة ، ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير . والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين .
ثم يعرض ما أعد للكافرين ، وما أعد للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة :
( إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ؛ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه . بئس الشراب وساءت مرتفقا . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا . أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب ؛ ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ، متكئين فيها على الأرائك . نعم الثواب وحسنت مرتفقا ) .
( إنا أعتدنا للظالمين نارا ) . . أعددناها وأحضرناها . . فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها ، ولا تستغرق زمنا لإعدادها ! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة : كن . فيكون . إلا أن التعبير هنا بلفظ( اعتدنا )يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد ، والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال !
وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين ، فلا سبيل إلى الهرب ، ولا أمل في النجاة والإفلات . ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة ، أو يكون فيه استرواح !
فإن استغاثوا من الحريق والظمأ أغيثوا . . أغيثوا بماء كدردي الزيت المغلي في قول ، وكالصديد الساخن في قول ! يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه ( بئس الشراب ) الذي يغاث به الملهوفون من الحريق ! ويا لسوء النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء . وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير . فما هم هنالك للارتفاق ، إنما هم للاشتواء !
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد للناس : هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } هذا من باب التهديد والوعيد الشديد ؛ ولهذا قال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا } أي : أرصدنا { لِلظَّالِمِينَ } وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي : سورها .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي الهيثم{[18142]} عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لسُرَادِق النار أربعة جُدُر ، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة " .
وأخرجه الترمذي في " صفة النار " وابن جرير في تفسيره ، من حديث دراج أبي السَّمح به{[18143]}
[ وقال ابن جريج : قال ابن عباس : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } قال : حائط من نار ]{[18144]}
وقال ابن جرير : حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الله بن أمية ، حدثني محمد بن حيي بن يعلى ، عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن أمية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البحر هو جهنم " قال : فقيل له : [ كيف ذلك ؟ ]{[18145]} فتلا هذه الآية - أو : قرأ هذه الآية - : { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } ثم قال : " والله لا أدخلها أبدًا أو : ما دمت حيًا - ولا تصيبني منها قطرة " {[18146]} .
وقوله : { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } قال ابن عباس : " المهل " : ماء غليظ مثل{[18147]} دردي الزيت .
وقال مجاهد : هو كالدم والقيح . وقال عكرمة : هو الشيء الذي انتهى حَرّه : وقال آخرون : هو كل شيء أذيب .
وقال قتادة : أذاب ابنُ مسعود شيئًا من الذهب في أخدود ، فلما انماع وأزبد قال : هذا أشبه شيء بالمهل .
وقال الضحاك : ماء جهنم أسود ، وهي سوداء وأهلها{[18148]} سود .
وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر ، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها ، فهو أسود منتن غليظ حار ؛ ولهذا قال : { يَشْوِي الْوُجُوهَ } أي : من حره ، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه ، شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سُرادِق النار عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ماء كالمهل " . قال{[18149]} كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه " {[18150]} وهكذا رواه الترمذي في " صفة النار " من جامعه ، من حديث رِشْدِين بن سعد{[18151]} عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، به{[18152]} ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث " رشدين " ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه ، ، هكذا قال ، وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب ، عن ابن لَهِيعة ، عن دَرّاج ، والله أعلم{[18153]} .
وقال عبد الله بن المبارك ، وبَقِيَّة بن الوليد ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن بُسْر ، عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ } [ إبراهيم : 16 ، 17 ] قال : " يقرب إليه فيَتَكرّهه ، فإذا قرب منه شَوَى وجهَه ووقعت فروةُ رأسه ، فإذا شربه{[18154]} قطع أمعاءه ، يقول الله تعالى : { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ } .
وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فأكلوا{[18155]} منها فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارًّا مرً بهم يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها . ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون . فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم{[18156]} وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود .
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه{[18157]} الصفات [ الذميمة ]{[18158]} القبيحة : { بِئْسَ الشَّرَابُ } أي : بئس هذا الشراب{[18159]} كما قال في الآية الأخرى : { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [ محمد : 15 ] وقال تعالى : { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية : 5 ]{[18160]} أي : حارة ، كما قال : { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ]
{ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [ أي : وساءت النار ]{[18161]} منزلا ومَقِيلا ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق{[18162]} كما قال في الآية الأخرى : { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66 ]
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ، واتبعوا أهواءهم : الحقّ أيها الناس من عند ربكم ، وإليه التوفيق والحذلان ، وبيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد ، فيؤمن ، ويضلّ من يشاء عن الهدى فيكفر ، ليس إليّ من ذلك شيء ، ولست بطارد لهواكم من كان للحقّ متبعا ، وبالله وبما أنزل عليّ مؤمنا ، فإن شئتم فآمنوا ، وإن شئتم فاكفروا ، فإنكم إن كفرتم فقد أعدّ لكم ربكم على كفركم به نار أحاط بكم سرادقها ، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته ، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته . وروي عن ابن عباس في ذلك ما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ يقول : من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء الله له الكفر كفر ، وهو قوله : وَما تَشاءُونَ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ رَبْ العَالَمِينَ وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء ، والإيمان لمن أراد ، وإنما هو تهديد ووعيد .
وقد بين أن ذلك كذلك قوله : إنّا اعْتَدْنا للظّالِمينَ نارا والاَيات بعدها . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن عمر بن حبيب ، عن داود ، عن مجاهد ، في قوله : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ . قال : وعيد من الله ، فليس بمعجزي .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ، وقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ قال : هذا كله وعيد ليس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا . وقوله : إنّا أعْتَدْنا للظّالِمينَ نارا يقول تعالى ذكره : إنا أعددنا ، وهو من العُدّة . للظالمين : الذين كفروا بربهم . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّا أعْتَدْنا للظّالِمِينَ نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها قال : للكافرين .
وقوله : أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها يقول : أحاط سرادق النار التي أعدّها الله للكافرين بربهم ، وذلك فيما قيل : حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط ، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط ، كما قال رؤبة :
يا حَكَمَ بنَ المُنْذِرِ بْنَ الجارُودْ *** سُرادِقُ الفَضْلِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ
هُوَ المُوِلجُ النّعْمانَ بيْتا سَماؤُهُ *** صُدُورُ الفُيُولِ بعدَ بَيْتٍ مُسَرْدَق
يعني : بيتا له سرادق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : إنّا أعْتَدْنا للظّالِمِينَ نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها قال : هي حائط من نار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عمن أخبره ، قال أحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا قال : دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الذي قال الله : ظلّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ .
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر يدلّ على أن معنى قوله أحاطَ بِهمْ سرادِقُها أحاط بهم ذلك في الدنيا ، وأن ذلك السرادق هو البحر . ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس بن محمد والحسين بن نصر ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الله بن أمية ، قال : ثني محمد بن حيي بن يعلى ، عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن أمية ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «البَحْرُ هُوَ جَهَنّمُ » قال : فقيل له : كيف ذلك ، فتلا هذه الاَية ، أو قرأ هذه الاَية : نارا أحاطَ بِهمْ سُرَادِقُها ثم قال : واللّهِ لا أدْخُلُها أبَدا أوْ ما دُمْتُ حَيّا ، وَلا تُصِيبُني مِنْها قَطْرَة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يعمر بن بشر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا رشدين بن سعد ، قال : ثني عمرو بن الحارث ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «سُرَادِقُ النّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ ، كِثْفُ كُلّ وَاحِدٍ مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبعِينَ سَنَةً » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنّ لِسُرَادِقِ النّارِ أرْبَعَةَ جُدُرٍ ، كِثْفُ كُلّ وَاحِدَة مِثْلُ مَسِيرةِ أرْبَعِينَ سَنَةً » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ماءٌ كالمُهْلِ » ، قالَ : «كَعَكَرِ الزّيْتِ ، فإذَا قَرّبَهُ إلَيْه سقط فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ » .
وقوله : وَإن يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ يقول تعالى ذكره : وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة في النار من شدّة ما بهم من العطش ، فيطلبونَ الماء يُغاثوا بماء المُهْل .
واختلف أهل التأويل في المهل ، فقال بعضهم : هو كلّ شيء أذيب وإنماع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن ابن مسعود أهديت إليه سِقاية من ذهب وفضة ، فأمر بأخدود فخدّ في الأرض ، ثم قذف فيه من جزل حطب ، ثم قذف فيه تلك السقاية ، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه : ادع من يحضُرنا من أهل الكوفة ، فدعا رهطا ، فلما دخلوا عليه قال : أترون هذا ؟ قالوا : نعم ، قال : ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من هذا الذهب والفضة ، حين أزبد وإنماع .
وقال آخرون : هو القيح والدم الأسود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم ، عن أبي بَزّة ، عن مجاهد في قوله : وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ قال : القيح والدم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمَاءٍ كالمُهْلِ قال : القيح والدم الأسود ، كعكر الزيت . قال الحرث في حديثه : يعني درديّة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كالمُهْلِ قال : يقول : أسود كهيئة الزيت .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بِمَاءٍ كالمَهْلِ ماء جهنم أسود ، وهي سوداء ، وشجرها أسود ، وأهلها سود .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ قال : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت .
وقال آخرون : هو الشيء الذي قد انتهى حرّة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر وهارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال : المهل : هو الذي قد انتهى حرّة .
وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها ، فمتقاربات المعنى ، وذلك أن كلّ ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حرّة ، وأن ما أوقدت عليه من ذلك النار حتى صار كدردي الزيت ، فقد انتهى أيضا حرّة . وقد :
حُدثت عن معمر بن المثنى ، أنه قال : سمعت المنتجع بن نبهان يقول : والله لفلان أبغض إليّ من الطلياء والمهل ، قال : فقلنا له : وما هما ؟ فقال : الجرباء ، والملة التي تنحدر عن جوانب الخبزة إذا ملت في النار من النار ، كأنها سهلة حمراء مدققة ، فهي أحمره ، فالمهل إذا هو كلّ مائع قد أوقد عليه حتى بلغ غاية حرّة ، أو لم يكن مائعا ، فإنماع بالوقود عليه ، وبلغ أقصى الغاية في شدّة الحرّ .
وقوله : يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ يقول جلّ ثناؤه : يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم . كما :
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا حيوة بن شريح ، قال : حدثنا بقية ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن بُسْر هكذا قال ابن خلف عن أبي أمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قوله ويُسْقَى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرّعُهُ قال : «يقرب إليه فيتكرّهه ، فإذا قرب منه ، شوى وجهه ، ووقعت فَرْوة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه » ، يقول الله : وَإنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِمَاءٍ كالمُهْلِ يَشوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالَقاني ويعمر بن بشر ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن صفوان ، عن عبد الله بن بُسْر ، عن أبي أمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر وهارون بن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، قال هارون : إذا جاع أهل النار . وقال جعفر : إذا جاء أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فأكلوا منها ، فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارّا مارّ بهم يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصبّ عليهم العطش ، فيستغيثون ، فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حرّة ، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّة لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود .
وقوله : بِئْسَ الشّرابُ يقول تعالى ذكره : بئس الشراب ، هذا الماء الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم الذي صفته ما وصف في هذه الاَية . وقوله : وَساءَتْ مُرْتَفَقا يقول تعالى ذكره : وساءت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء الظالمين مرتفقا والمرتفَق في كلام العرب : المتكأ ، يقال منه : ارتفقت إذا اتكأت ، كما قال الشاعر :
قالَتْ لَهُ وَارْتَفَقَتْ ألا فَتَى *** يَسُوقُ بالقَوْمِ غَزَالاتِ الضّحَى
أراد : واتكأت على مرفقها وقد ارتفق الرجل : إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم ، وهو مرتفق ، كما قال أبو ذؤيب الهذليّ :
نامَ الخَلِيّ وَبِتّ اللّيْلَ مُرْتَفِقا *** كأنّ عَيْنِيَ فِيها الصّابُ مَذْبُوحُ
وأما من الرفق فإنه يقال : قد ارتفقت بك مرتفقا ، وكان مجاهد يتأوّل قوله : وَساءَتْ مُرْتَفَقا يعني المجتمع . ذكر الرواية بذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مُرْتَفَقا : أي مجتمعا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا معتمر ، عن ليث ، عن مجاهد وَساءَتْ مُرْتَفَقَا قال : مجتمعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
ولست أعرف الارتفاق بمعنى الاجتماع في كلام العرب ، وإنما الارتفاق : افتعال ، إما من المرفق ، وإما من الرفق .